تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

الأرض الرّابعة إلى اعتدال ، لأنّه خلق وسط بين الملائكة والبهائم ، وستسمع ما فيه من الإشارة.

وفي «الاحتجاج» عن أبي بصير قال : سأل طاوس اليماني أبا جعفر عليه‌السلام لم سمّي آدم آدم؟ قال : لأنّه رفعت طينته من أديم الأرض السّفلى (١).

وهذا الخبر يحتمل كلّا من الوجوه الثلاثة وغيرها.

أو من الأدمة بمعنى الألفة والاتّفاق يقال : أدم الله بينهما اي أصلح وألّف وكذلك آدم الله بينهما فعل وأفعل بمعنى ، ومنه الخبر : فانّه أحرى أن يؤدم بينكما (٢) يعني أن يكون بينكما المحبّة والاتّفاق ولعلّه الأنسب بما في «العلل» قال : اتى أمير المؤمنين عليه‌السلام يهوديّ فقال : لم سمّي آدم آدم؟ قال عليه‌السلام : لأنّه خلق من أديم الأرض ، وذلك انّ الله تبارك وتعالى بعث جبرئيل وأمره أن يأتيه من أديم الأرض أربع طينات : طينة بيضاء ، وطينة حمراء ، وطينة غبراء ، وطينة سوداء ، وذلك من سهلها وحزنها ثمّ أمره أن يأتيه بأربع مياه : ماء عذب ، وماء ملح وماء قر وماء منتن ، ثمّ أمره أن يفرغ الماء في الطّين وآدمه الله بيده فلم يفضل شيء من الطّين يحتاج إلى الماء ولا من الماء شيء يحتاج إلى الطّين وجعل الماء العذب في حلقه ، وجعل الماء المالح في عينيه ، وجعل الماء المرّ في أذنيه ، وجعل الماء المنتن في انفه (٣). الخبر.

__________________

(١) الاحتجاج ص ١٧٩ وعنه البحار ج ١١ ص ١٠٠.

(٢) في لسان العرب ج ١٢ ص ٨ : في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه (وآله) وسلم أنه قال للمغيرة بن شعبة وخطب امرأة : لو نظرت إليها فإنّه أحرى أن يؤدم بينكما قال الكسائي : يودم بينكما يعني ان تكون بينهما المحبة والاتفاق.

(٣) علل الشرائع ص ٢ ح ١.

١٢١

وصدره وان وافق الأخبار المتقدّمة إلّا أن قوله : ادمه الله يومئ إلى ما سمعت ، وكذا قوله في الخبر الآتي عن تفسير فرات فخلقه من أديم الأرض لأنّه لمّا عجن بالماء استأدم (١) ، وان كان محتملا لغيره من الوجوه ، بل صدره ظاهر فيما تقدّم ، ولعلّ فيه اشارة إلى سببين للتسمية.

وربما يقال بكونه مشتقّا من الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة وهي القدوة لأنّه يقتدي به ذرّيته أو الملائكة ويعرف به افراد هذا النوع ، قال في «القاموس» : وهو آدم اهله وادمتهم ويحرّك وأدامهم : أسوتهم الّذي به يعرفون ، وقد أدمهم كنصر صار كذلك انتهى.

أو من الأدمة بالضّم بمعنى السمرة لأنّه عليه‌السلام كان أسمر اللّون على ما قيل ، وأورد عليه بأنّه لا يناسب ما ورد من براعة جماله وانّ يوسف عليه‌السلام كان جماله على الثلث منه.

وفيه ضعف واضح فإنّ الادمة لا ينافي البراعة في الحسن ، أو بمعنى القرابة والوسيلة يجعلها في ذرّيته بالتّوالد إلى غير ذلك ممّا لا يأبى عنه اللّغة والاستعمال وان كان ظاهر النّصوص هو ما سمعت.

وامّا المناقشة في أصل الاشتقاق نظرا إلى اختصاصه بلغات العرب ، ثمّ في عربيّته وقد روى من أنّه عليه‌السلام كان يتكلّم بالسرّيانيّة مضافا إلى وضوح حدوث اللّغات العربيّة.

__________________

(١) تفسير فرات : ٦٥ وعنه البحار ج ٥٧ ص ٩٤.

١٢٢

فمدفوعة بالمنع من الاختصاص وقد روى انّه عليه‌السلام كان يتكلّم بكلّ لسان وإن كان الغالب هو البعض ، وحدوث اللّغة العربيّة بعد إسماعيل غير مسلّم ، وقد روى انّ الكتب السّماوية كلّها باللّغة العربيّة وان وقعت في الأسماع بلغات أخر ، والظّاهر انّ التّسمية بآدم كانت من الله سبحانه.

وبالجملة لا ينبغي التأمّل في عربيّته سيّما بعد ما سمعت من الأخبار ولذا قال الجواليقي (١) : اسماء الأنبياء كلّها أعجميّة إلّا اربعة : آدم ، وصالح ، وشعيب ، ومحمد عليهم‌السلام.

بل في الخبر : أوّل من تكلّم بالعربيّة آدم عليه‌السلام (٢).

وأمّا ما رواه في المعاني والخصال عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ أربعة من الأنبياء سريانيّون آدم وشيث وإدريس ونوح (٣) فمحمول على غلبة تلك اللّغة على لسانه ، والّا فقد ورد انّ الله تعالى انزل عليه ألف ألف لسان لا يفهم فيه اهل لسان من أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم (٤).

بل في «الاختصاص» مثل ما سمعت عن «المعاني» و «الخصال» ثمّ قال

__________________

(١) هو ابو محمد إسماعيل بن ابي منصور موهوب بن احمد البغدادي ، كان بعد أبيه امام اهل الأدب بالعراق ، توفى سنة «٥٣٩» ه.

(٢) قال السيوطي : عن ابن العباس : أوّل من تكلّم بالعربيّة المحضة هو إسماعيل عليه‌السلام وأراد به عربيّة قريش التي نزل بها القرآن ، واما عربيّة قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل ـ المزهر للسيوطي ج ١ ص ٢٧.

(٣) الخصال : ج ٢ ص ٥٢٤.

(٤) بحار الأنوار ج ١١ ص ٢٥٧ ح ٣.

١٢٣

وكان لسان آدم العربيّة وهو لسان أهل الجنّة فلمّا عصى ربّه أبدله بالجنّة ونعيمها الأرض والحرث وبلسان العربية السّريانية (١).

إلى غير ذلك ممّا تأتي إلى بعضها الإشارة.

ومن جميع ما مرّ قد ظهر ضعف ما ذكره الزّمخشري من القطع بعجمته ، وان استدلّ عليه غيره بما لا يخلو من ضعف واضح ، ثمّ إنّهم صرّحوا بانّ أصله بهمزتين ، لأنّه أفعل لكنّهم ليّنوا الثانية ، وإذا حرّكت جعلت واوا فيجمع على أوادم ، لأنّه ليس لها أصل في الياء معروف فجعلت الغالب عليها.

وفي «المجمع» انّه ان أخذ من أديم الأرض صرف بالتنكير ، أو من ادمه اللّون والصّفة فإذا سمّيت به في هذا الوجه ثم نكرته لم تصرف (٢) والوجه واضح.

ثمّ انّه عليه‌السلام يكنّى أبا البشر ، وروى أبا محمّد ايضا ففي «البحار» عن نوادر الراوندي بالإسناد عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أهل الجنّة ليست لهم كنى إلّا آدم عليه‌السلام فانّه يكنّى بأبي محمد توقيرا وتعظيما (٣).

والمراد بالاسم ما يدلّ على الشيء في مرتبة الذّات والكينونة أو في مرتبة الفعل والطّبيعة والخواص ، او في مرتبة الألفاظ الموضوعة المؤلّفة من الحروف ، ولذا ينقسم إلى اقسام ثلاثة بل اربعة حسبما مرّت إليها الإشارة في تفسير البسملة.

«والكلّ» لفظ يدلّ على الاستيعاب والاحاطة بالأجزاء ، ويؤكّد به مثل أجمعون إلّا أنّه يبدأ في الذّكر بكلّ كما في قوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١١ ص ٥٦ عن الاختصاص.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٧٦.

(٣) بحار الأنوار ج ٢١ ص ١٠٧ عن نوار الراوندي ص ٩.

١٢٤

أَجْمَعُونَ) (١) ، لأنّ الكلّ قد يلي العوامل ، وأجمعون لا يكون إلّا تابعا والتأكيد بالاستيعاب إمّا باعتبار أنواع الإسم حسبما سمعت ، أو افراد كلّ نوع ، والأولى اعتبار العموم من الجهتين ، سيّما مع تأكيد الجمع المحلّى ، أو أنّ المراد بالأسماء مسمّياتها بتقدير المضاف اليه ، فتشمل جميع الأكوان ، وأفعالها ، وخواصّها وآثارها ، واصول العلوم والصناعات ، وانواع المدركات من المعقولات والمحسوسات ، وغيرها ممّا علّمها الله تعالى آدم تعليما إلهاميّا مترتّبا على كمال الاستعداد الحاصل من التعليم التكويني ، فانّه جعل وجوده وكينونته نسخة مختصرة مشتملة على كليّات ما في العوالم الملكوتيّة والنّاسوتيّة ، ولذا ورد انّه قد أخذ من جميع القبضات المأخوذة من السموات والأرضين.

ففي «الكافي» عن الصّادق عليه‌السلام قال : إنّ الله عزوجل لما أراد ان يخلق آدم عليه‌السلام بعث جبرئيل في أوّل ساعة من يوم الجمعة ، فقبض بيمينه قبضة ، فبلغت قبضته من السماء السّابعة إلى السّماء الدنيا ، وأخذ من كلّ سماء تربة ، وقبض قبضة اخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى ، فأمر الله عزوجل كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه ، والقبضة الاخرى بشماله ، ففلق الطّين فلقتين ، فذرا من الأرض ذروا ومن السموات ذروا ، فقال للّذي بيمينه : منك الرّسل والأنبياء والأوصياء والصّديقون والمؤمنون والسعداء ومن أريد كرامته ، فوجب لهم ما قال كما قال ، وقال للّذي بشماله : منك الجبّارون والمشركون والكافرون والطّواغيت ومن أريد هوانه وشقوته ، فوجب لهم ما قال كما قال ثمّ انّ الطّينتين خلقتا

__________________

(١) الحجر : ٣٠.

١٢٥

جميعا (١) ، الخبر على ما يأتي.

فانّ المراد بيوم الجمعة يوم اجتمع فيه خلق العالم ، وتمّ فيه مراتب الوجود الكليّة من العلويّة والسّفليّة على ما أشير إليه في الأخبار المتضمّنة لبيان خلق السموات والأرض في ستّة ايّام.

وأمّا ما يقال في بيان تفصيل القبضات الّتي يستفاد من بعض الأخبار كونها عشرا من أنّها في المؤمن قبضة من محدّد الجهات خلق منها قلبه وقبضة من الكرسي خلق منها صدره ، وقبضة من فلك زحل خلق منها عقله ، وقبضة من فلك المشتري خلق منها علمه ، وقبضة من فلك المريخ خلق منها وهمه ، وقبضة من فلك الشمس خلق منها وجوده ، الثّاني ، وقبضة من فلك الزّهرة خلق منها خياله ، وقبضة من فلك عطارد خلق منها فكره ، وقبضة من فلك القمر خلق منها حياته ، وقبضة من أرض الدّنيا خلق منها جسده ، وفي الكافر قبضة من الحوت الّذي على البحر تحت الأرضين فخلق منها قلبه ، وقبضة من الثور فخلق منها صدره ، وقبضة من الأرض السّابعة القصوى أرض الشقاوة فخلق منها دماغه ، وقبضة من الأرض السادسة خلق منها علمه ، وهي ارض الإلحاد وقبضة من الأرض الخامسة أرض الطغيان خلق منها وهمه ، وقبضة من الأرض الرابعة أرض الشهرة خلق منها وجوده الثّاني ، وقبضة من الأرض الثالثة أرض الطبع خلق منها خياله ، وقبضة من الأرض الثّانية أرض العادة خلق منها فكره ، وقبضة من الأرض الاولى أرض النفوس خلق منها جسده ، وقبضة من سماء الدنيا خلق منها حياته.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٤ ص ٨٧ عن الكافي ج ٢ ص ٥.

١٢٦

فهو مبنيّ على مقدّمات واصول لا يخلو بعضها عن ضرب من الحدس والتخمين على ما أشرنا إليه سابقا.

لكن القدر المعلوم من ملاحظة أخبار الباب كقول الصادق عليه‌السلام : انّ الصّورة الانسانيّة هي مجموع صور العالمين وهي المختصر من العلوم في اللّوح المحفوظ (١) وقول العالم عليه‌السلام : خلق الله عالمين فعالم علوي وعالم سفلي وركّب العالمين جميعا في ابن آدم (٢) والشعر المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

أتزعم انك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

إلى غير ذلك ممّا مرّت إليه الإشارة في تفسير الفاتحة (٣).

هو انّ الإنسان جامع بجمعيّته الكونيّة لجميع النشئات الكليّة ، محتو على روحانيات العوالم الملكيّة والملكوتيّة ، مطرح لاشعّة نجوم الدّراري العلوية وقوى الأجسام السّفليّة ، ولذا استعدّ بكينونتها لإدراك ما فيها والتخلق باخلاقها.

قال مولانا أمير المؤمنين في الخطبة المذكورة في النّهج : ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها ، وعذبها وسبخها تربة سنّها بالماء حتّى خلصت ، ولاطها بالبلّة حتّى لزبت ، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول ، وأعضاء وفصول ، أجمدها حتّى استمسكت ، وأصلدها حتّى صلصلت ، لوقت معدود وأجل معلوم ، ثمّ نفخ فيها من روحه ، فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها ، وفكر يتصرّف بها ، وجوارح يختدمها ، وأدوات يقلّبها ، ومعرفة يفرق بها بين الحقّ والباطل ، والأذواق والمشامّ

__________________

(١) شرح الأسماء الحسنى ج ١ ص ١٢.

(٢) الاختصاص ص ١٤٢.

(٣) تفسير الصراط المستقيم ج ٣ ص ٤١٢.

١٢٧

والألوان والأجناس ، معجونا بطينته الألوان المختلفة ، والأشباه المؤتلفة ، والاضداد المتعادية ، والأخلاط المتباينة ، من الحرّ والبرد ، والبلة والجمود ، والمسائة والسرور ، الخطبة (١).

وفي تفسير فرات عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : انّه سبحانه لمّا خلق السموات والأرض واللّيل والنّهار والنجوم والفلك وجعل الأرضين على ظهر حوت أثقلها فاضطربت فأثبتها بالجبال فلمّا استكمل خلق ما في السموات والأرض يومئذ خالية ليس فيها أحد قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ، فبعث الله جبرئيل عليه‌السلام فأخذ من أديم الأرض قبضة ، فعجنه بالماء العذب والمالح ، وركّب فيه الطبائع ، قبل أن ينفخ فيه الروح ، فخلقه من أديم الأرض فلذلك سمّي آدم ، لأنّه لما عجن بالماء استأدم فطرحه في الجبل ، كالجبل العظيم ، وكان إبليس يومئذ خازنا على السّماء الخامسة ، يدخل في منخر آدم ثمّ يخرج من دبره ، ثمّ يضرب بيده على بطنه فيقول لايّ أمر خلقت؟ لإن جعلت فوقي لا أطعتك ، وان جعلت أسفل منّي لا أعينك ، فمكث في الجنّة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح ، فخلقه من ماء وطين ، ونور وظلمة ، وريح ونور من نور الله تعالى ، فامّا النّور فتورثه الإيمان ، وامّا الظلمة فتورثه الكفر والضّلالة ، وأمّا الطّين فيورثه الرعدة والضّعف والاقشعرار عند اصابة الماء ، فينبعث به على اربع

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الاولى.

١٢٨

طبائع : على الدّم ، والبلغم ، والمرار ، والرّيح (١) ، الخبر.

إلى غير ذلك ممّا يستفاد منه كونه مخلوقا من الطّبايع السّفلية والأرواح العلوية الفلكيّة والنّاطقة القدسيّة والكليّة الالهيّة حسبما تسمع الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (٢).

الأسماء الّتي علّمها الله سبحانه آدم

وهذا التّعليم تعليم تكوينيّ للأسماء الّتي هي كليّات العوالم وجزئيّاتها ، وهي مظاهر للأسماء الالهيّة الّتي هي النعوت الكماليّة والصّفات الجماليّة والجلاليّة باعتبار غلبة ظهور الصّفة الّتي اشتمل عليها ذلك الاسم فيه ، وهي الّتي تسمّى كليّاتها بالمهيّات والحقائق ، وجزئيّاتها بالهويات عند قوم ، وتسمّى عند آخرين بالفيض الّذي ينقسم عندهم إلى الفيض الأقدس والفيض المقدّس ، وبالأوّل يحصل إمكانات الأعيان واستعداداتها بالمشيّة الامكانيّة ، وبالثّاني يحصل تلك الأعيان في عالم الأكوان ، مع لوازمها وتوابعها وآثارها وارتباطاتها بالمشيّة الكونيّة ، ولهذا كلّما كانت أفراد هذا النّوع أكمل كان مظهريّتها للأسماء الالهيّة أظهر ، ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين صلّى الله عليهم أجمعين أفضل الموجودات وأكمل البريّات.

ولذا ورد في الأخبار الكثيرة أنّهم أسماء الله الحسنى الّتي لا يقبل الله من احد إلّا بولايتهم ومعرفتهم وكرامتهم لأنّ الله تعالى جعلهم أبوابه وحجّابه ودلائل معرفته

__________________

(١) تفسير فرات ص ٦٥ وعنه البحار ج ٥٧ ص ٩٤.

(٢) الحجر : آيه ٢٩.

١٢٩

ووسائل فيضه وكرامته ، فهم الأعراف الّذين لا يعرف الله تعالى إلّا بسبيل معرفتهم ، وهم الأسماء الّذين علّمهم الله تعالى آدم وشرّفه بهم ، وأكرمه بإسجاد الملائكة تعظيما لهؤلاء الأنوار ، وتكريما لآدم وعبوديّته لله سبحانه.

ففي «الإكمال» وغيره عن الصادق عليه‌السلام قال الله تبارك وتعالى علّم آدم اسماء حجج الله كلّها ثمّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين انكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) قال الله تبارك وتعالى : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله تعالى ذكره ، فعلموا أنهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في ارضه وحججه على بريّته ثمّ غيّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم وقال لهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) (١) ، الآية.

وفي تفسير الامام عليه‌السلام : وعلّم آدم الأسماء ، كلّها أسماء أنبياء الله واسماء محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والطّيّبين عن آلهما واسماء خيار شيعتهم وعتاة أعدائهم (٢).

وفيه عن سيّد الشهداء قال : إنّ الله تعالى لمّا خلق آدم وسوّاه وعلّمه اسماء كلّ شيء وعرضهم على الملائكة جعل محمّدا وعليّا وفاطمة والحسن

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٦ ص ٢٨٣ ح ٣٨ عن إكمال الدين.

(٢) تفسير البرهان ج ١ ص ٧٣ عن تفسير الإمام عليه‌السلام.

١٣٠

والحسين عليهم‌السلام أشباحا خمسة في ظهر آدم (١) ، إلى آخر ما يأتي في الأمر بالسجود له. وفي «المجمع» عن الصّادق عليه‌السلام أنّه سأل عن هذه الآية فقال : الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثمّ نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط ممّا علّمه الله (٢).

ورواه العيّاشي في تفسيره وفيه أنّه سئل الصّادق عليه‌السلام عن الأسماء في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) ما هي؟ فقال عليه‌السلام : أسماء الأودية والنبات والشّجر والجبال من الأرض (٣).

وفيه عن داود بن سرحان العطار قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فدعا بالخوان فتغذّينا ، ثمّ جاءوا بالطّست والدست شويه (٤) فقلت : جعلت فداك وعلم آدم الأسماء كلّها الطست والدست شويه منه؟ فقال : الفجاج والأودية وأهوى بيده كذا وكذا (٥).

وفي تفسير القمي قال : اسماء الجبال والبحار والأودية والنّبات والحيوان.

وقد ظهر لك ممّا لوّحنا إليه الجمع بين اخبار الباب ، بل بينها وبين ما قيل : من أنّ المراد بالأسماء هي الأسماء الالهيّة أو الحقائق الكونيّة الّتي هي لها مظاهر كلّية ، وذلك لأنّه قد تواتر عنهم انّه تعالى خلق أوّل ما خلق أنوار محمد وآل محمّد وأرواحهم عليهم‌السلام ، ثمّ خلق من أشعّة أنوارهم سائر الحقائق الكليّة من المجرّد والمادّية العلويّة والسّفلية ، على حسب درجاتها ومراتبها وقربها من ينبوع الرّحمة الكلّية

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٥٠ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٧٦.

(٣) البحار ج ١١ ص ١٤٧ عن تفسير العيّاشي.

(٤) الدست شويه : كلمة فارسيّة اي الإناء الذي يغسل فيه الايدي.

(٥) البحار ج ١١ ص ١٤٧.

١٣١

وبعدها عنه ، كما أشير اليه فيما مرّ نقله من كتاب «الأنوار» وغيره ، وقد علّمها الله تعالى آدم بأن جعل تكوينه من القبضات المأخوذة من جميع العوالم الكليّة ، وجعل طينة مستعدّة لظهور الحجج والأنبياء سيّما محمّد وآله الطّيبيّن صلوات الله عليهم أجمعين. منها في هذه النشأة الدّنيوية ، فعلّمه الأسماء الكلّية والحقائق الكونيّة تعليما تكوينيّا ، وجعلها مستعدّة لإدراك كلّ حقيقة من الحقائق بما فيه من القبضة المأخوذة من تلك النشأة والتّجلي الحاصل من ذلك الاسم ، فكان أنموذجا وخلاصة مأخوذة من جميع العوالم ، فخلق في عالم النّاسوت بعد خلق جميع اجزائه الكونيّة ، لأنّ ما هو متقدّم في الخلقة الملكوتيّة متأخّر في الظّهور النّاسوتي فيتعاكس التقدّم الدّهري والزّماني ، فلمّا دارت الأدوار وتمّت الأكوار ظهر الإنسان ، محيطا على جميع الشؤون والنّشآت ، مجمعا لجميع الاقتضاءات والاستعدادات ، قابلا للتّرقيّات من جميع الجهات ، فهو ثمرة شجرة الوجود ، والقابل لإشراق أشعّة أنوار الشّهود ، فكما أنّ الثمرة تعبر على أجزاء الشجرة كلّها حتّى تظهر على أعلى الشجرة بعد تمامها ، كذلك عبّر آدم على جميع أجزاء شجرة الوجود حتّى ظهر في هذه النشأة الدّانية السافلة في كسوة الناسوت.

وأمّا الملائكة فكلّ منهم له مقام معلوم لا يتعدّاه ، ولا يدرك ما سواه ، ولا يعبد الله سبحانه إلّا بلسان واحد ، ولا يدعوه إلّا باسم واحد ، وأمّا سائر الأسماء الالهيّة فمحجوبة عنهم لا يدركونها أصلا نعم ربما كان الاسم الّذي يدعوه به واحد منهم مغايرا لما يدعوه به الآخر لكنّها متّفقة في نوع الاتّحاد بخلاف الإنسان ، فانّه يدعوه بأسمائه الحسنى وأمثاله العليا ونعمه الّتي لا تحصى المفسّرة في الأخبار

١٣٢

الكثيرة بالنّبي والأئمّة عليهم الصلاة والسلام.

ومن هنا يتّضح تفسير الأسماء بالأنبياء والحجج وبتلك الحقائق الكلّية والأعيان الموجودة الخارجيّة الّتي عبّر عنها بالأرضين والجبال والنّبات والحيوان وغيرها ممّا هي تعيّنات لتلك الحقائق البسيطة والمركّبة.

وقريء : وعلّم آدم الأسماء على البناء للمفعول.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ)

عرض هؤلاء الأسماء الفعليّة الذين هم نفس الحقائق الكونيّة المشتملة على ذوات العقول الذين هم الأصول لها ولو باعتبار الشرف وسبق الخلقة ووساطة الفيض تكوينا وتشريعا على النّحو المقرّر ، أو مسمّيات الأسماء اللّفظيّة المدلول عليها ضمنا باعتبار حذف المضاف إليه في قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) لدلالة المضاف عليه ، وتعويض اللام عنه كما في قوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) (١) ، فينتظم حينئذ قوله : (عَرَضَهُمْ) وقوله : (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) ولم يجعل المحذوف مضافا اي مسمّيات الأسماء لينتظم تعليق الإنباء على الأسماء فيما ذكر بعد التعليم وعلى الوجهين فالمراد أشباح المخلوقات وحقائقها فردا فردا في عالم الملكوت ، فانّ السؤال عن أسماء المعروضات ، فلا يكون المعروض نفس الأسماء سواء أريد بها الألفاظ او الآثار واللّوازم والفوائد.

وتذكير الضّمير إمّا لأنّ لكلّ منها عقلا وشعورا في عالمه ، ولذا نسب إليهم

__________________

(١) مريم : ٤.

١٣٣

التّسبيح وذكّرهم في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (١) ، وإمّا لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء لما مرّ كما في قوله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) (٢) ، وإمّا لكون الضّمير للنّبي والأئمّة الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين.

ولذا قال الامام عليه‌السلام في تفسيره : عرض محمّدا وعليّا والأئمّة عليهم‌السلام على الملائكة اي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلّة (٣).

وفي الخبر المتقدّم : علّم آدم أسماء حجج الله كلّها ثمّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة (٤).

وقراءة أبي (٥) «ثمّ عرضها» ، وعن ابن مسعود : ثمّ عرضهنّ ، ويظهر الوجه فيهما ما مرّ.

والعرض مصدر من قولهم : عرضت المتاع على البيع ، وعرضت الجند عليه ، وعرضت البعير على الحوض ، وإن كان هذا من المقلوب ، وأصله في اللّغة النّاحية من نواحي الشيء ، ومنه العرض بالفتح خلاف الطّول ، وبالكسر يقابل به المال ، فإنّه

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

(٢) النور : ٤٥.

(٣) تفسير البرهان ج ١ ص ٧٣ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٤) البحار ج ٢٦ ص ٢٨٣ عن إكمال الدين.

(٥) هو أبيّ بن كعب ابو المنذر الأنصاري سيّد القراء ، توفي سنة (١٩) ه العبر للذهبي ج ١ ص ٢٣.

١٣٤

ناحيته الّتي يصونها عن المكروه ، ثمّ أطلق على الإظهار الّذي يعرف به جهة الشيء وناحيته ، ثمّ على مجرّد الإظهار.

نعم قد يقال : إنّه يختصّ بالمحسوسات بالعين يقال : عرضت الجند ، عرض العين إذا أمررتهم عليك ونظرت ما حالهم ، كما عن الجوهري ، وهذا ممّا يؤيّد كون المعروض نفس المسمّيات لا الأسماء الّتي هي المسموعات او ما في حكمها ، والمعنى أظهرهم على الملائكة بكشف الحجب عن الأرواح واراءة الأشباح وهم في أصقاع الملكوت وسرادقات الجبروت متوجّهين إلى الحيّ الّذي لا يموت فقال الله سبحانه لملائكته تعجيزا وتبكيتا لهم ، وتنبيها على قصورهم عن أمر الخلافة او تكليفا مطلقا أو مشروطا :

(أَنْبِئُونِي) أخبروني على وجه الإحاطة العلميّة الّتي لا تتأتّى إلّا بالاحاطة الكونيّة أو أنّ المراد مجرّد الإخبار ، فإنّ الإنباء إخبار فيه إعلام ولذا يجري مجرى كلّ منهما (بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) الحجج الّذين لولاهم لم يخلقكم الله تعالى ، ولا أرضا ولا سماء ، ولا شيئا من الأكوان المجرّدة والمادية ، وذلك لأنّهم هم العلل الغائية والمقاصد الاصليّة من خلق العالم وآدم ، وهم المختصون بالخلافة الكليّة والوسائط الأوّليّة للفيوض الالهيّة أو بأسماء الله الّتي بما خلقت هذه الأشباح ، فانّها بتمامها كانت محجوبة عن الملائكة إلّا نوعا واحدا لكلّ صنف منهم او بخواص تلك المسمّيات وآثارها ووجوه استنباط منافعها وافعالها وغير ذلك ممّا يتوقّف عمارة الأرض والانتفاع بما فيها عليها (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم أنكم أحقّا بالخلافة من ذرّيّته لعصمتكم أو اشتغالكم بالتّسبيح والتّقديس على ما يستفاد من

١٣٥

خبر «الإكمال» المتقدّم (١).

أو أنّ جميعكم مطيعون منقادون وليس فيكم من يعصي الله وان لم يكن منكم لشمول الخطاب للجميع ، ولذا قال الامام عليه‌السلام في تفسير : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّ جميعكم تسبّحون وتقدّسون ، وان ترككم هنا أصلح من إيراد من بعدكم ، اي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم فالحريّ أن لا تعرفوا الغيب الّذي لم يكن كما لا تعرفون اسماء أشخاص ترونها.

أو في زعمكم انّه لن يخلق الله تعالى خلقا إلّا وأنتم اعلم منه وأفضل في سائر انواع العلوم فقيل : إن كنتم صادقين في هذا الظنّ فأخبروا.

او انّ المراد. إن كنتم صادقين فيما تخبرون به من اسمائهم فأخبروا بها ومعناه هو التّعليق بالعلم على أحد الوجهين اللّذين تأتي إليهما الإشارة.

أو في أنّ خلقهم واستخلافهم مع أنّ من شأنهم الإفساد والقتل لا يليق بالحكيم وعلى هذا فقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ) وإن كان إنشاء إلّا أنّ التّصديق لم يتعلّق به من هذه الجهة ، بل باعتبار ما يلزم مدلوله من الإخبار.

ثمّ الأمر في قوله : (أَنْبِئُونِي) يحتمل كونه توطينا امتحانيا محضا بمعنى انّه لم يتعلّق الغرض بطلب فعل المأمور به أصلا ولو على وجه الاشتراط ، فالأمر وان كان أمرا في الصّورة إلّا أنّ المراد به هو البعث على التّصديق والإذعان بحكمته تعالى وعلمه بالغيوب او بفضل آدم عليهم على ما يأتي على حدّ سائر الأوامر الامتحانيّة الّتي ليس هناك في الحقيقة طلب أصلا.

__________________

(١) تقدّم عن البحار ج ٢٦ ص ٢٨٣ عن الإكمال.

١٣٦

ويقرب من ذلك ما قيل : من كونه للتبكيت تنبيها على عجزهم عن اقامة رسم الخلافة ، فإنّ التّصرف والتّدبير والقضاء بالقسط متوقّف على تحقّق المعرفة والوقوف على مراتب الاستعدادات وقدر الحقوق.

ويحتمل كونه أمرا حقيقيّا مشروطا بصدقهم أي بعلمهم على ما مرّ ويأتي أو بغيره ممّا لم يتحقّق بعد كي يتنجز الأمر بالنّسبة إليهم ، او حقيقيّا مطلقا في الحقيقة وإن كان مشروطا في الظّاهر ، وذلك لتّحقق الشّرط الّذي علّق عليه الأمر وهو صدقهم فيما أخبروا عنه من عبادتهم ، او كون ذرّيّة آدم ممّن يفسد فيها ويسفك الدّماء ، والامتثال على هذا الوجه وان لم يكن مقدورا لهم بالذّات لجهلهم بتلك الأسماء إلّا انّهم مقدور لهم بواسطة رجوعهم إلى آدم وتعليمهم منه ، ولذا أمر الله تعالى آدم بتعليمهم إزاحة للعلّة وتنبيها على فضل آدم عليهم وعدم استغنائهم عنه في عبوديّتهم وطاعتهم لله سبحانه وهذا الوجه وإن لم أجد من تعرّض له من المفسّرين إلّا أنّه لا بأس به بعد المحافظة على استقامة الكلام واحراز الفائدة.

نعم قال شيخنا الطّبرسي بعد تأويل الاشتراط بالصدق إلى ارادة العلم بالخبر على ما مرّ والإشارة إلى أنّ معنى الأمر هو التّنبيه او انّه يكون امرا مشروطا ما لفظه : ولا يجوز أن يكون ذلك تكليفا لأنّه لو كان تكليفا لم يكن تبيينا لهم ان آدم يعرف اسماء هذه الأشياء بتعريف الله ايّاه وتخصيصه من ذلك بما لا يعرفونه فلمّا أراد تعريفهم ما خصّ به آدم من ذلك علمنا أنّه ليس بتكليف انتهى (١) كلامه زبد مقامه.

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٧٧.

١٣٧

وفيه انّ ارادة تعريفهم ما خصّ به آدم من ذلك ليس مانعا عن كونه تكليفا لهم ، بل لعلّه يؤكّده من حيث إنّهم لما أمروا بالإنباء ولم يقدروا عليه إلّا من جهة التّعلّم من آدم ثمّ أنبأهم آدم بها بامره سبحانه علموا أنّ له الفضل والشرف بالعلم وزيادة حقّ التعليم لهم فيما توقّف عليه طاعتهم وتقرّبهم إليه سبحانه ، فهذا تنبيه على شرفه وفضله عليهم على وجه ابلغ كما لا يخفى.

وممّا يومئ إلى ما ذكرنا انّ كلّا من الاشتراط والتّوطين خلاف الظّاهر من الأمر ، ومن البيّن انّ المتعيّن هو الحمل على الظّاهر الّذي هو الإطلاق إلّا أن يمنع عنه مانع ، والأصل بل الظّاهر ايضا عدمه مضافا إلى أنّ اعتذارهم بعدم العلم دليل على عدم فهم الاشتراط من الخطاب بل كانّهم فهموا الطّلب على وجه الإطلاق فاعتذروا بعدم العلم فازاح الله عذرهم بانّ امر آدم بتعليمهم وانبائهم.

تفسير الآية (٣٢)

(قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا)

تنزيه منهم له سبحانه عن أن يكون فعله على غير وجه الحكمة او أن يعلم الغيب أحد سواه واعتذار عن الاستفسار مع الإشعار بأنّه لم يكن للاعتذار بل لمجرّد الاستخبار واعتراف بالعجز والقصور عن الاحاطة بوجوه الحكمة في أفعاله ، وانّه قد ظهر له ما خفي عليهم من علم الإنسان وفضله والحكمة في خلقه ومراعاة للأدب حيث مجدّوه اوّلا بالتنّزيه الّذي هو ابلغ من اثبات الكمال ، إذ ربّما لا يخلو عن شوب التّوهم والتشبيه ، ولذا قال سبحانه : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا

١٣٨

يَصِفُونَ) (١) ، ثمّ نفوا العلم بجنسه المستوعب بجميع أفراده عنهم ونسبوه إليه ، ثمّ أظهروا شكر نعمته بما منحهم به منه ، ولذا أضافوا (إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) إلى قولهم : (لا عِلْمَ لَنا) مع الاكتفاء به في الجواب ، فانّهم أرادوا أن يضيفوا إلى ذلك التعظيم له والاعتراف بانعامه عليهم بالتّعليم وان جميع ما يعلمونه إنّما يعلمونه من جهته ، وانّ هذا ليس من جملة ذلك ، ثمّ حقّقوا الاعتراف بعلمه وحكمته وأكّدوه بقولهم : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بكلّ شيء علما ذاتيّا لم يعرض ولا يزول (الْحَكِيمُ) المصيب في كلّ فعل من أفعاله ، المحكم لمبدعاته على أتمّ الوجوه وأتقنها.

ومن هنا يظهر أنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم ، فلا تكرار ، وانّ في الفعيل من المبالغة ما ليس في الفاعل ، وانّ تقديم الأوّل علي الثّاني طبيعيّ.

و (سبحان) مصدر كغفران ، أو اسم للتّسبيح يقوم مقامه ، ولا يكاد يستعمل إلّا مضافا منصوبا بفعل مضمر كمعاذ الله ، وهو هنا مضاف إلى المفعول ، دون الفاعل ، ويضاف إلى الضّمائر الثلاثة وإلى الظّاهر ، ويستعمل مقطوعا للتّعجّب ، تقول العرب : سبحان من كذا إذا تعجّبوا منه ، ومنه قول الأعشى (٢) :

أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

قال الجوهري : وانّما لم ينوّن لأنّه معرفة عندهم وفيه شبه التأنيث (٣).

والمراد به في المقام الاشعار بتنزيهه تعالى على ما مرّ أو اظهارهم التّعجب

__________________

(١) الصافّات : ١٨٠.

(٢) هو عامر بن الحارث الباهلي ، شاعر جاهلي وأشهر شعره «رأيته في رثاء أخيه لأمّه : المنتشر ابن وهب أوردها البغدادي برمّتها في خزانة الأدب ج ١ ص ٩.

(٣) الصحاح ج ١ ص ٣٧٢ في سبّح.

١٣٩

عن سؤالهم عمّا لا يعلمونه ، او معناه السّرعة إليه والخفة في طاعته على ما صرّح به في «القاموس» أخذا له من السباحة للقوم ، ومنه السابحات للسفن ، أو أرواح المؤمنين أو النجوم.

و «لا» لنفي الجنس تفيد بنفيه نفي جميع الإفراد ، والظّرف بمتعلّقه في موضع الرّفع على الخبريّة ، والموصول بدل من اسم «لا» والعائد محذوف ، و «أنت» فصل فلا موضع له من الاعراب ، أو مبتدأ خبره «العليم الحكيم» والجملة خبر إنّ أو تأكيد للكاف كما في قولهم : مررت بك أنت.

تفسير الآية (٣٣)

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)

أخبرهم بالحقائق الكلّية الّتي لم تزل محجوبة عنهم ، والمعارف اليقينيّة الّتي لم تنكشف لهم ممّا لديهم من العلوم الخاصّة بهم ، والطرق الموصلة لهم إلى معرفته كي يعرفوا جامعيّتك بين الصفات المختلفة والأسماء المتباينة وقابليّتك للخلافة الكلّية والموهبة الرّبّانيّة وظهور أنوار الأنبياء والأولياء سيّما نبيّنا خاتم النّبيّين وآله الطيّبين صلّى الله عليهم أجمعين من صلبك في هذا العالم الجسماني الّذي هو مجمع التّضاد ومطرح الاشعّة.

وقريء بقلب الهمزة ياء وبحذفها ، والهاء فيهما مكسورة ، وهما من الشواذ ، بل وكذا ما يحكى عن ابن عامر (١) من تفرّده بكسر الهاء مع الهمزة كما عن بعض

__________________

(١) هو عبد الله بن عامر أبو عمران الدمشقي أحد القرّاء السبعة ، ولي قضاء دمشق في خلافة

١٤٠