تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

عرضهم ـ وهم أرواح ـ على الملائكة فقال : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم عليه‌السلام (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال الله تبارك وتعالى (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في ارضه وحججه على بريّته ، ثمّ غيّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم وقال لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (١).

وهذا استعباد الله عزوجل للملائكة بالغيبة ، والآية أوّلها في قصّة الخليفة ، وإذا كان اخرها مثلها كان للكلام وفي النظم حجّة ، ومنه يوجد وجه الإجماع لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلهم وآخرهم ، وذلك انّه سبحانه إذا علّم آدم الأسماء كلّها على ما قاله المخالفون ، فلا محالة انّ اسماء الأئمّة صلوات الله عليهم داخلة في تلك الجملة ، فصار ما قلناه في ذلك بإجماع الأمّة ، ومن أصحّ الدّليل عليه انّه لا محالة لمّا دلّ الملائكة على السجود لآدم فانّه حصل لهم عبادة ، ولمّا حصل لهم عبادة أوجب باب الحكمة ان يحصل لهم ما هو في حيّزه ، سواء كان في وقت او في غير وقت ، فانّ الأوقات ما تغيّر الحكمة ولا تبدل الحجّة ، اوّلها كآخرها واخرها كأوّلها ، لا يجوز في حكمة الله ان يحرمهم معنى من معاني المثوبة ، ولا أن يبخل بفضل من فضائل الأئمّة لأنّهم كلّهم شرع واحد ، دليل ذلك أنّ الرسل متى آمن مؤمن بواحد منهم او بجماعة وأنكر واحدا منهم لم يقبل منه إيمانه ، كذلك القضيّة في الأئمّة صلوات الله عليهم اوّلهم

__________________

(١) كمال الدين : ص ٩ ـ ١٠.

٢٢١

وآخرهم واحد.

قال الصادق عليه‌السلام : المنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا ، وقد قال صلوات الله عليه : من أنكر واحدا من الأحياء فقد أنكر الأموات (١).

فصحّ أن قوله عزوجل : (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) أراد به اسماء الأئمّة صلوات الله عليهم وللأسماء معان كثيرة ليس أحد معانيها بأولى من الآخر ، والأسماء أوصاف ، وليس أحد الأوصاف بأولى من الاخر ، فمعنى الأسماء انّه سبحانه علّم آدم عليه‌السلام أوصاف الأئمّة كلّها أوّلها وأخرها ، ومن اوصافهم العلم والحلم والتقوى والفتوة والشجاعة والعصمة والسخاء والوفاء ، وقد نطق بمثله كتاب الله عزوجل في أسماء الأنبياء عليهم‌السلام كقوله عزوجل : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٢) ، و (اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٣) ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٤) ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (٥) ، الآيات فوصف الرسل عليهم‌السلام ، وحمدهم بما كان فيهم من الشيم المرضيّة والأخلاق الزكية ، وكان ذلك اوصافهم وأسماؤهم كذلك علّم الله عزوجل آدم الأسماء كلّها.

__________________

(١) كمال الدين : ج ٢ ص ٢٢٨.

(٢) مريم : ٤١.

(٣) مريم : ٥٤ ـ ٥٥.

(٤) مريم : ٥٦ ـ ٥٧.

(٥) مريم : ٥١.

٢٢٢

والحكمة في ذلك أنّه لا وصول إلى الأسماء ووجوه الاستعبادات الّا من طريق السماع ، والعقل غير متوجّه إلى ذلك ، لأنّه لو أبصر عاقل شخصا من بعيد او قريب لما توصّل إلى استخراج اسمه ، ولا سبيل إليه إلّا من طريق السّماع ، فجعل الله عزوجل العمدة في باب الخليفة السّماع ، ولمّا كان كذلك أبطل به باب الاختيار ، إذ الاختيار من طريق الآراء ، وقضية الخليفة موضوعة على الأسماء والأسماء موضوعة على السّماع ، فصحّ به ، ومعه مذهبنا من أنّ الامامة لا تكون إلّا بالنّص والإشارة ، فأمّا باب الإشارة فمضمر في قوله عزوجل : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ) ، فباب العرض مبنيّ على الشخص والإشارة ، وباب الاسم مبنيّ على السمع ، فصح معنى الإشارة والنصّ جميعا ، وللعرض الذي قال الله تعالى ثمّ عرضهم على الملائكة معنيان : أحدهما عرض اشخاصهم وهيئاتهم كما روينا في أخبار أخذ الميثاق والذّر ، والوجه الاخر أن يكون عزوجل عرضهم على الملائكة من طريق الصفة والنّسبة ، كما يقوله قوم من مخالفينا فمن كلا المعنيين يحصل استعباد الله عزوجل الملائكة بالإيمان بالغيبة (١) انتهى كلامه زيد مقامه.

الثالث : انّه يستفاد من قوله سبحانه : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) انّ واضع اللّغات هو الله سبحانه كما استدلّ به عليه وذلك لأنّ المراد بالأسماء امّا بالألفاظ الدّالة على المسمّيات ، أو الأشياء الّدالة مطلقا أو البعض من أحدهما او كليهما ، والأخيران مدفوعان بظهور الجمع المحلّى في العموم ، سيّما مع تأكيده بلفظ الكلّ الصّريح في افادة العموم ، مضافا إلى عدم القول بالفصل بين البعض والكلّ ، وعلى

__________________

(١) كمال الدين : ج ١ ص ١١ ـ ١٦.

٢٢٣

الأولين يثبت المطلوب ، والمراد بتعليمها على ما هو ظاهر اللفظ إلقاؤها على المتعلّم مبيّنا له معانيها ، كما هو ظاهر تعليم الاسم على صفة الاسميّة ، ولا يصدق ذلك إلّا مع سبق وضعها لمعانيها ، فإمّا أن يكون صادرا منه سبحانه وهو المطلوب ، او من الخلق الّذين كانوا قبل آدم ، وهو منفي بالأصل.

وتوهّم أنّ المراد بالأسماء ما يقابل الأفعال والحروف مدفوع ، مع الغضّ عن عدم القول بالفصل كما صرّح به جماعة ، وعن توقّف الإفادة والاستفادة منها على معرفة معانيها ايضا على ما قيل : بانّه اصطلاح خاصّ حادث لا يحمل عموم الخطابات الشرعيّة عليه ، بل المراد به إمّا المعنى اللغوي ، وهو مطلق العلامة الشامل للافعال والحروف ايضا لكونها علامات على معانيها ، او المعنى العرفي العام وهو مطلق اللفظ الموضوع على ما قيل.

فان قلت : إنّ المراد بالأسماء الصفات والعلامات ، مثل كون الفرس صالحا للرّكوب ، والثور للحرث والجمل للحمل ، إذ كلّ ما يميز الشيء فهو اسم ، وحينئذ يمكن أن يكون تعريفها بخلق علم ضروري من غير توسّط الألفاظ ، وأمّا تخصيص الاسم بخصوص الألفاظ فإنّما هو اصطلاح طار ، سلّمنا لكنّ المراد بالتعليم الإلهام وبعث العزم والإقدار على الوضع بخلق الأدوات والمشاعر والإرادات والعلوم المحتاج إليها ، وانّما نسب التعليم إليه سبحانه لأنّه الهادي إليه ، فهو تعليم تكويني الهامي كما في قوله : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) (١) اي الهمناه.

قلت : تخصيصه بالصفات ممّا لا وجه له بعد دلالة اللفظ على العموم وفقد

__________________

(١) الأنبياء : ٨٠.

٢٢٤

المخصّص ، مع أنّ الصفات متشابهة ، ولا يكاد يحصل التّمييز التّام بمجرّدها ، مع أنّ التعبير عنها أيضا لا يكون إلّا بالأسماء اللفظيّة.

واحتمال كون تعريفها بخلق علم ضروري مع مخالفته للظّاهر مدفوع بأنّ المعلوم حينئذ إمّا الذّوات أو ما يدلّ عليها من صور الصفات او الألفاظ او كلّ منها والأوّل مدفوع بظاهر قوله : بأسماء هؤلاء وقوله : بأسمائهم والثاني تخصيص من غير مخصّص ، والأخيران يثبت معهما المطلوب وارتسام صور الألفاظ عن الذّهن وان لم يتوقّف على الألفاظ الفعلية المسموعيّة لكنّه دليل على سبق الوضع.

وامّا حمل التعليم على بعث العزم والإقدار على التعليم فمخالف للظاهر الذي هو الحجّة ، مضافا إلى مخالفته للاخبار المفسّرة للآية على ما مرّ كما أنّ الظاهر أيضا هو الدّافع لاحتمال ما يقال من أنّه كشف عليه ما يحدثه ذرّيته من اللّغات المختلفة والأوضاع الطارية من دون أن يكون هناك لفظ أو صوت أو وضع سابق.

وامّا ما يقال من أنّ الآية لا تشمل اللّغة العربيّة لما اشتهر من انتسابها إلى يعرب بن قحطان ولذا قيل : إنّه اوّل من تكلّم بالعربيّة (١) أو إلى إسماعيل الذّبيح على نبيّنا وآله وعليه‌السلام (٢) ولذا قيل : إنّ العرب من ولده.

ففيه أنّه مع فرض تحقّق الشهرة على أحد الوجهين لا عبرة بها أصلا ، بل هو من المشهور الّذي لا أصل له ، ولذا قيل إنّ الحميريين والعمالقة وجرهم وقوم ثمود وعاد كلّهم كانوا من العرب ، وقد كانوا قبل إسماعيل بمدّة متطاوله.

__________________

(١) البحار : ج ٥١ ص ٢٩٠.

(٢) المزهّر للسيوطي : ص ٢٨ ـ ومجمع البيان ج ١ ص ٧٦.

٢٢٥

وروى شيخنا الطبرسي في المجمع عن الصادق عليه‌السلام قال : كان هود وصالح وشعيب وإسماعيل ونبيّنا يتكلّمون بالعربيّة (١).

بل قد ورد في الأخبار أيضا انّ اوّل من تكلّم بالعربيّة آدم عليه‌السلام.

وفي العلل عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا ولا وحيا إلّا بالعربيّة ، فكان يقع في مسامع الأنبياء بألسنة قومهم ، وكان يقع في مسامع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالعربيّة ، فإذا كلّم به قومه كلّمهم بالعربيّة فيقع في مسامعهم بلسانهم ، وكان أحد لا يخاطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بايّ لسان خاطبه إلّا وقع في مسامعه بالعربيّة ، كلّ ذلك يترجم جبرئيل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وفيه دلالة واضحة على سبق الوضع بل وكونه منه تعالى وفي «العيون» و «الاحتجاج» عن الّرضا عليه‌السلام في خبر عمران الصّابي انّه قال : واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والارادة معناها واحد واسماؤها ثلاثة ، وكان أوّل ابداعه وارادته ومشيّته الحروف الّتي جعلها أصلا لكلّ شيء ، ودليلا على كلّ مدرك ، وفاصلا لكلّ مشكل ، وبتلك الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حق أو باطل ، او فعل أو مفعول ، او معنى او غير معنى ، وعليها اجتمعت الأمور كلّها ، ولم يجعل للحروف في ابداعه لها معنى غير أنفسها يتناها ، والنّور في هذا الموضع اوّل فعل الله تعالى الّذي هو نور السموات والأرض ، والحروف هو المفعول بذلك الفعل ، وهو الحروف الّتي عليها الكلام ، والعبارات كلّها من الله عزوجل علّمها خلقه ، وهي ثلاثة وثلاثون حرفا ، فمنها ثمانية

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٠ ص ٨٠ وج ١١ ص ٣٦.

(٢) علل الشرائع : ص ٥٣ وعنه البحار ج ١٦ ص ١٣٤.

٢٢٦

وعشرون حرفا تدلّ على لغات العربيّة ، ومن الثمانية وعشرين اثنان وعشرون تدلّ على لغات العبرانيّة والسّريانيّة (١) ، الخبر بطوله.

فصرّح أوّلا بأنّ الحروف كلّها من إبداعه ، بل ذكر انّه أوّل ابداعه ، ثمّ قال : إنّ العبارات كلّها من الله عزوجل علّمها خلقه ، وهو ظاهر في المطلوب ، بناء على أنّ المقصود منها هي الكلمات المؤلّفة من الحروف المعبّرة بها عن المقاصد ، ولذا عبّر عنها بالعبارات ، هذا مضافا إلى الأخبار الكثيرة المتقدّمة في تفسير الآية الدّالة على أنّ المراد بالأسماء اسماء الجبال والبحار والأودية والنبات والحيوان والبساط وغيرها بل في بعضها انّه علّمه اسماء كلّ شيء.

وفي حديث الشفاعة : فيأتون آدم عليه‌السلام فيقولون أنت أب الناس ، خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كلّ شيء (٢).

وفي القصص عن أبي جعفر عليه‌السلام : انّ آدم لما هبط عليه ملك الموت قال : قال أشهد أن لا اله إلّا الله إلى قوله : واسجد لي ملائكته ، وعلّمني الأسماء كلّها. (٣) الخبر قيل ويشهد له ما اشتهر من أنّ الله تعالى أنزل على آدم عليه‌السلام حروف المعجم في احدى وعشرين صحيفة وهو اوّل كتاب انزل إلى الدّنيا وفيه ألف لغة وانّه تعالى علّمه جميع تلك اللّغات (٤).

وما ذكره المفسّرون من أنّه علّمه اسم كلّ شيء حتّى القصعة والقصيعة بجميع

__________________

(١) عيون الأخبار : ص ٨٧ ـ ١٠٠ وعنه البحار ج ١٠ ص ٣١٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٨ ص ٤٥.

(٣) البحار : ج ١١ ص ٢٦٥.

(٤) سيأتي عن سعد السعود ص ٣٧.

٢٢٧

اللّغات الّتي تكلّم بها ولده.

ولعلّ السبب في اختلاف ذريّته فيها بعد علمه عليه‌السلام باللّغات كلّها انّه عليه‌السلام علّم كلّ واحد من ولده لغة واحدة ثمّ بقيت تلك اللّغة في أعقابه او انّه علّم ولده باللّغات فكانوا يتكلّمون بها مدّة حياته حين كانوا مجتمعين فلمّا قبض تفرّقوا في نواحي الأرض وتكلّم كلّ منهم بلغة اختارها من بين اللّغات على حسب الطبع والميل والإقليم كما لا يخفى المناسبة بين اللّغات وأهلها ، على أنّ التكلّم بلغة واحدة أسهل من التكلّم بلغات مختلفة ، فغلبت على أولاده تلك اللّغة حتّى إذا انقرض القرن الأوّل منهم نسوا سائر اللغات ، فصار كلّ فريق منهم يتكلّم باللسان الغالب على أبيه.

وعن السيّد في سعد السعود قال : وجدت في صحف إدريس النّبي عليه‌السلام عند ذكر احوال آدم ما هذا لفظه : حتّى إذا كان الثلث الأخير من اللّيل ليلة الجمعة لسبع وعشرين خلت من شهر رمضان انزل الله عليه كتابا بالسّريانيّة وقطع الحروف في احدى وعشرين ورقة وهو أوّل كتاب أنزل الله في الدّنيا أنزل الله عليه الألسن كلّها فكان فيه ألف ألف لسان لا يفهم فيه أهل لسان عن أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم فيه دلائل الله وفروضه وأحكامه وشرايعه وسننه وحدوده (١).

وفي محاضرة الأوائل عن مزهّر اللّغة للسيوطي : انّ اللسان الأوّل الّذي نزل به آدم من الجنّة عربي إلى أن بعد وطال العهد حرّف وصار سريانيّا ، وهو منسوب إلى أرض سورى (٢) وهي ارض الجزيرة كان بها نوح عليه‌السلام وقومه قبل الغرق ، وكان

__________________

(١) سعد السعود للسيد ابن طاوس ص ٣٧.

(٢) سورى كطوبى : موضع بالعراق وهو من بلد السريانيّين كما في القاموس.

٢٢٨

يشاكل اللسان العربي ، إلّا أنّه محرّف ، وكان لسان جميع من في سفينة نوح عليه‌السلام ، إلّا رجلا واحدا يقال له جرهم ، فكان لسانه لسان العربي الأوّل ، فلمّا خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته فمنهم انتشر اللسان العربي الاول في ولده : عوص أبي عاد ، وعبيل وجائر أبي ثمود وجديس وسمّيت عاد باسم جرهم لأنه كان جدهم من الأم ، وبقي اللّسان السّرياني في ولد ارفخشذ بن سام ، إلى أن وصل إلى يشجب بن قحطان من ذرّيّته ، وكان باليمن ، فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منهم بنو قحطان اللسان العربي.

وقال ابن دحية : العرب اقسام الأول عاربة وعرباء ، وهم الخلّص من العرب وهم تسع قبائل ، من ولد إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام ، وهي عاد وثمود وعميم وعبيل ، وطسيم ، وجديس ، وعمليق ووبار ، وجرهم الّتي نشأ إسماعيل فيهم وتزوج منهم حين نزلوا عليه بمكّة شرفها الله تعالى ظاعنين من اليمن إلى الشام.

والقسم الثّاني من العرب المتعرّبة وهم الّذين ليسوا بخلّص وهم بنو قحطان.

والقسم الثالث المستعربة وهم الّذين ليسوا بخلّص أيضا ، وهم بنو إسماعيل ، وهم ولد معدّ بن عدنان بن أدد.

ثمّ حكى عن ابن دريد (١) في «الجمهرة» : انّ العرب العاربة سبع قبائل : عاد ، وثمود ، وعمليق ، وطسيم ، وجديس ، وأميم وجاسم ، وقد انقرض أكثرهم إلّا بقايا متفرّقين في القبائل (٢).

__________________

(١) ابن دريد : محمد بن الحسن البصري الأديب اللغوي المتوفى (٣٢١) ه.

(٢) المزهر : ج ١ ص ٣٠ ـ ٣١.

٢٢٩

وعن السيوطي : انّه لا خلاف بين الأمّة انّ لسان عاد وثمود ونوح وصالح وشعيب ومدين عربي.

ثمّ انّه قد يستدلّ على ذلك ايضا بقوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) (١) ، (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٢) ، و (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٣) ، و (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (٤) ، و (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٥) ، (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٦).

وبعدم إمكان ذلك للقوى البشريّة فانّ هذا الإبداع البديع الغير المسبوق إلى مثال مع غاية الإتقان والإحكام ، وعدم اشتماله على تناقض ونقصان ، واحاطته على جميع المعاني والبيانات على أحسن وجه وابلغ نظام وعلى فنون لا تحصى عجائبها ولا يحيطها علم أحد ولو بمرور الدّهور والأعوام ، خارج عن طور أفعال البشر بحيث يقطع المتأمّل فيها وفي وضعها بحيث تصلح لبيانات المقاصد الغير المتناهية والعلوم الّتي لم يحط الأفكار ، ولم يصل إليها الأنظار ، إنّ الله سبحانه هو الّذي وضعها ورتّبها وبيّنها ، وعلّمها خلقه ، ومنّ بها عليهم كما يستفاد من الأخبار

__________________

(١) الروم : ٢٢.

(٢) العلق : ٥.

(٣) الرحمن : ٤.

(٤) النجم : ٢٣.

(٥) الانعام : ٣٨.

(٦) النحل : ٨٩.

٢٣٠

المفسّرة للآيات المتقدّمة بل ومنها أيضا.

وبأنّها لو لم تكن توقيفيّة لكانت اصطلاحيّا والتّالي باطل لافتقار تعريف الاصطلاح إلى مثله فامّا أن يرجع في تعريف كلّ منها إلى الاخر لزم الدور أولا فالتّسلسل.

وبأنّها لو كانت اصطلاحيّة لجاز تغيير ذلك الاصطلاح الأوّل وتبديله ، فيجوز أن يراد بالصّلاة وغيرها من الموضوعات المستنبطة في هذا الزمان غير ما يراد منها في الزمن الشارع فيرتفع الوثوق عن الاخبار الشرعيّة ويسقط الاستدلال بها رأسا.

وبقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ، وغيرها من الآيات المتناولة بعمومها ما نحن فيه ، خرج منه ما علم بالدّليل استناده إلى العباد من أفعالهم وصنايعهم وأعمالهم بحمل الخلق فيها على خلق الأسباب والآلات الظّاهرة والقوى الباطنة والإلهامات والارشادات وأمثال ذلك ممّا قام الدّليل الشّرعي والعقلي والوجداني على إخراجه من ظاهر ذلك العموم ، وبقي الباقي مقهورا تحت سلطنة الواحد القهّار.

وفي الكلّ نظر لضعف الاستدلال بالآيات بما ستسمعها عند التّعرض لتفسيرها تقريبا وردّا ، وضعف الثاني بأنّه يمكن أن يكون البشر قد وضعوها وعيّنوها بقوّة إلهيّة والهامات ربّانيّة بعد تعليمه سبحانه أصول الكلمات ، وهي الحروف الّتي عليها المدار في جميع اللّغات.

كما روى أبو ذر عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّ الكتاب الّذي انزل الله على آدم هو كتاب

__________________

(١) الرعد : ١٦.

٢٣١

المعجم وهو ا ب ث ، الخبر على ما مرّ في تفسير آلم.

وليس ذلك ببدع منهم بعد تلقين العلوم وإفاضة القوى كما أنّهم قد استنبطوا فنون العلوم وخواص الأجسام والصنائع الغريبة والآثار العجيبة بافكارهم وقواهم المفاضة لهم من الله سبحانه بعد إعطاء الأصول وافاضة القوى والتمكين من الأسباب.

والثالث : بجواز أن يكون الإفهام في بدو الاصطلاح بالإشارة والترديد بالقرائن وغيرهما كما يتعلّم الأطفال اللّغات في مبادي شعورهم وادراكاتهم بالنظر إلى استعمال المستعملين.

وتوهّم الفرق بأنّ الأطفال إنّما يتعلّمون اللّغات لكون التخاطب بلغة مستقرّة معروفة بينهم فيتجاوبون فيما بينهم بما يعرفون والاستعمالات المتكررة موجبة لحصول العلم للأطفال ، وامّا صاحب الاصطلاح فلا يعرف غيره خطابه ولا جوابه ولا مراده وليس معه إلّا الإشارة وهي لا تنهض باسرار العبادة اللهم إلّا أن يكون ذلك من القادر على خلق علم ضروري فيمن يخاطبه بحيث يعرف به معنى خطابه من عبادته وهو المطلوب.

مدفوع بأن إمكان التفهيم ولو بالإشارة في المدد الطويلة حاصل بعد إعطاء الأصول وافاضة الفهم والشعور فكيف يحصل القطع بالعدم ومجرّد الاستبعاد غير مثبت للمراد.

والرّابع : بانّ الجواز ليس دليلا على الوقوع ومع الشك يحكم باتّحاد العرف عرفا وشرعا ولو لاعتبار الأصول العلمية مضافا إلى مسيس الحاجة وتوفّر

٢٣٢

الدّواعي إلى حفظ اللّغات والمعاني العرفيّة سيّما ما له ارتباط باستنباط الاحكام الشرعيّة.

وامّا ما يقال من أنّ المراد الجواز العقلي ثمّ بعد وقوع اصطلاح أخر إمّا ان يراعى الشرع الاول خاصّة وهو مع كونه ترجيح من غير مرجّح تضييع للآخرين او الثاني فيلزم تضييع الأوّلين مع عدم كونه مرسلا بلسان قومه او كليهما ويرتفع الامان ويختلّ الاحكام ، فضعيف جدّا.

والخامس : بأنّ المراد بالخلق هو التقدير أو جعل الإمكان فالعموم بحاله ولو في افعال العباد لأنّها مخلوقة له خلق تقدير لا تكوين كما في الخبر ، وكذا لو أريد به خلق الأسباب والآلات والمقتضيات ولعلّ هو الأظهر من ملاحظة مساق الآية سيّما مع سلامتها عن التّخصيص وامّا ارادة الخلق التكويني الفعلى فبعيدة عن السياق والأصل عدم التخصيص ودعوى كونه حقيقة في هذا خاصّة دون ما مرّ غير مسموعة وعموم الاشتراك اولى من المجاز سلمنا الحمل على الأخير لكن القطع حاصل بخروج افعال العباد الّتي يمكن كون الوضع منها فيكون كالمخصّص بالمجمل للشكّ في مصاديقها والتمسك بالأصل في مثله لا يخلو من تأمّل فتأمل جيّدا. فانّه يمكن دعوى صحّة الدّلالة بظهور المعنى الأخير الموجب للحمل عليه ولو للانصراف او لكونه من جملة المدلول ثمّ البناء في تخصيص مثله بالحكم على خروج ما يقطع بخروجه ، وامّا المشكوك فالبناء على دخوله تحت حكم العام للقطع بالشمول والشك في الإخراج وليس هناك لفظ مجمل كي يلحق بالمخصّص بالمجمل ودعوى انصراف مثل هذا العموم الشمولي من الأوضاع الشّخصيّة غير

٢٣٣

مسموعة فيتمّ الاستدلال بها كالآية المتقدّمة الّتي قد سمعت التقريب فيها ولو بمعونة الاخبار المتقدّمة الظاهرة في استناد الوضع إليه سبحانه فلا يرد ان غاية ما تدلّ عليه بعد تسليم دلالتها انّ الوضع غير ناش من ذرّية أبينا آدم.

وامّا استناده اليه سبحانه او الى خلق آخر كبني الجان وغيرهم فغير واضح سيّما بعد ما ورد في الاخبار من انّه كان في الأرض خلق أخر قبل أبينا آدم.

بل في الخبر : انّ الله تعالى خلق ألف ألف عالم وألف ألف آدم وأنتم في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميّين (١).

إذ فيه ان الظّاهر منها ولو بمعونة الاخبار المتقدّمة وملاحظة شرافة علم الأسماء حتّى فضّل الله به آدم على غيره من الملائكة إنّما هو استناده إليه سبحانه مضافا إلى أنّه لو كان متداولا بين خلق سابق على آدم في الأرض أو في السّماء لتسامع بها بعض الملائكة ان لم يعرفها كلّهم مع أنّ قضيّة الأصل هو تأخّر الحادث الّذي هو الوضع من زمن وجود الخلق السابق إلّا أنّه حينئذ بالنّسبة إلى تعيين الواضع مثبت فلا تغفل.

نعم يمكن أن يقال إنّ الفريقين مجمعون على عدم استناده إلى خلق آخر بل هم بين من يقول باستناده إلى الله تعالى ومن يقول باستناده إلى أبي البشر وذرّيته فالقول باستناده إلى خلق آخر من بني الجان او غيرهم خرق لهذا الإجماع. ولا بأس به على فرض تحقّقه.

ثمّ انّ في المسألة اقوالا أخر كالقول باصطلاحيّة جميع اللّغات وانّ الواضع

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٤ ص ٣٢١.

٢٣٤

فيها هو البشر كما عن جماعة من المتكلّمين والتفصيل بان ما يحتاج إليه في التفهيم والتّفهم بان هذا موضوع لذلك يكون بتوقيف الله سبحانه والباقي من البشر باصطلاح منهم وتوقف العلامة وبعض الأصوليّين وتمام الكلام في ادلّة الأقوال موكول إلى الأصول ، وكذا الكلام في أنّه ليس للنّزاع ثمرة علميّة وانّ محلّه هو الحقيقة اللغوية الاصليّة لا مطلق الحقيقة ضرورة انّ الواضع في الأعلام الشخصيّة والحقائق العرفيّة العامة والخاصة منقولة كانت او مرتجلة هو البشر ، ولذا قيل إنّه يلزم من ذلك تخصيص العموم في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ، بالحقائق اللّغوية او بالحقائق المبتدئة فانّ تعليم الأسماء لا يستلزم تعليم جميع معانيها بل يصدق بتعليم البعض ايضا.

بقي الكلام في أنّ الاختلاف في المقام مبني على ما هو المشهور بين العلماء الأعلام من أنّ دلالة اللّفظ على المعنى بواسطة الوضع له ، وامّا على القول الاخر المحكي عن عباد (١) بن سليمان الصّيمري وجمع من المعتزلة واهل التكسير من أنّ دلالته طبيعيّة ناشية عن ذات اللّفظ من دون توسّط الوضع والنزاع ساقط من أصله ، إلّا أنّ هذا القول في أصله بمحلّ من السقوط ضرورة انّه لو كانت الدّلالة ذاتيّة لامتنع اختلافها باختلاف الأمم والأصقاع والأزمان ، مع انا نرى اللفظ الواحد حقيقة في معنى عند قوم او في زمان وفي معنى آخر عند غيرهم ، او في زمان أخر بسبب طروّ الوضع وغلبة الاستعمال وايضا كان يلزم ان يحصل العلم بالمعاني بملاحظة الألفاظ في جميع اللّغات ولم يعهد حصوله لاحد ولو ممّن يدّعي ذلك

__________________

(١) هو ابو سهل عباد بن سلمان البصري المعتزلي. سير اعلام النبلاء ج ١٠ ص ٥٥٢.

٢٣٥

فضلا عن العامة وايضا نرى الأعلام الشّخصيّة والحقائق العرفيّة الّتي نعلم بالضرورة استناد الدّلالة فيها إلى الوضع غير دالّة على تلك المعاني قبل حدوث الوضع ولو كانت ذاتيّة لم يؤثر الوضع فيها شيئا ولم ينفك عنها الأثر الطبيعي هذا مضافا إلى دوران الدلالة مع الاعتقاد بالوضع عدما ووجودا علما وظنّا ووهما وشكّا وضرورة الوضع للنقيضين والضدين وغير ذلك ممّا لا داعي للتعرض له بعد ظهور التوقيف في جميع الأعصار والأمصار بالنسبة إلى جميع اللغات على طرق اثبات الوضع سيّما مع ضعف تمسّك المدّعين للدّلالة الذاتيّة من انّها لو انتفت لزم الترجيح او التّرجح من غير مرجّح وفيه ما لا يخفى.

التناسب بين اللفظ والمعنى

ولذا قيل : إنّ مراد القائلين بها دعوى التناسب الذّاتي بين اللفظ والمعنى ، وإنّ ذلك التناسب هو علّة الوضع ، أو المرجّح لخصوص الطرفين باعتبار ملاحظة الصفات الّتي للحروف من الهمس والجهر والشدّة والرخاوة وغيرها من الصفات الّتي عنت بضبطها أئمّة الاشتقاق والتصريف ، مضافا إلى ما لها من المنسوبات والطبائع الّتي ذكرها علماء الجفر والأعداد والحروف والأوفاق من إثبات الطبائع والخواص الغريبة للحروف باعتبار تمزيجاتها وتركيباتها ونسبتها إلى خصوص الكواكب والأزمنة والعناصر والمواليد والجهات والأفعال والأخلاق وغيرها ، ولذا قالوا : إنّ قضيّة تلك الخواصّ أن العالم بها إذا أراد تعيين شيء مركّب منها لمعنى أن لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحقّ الحكمة فوضع الفصم بالفاء للكسر بسهولة لما

٢٣٦

بين الفاء الّتي هي حرف مهموس رخو وبينه من المناسبة ، والقصم بالقاف للكسر بشدّة لمناسبة للقاف الّتي هي حرف جهر وشدّة وقلقلة ، ووضع الفعلان بالتحريك لما يقتضي التقلّب والحركة كالطيران والجولان والغليان ، وهو ايضا كما ترى لانتفاء المناسبة الجزئيّة في كثير من المقامات ، ولذا وضعوا للضّدين والمتخالفين ونحوهما.

نعم ذكر الشيخ أحمد الأحسائي : أنّ هذا الحمل صلح منهم بغير رضى الخصمين ، ثمّ ذكر انّ الأصحّ ما ذهب إليه أهل المناسبة لما قرّره هو في معنى دلالة اللفظ حيث قال : كلّ اسم فله مادّة مخصوصة بينها وبين ما تراد له مناسبة نوعيّة بينه وبين ما تراد له مناسبة شخصيّة ، فإذا أراد وضع لفظ بإزاء معنى أخذ له من الحروف ما يناسبه وجعلها مادّة لاسم ذلك المعنى وركّب تلك الحروف على هيئة من التركيب في الحركات والسكنات والتقديم والتأخير تناسب ذلك المعنى كذلك ، وتلك الهيئة هي صورة ذلك الاسم فوضعه بإزاء ذلك المعنى فكان الاسم بتلك المادّة المخصوصة والهيئة المخصوصة دالّا للسامع العالم بالوضع على مسمّاه كما انك إذا اومأت إلى زيد بأن يأتي إليك أومأت اليه بهيئة الإقبال بأن تقبض أصابعك في الجملة مشيرا بها إليك فيضمّ بالمادة وهي حركة اليد والصورة وهي الإشارة له بيدك إليك كالجاذب له إرادة الإقبال ، ولو أردت انصرافه أومأت بيدك إليه بهيئة الدفع فيفهم بالحركة والهيئة إرادة الانصراف ، لأنّ هذه الهيئة في المادّة المخصوصة تدلّ المشار اليه على ما يراد منه ، فكذلك الإسم بالمادة والهيئة المخصوصتين يدلّ السّامع على معناه ، فحقيقة الدّلالة إرشاد اللفظ بمناسبة مادّته وصورته لفهم

٢٣٧

المخاطب إلى المعنى الموضوع له كما مثّلنا في الإشارة.

ثمّ قال : فان قلت : لو كان ذلك كذلك لم يجهل أحد شيئا من المعاني والواقع خلافه.

قلت : انّما احتيج للعلم بالوضع هنا لشدّة خفاء المناسبة لأنّها مناسبات حرفية من عالم الغيب على ما حقّق في محلّه.

فان قلت : إذا كانت مناسبات حرفيّة من عالم الغيب فما الفائدة في ملاحظتها واعتبارها إذا لم يطلع عليها جميع المخاطبين؟

قلت : الفائدة شيئان : أحدهما اقتضاء حكمة الحكيم ان لا يخصّص شيئا بشيء بغير مناسبة يقتضي التخصيص مع قدرته على ذلك ، وثانيهما : أنّ ذلك أسكن لقلب المخاطب لو تنبّه في بعض الأحوال لبعض المناسبات ، كما ذكر في الفرق بين الفصم والقصم ، وفي زنة فعلان محركا وفي دلالة الوضع للأصوات بما يناسبها كما قيل في صوت الغراب غاق ، وفي صوت شفتي الناقة عند شربها شبب ، إذ لو وضع غاق لصوت شفتي الناقة عند الشرب وشبب لصوت الغراب ثمّ تنبه المخاطب للمناسبة لنفرت نفسه من ذلك لما بين اللفظ وبين معناه من المنافرة.

وذكر في موضع أخر : أنّ المناسبة لا يزيد منها خصوص المناسبة الشخصيّة ، بل قد تكون مناسبة نوعيّة كمناسبة الإنسان لزيد وعمرو ، أو جنسيّة كمناسبة الحيوان لزيد والفرس ، بل لا نريد منها إلّا مطلق الصلوح الذّاتي للمسمّى في المادة والهيئة ، إلّا أنّه يعبّر في صلوح هيئة اللفظ لهيئة المعنى مشخصيّة الارتباط بينهما.

ثمّ أطنب الكلام في بيان المناسبة بين موادّ الحروف وهيئات الترتيب

٢٣٨

والإعراب وبين الأجسام والأشكال الخارجة ، وفي دعوى المناسبة حتّى في الأعلام الشخصيّة وفي الألفاظ المشتركة حتّى الموضوعة للضّدين والنقيضين كالقرء والجون ، وعسعس ، وفي دعوى المناسبة بين الألفاظ والأزمنة وبين الأعلام المشتركة ومعانيها إلى غير ذلك ممّا لا يعود إلى حاصل ولعلك ، لو تدبّرت كلامه بتمامه عرفت انّه كان قد دعاه إلى ذلك ملاحظة بعض المناسبات الجزئيّة الّتي هي كالنكات الاتّفاقية بعد الوقوع بالنسبة إلى بعض الألفاظ ، مع التخلف في الأكثر.

ومن الغريب استدلاله في مواضع من كلامه بأسماء الأصوات الّتي ذكروا انّها حكاية صوت مسموع من الحيوان وغيره كغاق ، فانّه حكاية صوت الغراب ، وطق حكاية صوت وقع الحجارة بعضها على بعض ، او انّها ممّا يخاطب به ما لا يعقل كقولهم في دعاء الضأن : حاحا وفي دعاء المعز : عاعا غير مهموزين ، فانّ القسم الاول من هذه الأسماء مجرّد حكاية صوت شبيه بالواقع والثاني بمنزلة النعيق ، ولذا استشكلوا صدق حدّ الكلمة عليها ، وان لم يكن الأشكال في محلّه.

وبالجملة إبداء أمثال تلك المناسبات الجزئيّة بين بعض الألفاظ ومعانيها لا موقع لها بالنسبة إلى تلك اللغات المتّسعة الكثيرة في الألسنة المختلفة المنتشرة بين أهل العالم لإفهام المعاني الدّقيقة والنكات الخفيّة ، مع انّه يستفاد من تضاعيف كلامه الطويل الّذي لم نتعرّض لحكايته أنّ مراده مجرّد إعمال المناسبات في الوضع لا

٢٣٩

انكار أصله ، ويؤيّده تصريحه في موضع آخر بأنّ الواضع هو الله سبحانه وان كان ينافيه ما ذكره اوّلا من ردّ كلام المؤوّلين ، وتصحيح مقال اصحاب المناسبة ، وما ذكره من تعريف الدلالة لكنّه رحمه‌الله أدرى بفحوى ما أفاد وإنّي مقرّ على نفسي بالقصور عن نيل المراد والله يهدي من يشاء إلى سبيل الرّشاد.

تفسير الآية (٣٤)

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)

تذكير لنعمة رابعة عامّة عليهم لما فيها من تشريف أبيهم وتكريمه بجعله مسجودا للملائكة النورانيّين الّذين هم عباد مكرمون كما أنّ قوله :

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) ، تذكيره لنعمة ثالثة حسب ما مرّ ، وإن توهّم بعضهم أنّ هذه رابعة للثلاثة الّتي تضمّنتها هي من تخصيص آدم بالخلافة ثمّ بالعلم ثمّ بلوغه فيه إلى أن عجزت الملائكة عن نيله ، فانّه لا يخلو عن تكلّف ، ولكن الخطب سهل.

والوجوه المتقدّمة في متعلّق الظرف جارية في المقام ، ولكن في «تفسير الامام عليه‌السلام» : قال الله تعالى : كأنّ خلق الله لكم ما في الأرض جميعا إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم أي في ذلك الوقت خلق لكم (١).

وقد بيّنا سابقا أنّ الظرف هو الزمان الممتدّ قبل خلق آدم وإن كان كلّ من

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٤٩ عن التفسير المنسوب الى الامام عليه‌السلام.

٢٤٠