تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

الأربع المشار إليها في الدّعاء بقوله : والحمد لله كلّما حمد الله شيء وكما يحبّ الله أن يحمد ، وكما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله (١) إلخ على ما مرّت إليه الإشارة في تفسير الحمد ، والتقديس اشارة إلى تنزيهه عمّا لا يليق به من صفات الإمكان والأكوان.

ولا يخفى انّ قضيّة الإطلاق هو الحمل على ما مرّ وغيره يمكن حمل اللّفظ عليه ، فلا وجه لتخصيص البعض بالحمل عليه ، وفي إضافة هذه الأفعال إلى أنفسهم وتمدحهم بها وصدقهم في تنزيهه وتقديسه واضافة الإفساد والسفك إلى المجعول فيها على وجه يشعر بالذّم. والحوالة في الجواب عن مقالهم إجمالا إلى علمه وتفصيلا إلى علم المستخلف دون أن يقول إنّي أفعل ما أشاء لانتفاء الحسن والقبح وانتساب الكلّ إلى وجوه من الدّلالة على ما هو المختار من العدل والاختيار ، وفساد القول بالإجبار والاضطرار ، والمناقضة بمسألة الدّاعي والعلم مدفوعة بما مرّ مرارا ، وأمّا إخبار الملائكة عن الإفساد والسفك فلعلّه مستند إلى مطالعة اللّوح المحفوظ أو الألواح الجزئيّة السّماوية حيث إنّه قد جرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وذلك لا يوجب سقوط سؤالهم رأسا مع علمهم بجواز البداء او كون السؤال للاستفسار عن وجه الحكمة على ما مرّ ، أو إلى إخبار الله سبحانه حيث إنّه أعلمهم أنّه إذا كان في الأرض خلق عظيم أفسدوا فيها وسفكوا الدّماء أو أخبرهم به بالخصوص لما يروى عن ابن مسعود وغيره أنّه تعالى لمّا قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا : ربّنا ويكون الخليفة؟ ، قالوا تكون له ذرّيّة يفسدون في

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٦ ص ٤٤ ح ٥٤.

١٠١

الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا : ربّنا أتجعل فيها ، أو أنّهم علموا أنّ العصمة من خواص نوعهم لا نوع آخر وأن اتّصف بها منه أفراد كثيرة أو أنّهم قاسوا أحد الثقلين بالآخر لما رأوا من حال الجن الذين كانوا قبل آدم في الأرض كما يحكى عن ابن عباس والكليني قيل ويؤيّده ما في تفسير الامام عليه‌السلام : فقالوا ربّنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء كما فعلت الجنّ بنوا الجان الذين قد طردناهم عن هذه الأرض (١) آه وهو كما ترى إذ غايته التنظير واين هو من القياس الذي لم يجعل طريقا لاحد من الخلق إلى معرفة شيء سيّما مع ما تضمّن القدح والتّعييب وغيره بل من المشهور المستفيض انّ أوّل من قاس إبليس فكيف استعملته الملائكة قبله.

وأمّا ما يحكى عن تفسير العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام قال : وما علم الملائكة بقولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء لو لا أنّهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدّماء (٢) فالظّاهر أنّ المراد أنّهم رأوا ذلك مكتوبا في الألواح السّماوية ، أو أنّهم علموا ذلك ولو بطرق أخر من رأى بمعنى علم ، أو أنّهم رأوا ذلك رأي العين بناء على تجرّدهم وإحاطتهم بالأزمنة وما فيها ، بلا فرق بين الماضي والحال والاستقبال ، أو لأنّ معنى الخلافة هو النيابة عن الله تعالى في الحكم والقضاء وانّما يكون الاحتياج إليه عند التنازع والتظالم ، فالاخبار عن وجود الخليفة كأنّه إخبار عن وقوع الشرّ والفساد بطريق الالتزام ، أو أنّه لمّا خلق الله النّار خافت الملائكة

__________________

(١) تفسير البرهان : ج ١ ص ٧٣.

(٢) البرهان ج ١ ص ٧٤ عن العياشي.

١٠٢

خوفا شديدا فقالوا : ربّنا وسيّدنا لمن خلقت هذه النار؟ قال : لمن عصاني من خلقي ولم يكن يومئذ لله خلق إلّا الملائكة ، فلمّا قال : إنّي جاعل في الأرض خليفة عرفوا أنّ المعصية منهم ، أو لأنّهم علموا أنّ المجعول خليفة يكون له ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهويّة وغضبيّة تؤديان به إلى الفساد وسفك الدّماء ، وعقليّة تدعوه إلى المعرفة والطاعة واستخدام الأوليين بعد تسخيرهما وتعليمهما ما علّمها الله تعالى في مقاصدها ، لكن قضيّة التركيب هو التغالب والتقاهر فكلّ منها بين قاهر غالب أو مقهور مغلوب ، ولذا نظروا إليها كما هي مردّدة بين الحالين وقالوا : ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه وامّا باعتبار القوّة العقليّة ففي استخلافنا ما يترتّب عليه تلك المقاصد سليمة عن معارضة تلك المفاسد ، ولذا قال الله سبحانه في جوابهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) من أنّ الملائكة وان منحوا بالجنبة الرّوحانيّة ولوازمها من الإشراقات واللّذات العقليّة إلّا أنّه ليس لهم جنبة جسمانيّة ولا استعدادات كلّية لدرجات متفاضلة ، ولا إحاطة فطريّة او كسبيّة لإدراك النشآت المختلفة ، وأمّا الإنسان فانّه محيط بجميع المراتب المختلفة محتو على ما في العوالم المترتّبة سائر في الأطوار المتباينة من الجماديّة والنباتيّة والحيوانيّة والملكيّة مستفيدا بصورته التركيبيّة التي استعدّت بها للمنح الالهيّة والفيوض الربانيّة لما تقصر عنه الآحاد كالاحاطة بالجزئيّات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوّة إلى الفعل وقوّة التّصرف فيها بالتّسخير والتّدبير والتدمير وله التّرقي عن جميع تلك المراتب بان

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

١٠٣

يتحقّق له في مرتبة الجمعيّة الكليّة والجامعيّة الربانيّة والكليّة الالهيّة بحيث لا يشغله شأن عن شأن ولا يحجبه ناسوت عن ملكوت فيتجاوز حينئذ عن أفق الملائكة ، فهو النسخة الجامعة لحقائق الملك والملكوت ، والمظهر الكلّي لحضرة الرحموت ، والمعجون المركب من القبضات المأخوذة من عالم الملكوت في صقع النّاسوت.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّ الله تعالى ركّب في الملائكة عقلا بلا شهوة وركّب في البهائم شهوة بلا عقل وركّب في بني آدم كلتيهما فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم» (١).

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام : إنّي أعلم من الصلاح الكائن فيمن أجعله بدلا منكم ما لا تعلمون ، وأعلم ايضا أنّ فيكم من هو كافر في باطنه لا تعلمونه وهو إبليس لعنه الله (٢).

بسط في المقام للاشارة إلى عصمة

الملائكة عليهم‌السلام دفعا لبعض الأوهام

اعلم أنّ المشهور الذي عليه الجمهور هو عصمة الملائكة من صغائر الذّنوب وكبائرها بلا فرق بين الملائكة الأرضيّة والسّماويّة ، بل ادّعى كثير من الفرقة المحقّة عليه الإجماع ووافقهم عليه أكثر المخالفين ، واستدلوا عليه بأنّ المعصية في الحقيقة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٠ ص ٣٩٩ ـ عن علل الشرائع ج ١ ص ٥.

(٢) تفسير البرهان : ج ١ ص ٧٣ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

١٠٤

عبارة عن مخالفة القوّة السافلة للقوّة العالية فيما لها أن يفعل الغرض الأعلى عند تخالف الأغراض والدّواعي ، ومع بساطة القوّة وفقد التركيب من الأجزاء المختلفة لا يتصوّر التّنازع والتّمانع ، وبالإجماع القطعي من الفرقة المحقّة عليه ولذا لم ينسبوا الخلاف إلّا إلى الحشوية ، وبظاهر الآيات الكثيرة كقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢) إلى قوله : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٣) (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٤) (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (٥) (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٦) وغيرها من الآيات التي لا تخفى وجوه الدّلالة فيها بملاحظة الإطلاق والعموم على ما هو المطلوب بل في هذه الآية ايضا دلالة عليه ايضا حيث إنّهم طعنوا باليسير من المعصية ولو كانوا من العصاة لما حس منهم ذلك الطعن ، سيّما عند من لا تخفى عليه خافية هذا مضافا إلى جملة من الاخبار الدّالة على عصمتهم ودوام طاعتهم كما في الخطبة العلويّة المرويّة في النّهج وفيها انشائهم على صور مختلفات ، وأقدار متفاوتات ، جعلهم الله فيما هنالك أهل الامانة على وحيه ، وحملهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه ، وعصمهم من ريب

__________________

(١) التحريم : ٦.

(٢) الأنبياء : ٢٧.

(٣) الأنبياء : ٢٨.

(٤) النحل : ٥٠.

(٥) الأنبياء : ١٩.

(٦) الأنبياء : ٢٠.

١٠٥

الشبهات ، فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته (١).

وفي تفسير فرات معنعنا عن الحسن بن علي عليهما‌السلام في خبر طويل وفيه أنّه سبحانه جعل في كلّ سماء ساكنا من الملائكة خلقهم معصومين من نور من بحور عذبة وهو بحر الرّحمة وجعل طعامهم التّسبيح والتهليل والتّقديس ، الخبر (٢).

وفي «العيون» عن الرضا عليه‌السلام : إنّ الملائكة معصومون محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى قال الله فيهم (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣) وقال عزوجل (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ) ـ يعني الملائكة ـ (لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٤) الآية (٥) ولا يخفى إنّ استدلاله بظاهر الآيتين ممّا يؤكّد دلالتهما على ذلك إلى غير ذلك من الاخبار الكثيرة وقال الامام عليه‌السلام في تفسيره ردّا على العامة فيما ذكروه من قصّة هاروت وماروت ما لفظه : معاذ الله من ذلك أنّ ملائكة الله تعالى معصومون عن الخطأ محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى فقال الله عزوجل فيهم (لا يَعْصُونَ اللهَ) (٦) ، الآية (٧) إلى آخر ما يأتي الإشارة اليه في تلك القصّة وغيرها.

واحتجّت الحشوية مضافا إلى ما يأتي من توهّم أنّ إبليس كان منهم وقد كفر

__________________

(١) نهج البلاغة : خ ٩٠ ـ المعروفة بخطبة الأشباح.

(٢) البحار : ج ٥٧ ص ٩٢ عن تفسير الفرات.

(٣) التحريم : ٦.

(٤) الأنبياء : ١٩.

(٥) البحار : ج ٥٩ ص ٢٧٢.

(٦) التحريم : ٦.

(٧) بحار الأنوار : ج ٥٩ ص ٣٢١.

١٠٦

ومن قصّة هاروت وماروت على ما اشتهر بهذه الآية حيث اشتملت على وجوه من الدّلالة ، حتّى أنهاها بعضهم إلى ثمانية عشرة خصلة ذميمة كانت كامنة فيهم ، وقد ظهرت بالاختيار الذي هو الاخبار عن خلق الخلفاء والأخيار وذلك لا يتمّ اعترضوا على الله الحكيم في فعله ، وذلك من أعظم الذنوب ، وطعنوا في بني آدم بالإفساد وسفك الدّماء وهي الغيبة الّتي هي من الكبائر ، وتمدحوا بخلوّ أنفسهم عنهما ، وباشتغالهم بالتحميد والتقديس ، بل وبانحصار ذلك بهم ، حتّى كانّهم نفوا كون غيرهم كذلك وهو يشبه العجب والغيبة اللذين هما من المهلكات والكبائر ، مع ما يظهر منه من التزكية وسوء الظّن ، والتّفحص عن معائب الغير ، وحسدهم على فضيلته وصلاحيّته للخلافة ، وحرصهم عليها ، واضافتهم العبادة إلى أنفسهم لا إلى حول ربّهم وقوّته وتوفيقه وعصمته ، واعتمادهم على القياس والاستنباط ، والقول بغير علم سيّما في القدح على الغير ، وفي الاعتراض على الحكيم وذلك لأنّ علمهم بذلك لو كان مستندا إلى الوحي لم يكن لإعادة ذلك الكلام فائدة مع انّ قوله : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) يدلّ على أنّهم كانوا كاذبين فيما قالوا وأنّ قوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٢) يدلّ على أنّهم ما كانوا عالمين بذلك قبل هذه الواقعة ، وأنّهم كانوا شاكين في كونه تعالى عالما بكلّ المعلومات ، وإنّ قولهم : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (٣) يشبه الاعتذار ولو لا تقدم الذنب لما اشتغلوا بالعذر ، هذا مضافا

__________________

(١) البقرة : ٣١.

(٢) البقرة : ٣٣.

(٣) البقرة : ٣٢.

١٠٧

إلى الاخبار الكثيرة الدّالة على ذلك من طرق الفريقين في تفسير الآية.

ففي العلل عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه سئل عن ابتداء الطّواف فقال : انّ الله تبارك وتعالى لمّا أراد خلق آدم قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فقال ملكان من الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء فوقعت الحجب فيما بينهما وبين الله عزوجل وكان الله تبارك وتعالى نوره ظاهرا للملائكة فلمّا وقعت الحجب بينه وبينهما علما أنّه سخط قولهما فقالا للملائكة : ما حيلتنا وما وجه توبتنا فقالوا ما نعرف لكما من التوبة إلّا أنّ تلوذا بالعرش قال فلاذا بالعرش حتّى انزل الله عزوجل توبتهما ، ورفعت الحجب فيما بينه وبينهما وأحبّ الله تبارك وتعالى أن يعبد بتلك العبادة فخلق الله البيت في الأرض وجعل على العباد الطّواف حوله وخلق البيت المعمور في السّماء يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة (١).

وفيه بالإسناد عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في سبب كون الطّواف سبعة أشواط قال : لأنّ الله تبارك وتعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فردوا على الله تبارك وتعالى وقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، قال الله إنّي أعلم ما لا تعلمون : وكان لا يحجبهم عن نوره فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة فرحمهم وتاب عليهم وجعل لهم البيت المعمور الّذي في السّماء الرابعة فجعله مثابة وأمنا ووضع البيت الحرام تحت البيت المعمور فجعله مثابة للنّاس وأمنا فصار الطّواف سبعة أشواط واجبا على العباد لكلّ ألف سنة شوطا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١١٠ عن العلل.

١٠٨

واحدا (١) فيه ، وفي العيون في علل محمّد بن سنان قال : كتب الرضا عليه‌السلام إليه علّة الطّواف بالبيت أنّ الله تبارك وتعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيه ويسفك الدّماء فردّوا على الله تبارك وتعالى هذا الجواب فعلموا أنّهم أذنبوا فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا ، الخبر قريبا ممّا مرّ وفي «الكافي» عن ابي جعفر عليه‌السلام في خبر طويل قال عليه‌السلام : أمّا بدء هذا البيت فإنّ الله تبارك وتعالى قال للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة فردّت الملائكة على الله تعالى فقالت : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء فاعرض عنها فرأت أنّ ذلك من سخطه فلاذت بعرشه فأمر الله تعالى ملكا من الملائكة أن يجعل له بيتا في السّماء السّادسة يسمّى الضّراح بإزاء عرشه (٢).

الخبر وفيه عنه عليه‌السلام انّهم لمّا ردّوا عليه بقولهم : أتجعل فيها .. إلخ قال الله تبارك وتعالى : انّي أعلم ما لا تعلمون فغضب عليهم ثمّ سألوه التّوبة فأمرهم أن يطوفوا بالضّراح وهو البيت المعمور ومكثوا يطوفون سبع سنين يستغفرون الله عزوجل ممّا قالوا ثمّ تاب الله عليهم من بعد ذلك ورضى عنهم ، فهذا كان أصل الطواف ثمّ جعل الله البيت الحرام حذو الضراح توبة لمن أذنب من بني آدم وطهورا لهم (٣).

وفي المجمع عن الصادق عليه‌السلام : انّ الملائكة سألت الله تعالى أن يجعل الخليفة منهم وقالوا نحن نقدّسك ونطيعك ولا نعصيك كغيرنا قال فلمّا أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنّهم تجاوزوا ما لهم فلاذوا بالعرش استغفارا فأمر الله تعالى آدم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١١٠ ـ ١١١ عن العلل ص ١٤١.

(٢) بحار الأنوار ج ١١ ص ١١٠ عن العلل والعيون.

(٣) البحار : ج ٩٩ ص ٢٠٥.

١٠٩

بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقرّبون فقال الله للملائكة إنّي أعرف بالمصلحة منكم وهو معنى قوله : (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ). (١).

وروت العامة عن ابن عباس انّه قال سبحانه للملائكة الذين كانوا جندا لإبليس في محاربة بني الجان إنّي جاعل في الأرض خليفة فقالت الملائكة محبّين له سبحانه : أتجعل فيها من يفسد فيها ثمّ علموا غضب الله عليهم فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) (٢).

وفي بعض رواياتهم أنّهم لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها أرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم.

بل يمكن الاستدلال أيضا بما في «الإكمال» وغيره عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لله تبارك وتعالى ملكا يقال له دردائيل كان له ستّة عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح هواء والهواء كما بين السّماء والأرض فجعل يوما يقول في نفسه أفوق ربّنا جلّ جلاله شيء فعلم الله تبارك وتعالى ما قال فزاده اجنحة مثلها فصار له اثنان وثلاثون ألف جناح ثمّ أوحى الله عزوجل إليه أن طر فطار مقدار خمسمائة عام فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش فلمّا علم الله عزوجل اتعابه اوحى إليه أيّها الملك عدّ إلى مكانك فانا عظيم فوق كلّ عظيم وليس فوقي شيء ولا اوصف بمكان فسلبه الله أجنحته ومقامه من صفوف الملائكة فلما ولد الحسين عليه‌السلام هبط جبرئيل عليه‌السلام في

__________________

(١) البحار : ج ٩٩ ص ٢٠٦.

(٢) البقرة : ٣٢.

١١٠

ألف قبيل من الملائكة لتهنئة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فمرّ بدردائيل فقال له سل النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحقّ مولوده أن يشفع لي عند ربّه فدعا له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بحقّ الحسين فاستجاب الله دعائه وردّ عليه أجنحته وردّه إلى مكانه (١).

وفي البصائر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال إنّ الله تعالى عرض ولاية امير المؤمنين عليه‌السلام فقبلها الملائكة واباها ملك يقال له فطرس فكسر الله جناحه فلمّا ولد الحسين بن عليّ عليه‌السلام بعث الله جبرئيل في سبعين ألف ملك إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يهنّيهم بولادته فمرّ بفطرس فقال له فطرس يا جبرئيل إلى أين تذهب قال بعثني الله تعالى الى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله اهنّيهم بمولود ولد في هذه الليلة فقال له فطرس احملني معك وسل محمّدا يدعو لي فقال له جبرئيل اركب جناحي فركب جناحه فاتى محمّدا فدخل عليه وهنّأه فقال له يا رسول الله أن فطرس بيني وبينه أخوة سألني أن أسألك أن تدعو الله له أن يرد عليه جناحه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لفطرس أتقبل؟ قال نعم فعرض عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام فقبلها فقال رسول الله شأنك بالمهد فتمسح به وتمرغ فيه قال فمضى فطرس إلى مهد الحسين بن علي عليهما‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو له قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : فنظرت إلى ريشه وأنّه ليطلع ويجري منه الدّم ويطول حتّى لحق جناحه الاخر وعرج مع جبرئيل إلى السّماء وصار إلى موضعه (٢).

والجواب أمّا عن قصّة إبليس والملائكة فسيأتي ، وامّا عن الآية فبالمنع من

__________________

(١) البحار : ج ٤٣ ص ٣٤٩.

(٢) البحار : ج ٢٦ ص ٣٣١.

١١١

دلالتها على المقصود بشيء من الوجوه المتقدّمة ، ضرورة انّ سؤالهم لم يكن للإنكار ولا لتنبيه الله عزوجل على شيء لا يعلمه ولا للاعتراض عليه في فعله ، بل إنّما المقصود من ذلك أمور منها ما مرّت اليه الإشارة من السّؤال عن وجه الحكمة فانّ إبداء الأشكال طلبا للجواب غير محذور فكانّهم قالوا ربّنا أنت الحكيم الذي لا تفعل السفه البتّة وتمكين الظّلم من الظلم والفساد قبيح من الحكيم فضلا عن خلقه فما الحكمة في ذلك فأجابهم الله تعالى بقول : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) أي من الخيرات الكثيرة التي لا يتركها الحكيم لأجلّ الشرور القليلة.

ومنها : أنّ ذلك مسألة منهم ان يجعل الأرض أو بعضا لهم ان كان ذلك صلاحا نحو قول موسى : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) (٢) اي لا تهلكنا فأجابهم الله عزوجل بانّي أعلم من صلاحكم وصلاح هؤلاء ما لا تعلمون وانّ الأصلح لكم السّماء ولهم الأرض ، وقد مرّ في الأخبار المتقدّمة أنّهم سألوه أن يجعل الخليفة منهم فأجيبوا بذلك (٣).

ومنها : أنّه تعالى أخبر الملائكة بانّه سيكون من ذريّة هذا الخليفة من يعصي ويسفك الدّماء على ما يحكى عن ابن مسعود وغيره ، والغرض في اعلامه ايّاهم أن يزيدهم ايمانا ويقينا بعلمه بالغيب ، أو ليعلموا أنّ آدم انّما خلق للأرض لا للجنّة فقالت الملائكة أتجعل فيها من يفعل كذا وكذا على وجه التعرف لما فيه من الحكمة ولعلّه يرجع إلى الأوّل إلّا أنّه يقتضي أن يكون حذف في أوّل الكلام ويكون التقدير

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

(٢) الأعراف : ١٥٥.

(٣) البحار ج ٩٩ ص ٢٠٦.

١١٢

إنّي جاعل في الأرض خليفة وإنّي عالم بانّه سيكون في ذرّيّته من يفسد فيها ويسفك الدّماء فحذف اختصارا للقرينة.

ومنها ما قيل ايضا في تأويلها وإن لم يخلو من ضعف مثل أنّ سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام الله تعالى حيث أنّ العبد المخلص لشدّة حبّه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه وإنّ هذا الاستفهام خارج مخرج الإيجاب كقول جرير : «ألستم خير من ركب المطايا» اي أنتم كذلك ، وإلّا لم يكن مدحا فكانّهم قالوا : إنّك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبّح بحمدك لأنا نعلم في الجملة أنّك لا تفعل إلّا الحكمة والصواب فقال تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من الاحاطة بظاهرهم وباطنهم وما يؤول اليه أمرهم وأمّا أنتم فانّما علمتم ظاهرهم وهو الفساد والقتل أو من الاحاطة والعلم بجميع افراد هذا النّوع حيث أنّ فيهم من هو المقصود الأعظم من خلق الملائكة وسائر العالم ، وأمّا أنتم فانّما نظرتم إلى بعض الإفراد الموجودة بالتّبعيّة لمصالح أخر ، وأمّا القدح فيهم بالغيبة فالامر فيه واضح ضرورة أنّ المقصود صدور الفعل من بعضهم ومثله لا يعدّ غيبة سيّما بالنّسبة إلى من لم يوجد بعد سلمنا لكنّه غيبة للفساق وهي جائزة ، هذا مضافا إلى عدم تسليم حرمة ذكر مثله لعلّام الغيوب لا سيّما من الملائكة الذين جملة منهم موكّلون بتفتيش اعمال الخلائق وإثباتها في الصّحف والشهادة عليها مع أنّ إيراد السؤال يوجب التّعرض لمحلّ الأشكال وأمّا التّمدح فلعلّه لإظهار النّعمة وشكرها ولتتمّة تقرير الشبهة ، وأمّا العجب وهو سوء ظن بهم ، وأمّا سوء الظّن فقد مرّ الكلام في مستند أخبارهم ، وأمّا التزكية والفحص والحسد والحرص وغير ذلك ممّا مرّ فتطرق المنع إلى استفادتها

١١٣

من الآية واضح ، وقد مرّ أنّ في قوله نسبّح بحمدك دلالة على تحميدهم له بالتوفيق على ذلك مضافا إلى ما فيه من اظهار الاختيار وتنزيهه عن الإجبار وقوله : «ان كنتم صادقين» أي في زعمكم الأحقيّة بالخلافة وقوله : «ألم أقل لكم» لظهور فضيلة آدم بعد الإعلام به مجملا ، والاعتذار غير ظاهر وعلى فرضه فلا يستلزم الذّنب ، بل لعلّه اظهار للنّعمة وإقرارا على أنفسهم بالعجز والعبوديّة فان كان ولا بّد فاستناده إلى ترك الأوّلى اولى جمعا بينه وبين ما دلّ على العصمة وردّا للمتشابه إلى الآيات المحكمة ، وأمّا الاخبار ففيها مع التضمّن عن ضعف سند الأكثر انّها قاصرة الدلالة لأنّ اطلاق الاحتجاب والتوبة والاستغفار لا دلالة في شيء منها على صدور المعصية وارتكاب الخطيئة سيّما في شأن المقرّبين الذين يتحرّجون ويردأون على أنفسهم بأقلّ من ذلك ، إذ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين مع أنّهم ربما يجبرون بمثل ذلك ما يستشعرون من أنفسهم من القصور دون التّقصير ، وسيأتي الإشارة إلى جميع ذلك ، على أنّه قد ورد أنّهم ظنّوا الاحتجاب كما في «العلل» عن الصادق عليه‌السلام قال : انّ الله عزوجل لما قال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ضجت الملائكة من ذلك وقالوا يا ربّ ان كنت لا بدّ جاعلا في أرضك خليفة فاجعله منّا من يعمل في بطاعتك فردّ عليهم إنّي أعلم ما لا تعلمون فظنّت الملائكة أنّ ذلك سخط من الله عزوجل عليهم فلاذوا بالعرش يطوفون به فأمر الله عزوجل له ببيت من مرمر سقفه ياقوتة حمراء وأساطينه الزبرجد يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يدخلونه بعد ذلك إلى يوم الوقت المعلوم (١) ، الخبر.

__________________

(١) البحار : ج ٩٩ ص ٣٢.

١١٤

إلّا أنّ ظاهرة صدق ظنهم فلا يبعد حمله على العلم سيّما بعد ملاحظة الاخبار المتقدّمة وعصمتهم عن الخطأ في الاعتقاد لكن الخطب في ذلك كلّه سهل بعد قيام الإجماع لو لم ندّع الضرورة على عصمتهم وتظافر الآيات والاخبار على ذلك فلا بدّ من تأويل هذه الاخبار على فرض صحّتها وتماميّة دلالتها أو طرحها ، كما أنّه المتعيّن ايضا في الاخبار بل الآيات الدّالة على الطّعن في الأنبياء وتخطئتهم ونفي العصمة عنهم سيّما مع مخالفة الاخبار المتقدمة للآيات الدّالة على عصمتهم وبراءة ساحتهم عن اقتراف الذّنوب والمعاصي على ما مرّت الإشارة إليها.

وقد استفاض عنهم وجوب العرض على كتاب الله سبحانه ، فقالوا إنّ ما وافق الكتاب فخذوه وما خالف الكتاب فذروه فدعوه فاضربوه على الحائط (١).

فان قلت أنّ الاخبار الدّالة على نفي عصمتهم ايضا توافق ظاهر الكتاب كهذه الآية والمتضمّنة لقصّة الملكين وإبليس وغير ذلك ، قلت قد سمعت أنّه لا ظهور في الآية أصلا وانّه من الآيات المتشابهة التي يجب ردّها إلى المحكمات ولو بقرينة الإجماع وغيره على عدم ابقائها على ظواهرها.

ومن هنا يظهر الجواب عمّا يمكن إيراده في المقام من أن قضيّة تخصيص العام بالخاصّ حمل الآيات الدّالة على العصمة على غير مورد هذه الآية الخاصّة بحسب المورد والزّمان والمعصية وغيرها من الخصوصيّات إذ فيه أنّ التخصيص بعد احراز حجّية الخاص وظهور دلالته وهو في المقام أوّل الكلام.

وتوهّم اعتضاد دلالتها بظواهر الاخبار المتقدّمة المتضمّنة لتفسيرها سيّما مع

__________________

(١) البحار : ج ٢ ص ١٦٥.

١١٥

تكرّرها في أصول الإماميّة واشتمالها على الإبناء عن بدو بناء البيت حسبما هو المشهور بين الطائفة المحقة ، مدفوع بانّ المحكمات حاكمة عليها فلا ينفعها الاعتضاد بالاخبار التي سبيلها سبيل الاخبار الواردة في تفسير الآيات المتضمّنة للخبر والتشبيه وغيرها ممّا يلزم فيه رفع اليد عن الظواهر كما في المقام ولو للإجماع وغيره ، فان قلت إنّ الإجماع ممنوع في المقام فانّ المحكي منه غير معلوم الحجّية سيّما في مثل المسألة التي هي من فروع الأصول دون الفروع التي يجري فيها دليل الانسداد وغيره والمحقق منه غير معلوم التحقق لو لم نقل إنّ المحقّق انتفاؤه فانّ هذه الاخبار المتعلّقة بهذه القصّة أو المتضمّنة لتوبة دردائيل وأخويه قد تعرض لنقلها العصابة من دون اشارة إلى ردّها أو طرحها أو التأويل فيها بما لا ينافي العصمة على أنّ الشيخ أبا جعفر الطوسي رحمه‌الله قد اختار في تبيانه كون إبليس مع تمرّده وعصيانه من جملة الملائكة واستدلّ على ذلك بما يأتي وأيضا يظهر ممّا يحكى عن محمّد بن بحر الشّيباني الدّهني وهو من أجلّة الاماميّة في كلامه المحكي في «العلل» وغيره في تفضيل الأنبياء على الملائكة اتّفاق جميع المفسّرين من الأمّة على كون إبليس وهاروت وماروت من الملائكة ولم يحك الخلاف في ذلك عن أحد من الاماميّة بل العامة ايضا إلّا عن الحسن البصري ونسبه إلى الشّذوذ عن أقوال سائر المفسّرين ولعلّه يستفاد من كلامه دعوى الإجماع على نفي العصمة فكيف يمكن دعوى الإجماع عليها قلت لم نرد بالإجماع مجرّد الاتّفاق الذي يقدح فيه أمثال هذه الأقوال الشّاذة بل المراد به ما هو الحجّة عند الامامية لكونه كاشفا عن قول المعصوم ورضاه وهو محقق في المقام بحيث لا

١١٦

يصغى معه إلى أمثال هذه الاخبار والأقوال الشاذة التي لم تكن معروفة ولا مذكورة عند الاماميّة ولذا ادّعى المفيد الإجماع على عدم كون إبليس من الملائكة ، ولعمري أنّه من الوضوح بمكان يمكن دعوى ضرورة المذهب عليه على ما ستعرف بل ولعلّه كذلك بالنّسبة إلى الملكين ولذا قال ايضا الصّدوق بعد حكاية كلام الدّهني في «العلل» ما لفظه إنّما أردت أن تكون هذه الحكاية في هذا الكتاب وليس قولي في إبليس ؛ أنّه كان من الملائكة ، بل كان من الجنّ ، إلّا أنّه كان يعبد الله بين الملائكة وهاروت وماروت ملكان ، وليس قولي فيهما قول أهل الحشو بل كانا عندي معصومين إلى آخر ما ذكره رحمه‌الله (١).

عصمة الملائكة وحقيقتها

وبالجملة لا ينبغي الإشكال في أصل العصمة وعدم صدور المعصية بعد قيام الإجماع وإنّما الكلام في انّهم قادرون على الشرور والمعاصي أولا فالمحكي عن جمهور الفلاسفة وكثير من الجبريّة أنّهم خيرات محض لا قدرة لهم على شيء من ذلك بل الظاهر منهم أنّ أفعالهم كالأفعال الطّبيعية الصّادرة عن فاعلها من دون كلفة ومشقّة ، بل قد يحكى عنهم : أنّهم جعلوها نفس الطّبايع الّتي تصدر عنها الأفعال من دون شعور واختيار ، ولقد فرغنا عن الكلام في إبطاله على ما مرّ وظاهر المتكلّمين والفقهاء بل صريح بعضهم انّهم قادرون على كلّ من الطّاعة والمعصية ، إلّا أنّهم باختيارهم وارادتهم بل واستلذاذهم وميلهم يختارون الطّاعة على المعصية كما يستفاد من هذه القصّة المتضمّنة لترك الأولى ومن قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي

__________________

(١) علل الشرائع ص ٢٧.

١١٧

إِلهٌ) (١) ، الظّاهر في قدرتهم على ذلك ، بل هو الظّاهر ايضا من التمدّح بالتّسبيح والتقديس في هذه الآية ، ومن قوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢) ، وقوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) (٣) ، إلى غير ذلك من الآيات الظّاهرة في ذلك.

بل قد يستدلّ أيضا بانّهم لو لم يكونوا قادرين على ترك الخيرات لما كانوا ممدوحين بفعلها لأنّ الملجأ إلى الشيء ومن لا يقدر على ترك الشيء لا يكون ممدوحا بفعل الشيء.

قال الرازي : ولقد استدلّ بهذا بعض المعتزلة فقلت له : أليس أنّ الثّواب والعوض واجبان على الله تعالى ، ومعنى كونه واجبا عليه أنّه لو تركه للزم من تركه إمّا الجهل وإمّا الحاجة وهما محالان ، والمفضي إلى المحال محال ، فيكون ذلك التّرك محالا من الله ، وحينئذ فيكون الفعل واجبا منه ، فكون الله تعالى فاعلا للثّواب والعوض واجب وتركه محال مع انّه تعالى ممدوح على فعل ذلك ، فثبت أنّ امتناع التّرك لا يقدح في حصول المدح ، قال فانقطع وما قدر على الجواب (٤).

والجواب عنه واضح ضرورة ظهور الفرق بين كون الترك مستندا إلى الاختيار ، بحيث لا يختار الفعل أصلا أبدا ولو للحكمة او العصمة ، وكونه مستندا على العجز وانتفاء القدرة وانتفاء المدح إنّما هو في الثاني دون الأوّل الّذي يثبت معه

__________________

(١) الأنبياء : ٢٩.

(٢) التحريم : ٦.

(٣) الأنبياء : ٢٩.

(٤) تفسير مفاتيح الغيب ج ١ ص ١٧١.

١١٨

القدرة والاختيار على مذهب العدليّة ، إلا أنّ الرجل ليس منهم بل من الّذين يظنّون بالله ظنّ السّوء عليهم دائرة السّوء.

تفسير الآية (٣١)

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها)

شروع في بيان الجواب عن سؤال الملائكة على وجه التّفصيل بعد ما أجمل الجواب عنهم ، وتمهيد للاستدلال على أفضليّة آدم عليهم بما خصّه من العلم.

والتعليم فعل يترتّب عليه العلم غالبا ، وهو في حقّه تعالى يكون بالتكوين وبالوحي والإلهام ، أو بمطلق الإعلام ، وإطلاق المعلّم عليه غير سائغ لتوقيفية الأسماء ، وغلبة إطلاقه فيما يكون بأدوات ولهوات ، وإن أطلق عليه ما اشتقّ منه كما في المقام ، وفي قوله : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) (١) ، (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) ، (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٣).

وجه تسمية آدم

و «آدم» إمّا اسم أعجميّ بل في «الكشّاف» : وما آدم إلّا اسم أعجمي واقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر ، وعازر ، وعابر ، وشالخ ، وفالغ ، وأشباه ذلك.

وإمّا عربي مشتقّ من أديم الأرض ، بمعنى وجهها لما روي من أنّه تعالى لما

__________________

(١) الأنبياء : ٨٠.

(٢) الرحمن : ٢.

(٣) العلق : ٥.

١١٩

أراد أن يخلقه أمر أن يقبض قبضة من جميع الأرض سهلها وجبلها فخلق منها آدم ، فلذلك ياتي بنوه أخيافا اي مختلفين من قولهم : النّاس أخياف ، ويقال لإخوة الأمّ أخياف ، لاختلافهم في نسب الآباء.

وفي خبر ابن سلام عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه سأله عن آدم لم سمّي آدم؟ قال : لأنّه خلق من طين الأرض وأديمها ، قال : فآدم خلق من الطّين كلّه او من طين واحد؟ قال : بل من الطّين كلّه ، ولو خلق من طين واحد لما عرف الناس بعضهم بعضا ، وكانوا على صورة واحدة قال : فلهم في الدّنيا مثل؟ قال : التّراب فيه أبيض ، وفيه اخضر ، وفيه أشقر وفيه اغبر ، وفيه احمر ، وفيه أزرق وفيه عذب وفيه ملح وفيه خشن وفيه لين وفيه أصهب فلذلك صار النّاس فيهم ليّن وفيهم خشن ، وفيهم أبيض ، وفيهم اصفر ، واحمر وأصهب وأسود على ألوان التّراب (١).

وفي «الاختصاص» عن الصادق عليه‌السلام انّه خلق آدم من صفحة الطّين (٢).

أو بمعنى باطنها من الأدمة بالتحريك لباطن الجلد ، وباطن الأرض كما في «القاموس» ، أو خصوص الأرض الرّابعة كما قال الصّدوق في «العلل» بعد قول الّصادق عليه‌السلام : إنّما سمّي آدم آدم لأنّه خلق من أديم الأرض : إنّ اسم ارض الرّابعة أديم وخلق آدم منها فلذلك قيل : خلق من أديم الأرض (٣).

وان قيل إنّه لم يوجد له أثر في كتب اللّغة ولعلّه وصل إليه بذلك خبر ، لكن في «قصص الأنبياء» بعد نقل خبر يأتي ذكره ما لفظه : وقيل : أديم الأرض أدنى

__________________

(١) علل الشرائع ص ١٦١ وعنه البحار ج ١١ ص ١٠١.

(٢) البحار ج ١١ ص ١٠٢ عن الاختصاص.

(٣) علل الشرائع ج ١ ص ١٤.

١٢٠