تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

عنه كقوله : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (١).

والاستكبار طلب الكبر كالتكبر ، وهو أن يرى نفسه اكبر من غيره ، ويترفّع إلى منزلة لا يستحقّها.

القمي عن الصادق عليه‌السلام : الاستكبار هو اوّل معصية عصي الله بها قال عليه‌السلام فقال إبليس : يا ربّ اعفني من السجود لآدم وانا أعبدك عبادة لا يعبدكها ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل فقال جلّ جلاله لا حاجة لي إلى عبادتك إنّما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد (٢).

(وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) اي صار منهم كما في «القاموس» وغيره ، وصرّح به بعض المفسّرين كما في قوله : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٣) ويؤيّده ما في تفسير الإمام عليه‌السلام وكان بإبائه ذلك وتكبّره من الكافرين ، ولعلّه المستفاد من بعض ظواهر الاخبار ايضا.

وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام : قال : إنّ أوّل كفر كفر بالله حيث خلق الله آدم كفر إبليس حيث ردّ على الله أمره (٤).

ويظهر منه ومن غيره من الأخبار بل ومن الآيات انّه لم يكن سبب كفره مجرّد المخالفة بل الرّد عليه سبحانه في أمره وتجهيل الحكيم في حكمته على ما يستفاد من قياسه الفاسد والاستخفاف بنبيّ الله آدم عليه‌السلام ، على أنّ مرجع استكباره

__________________

(١) التوبة : ٣٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١٤١ عن تفسير القمي ص ٣٤ ـ ٣٥.

(٣) هود : ٤٣.

(٤) تفسير العياشي عنه البحار : ج ١١ ص ١٤٩.

٢٦١

إنّما هو الاستكبار من عبوديته سبحانه ، وكفى به كفرا وإلحادا.

او كان كافرا في علمه سبحانه قبل ذلك حيث أضمر في قلبه ترك السجود لآدم والرّد عليه سبحانه لو أمره بذلك ، او كان كذلك في أصل الكينونة وبدو الخلقة ، وإن اظهر العبادة مدّة مديدة.

ففي «الخصال» و «تفسير الفرات» بالإسناد عن الحسن عليه‌السلام فيما سأله كعب الأحبار عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : لما أراد الله خلق آدم بعث جبرئيل فأخذ من أديم الأرض قبضة فعجنه بالماء العذب والمالح ، وركّب فيه الطبائع قبل أن ينفخ فيه الّروح ، فخلقه من أديم الأرض ، فطرحه كالجبل العظيم ، وكان إبليس يومئذ خازنا على السماء الخامسة ، يدخل في منخر آدم ثمّ يخرج من دبره ثمّ يضرب بيده على بطنه فيقول : لأيّ امر خلقت؟ لإن جعلت فوقي لا أطعتك ، ولئن جعلت أسفل منّي لا أعينك ، فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح (١).

وفي «تفسير القمي» : خلق الله آدم فبقى أربعين سنة مصوّرا وكان يمرّ به إبليس اللعين فيقول لأمر ما خلقت؟ قال العالم عليه‌السلام فقال إبليس لئن أمرني الله بالسجود لهذا لعصيته (٢).

وفي «الاحتجاج» في أسئولة الزنديق المدعيّ للتناقض عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : الايمان بالقلب هو التسليم للرب ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن امره ، كما استكبر إبليس عن السجود لآدم ، واستكبر اكثر الأمم عن طاعة أنبيائهم ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٤ ص ٩٤ عن تفسير الفرات ص ٦٥.

(٢) تفسير القمي : ص ٢٤ وعنه البحار ج ١١ ص ١٤١.

٢٦٢

فلم ينفعهم التّوحيد كما لم ينفع إبليس ذلك السجود الطويل فانّه سجد سجدة واحدة أربعة آلاف عام ، لم يرد بها غير زخرف الدّنيا والتمكين من النظرة (١). الخبر.

وفي الخطبة القاصعة العلويّة المذكورة في النهج : الحمد لله الّذي لبس العزّ والكبرياء واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده ، ثمّ اختبر بذلك ملائكة المقرّبين ، ليميّز المتواضعين منهم عن المستكبرين ، فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ، ومحجوبات الغيوب : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) ، اعترضته ، الحميّة ، فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدو الله امام المتعصّبين ، وسلف المستكبرين الّذي وضع أساس العصبيّة ، ونازع الله رداء الجبريّة ، وأدرع لباس التّعزز ، وخلع قناع التذلّل ، إلى قوله عليه‌السلام : فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أحبط عمله الطويل ، وجهده الجهيد ، وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سني الدّينا أم من سني الآخرة ، عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله تعالى بمثل معصية؟ كلّا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا إنّ حكمه في أهل السّماء واهل الأرض لواحد ، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في اباحة حمى حرّمه على العالمين (٢) ، الخطبة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ١٧٥ عن الاحتجاج ص ١٣٠.

(٢) الخطبة : ١٩٢ من نهج البلاغة.

٢٦٣

إبليس كان من الجنّ

ثمّ انّ ظاهر قوله : أخرج به منها ملكا بل لعلّ صريحه كون إبليس ملكا من الملائكة بل ظاهر قوله في صدر الخطبة : ثمّ اختبر بذلك الملائكة المقرّبين كونه من مقرّبيهم ، سيّما مع ظهور تقسيمهم إلى المتواضعين والمستكبرين في ذلك ، وهذا المذهب هو المحكيّ عن بعض المتكلّمين واكثر فقهاء العامّة ، وحكاه في «المجمع» عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة ، واختاره من أصحابنا شيخ الطائفة في «التبيان» قال : وهو المروي عن أبي عبد الله والظاهر في تفاسيرنا ، ثمّ حكى عن القائلين بأنّه كان منهم فقيل : إنّه كان خازنا على الجنان ، وقيل كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض ، وقيل : إنّه كان يسوس ما بين السّماء والأرض (١).

وغاية ما يستدلّ لهم على ذلك وجوه.

أحدها : أنّه لو لم يكن منهم لما تناوله الخطاب المتوجّه إلى الملائكة في صريح الآية ، وحينئذ فلم يكن مأمورا بالسجود فلا تكليف فلا مخالفة ، فيجب أن لا ينسب إليه الإباء والاستكبار ولا يستحقّ الذّم والعقاب.

ثانيها : انّ الاستثناء ظاهر او حقيقة في المتّصل ، وقضيّة دخول المستثنى في المستثنى منه لأنّه إخراج ما لولاه لدخل في الحكم لدخوله في الموضوع ، فيجب أن يكون داخلا في عداد الملائكة لأنّ الله تعالى قد استثناه منهم في آيات كثيرة.

ثالثها : الخطبة المتقدّمة حسبما سمعت من التقريب مضافا إلى ما أرسله في

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٨٢.

٢٦٤

«التبيان» من انّه المرويّ عن الصادق عليه‌السلام معتضدا بما ادّعاه الشيخ من استظهاره في تفاسيرنا.

والجواب عن هذه الوجوه أنّها مع تسليم دلالتها والغضّ عمّا فيها على ما تسمع كلّها ظواهر يجب الخروج عنها بمقتضى ما دلّ على عدم كونه من الملائكة من الأدلّة القطعيّة الّتي منها الإجماع القطعي الدّال على عصمتهم عن الصغائر والكبائر ، مضافا إلى الآيات والاخبار الدّالّة عليها حسبما مرّت إليه الإشارة ، ومنها الإجماع المنعقد في خصوص المقام ايضا ، فانا لا نعرف أحدا من الاماميّة ذهب إلى كونه من الملائكة عدى الشيخ الذي لا يقدح خروجه في انعقاده لكونه معلوم النسب ، ولكون قوله هذا مخالفا لما هو المقطوع من مذهب الإماميّة من ذهابهم إلى عصمة جميع الملائكة فكان قوله هذا مع شذوذه وانفراده به ومخالفته لما استقرّ عليه مذهب الاماميّة وتواترت به اخبارهم على ما تسمع مسبوقا بالإجماع على خلافه ملحوقا به واحتمال نسبته إلى مفسّرينا كما استظهره منهم في تبيانه موهون جدّا سيّما مع عدم الحكاية من غيره رأسا في كتب التفسير وغيرها ، بل المحكي عن شيخه وهو المفيد رحمه‌الله في كتاب «المقالات» انّه قال : إنّ إبليس من الجنّ خاصة ، وانّه ليس من الملائكة ولا كان منها قال الله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (١) ، وجاءت الاخبار متواترة عن ائمّة الهدى من آل محمّد عليهم‌السلام بذلك وهو مذهب الاماميّة (٢) كلّها وكثير من المعتزلة واصحاب الحديث ، ومنها الاخبار الكثيرة

__________________

(١) الكهف : ٥٠.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ص ٨٢.

٢٦٥

الّتي لا يبعد دعوى تواترها بل هي متواترة معنى كما صرّح به المفيد وغيره فلا علينا أن نتعرّض لشطر منها في المقام وان طال بها زمام الكلام.

ففي «تفسير القمي» في الصحيح عن جميل بن درّاج قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عما ندب الله الخلق إليه أدخل فيه الضلال قال : نعم والكافرون دخلوا فيه ، لأنّ الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم فدخل في أمره الملائكة وإبليس ، وانّ إبليس كان مع الملائكة في السّماء يعبد الله ، وكانت الملائكة تظنّ أنّه منهم ولم يكن منهم ، فلمّا أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد ، فعلمت الملائكة عند ذلك أنّ إبليس لم يكن منهم ، فقيل له عليه‌السلام : فكيف وقع الأمر على إبليس وإنّما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فقال : فكان إبليس منهم بالولاء ولم يكن من جنس الملائكة ، وذلك انّ الله تعالى خلق خلقا قبل آدم ، وكان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدّماء فبعث الله الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم (١) آه.

أقول : قوله في صدر الخبر : انّه كان مع الملائكة اي بالولاء كما بيّنه في ذيله ، وفيه وجوه من الدّلالة على أنّه لم يكن من جنسهم ، بل ويدلّ أيضا على عصمة الملائكة ولو من الحسد.

في تفسير العياشي عن جميل بن درّاج عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال سألته عن إبليس أكان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من امر السّماء وكان من الجنّ؟

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٠ ، ص ٢٧٣ ، رقم ١٦٠ عن تفسير القمي ص ٣٢.

٢٦٦

فقال عليه‌السلام : كان مع الملائكة وكانت الملائكة ترى انّه منها وكان الله يعلم انّه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الّذي كان (١).

ورواه شيخنا الصدوق في كتاب النبوّة بالإسناد عنه عليه‌السلام وفيه عنه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن إبليس أكان من الملائكة او كان يلي شيئا من امر السماء؟ فقال عليه‌السلام لم يكن من الملائكة وكانت الملائكة ترى انّه منها وكان الله يعلم انّه ليس منها ولم يكن يلي شيئا من أمر السّماء ولا كرامة قال جميل : فأتيت الطّيار فأخبرته بما سمعت فأنكر وقال : كيف لا يكون من الملائكة والله يقول للملائكة (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) : فدخل عليه الطيار (٢) فسأله وانا عنده فقال له : جعلت فداك قول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أيدخل في هذه المنافقون؟ قال : نعم يدخل في هذه المنافقون والضّلال وكلّ من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة (٣).

وفي تفسير الامام عليه‌السلام انّه قيل له عليه‌السلام فعلى هذا لم يكن إبليس ايضا ملكا فقال لا بل كان من الجنّ أما تسمعون الله عزوجل يقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٤) وهو الّذي قال الله عزوجل : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٥) ، إلى آخر ما يأتي في قصّة هاروت وماروت ممّا يدلّ على

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ١ ص ٣٤ ح ١٦.

(٢) المشهور بهذا اللقب محمد بن عبد الله الكوفي من اصحاب الصادق عليه‌السلام.

(٣) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١٤٨ عن العياشي.

(٤) الكهف : ٥٠.

(٥) الحجر : ٢٧.

٢٦٧

عصمة الملائكة وعظم شأنهم.

وروى الصدوق في «العلل» و «المجالس» عن سلمان الفارسي قال : مر إبليس بنفر يتناولون أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فوقف أمامهم ، فقال القوم : من الّذي وقف أمامنا؟ فقال : أنا أبو مرّة؟ فقال : يا أبا مرّة أما تسمع كلامنا؟ فقال سوأة لكم تسبّون مولاكم عليّ بن ابي طالب؟ قالوا له : من أين علمت أنّه مولانا؟ قال : من قول : نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، فقالوا له : فأنت من مواليه وشيعته؟ فقال : ما أنا من مواليه ولا من شيعته ، ولكنّي أحبّه وما يبغضه احد إلّا شاركته في المال والولد ، فقالوا له : يا أبا مرّة فتقول في عليّ شيئا؟ فقال لهم : اسمعوا منّي معاشر الناكثين والقاسطين والمارقين عبدت الله عزوجل في الجانّ اثنى عشر ألف سنة ، فلمّا أهلك الله الجان شكوت إلى الله عزوجل الوحدة فعرج بي إلى السّماء الدّنيا ، فعبدت الله تعالى في السّماء الدّنيا اثنى عشر ألف سنة اخرى في جملة الملائكة فبينا نحن كذلك نسبّح الله عزوجل ونقدّسه إذ مرّ بنا نور شعشعاني ، فخرّت الملائكة لذلك النور سجّدا فقالوا : سبّوح قدّوس هذا نور ملك مقرّب او نبيّ مرسل ، فإذا بالنّداء من قبل الله عزوجل ما هذا نور ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، هذا نور طينة عليّ بن ابي طالب (١). إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الّتي يظهر منها استقرار مذهب الأئمّة عليهم‌السلام على عدم كونه من الملائكة ، وان كان قد سرى الوهم إلى الطيّار وغيره من ظاهر الخطاب ، ولذا أجاب الإمام عليه‌السلام بما حاصله أنّ الخطاب يتعلّق بمن أقرّ بالدّعوة الظاهرة وإن لم

__________________

(١) علل الشرائع : ص ١٤٣ ـ ١٤٤ ح ٩.

٢٦٨

يشاركهم في الحقيقة وفي الايمان الحقيقي.

وبالتأمّل في فحاويها يظهر الجواب عن الأدلّة المتقدّمة لضعف الأوّل بأنّه لمّا نشأ معهم وطالت خلطته بهم تناوله الخطاب المتوجه إليهم مضافا إلى ما مرّت الإشارة إليه من كون التغليب في الحكاية لا الخطاب ، وانّما كان الافهام بالإلهام او بخصوص خلق الكلام ويؤيّده قوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١).

والثّاني : بكون الاستثناء منقطعا او مبنيّا على التغليب في المستثنى منه ولو بمعونة الأخبار المتقدّمة وغيرها ممّا يفيد القطع بالمطلوب فلا يقدح مخالفتهما للظّاهر سيّما مع اقترانه بقوله (كانَ مِنَ الْجِنِ) الّذي هو كالقرنية المتّصلة على ما ستسمع.

الثالث : بانّ اطلاق الملك عليه في الخطبة مبنيّ على كونه معهم في العبادة ومنهم بحسب الولاء وفي زعمهم على ما أشير اليه في الاخبار المتقدّمة ، وأمّا ما أرسله في «التبيان» فلم نجد منه أثرا في الأخبار ، وعلى فرضه يجب تأويله كما يؤوّل الضعيف العامي المرويّ في البحار عن كتاب «غور الأمور» للترمذي عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر ظهور إبليس ليحيى النبي على نبيّنا وآله وعليه‌السلام وفيه انّه قال له يحيى عليه‌السلام ما بال خلقك وصورتك على ما ارى من القبح والتقليب والإنكار؟ قال : يا نبيّ الله هذا بسبب أبيك آدم إنّي كنت من الملائكة المكرمين وانّي لم ارفع رأسي من سجدة واحدة اربعمائة ألف سنة وعصيت ربّي في امر سجودي لآدم أبيك فغضب الله عليّ ولعنني ، فحوّلت من صورة الملائكة إلى صورة الشياطين ولم يكن في

__________________

(١) الأعراف : ١٢.

٢٦٩

الملائكة أحسن صورة منّي فصرت ممسوخا منكوسا مقبوحا هائلا كريها كما ترى (١). الخبر بكونه في جملتهم بحسب الظاهر في أجمل زيّ وأحسن صورة حتّى ظهرت منه المخالفة الكامنة ما تقلّبت صورته إلى ما اقتضته سيرته ، مع أنّه لا عبرة بقوله المحكي عنه ، وعلى كلّ حال فيتعيّن تأويل أمثال هذه الاخبار أو طرحها بعد استقرار المذهب على عدم كونه منهم ، بل ودلالة قواطع الأدلّة عليه حسبما سمعت ، بل قد يستدلّ عليه ايضا بقوله : (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٢) ، فانّ المراد به حيث يطلق الجنس المعروف الّذي يقابل بالإنس.

وتوهّم أن «كان» بمعنى صار كما في قوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) سيّما مع نصّ الأخفش وغيره عليه ، مدفوع بانّه خلاف الظّاهر فلا يصار عليه إلّا بدليل فضلا عن قيامه ، على خلافه.

وأمّا ما يقال من أنّ الجنّ مشتقّ من الاجتنان وهو السّر ومنه الجنين والجنّة والجنون ، والملائكة لمّا كانوا مستترين عن العيون صحّ إطلاق الجنّ (٣) سلّمنا لكنّ المراد به طائفة من الملائكة معروفون بهذا الإسم كما روته العامّة عن بعض اصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورواه بعضهم عن ابن عباس قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان خازنا من خزّان الجنّة ، قال : وخلقت الملائكة كلّهم من نور غير هذا الحيّ قال وخلقت

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٣ ص ٢٢٩.

(٢) الكهف : ٥٠.

(٣) مفاتيح الغيب للرازي : ج ٢ ص ٢١٣.

٢٧٠

الجنّ الّذي ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النّار الّذي يكون في طرفها إذا لهبت (١) وخلق الإنسان من طين فأوّل من سكن الأرض الجنّ فأفسدوا فيها وسفكوا الدّماء وقتلوا بعضهم بعضا فبعث الله إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحيّ الّذي يقال لهم الجنّ فقتلهم إبليس ومن معه حتّى الحقوهم بجزائر البحور وأطراف الجبال فلمّا فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه وقال قد صنعت شيئا لم يصنع احد قال فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم يطلع عليه الملائكة الّذين كانوا معه.

وفي رواية اخرى عنه : انّ من الملائكة قبيلة يسمّون الجنّ وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين السّماء والأرض (٢).

بل قد يؤيّد ايضا بقوله تعالى : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) (٣) حيث أن قريشا قالت الملائكة بنات الله.

ففيه انّ هذا كلّه مخالف للظّاهر الّذي هو الحجّة بل كانّه ردّ على النصوص المتقدّمة المصرّحة بأنّه كان من الجنّ لا من الملائكة وانّه كان معهم والملائكة كانوا يحسبون انّه منهم ولم يكن منهم إلى أن كان منه الّذي كان وانّه كان من بني الجان ، وقد سمعت انّه قد وقع السؤال في كثير منها من اشتمال الخطاب له مع عدم كونه منهم ، واحتمال معارضة مثل هذه النصوص المأثورة عن أئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين بالمرويّ عن ابن عباس وغيره من طرق العامة ممّا لا ينبغي الإصغاء اليه على أنّ ظاهر الآية تعليل تركه السجود بأنّه كان من الجنّ ، ولذا فرع

__________________

(١) جامع البيان للطبري ج ١ ص ١٧٨.

(٢) جامع البيان للطبري : ج ١ ص ١٧٨.

(٣) الصافات : ١٥٨.

٢٧١

عليه بالفاء قوله : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (١) ومن البيّن انّه لا يصحّ تعليل ترك السجود باختفائه عن العيون ولا بكونه خازنا عن الجنة ولا تفريع التمرّد والعصيان على شيء منهما ، ولفظ الجنّ وإن جاز إطلاقه على الملك بحسب اللّغة على ما قيل ، إلّا انّه صار بحسب العرف مختصّا بالجنس المقابل للانس والملك ، فلا يحمل على المعنى اللّغوي الّذي هو مجاز عرفي إلّا لدليل ، ولذا قوبل به في قوله (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٢).

نعم روي في «تفسير الفرات» عن محمّد بن علي عن آبائه عليهم‌السلام قال : هبط جبرئيل عليه‌السلام على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في منزل امّ سلمة ، فقال يا محمّد انّ ملأ من ملائكة السّماء الرابعة يجادلون في شيء ، حتّى كثر بينهم الجدال فيهم ، وهم من الجنّ من قوم إبليس الّذين قال الله في كتابه : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) (٣) فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قد كثر جدالكم فتراضوا بحكم من الآدميّين يحكم بينكم ، قالوا : قد تراضينا بحكم من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأوحى الله إليهم بمن ترضون من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ قالوا : رضينا بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام فأهبط الله ملكا من ملائكة السّماء الدنيا ببساط وأريكتين فهبط إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبره بالّذي جاء فيه ، فدعا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأقعده على البساط ووسّده بالأريكتين ، ثمّ تفل في فيه ، ثمّ قال يا علي ثبّت الله قلبك ونوّر حجّتك بين عينيك ، ثمّ عرج به

__________________

(١) الكهف : ٥٠.

(٢) سبأ : ٤١.

(٣) الكهف : ٥٠.

٢٧٢

إلى السّماء فلمّا نزل قال : يا محمّد إنّ الله يقرؤك السلام ويقول لك : نرفع درجات من نشاء ، وفوق كلّ ذي علم عليم (١).

لكنّه قاصر عن معارضة ما سمعت بعد ظهور ضعف سنده ودلالته.

وأمّا الاستدلال للمختار بأنّ إبليس له نسل وذريّة لقوله : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (٢).

والملائكة لا ذرّيّة لهم ، لأنّه ليس فيهم أنثى لقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٣) والذّرية انّما تحصل بالذكر والأنثى ، وانّ الملائكة رسل الله لقوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٤) ، ورسل الله معصومون لقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٥) ، وأنّ الملائكة روحانيّون مخلوقون من الأنوار ، والجانّ مخلوق من مارج من نار ، وأنّ الملائكة لا يطعمون ولا يشربون ، بل طعامهم التّسبيح وشرابهم التّهليل ، وأمّا الجنّ فقد ورد في الأخبار : النّهي عن التمسّح بالعظم والّروث معلّلا بكونهما طعاما لهم (٦) فلا بأس بها تأييدا لما سمعت ، وإن كان بعضها لا يخلو عن قصور ، ولعلّ من أمعن النظر في أخبار الباب والأصول المقرّرة بين الأصحاب يقطع بأنّ مذهب اهل البيت عليهم‌السلام هو ما سمعت من غير ارتياب.

__________________

(١) تفسير فرات : ص ٧٠ ـ ٧١ وعنه البحار ج ٣٩ ص ١٦١.

(٢) الكهف : ٥٠.

(٣) الزخرف : ١٩.

(٤) فاطر : ١.

(٥) الأنعام : ١٢٤.

(٦) بحار الأنوار : ج ٦٣ ص ٨٢.

٢٧٣

ثمّ إنّ من جميع ما مرّ يظهر النظر فيما قد يقال دلالة الآية على كون إبليس من الملائكة ، وانّ من الملائكة من ليس بمعصوم ، كما لا يخفى ضعف دلالتها على حصول الكفر بأفعال الجوارح مجرّدة عن الأمور القلبية على ما قيل ، لما ستعرف من أنّ سبب كفره هو الاستخفاف بأمر الله والرّد عليه.

ما يستفاد من الآية الكريمة

نعم تدلّ على تفضيل آدم على كلّ الملائكة ، لتعلّق الخطاب عليهم جميعا على ما مرّ ، وعلى حرمة الاستكبار ، وأنّه قد يفضي بصاحبه إلى أن يعدّ من الكفّار ويستحقّ النّار ، وعلى الحثّ على الايتمار لأمر الله تعالى وترك الخوض في سرّه ، وعلى بطلان القول بالجبر لنسبة السجود إلى الملائكة ، والإباء والاستكبار والكفر إلى إبليس ، ولو لم يكن لهم قدرة واختيار لما صحّ شيء من ذلك وعلى كون صفة افعل للوجوب ، وإن كان ذلك لا يخلو عن خفاء ، لا لاحتمال القرينة في الخطابات الشفاهيّة ، والأصل وإن كان دافعا للمقالية إلّا أنّه لا يدفع الحاليّة إذ الشك في الحادث لا الحدوث ، ولا لوروده عقيب الحظر أو توهّمه لحرمة السجود لغيره سبحانه فأفاد الإباحة وفهم الوجوب لقرينة فلا دلالة ، ولا لاحتمال الاختلاف بين عرفنا وعرف الملائكة والتزام اتّحاد الوضع واللغة منظور فيه وظهور الحكاية في الموافقة ممنوع بعد إفهام المرام ، وذلك لأنّه يمكن دفع ذلك كلّه بالأصل ، والظهور الّذي هو الحجّة مضافا إلى تطرّق وجوه المناقشة إليها كما يمكن دفع كثير من الاعتراضات الّتي ربما يورد عليها ، بل لأنّ الذّم والتكفير على الاستكبار الّذي

٢٧٤

لا ريب في حرمته سواء كان استكباره على آدم أو على الله سبحانه في امتثال أوامره الواجبة أو المندوبة ، فإنّ ترك المندوب عتوّا وعلوّا واستكبارا عليه سبحانه حرام قطعا ، بل هو من أسباب الارتداد والكفر ، والّا فالذمّ والإنكار في هذه الآية وغيرها من الآيات المشتملة على هذه القصّة غير مترتّب على مجرّد ترك الامتثال الّذي لم يعلم كونه سببا للكفر ، ولو في حقّ إبليس أو جنود الملائكة المقرّبين.

ومن هنا يتّجه أن يقال إنّ هاهنا أمورا ثلاثة : إباء للسجود ، واستكبار على آدم ، وإنكار لرجحان السجود المأمور به من الله تعالى ، بل دعوى قبحه لاشتماله على تفضيل المفضول ، ولا ريب في سببيّته للكفر لكونه تسفيها للحكيم وتجهيلا للخالق العليم ، وإلى هذه الأمور الثلاثة المترتّبة أشير بقوله (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) يعني باعتراضه عليه سبحانه بقوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (١) وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢).

ثمّ انّه ربّما يستدلّ بالآية ايضا على صحّة القول بالموافاة ، والمراد به أنّ الّذي علم الله من حاله انّه يتوفّى على الكفر هو الكافر على الحقيقة إذ العبرة بالخواتيم ، وان كان بحكم الحال مؤمنا كما يحكى عن أبي الأشعري ، وبناه في «المجمع» على أحد الوجوه «لكان» قال : وامّا قوله : (كانَ مِنَ الْكافِرِينَ) قيل : معناه كان كافرا في الأصل ، وهذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة ، وقيل : أراد كان في علم الله من الكافرين (٣) إلى آخر ما ذكره.

__________________

(١) الإسراء : ٦٢.

(٢) ص : ٧٦.

(٣) مجمع البيان : ج ١ ص ٨٣.

٢٧٥

والمحكيّ عن «الملل والنحل» تفسير الموافاة بانّ الايمان هو الّذي يوافي الموت فمن أطاع الله جميع عمره ، وقد علم الله انّه يأتي بما يحبط عمله ، ولو بكبيرة لم يكن مستحقّا للوعد ، ولا مؤمنا وكذلك على العكس ، وقد يقرّر بأنّ الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم ، والكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم ، والجمع بين الاستحقاقين محال ، فإذا صدر الايمان من المكلّف ثمّ صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر ، فإمّا أن يبقى له الاستحقاقان معا وهو محال ، او يكون الطّاري مزيلا للسابق وهو ايضا محال ، لأنّ القول بالإحباط باطل فلم يبق إلّا أن يقال إنّ هذا الفرض محال ، وشرط حصول الايمان في وقت أن لا يصدر الكفر عنه قطّ ، فإذا كان الخاتمة على الكفر علمنا أنّ الّذي صدر عنه اوّلا ما كان ايمانا ، وحيث انّه كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنّه ما كان مؤمنا قطّ.

أقول : امّا إبليس فالظّاهر من كثير من الأخبار انّه لم يرد بعبادته التقرب إلى الله سبحانه ونيل ما لديه من المثوبة الاخرويّة والزلفى والكرامة وإنّما كان مقصوده نيل الحظوظ العاجلة والرّياسة الباطلة ، وامّا الآية فقد سمعت أنّ فيها وجوها كثيرة ، ومن البيّن انّه يضعف دلالتها على المذهب المتقدّم ، بناء على اكثر الوجوه فيها بل جميعها بعد ملاحظة أنّ ايمان إبليس كان من اوّل الأمر كلا إيمان ، حسبما سمعت على أنّ القول بالموافاة بمعنى المتقدّم مخالف لما دلّت عليه ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة ، فان صحّة الإيمان في زمان غير مشروطة بعدم طروّ الكفر عليه ، ولو بعد سنين من الأزمنة بعد كونه عند تحقّقه مستجمعا للتّصديق بالجنان والعمل بالأركان والإقرار باللّسان ، فانّ هذه الثلاثة وهي أركان الايمان بحيث إذا تحقّقت

٢٧٦

تحقّق قطعا ، وان كان ربما يصدق بتحقّق البعض ايضا ، نعم لو كان التّصديق اللّساني مقترنا بالعزم القلبي على إنشاء الكفر وإظهاره فيما بعد لم يبعد القول بعدم تحقّق الإيمان رأسا ، ولعلّ الأولى تنزيل القول بالموافاة على ذلك ، سيّما ما نسبه في «المجمع» إلى مذهبنا الظّاهر في نسبته إلى الاماميّة المشعرة بدعوى الإجماع عليه ، إلا أنّ مساق كلماتهم يأبى عن ذلك ، بل الظاهر منها أنّه مع خلوص إيمانه واقترانه بكلّ ما يعتبر اقترانه به لو اتّفق منه الكفر في آخر عمره بحيث قد مات عليه فلا يعد إيمانه ايمانا أصلا ، لظهور الكاشف عن عدم كونه إيمانا في الحقيقة ، وهو كما ترى مخالف لظواهر الأدلّة ، بل ربما يمكن تحصيل القطع على خلافه وأين هذا مما أدعى الإجماع على صحته ويمكن أن يكون المراد أنّ من ختم له بالكفر فحكمه في الخلود وسائر الأحكام حكم الكفّار ، وإن كان في اكثر عمره مقيما على وظائف الإيمان ، كما أنّ من ختم له بالإيمان فهو محشور في زمرة المؤمنين مبشّر بخلود الجنان ، وان انقضى عمره في الكفر والطّغيان ، وهذا ايضا لا بأس به ، بل هو المستفاد من ظاهر الآيات والاخبار ، كما أنّ المستفاد منها كونه في حال الايمان مؤمنا على الحقيقة ، وفي حال الكفر كافرا على الحقيقة ، نعم الختم بالكفر يوجب حبط الأعمال الصالحة وبطلانها ، أو كون المجازات بها في هذه الدّار الفانية ، ولذا يخاطبون في الآخرة بقوله : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) (١) ، كما أنّ الختم بالإيمان يوجب تكفير السّيئات ، فإنّ الإسلام يجبّ ما

__________________

(١) الأحقاف : ٢٠.

٢٧٧

قبله ، والتّائب من الذّنب كمن لا ذنب له ، والحبط والتكفير بهذا المعنى ممّا يدلّ عليه المنقول ، ولم يقم على فساده شيء من أدلّة العقول ، بل هو المختار عند الإماميّة على ما صرّح به بعض الفحول ، وأمّا الحبط والتكفير بالمعنى الّذي قال به بعض المعتزلة ، وقام النّص والإجماع على بطلانه عند الاماميّة فهو إذهاب كلّ من الحسنة والسيّئة على قدر ما لها من المرتبة ضعفا وقوّة للأخرى مع ذهابها على قدر إذهابها ، واين هذا ممّا أشرنا اليه من المعنى المتقدّم ، ومن هنا يظهر ضعف ما ربما يستدلّ به للقول بالموافاة بالمعنى المتقدّم من انّ الايمان يوجب استحقاق الثواب الدّائم إلى آخر ما مرّ تقريره.

تفسير الآية (٣٥)

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)

لما أنعم الله تعالى على أدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام بصنوف الأنعام واختصّه من العلوم والمعارف وتعليم الملائكة بما أوجب له به مزيد الإعظام ، وأسجد له الملائكة الكرام خاطبه خاطبا فهوانيّا بلا وسط على وجه الإلهام ، او خلق الكلام ، أو معه على وجه الإيصال والإعلام بألسنة تراجمة الوحي عليهم الصلاة والسلام ، كما يومئ إليه بعض الأخبار.

فالنون في قوله : «وقلنا» نون الكبرياء والعظمة ، او نون الوساطة والكرامة ، وناداه باسمه تكريما وتقريبا وإن آثر كلمة «يا» من بين حروف النّداء تنبيها على صدور الخطاب عن سرادق العظمة والجلال.

٢٧٨

وقوله : «اسكن» أمر من السكنى بمعنى اتّخاذ المسكن ، لا من السكون بمعنى ترك الحركة ، ومنه السكن بالفتح للمنزل ، وبالسكون لأهله ، وأصل السكنى أن يعدّى بفي كما يقال : قرّ فيه ، ولبث فيه ، إلّا أنّهم لمّا نقلوه إلى سكون خاص تصرّفوا فيه ، فقالوا : سكن الدار.

و «أنت» تأكيد للمستكن في اسكن ليصحّ العطف عليه ، ولم يقدروا ولتسكن زوجك للتنبيه على أنّه هو المقصود بالحكم ، والمعطوف عليه تبع له ، ولولاه لم تكن مأمورة به ، بل لم تكن أصلا بخلاف ما لو قيل : اسكنا ، والرجل زوج المرأة ، وهي زوجه ، وزوجته ، والجمع فيهما أزواج ، وحكى في «المصباح المنير» أنّ أهل نجد يقولون في المرأة زوجة بالهاء ، وأهل الحرم يتكلّمون بها مجازا ، وعكّس ابن السكّيت فقال : واهل الحجاز يقولون للمرأة زوج بغير هاء وسائر العرب زوجة بالهاء وجمعها زوجات ، قال : والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها للإيضاح وخوف لبس الذكر بالأنثى ، إذ لو قيل : تركة فيها زوج وابن لم يعلم ذكر او أنثى.

أقول والأشهر الأوفق للعرف واللّغة ما ذكرناه أوّلا ، والمراد بها حواء خلقها الله تعالى من فاضل طينة آدم ليسكن إليها حين استوحش من الانفراد كما قال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (١).

قيل إنّه لما أخرج إبليس من الجنّة ولعن ، وبقي آدم وحده استوحش إذ ليس معه من يسكن إليه ، فخلقت حوّاء ليسكن إليها.

__________________

(١) الروم : ٢١.

٢٧٩

وفي المجمع مرسلا أنّ الله تعالى ألقى على آدم النوم ، وأخذ منه ضلعا فخلق منه حوّاء فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فسألها من أنت؟ قالت امرأة ، قال لم خلقت؟ قالت لتسكن إليّ ، فقالت الملائكة : ما اسمها يا آدم؟ قال : حوّاء ، قالت ولم سمّيت حوّاء؟ قال : لأنّها خلقت من حيّ ، فعندها قال الله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (١).

وستسمع ان شاء الله تعالى الكلام في وجه تسميتها ومعنى كونها مخلوقة من ضلع آدم الأيسر في أوّل سورة النّساء.

وحيث إنّ نعمة السكنى لا تتمّ بدون التسكّن لأنّه مسكّن القلب ، وهي مسكن البدن قدّمه عليها في هذه الآية تقديم الرفيق على الطريق والجار على الدّار.

والأقوال كظواهر الأخبار مختلفة في كون حوّاء مخلوقة في الجنّة أو قبل دخولها ، فربّما يستفاد منها الأوّل وقيل : إنّها خلقت قبل أن يسكن آدم الجنّة ، ثمّ ادخلا معا الجنّة ، وهو الظّاهر من تفسير الامام عليه‌السلام على ما يأتي (٢).

والأمر بسكنى الجنّة للإباحة لا التّعبد ، إذ لا تكليف في السكنى في المواضع النزهة الطّيبة ، كما أنّ الأمر في «كلا» للإباحة ، واحتمال أن يكون مأمورا بالكون فيها باعتبار ترك أكل الشجرة مبنيّ على كون النّهي للتّحريم ، وضرورة المذهب تنفيه ، على ما تسمع ، وقد مرّ الكلام في اشتقاق الجنّة.

نعم قد اختلفوا في أنّ الجنّة الّتي أسكنها الله تعالى آدم هل هي من جنان

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٨٥ رواها مرسلا عن ابن عبّاس وابن مسعود.

(٢) تفسير الامام العسكري (ع) : ص ٢٢١.

٢٨٠