تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

ينزل مع أفلاكه منزلة حيوان واحد ذي نفس واحدة تتعلق بالكوكب أوّل تعلقها وبأفلاكه بواسطة الكوكب كما تتعلق نفس الحيوان بقلبه أوّلا وبأعضائه الباقية بعد ذلك ، فالقوة المحركة منبعثة عن الكوكب الذي هو كالقلب في أفلاكه التي هي كالجوارح والأعضاء الباقية انتهى كلامه زيد إكرامه إلى أن قال : إنّ خطابه للقمر ونداؤه له وصفه بالطاعة والجد والتعب والتردد في المنازل والتصرف في الفلك ربما يعطي بظاهره كونه ذا حياة وإدراك ولا استبعاد في ذلك نظرا إلى قدرة الله تعالى إلّا انّه لم يثبت بدليل عقلي قاطع يشفي العليل او نقلي ساطع لا يقبل التأويل ، نعم أمثال هذه الظواهر ربما تشعر به وقد يستند في ذلك بظاهر قوله تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (١) فانّ الواو والنون لا يستعملان حقيقة في غير العقلاء ، وقد أطبق الطبيعيون على أنّ الأفلاك بأجمعها حيّة ناطقة عاشقة مطيعة لمبدعها وخالقها وأكثرهم على أنّ غرضها من حركاتها نيل التشبه بجنابه والتقريب إليه جلّ شأنه ، وبعضهم على أنّ حركاتها لورود الشوارق القدسيّة عليها آنا فآنا فهي من قبيل هزة الطرب والرقص الحاصل من شدّة السرور والفرح ، وذهب جم غفير منهم إلى أنّه لا ميت في شيء من الكواكب ايضا حتى اثبتوا لكلّ واحد منها نفسا على حدة تحركه حركة مستديرة على نفسه ، وابن سينا في «الشّفاء» مال إلى هذا القول ورجّحه وحكم به في النمط الخامس من (الإشارات) ولو قال به قائل لم يكن مجازفا وكلام ابن سينا وأمثاله وإن لم يكن حجّة يركن إليها الديانيون في أمثال هذه المطالب إلا أنّه يصلح للتأييد ولم يرد في الشريعة المطهرة على الصادع بها أفضل الصلوات وأكمل التسليمات ما ينافي هذا القول ، ولا قام دليل عقلي على بطلانه وإذا جاز أن يكون لمثل البعوضة والنّملة وما دونهما حياة فايّ مانع من أن يكون لتلك الاجرام

__________________

(١) الأنبياء : ٣٣.

٤١

الشريفة أيضا ذلك ، وقد ذهب جماعة إلى أن لجميع الأشياء نفوسا مجردة ونطقا وجعلوا قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١) محمولا على ظاهره ، وليس غرضنا من هذا الكلام ترجيح القول بحياة الأفلاك بل كسر سورة استبعاد المصرّين على إنكاره وردّه وتسكين صولة المشنعين على من قال به وجوّزه (٢) انتهى كلامه زيد مقامه ، واعترضه شيخنا المجلسي طاب ثراه بانّ هذا الترجيح الذي أبداه في لباس الاحتمال والتجويز مناف لسياق اكثر الآيات والأخبار الواردة في أحوال الكواكب والأفلاك ومسيرها وحركاتها والإشارات التي تمسك بها ظاهر من سياقها انّها من قبيل المجازات والاستعارات الشائعة في كلام البلغاء بل في اكثر المحاورات فانّهم يخاطبون الجمادات بخطاب العقلاء وغرضهم تفهيم غيرها كما في هذا الخطاب وخطاب شهر رمضان ووداعه وخطاب البيت والمخاطب فيها حقيقة هو الله تعالى والغرض إظهار نعمه تعالى وشكره عليها ولم أر أحدا من المتكلمين من فرق المسلمين قال بذلك إلّا بعض المتأخرين الذين يقلّدون الفلاسفة في عقائدهم ويوافقون المسلمين فيما لا يضرّ بمقاصدهم ، ثمّ حكى عن السيّد المرتضى أنّه قال في كتاب «الغرر والدرر» : قد دلت الدلالة الصحيحة الواضحة على أنّ الفلك وما فيه من شمس وقمر ونجوم غير متحرك لنفسه ولا طبعه على ما يهذي به القوم وانّ الله تعالى هو المحرك له والمتصرف باختياره فيه وقال رحمه‌الله في موضع آخر : لا خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة من الفلك وما يشتمل عليه من الكواكب فانّها مسخرة مدبرة متصرفة وذلك معلوم من دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضرورة.

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٥ ص ١٨٥ ـ ١٨٦.

٤٢

أقول : لا يخفى أنّه لو قلنا بأنّ الأشياء من الجمادات وغيرها كلّها مدركة شاعرة حيّة مسبحة لله سبحانه حسبما تسمع تمام الكلام فيه عند تفسير قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) ، فلا ريب في القول بذلك في الأفلاك والكواكب أيضا سيّما مع التصريح بالسماوات وما فيها كما في أوّل الآية وفي المسبّحات وغيرها من الآيات وان حملنا ذلك على التسبيح التكويني وقلنا أن الأجسام على قسمين : منها حيّة مدركة كالإنسان ومنها فاقدة للإدراك والشعور كالجمادات فمن البيّن أنّه لم يدل دليل على الحاق الأفلاك والكواكب بالثاني دون الأوّل بعد ظهور إمكان كلّ من الوجهين فيها فلا ينبغي الجزم بأحد الوجهين من دون حجّة ولذا قال شيخنا الشهيد الأوّل في قواعده كلّ من اعتقد في الكواكب أنّها مدبرة لهذا العالم وموجدة فيه فلا ريب أنّه كافر وان اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها والله سبحانه هو المؤثر الأعظم كما يقوله أهل العدل فهو مخطئ إذ لا حياة لهذه الكواكب ثابتة بدليل عقلي ولا نقلي (٢) آه.

ومراده كما ترى عدم الثبوت لا ثبوت العدم ، ومن هنا يظهر ضعف ما ذكره الشيخ الأكبر (٣) في شرح القواعد (٤) مازجا عبارته بعبارة العلّامة قائلا : وعمل التّنجيم حرام ، وكذا تعلّم علم النّجوم والفلكيّات ، وتعليمه ، وعلمه بالنظر من غير تعليم مع اعتقاد قدمها لذاتها ، وهو كفر الإنكار والإشراك ، أو لقدم علّتها ، وحدوثها متّصفة بالعلوم والإدراكات وصفة الاختيار لها مع الصفات ، وهذان من كفر إنكار الضّروريّات انتهى.

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

(٢) القواعد للشهيد : ج ٢ ص ٣٥.

(٣) هو الشيخ جعفر بن خضر الجناجي النجفي المتوفى سنة (١٢٢٧) ه

(٤) هو شرح مبسوط لطهارة «قواعد العلّامة» مستقصى فيه كلام الفقهاء.

٤٣

إذ فيه أنّ ضروريّة الأخير غير واضحة ، اللهم إلّا أن يكون مراده كغيره ممّن يدّعي الإجماع عليه ، نفي الحياة والشعور والارادة الموجبة للتّصرف في السّفليات بإيجاد الآثار على وجه الاستقلال أو التشريك أو التفويض أو غيرها ، وهذا لا شبهة في قيام الإجماع بل الضرورة على فساده على اكثر الوجوه ، ولعلّ هذا هو المنساق منهم في نفي الحياة والاختيار ، حيث أنّ كلامهم مع الفلاسفة والمنجّمين القائلين باستناد الحوادث بأسرها إليها على وجه الاختيار أو الإيجاب ، ولذا قال العلامة (١) أعلى الله مقامه في «أنوار الملكوت في شرح الياقوت» (٢) : اختلف قول المنجّمين على قسمين : أحدهما قول من قال : انّ الكواكب السّبعة حيّة مختارة ، والثاني قول من قال : انّها موجبة ، والقولان باطلان ، أمّا الأوّل فلانّها أجسام محدثة فلا تكون ، آلهة ، ولأنّها محتاجة إلى محدث غير جسم ، فلا بّد من القول بالصّانع إلى آخر ما ذكره.

فانظر كيف أبطل قولهم بنفي إلاهيّتها وإثبات الصّانع المحدث لها ، وأين هذا من القول بأنّها مصنوعة محدثة حيّة مختارة في عبادة ربّها ، مع عدم استناد شيء من الحوادث إليها بوجه ، أو مع القول بإثبات نوع ارتباط لها إليها على وجه لا يمنع من القول به شيء من العقل والنقل.

ولذا قال شيخنا المدقّق الورع التستري (٣) دام ظله العالي بعد نقل عبارة الشهيد المتقدّمة ما لفظه : وظاهره (٤) أنّ عدم القول بذلك لعدم المقتضي له وهو

__________________

(١) آية الله العلّامة الحلي المتوفى (٧٢٦) ه

(٢) الياقوت : في علم الكلام لأبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كان من أعلام الشيعة في عصر الامام الرضا عليه‌السلام.

(٣) هو الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الانصاري المولود (١٢١٤) ه والمتوفى (١٢٨١).

(٤) أي وظاهر كلام الشهيد الأول في قوله : وإن اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها ، والله

٤٤

الدّليل ، لا لوجود المانع منه ، وهو انعقاد الضرورة على خلافه ، فهو ممكن غير معلوم الوقوع ، ولعلّ وجهه أنّ الضّروري ، عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل مختار باختيار مستقل مغاير لاختيار الله تعالى ، كما هو ظاهر قول المفوّضة.

أمّا استنادها إلى الفاعل بارادة الله المختار بعين مشيّته واختياره حتّى يكون كالآلة بزيادة الشعور وقيام الاختيار به بحيث يصدّق عليه أنّه فعله وفعل الله تعالى ، فلا مانع عنه إذ المخالف للضرورة انكار نسبة الفعل إلى الله على وجه الحقيقة لا إثباته لغيره أيضا بحيث يصدق أنّه فعله.

نعم ما ذكر الشهيد طاب ثراه من عدم الدّليل عليه حقّ ، فالقول به تخرّص ، ونسبة لفعل الله إلى غيره بلا دليل وهو قبيح ثمّ قال سلمه الله : وما ذكره قدس‌سره كأنّ مأخذه ما في «الاحتجاج» عن هشام (١) بن الحكم قال سأل الزّنديق أبا عبد الله عليه‌السلام ، فقال : ما تقول فيمن يزعم أنّ هذا التدبير الّذي يظهر في هذا العالم تدبير النّجوم السّبعة؟ (٢) قال عليه‌السلام : يحتاجون إلى دليل أنّ هذا العالم الأكبر والعالم الأصغر من تدبير النّجوم الّتي تسبح في الفلك (٣) وتدور حيث دارت متبعة ، لا تفتر (٤) وسائرة لا تقف ، ثمّ قال : عليه‌السلام : وانّ كلّ نجم منها موكّل مدبّر فهي بمنزلة العبيد

__________________

تعالى هو المؤثر الأعظم.

(١) هشام بن الحكم الكوفي الواسطي البغدادي المتوفى سنة (١٧٩) ه

(٢) وهي الشمس والقمر ، وزحل والمرّيخ والمشتري ، وعطارد والزهرة ، بناء على رأي القدماء.

(٣) الفلك (بضم الفاء وسكون اللام) : جمع فلك (بفتح الفاء واللام) وهي المدارات حول الشمس.

(٤) تفتر : فعل مضارع على وزان يقعد ويجلس أي لا تضعف.

٤٥

المأمورين المنهيّين ، فلو كانت قديمة ازليّة لم يتغيّر من حال إلى حال (١) الخبر.

والظّاهر أنّ قوله بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين يعني في حركاتهم لا أنّهم مأمورون بتدبير العالم بحركاتهم ، فهي مدبّرة باختيارها المنبعث عن أمر الله.

ثمّ حكى عن المحدّث (٢) الكاشاني. أنّه قال في «الوافي» في توجيه البداء كلاما ربما يظهر منه مخالفته للمشهور حيث قال : اعلم أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الأمور ، بل إنّما تنقش فيها الحوادث شيئا فشيئا ، فإنّ ما يحدث في عالم الكون والفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك ونتائج بركاتها ، فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا انتهى ما حكاه عن الكاشاني (٣).

ثمّ قال : وظاهره (٤) أنّها فاعلة بالاختيار لملزومات الحوادث ، وبالجملة فكفر المعتقد بالرّبط على هذا الوجه الثاني لم يظهر من الأخبار ، ومخالفتها لضرورة الدّين لم يثبت أيضا ، إذ ليس المراد العليّة التّامة كيف وقد حاول المحدّث الكاشاني بهذه المقدّمات اثبات البداء (٥) ، أقول : وهو جيّد وجيه فيما ذكره من المنع عن قيام الإجماع والضرورة على نفي الحياة والقول بالتأثير في الجملة ، وإن كان لا يخلو من نظر فيما ذكره في معنى الخبر حسبما سنشير إليه والى ما يرد على المحدّث الكاشاني في تفسير الآيات

__________________

(١) الاحتجاج ط النجف الأشرف ج ٢ ص ٧٢.

(٢) هو العالم الفاضل الكامل الحكيم المتأله محمد بن المرتضى المدعوّ بالمولى محسن القاشاني توفي سنة (١٠٩١) ه

(٣) الوافي : ج ١ ص ١١٢.

(٤) أي وظاهر كلام المحقّق الكاشاني.

(٥) المكاسب ج ٢ بتعليق الكلانتر ص ٣٣١ ـ ٣٤٤.

٤٦

المتعلّقة بها.

ثمّ أنّ قوله عليه‌السلام في الخبر المتقدّم بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين ظاهر فيما ذكرناه من الحياة والإختيار على كلا الوجهين في معنى الخبر فلا تغفل ، فقد ظهر ممّا مرّ أنّه ليس لهم الاستناد في نفي الحياة إلى الإجماع والضّرورة وأمّا الوجوه الّتي ربما يحكى عن المتكلّمين فهي بمكان من الضّعف والقصور ، ولذا قال السيّد المرتضى (١) في أجوبة (٢) المسائل السلارية أنّه قد سطر المتكلّمون طرقا كثيرة في أنّ النجوم ليست بحيّة ولا قادرة ، أكثرها معترض ، وأشفّ ما قيل في ذلك أنّ الحياة معلوم أنّ الحرارة الشّديدة كحرارة النّار تفنيها ولا تثبت معها ، ومعلوم أنّ حرارة الشّمس أشدّ وأقوى من حرارة النّار بكثير ، لأنّ الّذي يصل إلينا على بعد المسافة من حرارة الشّمس بشعاعها يماثل أو يزيد على حرارة النّار ولما كان بهذه الصّفة من الحرارة يستحيل كونه حيّا.

أقول : وهو كما ترى ، ثمّ لا يخفى أنّ شيخنا المجلسي طاب ثراه قد صرّح في موضع آخر بأنّ للأشياء كلّها شعورا واختيارا وتسبيحا إراديّا حملا للآيات والاخبار النّاطقة بذلك على ظاهرها ، وقد مرّت حكاية عبارته ، فاعتراضه في المقام على شيخنا البهائي طاب ثراه لا يخلو من غرابة ، سيّما مع ما ربّما يوهمه كلامه من التعريض عليه أو على غيره.

__________________

(١) هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن ابراهيم الامام موسى الكاظم عليه‌السلام توفى لخمس بقين من ربيع الاول سنة (٤٣٦) ه

(٢) كتاب في المسائل التي سألها عن السيّد المرتضى تلميذه حمزة بن عبد العزيز الديلمي أبو يعلى سلّار المتوفى (٤٦٣) ه

٤٧

ثمّ أنّ ما ذكره شيخنا التّستري دام علاه في تحقيق الفاعليّة بقسميه والمنع من أحدهما دون الآخر لعلّه ينفعك في تقريب ما مرّت الإشارة إليه من معنى وساطة النّبي وآله الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين للفيوض الإلهية وبابيّتهم وشفاعتهم وانّه غير التفويض الّذي نقول بكفر معتقده حسبما مر غير مرّة.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لمّا وصف نفسه بكمال القدرة والاستيلاء قرن ذلك بكمال العلم ليعلم وقوع الفعل منه على النمط الأتقن والوجه الأحسن ، فانّ القادر العالم بوجوه الصّنع وهندسة المقادير لا يختار في فعله بالحكمة البالغة إلّا الأكمل الأجمل ، وهذا من الاستدلال بالعلّة على المعلول ، ويحتمل العكس تنبيها على أنّ من كان فعله على هذا النظم العجيب والنّسق البديع مع اتّصال الإمداد وسيلان الفيض منه عليه الموجب لبقائه بقيّوميّته المطلقة فهو متّصف بكمال العلم بجميع ما في الإمكان والأكوان ، فانّ إتقان الأفعال وإحكامها واختيار الوجه الأحسن الأتقن فيها أدلّ دليل على العلم والحكمة.

وفيه تهديد شديد على من قابل الإحسان بالكفران حيث ختم به الامتنان عليهم بخلق أنفسهم والتفضل عليهم بما فيه حياتهم في العاجل والآجل بعد توبيخهم على كفرهم في صدر الآية السابقة فكأنّه هدّدهم بأنّ عاقبتهم السّؤى لعلمه بقبح فعالهم وسوء مقالهم ونظيره قوله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) (١).

__________________

(١) التوبة : ٩٤.

٤٨

ومن هنا ينقدح أنّ فيها إشارة إلى دفع الشبهة المختلجة في صدورهم الجارية على ألسنتهم من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت وتفرّقت أجزاؤها وتمزّقت كلّ ممزّق واتّصلت أجزاؤها البسيطة بما يشاكلها في مراكزها وعادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة ، فكيف يجمع أجزاء كلّ بدن مرّة ثانية بحيث لا يشذ منها شيء ولا ينضمّ إليها غيرها ، فأجاب بأنّه سهل يسير لمن له القدرة الكليّة والإحاطة العلميّة كما في قوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (١) ، وقوله : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (٢) وذلك بعد ما أشار في الآية السّابقة إلى أنّ مواد الأبدان قابلة للجمع والتفريق والحياة بعد الموت ، وأنّ القادر على انشائها أوّل مرّة قادر على احيائها في الآخرة ، فصحّ دلالة الآيتين على صحّة الحشر.

وقد ظهر ممّا مرّ وجه التعبير بصيغة الفعيل دون الفاعل ، ولذا قال سيبويه (٣) : إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى فعيل نحو عليم وحكيم ، وقد سكّن نافع (٤) من طريق قالون (٥) ، وأبو عمرو (٦) ، والكسائي (٧) الهاء في نحو (فهو) و (وهو) تشبيها له بعضد ،

__________________

(١) يس : ٧٩.

(٢) لقمان : ١٦.

(٣) هو عمرو بن عثمان الفارسي البيضاوي الفارسي النحوي المتوفى (١٨٠) ه.

(٤) نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم أبو رويم المدني المتوفى (١٦٩) أحد القرّاء السبعة.

(٥) هو عيسى بن مينا بن وردان الملقب بقالون قارئ المدينة توفي سنة (٢٢٠) ه

(٦) هو زبان بن العلاء بن عمار ابو عمرو البصري المتوفى (١٥٤) أحد القراء السبعة.

(٧) هو ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي المقرئ النحوي (المتوفى (١٧٩) أحد القراء السبعة.

٤٩

وفي نحو (فهي) و (هي) تشبيها له بكتف ، تنزيلا للأوائل منزلة الأواسط ، حيث جعلوا الواو والفاء كانّهما من نفس الكلمة ، وهي لغة فصيحة.

تفسير الآية (٣٠)

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)

شروع في ذكر بدء خلق آدم وكيفية تكريم الله تعالى له قبل ظهوره في هذا العالم ، حيث بشّر به ملائكته ونوّه باسمه وأهّله للخلافة الكليّة ، وأودعه علمه وحكمته ، والنور الذي هو السبب الكلّي لإيجاده وتكريمه وأمره بسجود ملائكته له ، وغير ذلك ممّا يأتي ، وذلك النور هو نور نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين ، فالآية إشارة إلى مننه التي لا تحصى ولا تستقصى عليه وعلى ذريّته الطيّبين صلوات الله عليهم أجمعين ، حيث إنّه سبحانه آتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين ، ثمّ على خصوص هذه الأمّة المرحومة الذين هم شيعتهم ومحبّوهم حيث خلقهم الله تعالى من فاضل طينتهم ، وعجنهم بماء ولايتهم ، ثم على عموم بني آدم حيث خصّهم بهذه النّعمة العظمى من بين أهل العالم ، فانّه من أدلّ الدلائل على عناية الباري سبحانه بشأن هذا النوع.

و (إِذْ) في الأصل ظرف للزمن الماضي ، واستعماله للاستقبال في نحو (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (١) قليل ، أو مؤوّل ، وتلزمه الإضافة إلى الجمل ، فأشبه الحروف بافتقاره الأصلي ، ثمّ أنّه قد يخرج عن الظرفيّة المحضة لكثرة دوره في

__________________

(١) الزلزال : ٤.

٥٠

الكلام ، فيستعمل للتّعليل للمناسبة بينه وبين الظرف ، وقد يحذف عامله نحو (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ) (١) أي وإذ لم يهتدوا ظهر عنادهم ، ثمّ توسّعوا فيه باستعماله بمعنى الوقت مطلقا ، فنصبوه على المفعول به بتقدير اذكر ، كما في الآية وفي كثير من أوائل القصص ، أو على البداية كقوله (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) (٢) وخفضوه بإضافة الأزمنة خاصّة إليه ، في نحو حينئذ ويومئذ ، و (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) (٣).

وأمّا رفعه بالفاعليّة ونحوها فالجمهور على عدم جوازه ، حسبما يحكى عنهم لكن الأظهر وفاقا لكثير ممّن تأخّر جوازه ، ولذا وجّه الزّمخشري (٤) قراءة بعضهم (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً) (٥) بكونه في محلّ الرّفع على الابتداء حملا له على إذا في قولهم : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما (٦) للتّسوية بين المبتدأ والخبر ، ولا غرابة في ذلك بعد مساعدة القليل ، وهو اتّفاقهم على التّصرف والخروج عن الظّرفيّة ، ومن هنا يظهر أنّه لا يحتاج إلى سماع خاصّ ، فلا يقدح فيه عدم التصريح به ، ولعلّ فيما يأتي من عبارة الإمام عليه‌السلام دلالة على ما اخترناه فلاحظ ، والتزام ظرفيّته دائما حتّى في مثل المقام تكلف جدّا ، بل قيل : إنّه وهم فاحش ، لاقتضائه حينئذ الأمر بالذكر في الوقت الذي قد مضى مع أنّ امتثال الأمر في الحال أو الاستقبال ، بل من البيّن أنّ المراد في مثل المقام ذكر الوقت نفسه

__________________

(١) الأحقاف : ١١.

(٢) المائدة : ٢٠.

(٣) آل عمران : ٨.

(٤) هو ابو القاسم محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي المعتزلي المتوفى (٥٣٨) ه.

(٥) آل عمران : ١٦٤.

(٦) الكشاف ج ١ ص ٤٧٧ ط بيروت دار الفكر.

٥١

لا الذكر في الوقت.

وجعله ظرفا للحادث المحذوف ، كما توهمه البيضاوي (١) بأن يكون التقدير واذكر الحادث ، إذ قال ربّك ، مع كونه خلاف المنساق عن السّياق واشتماله على التكلّف الظّاهر مردود بأولويّة المجاز من الإضمار.

وأوهن من الجميع القول بكونه زائدا في مثل المقام كما عن أبي عبيدة (٢) وغيره.

وعامله في الآية اذكر على أن يكون مفعولا به له ، لا على ما قيل من التأويل ، وتكون الجملة عطفا على قوله : (وَبَشِّرِ) (٣) من عطف القصّة على القصّة ، من غير التفات إلى ما فيها من الجمل إنشاء وإخبارا ، والمتخلل من تمام القصّة ، أو جار مجرى الاعتراض ، وعطفا على فتدبّر ، ونحوه مقدرا بعد قوله : وهو بكلّ شيء عليم ، كأنّه قال بعد تعداد النعم والاستدلال بالعلّة على المعلول ، أو العكس على ما تقدم فتدبر ذلك واذكر.

ويحتمل أن يكون الفاعل فيه قوله في هذه الآية : (قالُوا) ، فيكون على حقيقة الظرفيّة ، والمعنى قالت الملائكة إذ قال ربّك لهم إنّي جاعل في الأرض خليفة : أتجعل ، وإن يكون ظرفا لمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل : وبدأ خلقكم.

__________________

(١) هو القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الفارسي الاشعري الشافعي توفي بتبريز سنة (٦٨٥) ه ـ الكنى والألقاب ج ٢ ص ١٠٠.

(٢) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري النحوي اللغوي المتوفى (٣٠٩) أو ٢١١.

(٣) سورة البقرة : ٢٥.

٥٢

لكن في تفسير الإمام عليه‌السلام ما يستفاد منه كونه ظرفا لقوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) حيث قال عليه‌السلام : لمّا قيل لهم : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (١) قالوا : متى كان هذا؟ قال الله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) : إبداعي هذا الخلق : (لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) حين قال ربّك (٢).

بناء على أحد الوجهين فيه ، والوجه الآخر خروجه عن الظّرفية بكونه خبرا عن قوله ابداعي ، ولذا عبّر عنه بلفظ حين وجعله مسندا ، ولعلّ المراد أنّهم لما سألوا عن الوقت أجيبوا بانّه حيث لم يكن لكم وجود ، ولا قوّة اعانة له في خلق معايشكم ، ولا لسان سؤال منه بل كان حين التفضل عليكم بالإخبار من إرادة خلق أبيكم وتكريمه بكذا وكذا ، فالظّرف هو الزمان الممتد قبل خلق آدم ، وإن كان خلق ما في الأرض في طرف منه ، والقول في آخر تنبيها على أنّه هو المبتدء بالنعم قبل الاستحقاق وقبل وجود المستحق.

والقول موضوع لحكاية لفظ أو فعل أو حال باللّفظ الدّال عليه ، وقد يعمّ في الحكاية كالمحكي بناء على التوسعة فيه عمّا وضع له في اصل اللغة ، ويقال : قال بيده أي أشار ، وهو منه تعالى بما يفيد الإفهام من وحي أو إلهام أو خلق صوت وكلام ، أو نصب دليل على المرام.

وقد مرّت الإشارة إلى معاني الرّب في الفاتحة والأنسب منها في المقام هو المربّي بإيصال الفيوض والمتفضل بالإمدادات الظاهرة والباطنة مع دفع العوائق إلى أن يصل إلى الكمال اللائق ، وأضافته إلى ضمير الخطاب المكنى به عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للاشارة إلى أنه هو المقصود الاصلي والسبب الكلّي في خلق آدم وانّ ذلك من تمام

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

(٢) تفسير المنسوب الى الإمام العسكري عليه‌السلام ، نقل عنه تفسير البرهان ج ١ ص ٧٣.

٥٣

تربيته وارادة ظهوره في هذا العالم ، فانّه كالثمرة المقصودة من هذه الشجرة ، والتنبيه على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مقيما على حدّ العبوديّة متمكنا في مقام الشهود الدائم ، ولذا شافهه كفاحا.

والملائكة جمع ملك ، وأصله ملأك ، بل قيل : أنّه لا خلاف في ذلك وقد جاء الأصل في نحو.

ولست لإنسيّ ولكن لملأك

تنزل من جوّ السّماء يصوب

وانّما اختلفوا في ملأك فعن الكسائي وابن السكيت (١) واللّيث (٢) أصله مألك بتقديم الهمزة من الألوك ، وهي الرسالة ، ثمّ قلبت بتقديم اللام ، ثمّ تركت همزته لكثرة الاستعمال ، فلما جمعوه ردّوها إليه فقالوا ملائكة وملائك أيضا ، وعن أبي عبيدة أنّه فعل من لاك إذا أرسل ، قال في القاموس : الملأك والملأكة الرسالة وألكني إلى فلان أبلغه عني ، أصله الئكني ، حذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها ، والملأك الملك ، لأنّه يبلغ عن الله تعالى ووزنه مفعل والعين محذوفة ، وألزمت التخفيف إلّا شاذا ، وهذا لسلامته من القلب سيّما مع شيوع استعماله أجود من الأوّل ، وتوهم ضعفه مدفوع بثبوت النقل والاستعمال ، مع أنّه المحكي عن ابن الأنباري (٣) وابن

__________________

(١) ابن السكيت (بكسر السين وتشديد الكاف) : أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الاهوازي النحوي اللغوي المقتول بأمر المتوكل سنة (٢٤٤) ه

الكنى والألقاب : ج ١ ص ٣١٤.

(٢) الليث بن خالد أبو الحارث البغدادي المقرئ من جلّة أصحاب الكسائي توفي سنة (٢٤٠) ه

غاية النهاية : ج ٢ ص ٣٤.

(٣) هو ابو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار اللغوي النحوي الأديب المستوفى (٣٠٤) أو ٣٠٥.

٥٤

الهيثم (١) وغيرهما ، فلا ينبغي التّأمل في ثبوته لعدم نصّ الجوهري (٢) وغيره وعن ابن كيسان (٣) أنّه من ملك لدوران المادّة مع القوّة والشدّة يقال : ملكت العجين أي شددت عجنه ، وملّك النبعة ، وهي اسم شجرة صلّبها وذلك إذا يبّسها في الشمس مع قشرها ، وملكت بالطعنة كفى أي شددت ، ومعنى القوة ظاهر في المالك والملك وما تصرّف منهما ، ومنه ملك الدابة بضمّ الميم واللام لقوائمها ، وملك الطريق بالتثليث لمعظمه ، بل قد يرجح هذا على الأوّلين بأنّ معنى الشدّة والقوّة يعمّ جميع الملائكة ، وناهيك في ذلك قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٤) ، وأيّ قوّة أعظم من ذلك وأنّه سبحانه جعلهم وسائط جلّ أو كلّ ما يظهره في هذا العالم ببديع حكمته وباهر قدرته من الفيوض التكوينيّة والاحكام التشريعية.

وأمّا الرسالة فلقوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٥).

وأمّا قوله (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٦) فمخصص جمعا بل وضرورة إلّا مع التجوّز في معنى الرسالة ، ويشكل حينئذ بجمعه هذا الجمع إلّا باعتبار أصله الذي هو ملأك على أن الهمزة مزيدة فيجمع على ملائك كشمأل وشمائل ، وأمّا الحاق التاء فقيل : إنّه لتأكيد تأنيث الجماعة ، وأوسط الأقوال أوسطها لسلامته من القلب

__________________

(١) هو داود بن الهيثم بن إسحاق ابو سعيد التنوخي الأنباري اللغوي النحوي المتوفى (٣١٦).

(٢) الجوهري : ابو نصر إسماعيل بن حمّاد الفارابي : المتوفى سنة (٣٩٣) ه على الأشهر.

(٣) هو ابو الحسن محمد بن احمد بن ابراهيم بن كيسان البغدادي النحوي المتوفى (٢٩٩) ه

(٤) الأنبياء : ٢٠.

(٥) الحجّ : ٧٥.

(٦) فاطر : ١.

٥٥

وقلّة البناء على فعأل فلا يرتكب مثله إلّا لظهور الاشتقاق كما في شمأل ، مضافا إلى ظهور المناسبة ، وعدم اطّرادها على فرضه غير قادح.

والمراد بهم هذا الخلق المعروف الذين هم أجسام نورانية على ما تأتي إليها الإشارة ، والجعل إمّا بمعنى الخلق أو بمعنى الصيرورة ، فله مفعولان دخل على المبتدأ والخبر ، «في الأرض خليفة» عمل جاعل فيهما لكونه بمعنى الاستقبال معتمدا على المسند اليه ، وهو ضمير المتكلم في أنّي ، و «الخليفة» فعيلة من استخلف في الأمر مكان من قبله فكانّه خلف غيره وقام مقامه ، كما أن الامام مأخوذ من الأمّ الذي هو القصد ، أو من الامام لتقدمه فهو المتقدّم الذي يقتدى به ، وزيدت الهاء للمبالغة.

والمراد به خصوص آدم لأنه كان خليفة الله في أرضه في عمارة الأرض ونشر الشرائع والأحكام وتكميل الأنام وسياستهم وتنفيذ أمره فيهم.

أو لأنه خليفة من سكن الأرض قبله من الملائكة حيث كانوا يعبدون الله في الأرض فلما قال لهم : إنّي جاعل في الأرض خليفة بدلا منكم ورافعكم منها اشتدّ ذلك عليهم لأنّ العبادة عند رجوعهم الى السماء تكون أثقل عليهم ، كما في تفسير الإمام عليه‌السلام (١).

أو من بني الجان والنسناس وغيرهم ممّن سكن الأرض واشتغل بالسفك والإفساد فأكلوا رزقه وعبدوا غيره.

وأنّ المراد به هو الخاتم لاختصاصه بالخلافة الكليّة المحمّدية ولذا نكره تعظيما له وتفخيما لشأنه.

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٧٣ عن تفسير الامام العسكري عليه‌السلام.

٥٦

أو كلّ نبيّ أو الحجّة بعد الحجّة في كلّ زمان حيث إنّ الأرض لا تخلوا في كلّ زمان من حجة معصوم أو آدم وذريّته ، وستسمع تفصيل الكلام فيه ، وإفراد اللفظ على بعض الوجوه ظاهر للوحدة الشخصيّة أو الوجوديّة في كلّ عصر وعلى غيره فعلى تأويل من يخلف أو خلقا يخلف ، أو للاستغناء بذكر الأب الجسماني أو الروحاني عن ذكر نبيّه ، كما استغنى بذكر أبي القبيلة في قولهم : هاشم ، ولؤيّ ، ومضر ، على أنّه قد يقال بمعنى فاعلة اسم يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث.

وقرأ خليقة بالقاف وهو في الأصل مصدر يطلق على الخلائق يقال هم خليقة الله وهم خلق الله وعلى الطبيعة لاختصاص هذا النوع بطبيعة لا يشاركه فيها شيء من الخلق وإن شارك الكلّ في طبائعهم في الجملة ، والتّاء ... باعتبار تعدد الموصوف أو تأنيثه ، فانّه قد استعمل بمعنى المفعول.

والمراد بالأرض تمام البسيط من البراري والبحار ، فانّ للإنسان الخلافة في الجميع (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (١) وكذا تمام الجهات الأربعة من الشرق والغرب والشمال والجنوب لظاهر الآية وتحقق الدّحو قبل الخطاب.

وأما ما روي من طرق العامة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : دحيت الأرض من مكّة وكانت الملائكة تطوف بالبيت وهي أوّل من طاف بها ، وهي الأرض التي قال الله تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) فضعيف سندا ، ولو صحّ فلعلّ تخصيص أرض مكّة بالذكر لتبعيّة غيرها لها خلقا وشرفا ، فلعلّه اشارة إلى أن المقصود من

__________________

(١) يونس : ٢٢.

(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٢ ص ١٦٥ رواه عن عبد الرحمن بن سابط ، عن النبي وعبد الرحمن توفي سنة (١١٨) فخبره مرسل.

٥٧

تلك الخلافة بل من خلق آدم وغيره هو الخلافة الكليّة الثابتة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث إنّه بعث في الأمّيّين لينذر أمّ القرى ومن حولها ، فكما أنّ الأرض دحيت من مكة ، فكذلك أعلام العلم والهداية تشرّف منها ، ولعلّ هذا هو السرّ في إعلام الملائكة بخلق آدم الذي هو طليعة ظهور الخاتم الذي هو علّة وجود العالم ، لأنّه المخاطب بقوله : «لولاك لما خلقت الأفلاك» (١) ففي الإبشار بوجوده قبل خلقه واستحقاقه الخلافة الالهيّة وجامعيّة المطلقة ، سيّما مع إزاحة ما ربما يختلج في صدورهم من الشك في فضله أو التّرديد في سببه إشارات إلى تعظيمه وتكريمه واظهار لفضله الرّاجح على ما فيه من المفاسد ، سيّما مع كونه مستودعا للأنوار الالهيّة والأشباح القدسيّة التي هي أنوار الأئمة عليهم‌السلام.

بقي الكلام في أمور : أحدها أنّه لا خلاف بين الملّيّين القائلين بحدوث العالم في تأخر خلقة آدم عن هذا العالم الجسماني ، واختلفوا في قدر تأخّره ، كما أنّهم قد اختلفوا في قدر بقائه فالاحكاميون منهم بنوا ذلك على ما اصطلحوا عليه من حساب الأدوار ، وذلك انّهم أجمعوا على أن الكواكب السّبع السيّارة كانت في بدو خلق العالم مجتمعة مقترنة في أوّل نقطة برج الحمل وانّ أوجاتها وجوزهريّتها كانت مقترنة معها في أوّل دقيقة من الحمل ، بل وكذا الثوابت على رأي المتأخرين الذين ذهبوا إلى أنّ لها حركة بطيئة ، وتنقسم الأدوار عندهم إلى أدوار الألوف وأدوار الفصول ، وللأول أقسام أربعة : أعظم واكبر وأوسط وأصغر ، ولكلّ منها تيسير وانتهاء ، ولهم في ذلك كلام طويل لا طائل تحت التعرض له ، وزعموا أن مقدار عمر

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٦ ص ٤٠٦ عن المناقب لابن شهر آشوب.

٥٨

الدّنيا هو ما بين القران الكلي للسّبع في دقيقة أوّل الحمل إلى قران آخر مثله ، فاعتمدوا في معظم الحوادث على القرانات الكليّة ، سيّما التي بين العلويين إلى غير ذلك من هذياناتهم التي لا ينبغي الإصغاء إليها ، وذكر بعضهم في تاريخ صنّفه في سنة تسعمائة واحدى وأربعين من الهجرة النّبوية انّه قد انقضى من حركة الأفلاك والكواكب ثمان مائة وستّ عشر ألف سنة وثلاثمائة واثنان وثمانون سنة ، ومن أوّل أيّام العالم الذي هو عبارة عن اجتماع السبع السيّارة في أوّل نقطة من الحمل وهو المسمّى عندهم بالقران السباعي مائة وأربع وثمانون ألف سنة وستمائة واثنان وسبعون سنة ، ومن خلقة الجنّ والشياطين ستّ وستون ألف سنة وتسعمائة وأربع وعشرون سنة ، ومن كتابة الصخرة أربعون ألف سنة واربع وثلاثون سنة ، ومن بناء هرمان بمصر ثلاثة عشر ألف سنة وستّمائة وثلاث وأربعون ألف سنة ، ومن هبوط آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام سبعة آلاف سنة ومائة واربع سنين ، إلى آخر ما ذكره.

وليت شعري من أين قدّر هذه الأوقات ، ثمّ إنّ المشهور أنّ بناء الهرمين كان بعد الهبوط وان بانيه كان من بني أبينا آدم أبي البشر ، وإن اختلفوا في بانيها على أقوال قال في القاموس : الهرمان بالتحريك بناء آن أوّليان بناهما إدريس عليه‌السلام لحفظ العلوم فيهما عن الطّوفان ، أو بناء سنان بن المشلشل أو بناء الأوائل لمّا علموا بالطوفان من جهة النجوم ، وفيهما كلّ طبّ وطلسم وهنالك أهرام صغار كثيرة انتهى.

ولعلّ توهّم تقدّمه على الهبوط مبنيّ على ما اشتهر في الألسنة أو وجد مكتوبا هناك ، أو في موضع آخر من أنّه بنى الهرمين والنّسر طائر في السرطان ،

٥٩

وعدّه في «تحفة العالم» حديثا وهو وهم.

وبالجملة فأقوالهم في ذلك على اختلافها لا عبرة بشيء منها لفقد الحجّة عليها ، وأمّا الأخبار فهي مختلفة أيضا ففي «المشارق» وغيره أنّه سئل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن عمر الدنيا فقال عليه‌السلام يقال سبعة آلاف ثمّ لا تحديد (١).

ولعلّ المراد أنّ تلك المدّة المذكورة كانت من آدم إلى الخاتم ، كما لعلّه يومئ اليه خبر أبي لبيد (٢) المتقدّم في تفسير «ألم» وأمّا نفي التحديد فمن مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيام السّاعة.

وفي «جامع الاخبار» عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ موسى عليه‌السلام سأل ربّه عزوجل أن يعرفه بدء الدّنيا منذ كم خلقت؟ فأوحى الله تعالى إلى موسى تسألني عن غوامض علمي؟ فقال : يا ربّ أحبّ أن أعلم ذلك ، فقال : يا موسى خلقت الدّنيا منذ مائة ألف ألف عام عشر مرّات (٣) ، الخبر على ما مرّ مع اخبار أخر في تفسير قوله (رَبِّ الْعالَمِينَ).

وروى العياشي عن عيسى بن أبي حمزة قال : قال رجل لأبي عبد الله عليه‌السلام جعلت فداك إنّ الناس يزعمون أنّ الدنيا عمرها عشرة آلاف سنة فقال ليس كما يقولون ، إنّ الله خلق لها خمسين ألف عام فتركها قاعا قفرا ، خاوية عشرة آلاف ، ثمّ بدا لله بداء فخلق فيها خلقا ليس من الجنّ ولا من الملائكة ولا من الانس ، وقدّر لهم عشرة آلاف عام فلمّا قربت آجالهم أفسدوا فيها فدمّر الله عليهم تدميرا ثمّ تركها

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٠ ص ١٢٧ عن ارشاد القلوب ج ٢ ص ١٨٦ ـ ١٨٧.

(٢) البحار ج ٥٢ ص ١٠٦ وابو لبيد هو البحراني الهجري المخزومي من أصحاب الباقر عليه‌السلام.

(٣) البحار : ج ٥٧ ص ٣٣١ عن جامع الاخبار.

٦٠