تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

خاوية عشرة آلاف عام ثمّ خلق فيها وقدّر لهم عشرة آلاف عام فلمّا قربت أفسدوا فيها وسفكوا الدّماء وهو قول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) كما سفكت بنو الجان ، فاهلكهم الله تعالى ثمّ بدا لله فخلق آدم وقدّر له عشرة آلاف ، وقد مضى من ذلك سبعة ، آلاف عام ومائتان وأنتم في آخر الزمان (١).

وفي «الخصال» و «المعاني» عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : إنّ الله تبارك وتعالى خلق نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل أن يخلق السّموات والأرض والعرش والكرسي واللّوح والقلم والجنّة والنّار وقبل أنّ يخلق آدم ونوحا وابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وداود وسليمان وقبل أن يخلق الأنبياء كلّهم باربعمائة ألف سنة وأربع وعشرين ألف سنة (٢).

وفي الاختصاص عنهم عليهم‌السلام : أنّ الله خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام فسبّحنا فسبّحت الملائكة بتسبيحنا (٣) ، الخبر.

وفي البحار : عن أبي الحسن البكري (٤) استاد الشهيد الثاني في كتاب الأنوار عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال كان الله ولا شيء معه ، فأوّل ما خلق نور حبيبه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماوات والأرض واللّوح والقلم والجنّة والنّار والملائكة وآدم وحوّاء باربعة وعشرين واربعمائة ألف عام ، فلمّا خلق الله تعالى نور نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بقي ألف عام بين يدي الله عزوجل واقفا يسبّحه ويحمده ،

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٣١ وعنه تفسير البرهان ج ١ ص ٥٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٧ ص ١٧٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ١ ح ٢ عن الاختصاص.

(٤) هو الشيخ الجليل أحمد بن عبد الله بن محمد البكري صاحب كتاب الأنوار في مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكتب أخر ، توفي سنة (٩٥٣) ه بمصر ودفن جنب قبر الشافعي وبنوا عليه قبّة عظيمة.

٦١

والحق تبارك وتعالى ينظر اليه ويقول : يا عبدي أنت المراد والمريد ، وأنت خيرتي من خلقي ، وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت الأفلاك ، من أحبّك أحببته ومن أبغضك أبغضته ، فتلألأ نوره وارتفع شعاعه فخلق الله تعالى منه اثني عشر حجابا أوّلها حجاب القدرة ، ثمّ حجاب العظمة ، ثمّ حجاب العزّة ، ثمّ حجاب الهيبة ، ثمّ حجاب الجبروت ، ثمّ حجاب الرّحمة ، ثمّ حجاب النبوة ، ثمّ حجاب الكبرياء ، وفي بعض النّسخ الكرامة ، ثمّ حجاب المنزلة ، ثمّ حجاب الرفعة ، ثمّ حجاب السعادة ، ثمّ حجاب الشفاعة ، ثمّ إنّ الله تعالى أمر نور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدخل في حجاب القدرة فدخل وهو يقول سبحان العليّ الأعلى ، وبقي على ذلك اثني عشر ألف عام ، ثمّ أمره أن يدخل في حجاب العظمة فدخل وهو يقول : سبحان عالم السرّ وأخفى أحد عشر ألف عام ، ثمّ دخل في حجاب العزّة وهو يقول : سبحان الملك المنّان عشرة آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب الهيبة وهو يقول : سبحان من هو غنيّ لا يفتقر تسعة آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب الجبروت وهو يقول : سبحان الكريم الأكرم ثمانية آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب الرّحمة وهو يقول : سبحان ربّ العرش العظيم سبعة آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب النبوّة وهو يقول : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ستة آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب الكبرياء وهو يقول : سبحان العظيم الأعظم خمسة آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب المنزلة وهو يقول : سبحان العليم الكريم ، أربعة آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب الرفعة وهو يقول : سبحان ذي الملك والملكوت ثلاثة آلاف عام ، ثمّ دخل في حجاب السّعادة وهو يقول : سبحان من يزيل الأشياء ولا يزول ألفي عام ، ثمّ دخل في حجاب الشفاعة وهو يقول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ألف عام ، قال الامام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : ثمّ انّ الله تعالى خلق من نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين بحرا من نور ، في كلّ بحر علوم لا يعلمها إلّا الله تعالى ، ثمّ قال لنور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنزل في بحر العزّ فنزل ،

٦٢

ثمّ في بحر الصبر ، ثمّ في بحر الخشوع ، ثمّ في بحر التواضع ، ثمّ في بحر الرضا ، ثمّ في بحر الوفاء ، ثمّ في بحر العلم ، ثمّ في بحر التّقى ، ثمّ في بحر الخشية ، ثمّ في بحر الإنابة ، ثمّ في بحر العمل ، ثمّ في بحر المزيد ، ثمّ في بحر الهدى ، ثمّ في بحر الصّيانة ، ثمّ في بحر الحياء ، حتّى تقلب في عشرين بحرا ، فلمّا خرج من آخر الأبحر قال الله تعالى : يا حبيبي وسيّد رسلي ويا أوّل مخلوقاتي ويا آخر رسلي أنت الشّفيع يوم المحشر ، فخرّ النور ساجدا ثمّ قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف وأربعة وعشرين ألف قطرة ، فخلق الله تعالى من كلّ قطرة من نوره نبيّا من الأنبياء ، فلمّا تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما تطوف الحجّاج حول بيت الله الحرام ، وهم يسبّحون الله ويحمدونه ويقولون : سبحان من هو عالم لا يجهل ، سبحان من هو حليم لا يعجل ، سبحان من هو غنيّ لا يفتقر ، فناداهم الله تعالى : تعرفون من أنا؟ فسبق نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الأنوار ونادى : أنت الله لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك ، ربّ الأرباب وملك الملوك ، فإذا بالنداء من قبل الحق أنت صفيّي وأنت حبيبي وخير خلقي ، أمّتك خير أمّة أخرجت للنّاس ثمّ خلق من نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله جوهرة ، وقسّمها قسمين : فنظر الى القسم الأوّل بعين الهيبة فصار ماء عذبا ، ونظر إلى القسم الثاني بعين الشفقة فخلق منه العرش فاستوى على وجه الماء ، فخلق الكرسي من نور العرش ، وخلق من نور الكرسي اللّوح ، وخلق من نور اللوح القلم الى آخر الخبر (١).

وبالجملة فالأخبار الدالّة على بدو العالم ومقدار كينونته مختلفة جدّا بحيث لا يمكن الجمع بينها إلّا بالتأويلات البعيدة الّتي لا داعي إلى ارتكابها في المقام ، بل الأولى ردّ علمه إلى أهله.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٧ ص ١٩٨ ـ ٢٠٠.

٦٣

ثمّ أنّ لغير الملّيّين أيضا مقالات في ذلك وأكثرهم على القدم بل على إنكار آدم أبي البشر ، حيث زعموا أنّه لا أوّل لنوع البشر بل ولا لغيرهم من الأنواع المتوالدة كما هو المحكي عن الفلاسفة ، وأمّا الهنود والبراهمة فأكثرهم على نفي الأفلاك واستقلال الكواكب سيّما السيّارة وخصوصا الشمس في الآثار الواقعة وإيجاد الكينونات الحادثة وزعموا أنّه تعالى خلقها وفوّض إليها تدبير العالم واختفى هو في الملأ الأعلى وربّما يظهر لبعض المصالح في صور بعض الحيوانات واكثر ما يظهر في صورة البقر ، ولذا يبالغون في تكريمه وإعظامه ، ولهم غلوّ في القول بالحلول والتّناسخ وإنكار المعاد ، وقالوا : إنّ العالم ليس له أوّل ولا آخر ، ولا يزال يدور بين أدوار أربعة فالامتداد للدّور الأوّل ألف ألف سنة وسبعمائة ألف سنة وعشرون ألف سنة ، وللدّور الثّاني ألف ألف سنة ومائتا ألف سنة وتسعون ألف سنة ، وللدّور الثالث ثمانمائة ألف سنة وأربعة وستّون ألف سنة ، وللرّابع أربعمائة ألف سنة واثنان وثلاثون ألف سنة ، وزعموا أنّه قد مضى من الدّورة الرابعة ما يقرب من خمسة آلاف سنة ، وانّه إذا انقضت الأدوار فلا بدّ أن ينقلب العالم ويفنى أهله ، ثمّ يبتدأ من الدّور الأوّل أيضا من دون فصل ، وزعموا أنّه قد كانت الأعمار الطّبيعيّة لنوع البشر في الدّورة الأولى مائة ألف سنة ، وفي الثانية عشرة آلاف سنة ، وفي الثالثة ألف سنة ، وأنّه كان آدم ونوح في أواخر تلك الدّورة ، وفي الرابعة مائة وعشرين سنة.

وحكى شيخنا المجلسي عن الهنود : أن من كان منهم على رأي الفلاسفة فهو يوافقهم في القول بالقدم ، ومن لم يكن منهم على رأي الفلاسفة وقال بحدوث العالم

٦٤

لم يثبت آدم ، ويقول : إنّ الله تعالى خلق الأفلاك وخلق فيها طباعا محركة لها بذاتها ، فلمّا تحرّكت وحشوها أجسام ، لاستحالة الخلأ ، وكانت الأجسام على طبيعة واحدة ، فاختلفت طبايعها بالحركة الفلكية ، وكان القريب من الفلك أسخن وألطف ، والبعيد أبرد وأكثف ، ثم اختلطت العناصر وتكوّنت منها المركّبات ، وممّا تكوّن منه نوع البشر ، كما يتكوّن الدّود في الفاكهة واللحم والبق في البطايح والمواضع الغضّة ، ثمّ تكوّن البشر بعضه من بعض بالتّوالد ، ونسي التخليق الأوّل الذي كان بالتولّد ، ومن الممكن أن يقول : يتكوّن بعض البشر في بعض الأراضي القاصية بالتولد وانّما انقطع التولّد لأن الطبيعة إذا وجدت للكون طريقا استغنت عن طريق ثان.

قال : وأمّا المجوس فلا يعرفون آدم ولا نوحا ولا ساما ولا حاما ولا يافث وأوّل متكون من البشر عندهم كيومرث ، ولقبه كوهشاه أي ملك الجبل ، وقد كان كيومرث في الجبال ومنهم من يسمّيه گلشاه أي ملك الطين ، لأنّه لم يكن يومئذ بشر يملكهم ، وقيل : تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا وقد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلّا وله وأغمي عليه ، ويزعمون أنّ مبدء تكوّنه وحدوثه أنّ يزدان وهو الصانع الأوّل عندهم فكّر في أمر «أهرمن» وهو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق ورمى به ، فصارت منه كيومرث ، ولهم خبط عظيم في كيفيّة تكوّن أهرمن عن فكرة يزدان ، او من إعجابه بنفسه ، أو من توحّشه ، ثمّ إنّهم قالوا بعد هذيانات غريبة ، أنّه قطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان في جبل باصطخر ، ثمّ ظهرت على تينك الرّيباستين الأعضاء البشرية في أوّل الشهر التاسع وتمّت أجزائه فتصوّر منها بشران ذكر وأنثى ، وهما ميشا وميشانه ،

٦٥

وهما بمنزلة آدم وحواء عند المليّين ويسمّيهما مجوس خوارزم : مرد ومردانه ، وزعموا أنّهما مكثوا خمسين سنة مستغنين عن الطّعام والشراب منعّمين غير متأذّيين بشيء ، حتى ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على تناول فواكه الأشجار وأكل منها وهما يبصرانه شيخا فعاد شابّا ، فأكلا منها حينئذ ، فوقعا في البلايا وظهر فيهما الحرص حتّى تزاوجا وولد لهما ولد ، فأكلاه حرصا ثمّ القى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد بعد ذلك ستّة أبطن ، كلّ بطن ذكر وأنثى وأسماؤهم في كتاب زردشت معروفة (١).

الى غير ذلك من خرافاتهم التي لا تليق بالذكر ، وأمّا اليهود والنصارى فالمحكي عنهم الاتفاق على ما أجمع عليه المسلمون لكن المحكي عن كثير من نصارى الفرانسة والأرض الجديدة الميل إلى مذاهب الدّهريّة والتناسخ ، وانكار المعاد وغير ذلك من الإلحاد.

ثانيها : في الإشارة إلى ما خلقه الله تعالى في هذه الأرض من النّسناس وبني الجان وغيرهما.

روى الرّاوندي في «قصصه» في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام هل كان في الأرض خلق من خلق الله تعالى يعبدون الله قبل آدم عليه‌السلام وذرّيته؟ فقال : نعم قد كان في السموات والأرض خلق من خلق الله تعالى يقدّسون الله ويسبّحونه ويعظمّونه بالليل والنّهار لا يفترون فانّ الله عزوجل لمّا خلق الأرضين خلقها قبل السموات ، ثمّ خلق الملائكة روحانيّين لهم أجنحة يطيرون بها حيث

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥٧ ص ٢٦٦ ـ ٢٦٨.

٦٦

يشاء الله ، فأسكنهم فيما بين أطباق السّماوات يقدسونه باللّيل والنّهار واصطفى منهم اسرافيل وميكائيل وجبرئيل ، ثمّ خلق عزوجل في الأرض الجنّ روحانيّين لهم أجنحة فخلقهم دون خلق الملائكة ، وخفضهم أن يبلغوا مبلغ الملائكة في الطّيران وغير ذلك ، فأسكنهم فيما بين أطباق الأرضين السّبع وفوقهنّ يقدّسون الله اللّيل والنّهار لا يفترون ثمّ خلق خلقا دونهم لهم أبدان وأرواح بغير أجنحة يأكلون ويشربون ، نسناس اشباه خلقهم وليسوا بإنس ، وأسكنهم أوساط الأرض على ظهر الأرض مع الجنّ يقدّسون الله اللّيل والنّهار لا يفترون ، قال عليه‌السلام وكان الجنّ تطير في السماء فتلقى الملائكة في السماوات فيسلّمون عليهم ويزورونهم ويستريحون إليهم ويتعلّمون منهم الخبر ، ثمّ إنّ طائفة من الجنّ والنسناس الذين خلقهم الله وأسكنهم أوساط الأرض مع الجنّ تمرّدوا وعتوا عن أمر الله تعالى فمرحوا وبغوا في الأرض بغير الحق وعلا بعضهم على بعض في العتوّ على الله تعالى حتى سفكوا الدماء فيما بينهم ، وأظهروا الفساد وجحدوا ربوبيّة الله.

قال : وأقامت الطائفة المطيعون من الجنّ على رضوان الله وطاعته ، وباينوا الطائفتين من الجنّ والنّسناس الذين عتوا عن أمر الله تعالى ، قال : فحط الله تعالى أجنحة طائفة من الجنّ الذين عتوا عن أمر الله وتمرّدوا وكانوا لا يقدرون على الطيران إلى السّماء وإلى ملاقاة الملائكة لمّا ارتكبوا من الذّنوب والمعاصي.

قال : وكانت الطائفة المطيعة لأمر الله من الجنّ تطير إلى السماء اللّيل والنّهار على ما كانت عليه ، وكان إبليس واسمه الحارث يظهر للملائكة أنّه من الطائفة المطيعة ثمّ خلق الله خلقا على خلاف خلق الملائكة ، وعلى خلاف خلق الجنّ ،

٦٧

وعلى خلاف خلق النّسناس يدبّون كما يدبّ الهوام في الأرض يأكلون ويشربون كما تأكل الأنعام من مراعي الأرض كلّهم ذكران ليس فيهم إناث ، لم يجعل الله فيهم شهوة النّساء ولا حبّ الأولاد ولا الحرث ولا طول الأمل ولا لذة عيش ولا يلبسهم الليل ولا يغشاهم النّهار ليسوا ببهائم ولا هوام لباسهم ورق الشجر وشربهم من العيون الغزار والأودية الكبار ، ثمّ أراد الله أن يفرقهم فرقتين فجعل فرقة خلف مطلع الشمس من وراء البحر ، فكوّن لهم مدينة أنشأها تسمّى «جابلقا» طولها اثنى عشر ألف فرسخ في اثنى عشر ألف فرسخ ، وكوّن عليها سورا من حديد يقطع الأرض إلى السّماء ثم أسكنهم فيها ، وأسكن الفرقة الاخرى خلف مغرب الشمس من وراء البحر وكوّن لهم مدينة أنشأها تسمّى «جابلقا» طولها اثنى عشر ألف فرسخ في اثنى عشر ألف فرسخ وكوّن لهم سورا من حديد يقطع الى السّماء فاسكن الفرقة الاخرى فيها ، لا يعلم أهل جابرسا بموضع أهل جابلقا ، ولا يعلم أهل جابلقا بموضع أهل جابرسا ، ولا يعلم بهم أهل أوساط الأرض من الجنّ والنّسناس ، فكانت الشمس تطلع على أهل اوساط الأرضين من الجنّ والنّسناس فينتفعون بحرّها ويستضيئون بنورها ، ثمّ تغرب في عين حمئة فلا يعلم بها أهل جابلقا إذا غربت ، ولا يعلم أهل جابرسا إذا طلعت ، لأنّها تطلع من دون جابرسا وتغرب من دون جابلقا.

فقيل : يا أمير المؤمنين فكيف يبصرون ويحيون وكيف يأكلون ويشربون وليس تطلع الشمس عليهم؟ فقال عليه‌السلام : إنّهم يستضيئون بنور الله فهم في أشدّ ضوء من نور الشمس ، ولا يرون أنّ الله تعالى خلق شمسا ولا قمرا ولا نجوما ولا كواكب لا يعرفون شيئا غيره ، فقيل : يا أمير المؤمنين فأين إبليس عنهم؟ قال لا يعرفون

٦٨

إبليس ولا سمعوا بذكره ، لا يعرفون إلّا الله وحده لا شريك له لم يكتسب احد منهم قطّ خطيئة ولم يقترف إثما ، لا يسقمون ولا يهرمون ولا يموتون إلى يوم القيامة يعبدون الله لا يفترون ، اللّيل والنّهار عندهم سواء ، قال عليه‌السلام : ثمّ إنّ الله تعالى أحبّ أن يخلق خلقا وذلك بعد ما مضى للجنّ والنّسناس سبعة آلاف سنة فلمّا كان من شأن الله أن يخلق آدم للّذي أراد من التدبير والتقدير فيما هو مكوّنه في السماوات والأرضين كشط (١) عن أطباق السّماوات ثمّ قال للملائكة : انظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجنّ والنسناس هل ترضون أعمالهم وطاعتهم لي ، فلمّا اطّلعوا ورأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدّماء والفساد في الأرض بغير الحق أعظموا ذلك وغضبوا لله وأسفوا على أهل الأرض ولم يملكوا غضبهم وقالوا يا ربّنا أنت العزيز الجبار القاهر العظيم الشأن ، وهؤلاء كلّهم خلقك الضعيف الذليل في أرضك ، كلّهم يتقلّبون في قبضتك ويعيشون برزقك ، ويتمتّعون بعافيتك وهم يعصونك بمثل هذه الذّنوب العظام لا تغضب ولا تنتقم منهم لنفسك بما تسمع منهم وترى ، وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك ، قال : فلمّا سمع الله تعالى مقالة الملائكة قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فيكون حجّتي على خلقي في أرضي فقالت الملائكة : سبحانك ربّنا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فقال الله تعالى : يا ملائكتي (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أنّي أخلق خلقا بيدي واجعل من ذريّته أنبياء ومرسلين وعبادا صالحين وائمّة مهتدين ، واجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي ينهونهم عن معصيتي ، وينذرونهم من

__________________

(١) كشط : أي كشف.

٦٩

عذابي ، ويهدونهم إلى طاعتي ، ويسلكون بهم طريق سبيلي ، أجعلهم حجّة لي عذرا ونذرا وأنفي الشياطين من أرضي واطهّرها منهم ، فأسكنهم في الهواء وأقطار الأرض وفي الفيافي ، فلا يراهم خلقي ولا يرون شخصهم ، ولا يجالسونهم ولا يخالطونهم ولا يواكلونهم ولا يشاربونهم وانفرّ مردة الجنّ العصاة من نسل بريّتي وخلقي وخيرتي فلا يجاورون خلقي ، واجعل بين خلقي وبين الجان حجابا فلا يرى نسل خلقي شخص الجنّ ولا يجالسونهم ولا يشاربونهم ولا يتهجمون تهجمهم ، ومن عصاني من نسل خلقي الذي عظّمته واصطفيته لغيبي أسكنهم مساكن العصاة وأوردهم موردهم ولا أبالي ، فقالت الملائكة : (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

فقال للملائكة : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (١) ، قال وكان ذلك من الله تقدمة للملائكة قبل أن يخلقه احتجاجا منه عليهم ، وما كان الله ليغيّر ما بقوم إلّا بعد الحجّة عذرا أو نذرا فأمر تبارك وتعالى ملكا من الملائكة فاغترف غرفة بيمينه فصلصلها في كفّه فجمدت فقال الله عزوجل منك أخلق (٢). الخبر على ما يأتي ان شاء الله.

وفي «الخصال» وتفسير «العياشي» وغيرهما عن محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لقد خلق الله عزوجل في الأرض منذ خلقها سبعة عوالم ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ، ثمّ

__________________

(١) الحجر : ٢٨ ـ ٢٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٧ ص ٣٢٢ ـ ٣٢٥ ح ٥ عن قصص الراوندي.

٧٠

خلق الله عزوجل آدم أبا البشر وخلق ذريّته منه ، ولا والله ما خلت الجنّة من أرواح المؤمنين منذ خلقها ولا خلت النّار من أرواح الكفّار والعصاة منذ خلقها عزوجل ، لعلّكم ترون انّه إذا كان يوم القيامة وصيّر الله أبدان أهل الجنّة مع أرواحهم في الجنّة وصيّر أبدان أهل النّار مع أرواحهم في النّار انّ الله تبارك وتعالى لا يعبد في بلاده ولا يخلق خلقا يعبدونه ويوحّدونه؟ بلى والله ليخلقنّ الله خلقا من غير فحولة وأناث يعبدونه ويوحّدونه (١). الخبر وفي العلل عن الصّادق عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إنّ الله تعالى لمّا أحبّ أن يخلق خلقا بيده ، وذلك بعد ما مضى من الجنّ والنسناس سبعة آلاف سنة ... الى أن قال عليه‌السلام : فاغترف تبارك وتعالى غرفة من الماء العذب الفرات ، فصلصلها فجمدت ، ثم قال لها : منك أخلق النّبيّين والمرسلين وعبادي الصالحين والأئمّة المهتدين الدّعاة إلى الجنّة واتباعهم إلى يوم القيامة ، ولا أبالي ولا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون ، يعني بذلك خلقه أنّه سيسألهم ، ثمّ اغترف غرفة من الماء المالح الأجاج فصلصلها فجمدت ، ثمّ قال لها : منّك أخلق الجبارين والفراعنة والعتاة اخوان الشّياطين والدّعاة إلى النّار يوم القيامة واتباعهم ولا أبالي ولا أسأل عمّا افعل وهم يسألون.

قال : وشرط في ذلك البداء ولم يشترط في أصحاب اليمين البداء ثم خلط المائين فصلصلهما ثمّ ألقاهما قدام عرشه ، وهما ثلّة من طين ثمّ أمر لملائكة الجهات الأربع : الشمال والدبور والصبا والجنوب ، أن حوّلوا على هذا السلالة الطين وأبرئوها وأنشئوها ثمّ جزوها وفصلوها واجروا فيها الطبائع الأربعة الريح والمرة

__________________

(١) الخصال : ج ٢ ص ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

٧١

والدّم والبلغم قال : فجالت الملائكة عليها وهي الشمال والصباء والجنوب والدبّور فأجروا فيها الطبائع الاربعة قال والرّيح في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الشمال قال والبلغم في الطبائع الأربعة في البدن من ناحية الصبا قال والمرة في الطبائع في البدن من ناحية الدّبور قال والدّم في الطبائع الاربعة في البدن من ناحية الجنوب قال فاستقلت النّسمة وكمل البدن قال فلزمه من ناحية الرّيح حبّ الحياة وطول الأمل والحرص ولزمه من ناحية البلغم حبّ الطعام والشراب واللين والرفق ولزمه من ناحية المرة الغضب والسفه والشيطنة والتجبر والتمرّد والفجلة ولزمه من ناحية الدّم حبّ النّساء واللّذات وركوب المحارم والشهوات قال عمرو بن أبي المقدام أخبرني جابر أن أبا جعفر عليه‌السلام قال : وجدناه في كتاب من كتب عليّ عليه‌السلام (١).

أقول ورواه القمي بأدنى تغيير مع اشتماله على زيادة ونقصان (٢) ولعلّنا نورده بعبارته ان شاء في سورة الحجر.

في حقيقة الملائكة

ثالثها : في الإشارة الى حقيقة الملائكة وأصنافها ووجودها في الجملة من ضروريّ الدّين عند جميع المسلمين بل كثير من الملّيّين ، فيجب الايمان بها والتّصديق بوجودها.

قال الله سبحانه : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٣)

__________________

(١) علل الشرائع : ص ١٠٤ ـ ١٠٦ وعمرو بن أبي المقدام هو عمرو بن ثابت بن هرمز ، يروي الكثير عن الإمامين الهمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام توفي سنة (١٧٢) ه

(٢) تفسير القمي : ج ١ ص ٣٦.

(٣) البقرة : ٢٨٥.

٧٢

وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سئل عن الايمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله (١).

وأمّا البحث عن أنّها روحانيّة محضة أو جسمانيّة محضة ، أو مركّبة من القسمين ، وبتقدير كونها جسمانيّة فكثيفة أو لطيفة نورانيّة أو هوائيّة أو على الاختلاف كما ذهب إلى كلّ طائفة ، فقد يقال : إنّه ليس بواجب لأنّ مدار الإيمان بهم ليس خصوصيّات ذواتهم في أنفسهم ، بل هو اضافتهم إليه تعالى من حيث أنّهم عباد مكرمون من شأنهم التّوسط بينه تعالى وبين الرّسل بانزال الكتب وإلقاء الوحي.

وفيه نظر إذ قد علم من الأخبار المتواترة كونها قادرة على التّجسد والتشكل بالاشكال المختلفة ولذا كان جبرئيل قد يرى بصورة دحية الكلبي (٢) ، بحيث ربما كان يراه بعض النّاس أو كلّ من كان حاضرا عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال الله سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٣).

وهذا كلّه ينافي كونها روحانيّة محضة من قبيل العقول والنفوس ، ولذا ادّعى شيخنا المجلسي طاب ثراه إجماع الاماميّة بل جميع المسلمين على وجودها وأنّهم أجسام لطيفة نورانيّة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع وأكثر ، قادرون على التشكّل بالأشكال المختلفة ، وانّه سبحانه يورد عليهم بقدرته ما شاء من الأشكال والصّور

__________________

(١) تاريخ ابن خلدون : ج ١ ص ٤٦٢ ، سبل الهدى والرشاد : ج ١١ ص ٤٨٦.

(٢) هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي الصحابي نزل المزّة ومات في خلافة معاوية.

التقريب : ج ١ ص ٢٨٤.

(٣) الانعام : ٩.

٧٣

على حسب الحكم والمصالح ، ولهم حركات صعودا وهبوطا وكان يراهم الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام.

قال : والقول بتجرّدهم وتأويلهم بالعقول والنفوس الفلكيّة والقوى والطبائع ، وتأويل الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة ، تعويلا على شبهات واهية واستبعادات وهميّة زيغ عن سبيل الهدى واتباع لأهل الغواية والعمى.

أقول ويمكن أن يقال : إنّ روحانيّتهم لا تنافي تجسّمهم متى شاءوا باذن الله سبحانه ، إلّا أنّ الظّاهر من الأخبار كونهم أجساما متحيّزة مثل ما ورد عن الصادق عليه‌السلام من أنّه ليس في السّماء موضع قدم إلّا وفيها ملك يسبّحه ويقدّسه ، ولا في الأرض شجر ولا مدر إلّا وفيها ملك موكّل بها يأتي الله كلّ يوم بعملها والله أعلم بها ، وما منهم أحد إلّا ويتقرّب كلّ يوم إلى الله تعالى بولايتنا أهل البيت ويستغفر لمحبّينا ويلعن أعدائنا (١).

وفي «التوحيد» و «الخصال» أنّه سئل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن قدرة الله جلّت عظمته فقام خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثمّ قال : إنّ لله تبارك وتعالى ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظم خلقه وكثرة أجنحته ومنهم من لو كلّفت الجنّ والانس أن يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله وحسن تركيب صورته وكيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه وشحمة أذنيه ، ومنهم من يسدّ الأفق بجناح من أجنحته دون عظم يديه ، ومنهم من السماوات إلى

__________________

(١) بصائر الدرجات : ص ٨٩ بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ٢١٠ ح ٧.

٧٤

حجزته ومنهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل والأرضون إلى ركبتيه ومنهم من لو ألقى في نقرة إبهامه جميع المياه لوسّعتها ، ومنهم من لو ألقيت السّفن في دموع عينيه لجرت دهر الدّاهرين ، فتبارك الله فتبارك الله أحسن الخالقين (١).

وفي الخطبة الشريفة العلوّية المذكورة في النّهج : ثمّ خلق سبحانه لإسكان سماواته وعمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته ، وملأ بهم فروج فجاجها ، وحشا بهم فتوق أجوائها ، وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظائر القدس ، وسترات الحجب ، وسرادقات المجد ، ووراء ذلك الرّجيح الذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها ، فتقف خاسئة على حدودها ، أنشأهم على صور مختلفات ، وأقدار متفاوتات ... إلى قوله عليه‌السلام : ومنهم من هو في خلق الغمام الدّلح ، وفي عظم الجبال الشّمخ ، وفي فترة الظلام الأبهم ، ومنهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى ، فهي كرايات بيض ، قد نفذت في مخارق الهواء ، وتحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية .. إلى أن قال : وليس في أطباق السّماوات موضع أصاب إلّا وعليه ملك ساجد أو ساع حافد (٢).

وفي التوحيد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ في السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمائة عام ، فيها ملائكة قيام منذ خلقهم الله عزوجل والماء إلى ركبهم ، ليس منهم ملك إلّا وله ألف وأربعمائة جناح ، في كل جناح أربعة وجوه في كلّ وجه

__________________

(١) الخصال : ص ٣٦ والتوحيد ص ٢٠١ وعنهما البحار ج ٥٩ ص ١٧٨.

(٢) نهج البلاغة شرح ابن أبي الحديد : ج ٦ ص ٤٢٣ خ ٩٠ المعروفة بخطبة الأشباح.

٧٥

أربعة ألسن ليس فيها جناح ولا وجه ولا لسان ولا فم إلّا وهو يسبّح الله تعالى تسبيح لا يشبهه نوع منه صاحبه (١).

وفي الخرائج وغيره عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : نحن الذين تختلف الملائكة إلينا فمنّا من يسمع الصوت ولا يرى الصّورة ، وانّ الملائكة لتزاحمنا على تكأتنا وإنّا لنأخذ من زغبهم فنجعله سخبا لأولادنا (٢).

وروى القمي عن الصادق عليه‌السلام قال : خلق الله الملائكة مختلفة وقد رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جبرئيل وله ستّمائة جناح على ساقه الدّر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السماء والأرض (٣).

وقال عليه‌السلام : إذا أمر الله تعالى ميكائيل بالهبوط إلى الدّنيا صارت رجله اليمنى في السّماء السّابعة والأخرى في الأرض السّابعة ، وأنّ لله تعالى ملائكة أنصافهم من برد وأنصافهم من نار ، يقولون : يا مؤلّفا بين البرد والنّار ثبّت قلوبنا على طاعتك ، وانّ الله تعالى ملكا بعد ما بين شحمة أذنه إلى عينيه مسيرة خمسمائة عام خفقان الطّير (٤).

وقصّة دردائيل وصورته كغيره من الملائكة مشهورة (٥).

وفي النبويّ المشتهر أطت السّماء حقّ لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلّا وفيه

__________________

(١) البحار : ج ٥٨ ص ١٨٢.

(٢) البحار : جج ٥٩ ص ١٨٥.

(٣) البحار : ج ٤ ص ٤٣.

(٤) البحار ج ٥٩ ص ١٧٤.

(٥) البحار : ج ٥٩ ص ١٩٩.

٧٦

ملك ساجدا أو راكع (١).

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة التي يمكن تحصيل القطع منها بأنّها أجسام نورانيّة وان كانت غير مرئيّة إلّا بأسباب خاصّة وانّ لها أمكنة وأحيازا وأعضاء وجوارح وقوّة ونشاطا وقوتا من التّسبيح والتهليل وحركة وسكونا واجتماعا وافتراقا وقياما وقعودا وركوعا وسجودا وأصواتا وكلاما وعظما وأقدارا وغير ذلك من أحكام الأجسام وخواصها.

وحمل ذلك كلّه على الاستعارة والتّشبيه وانّه لو تجسّم بمقدار قوّته لكان كذا وكذا خروج عن الظّواهر المتظافرة التي هي الحجة من غير حجّة ، والمؤمن الموحّد لا يتجاسر على أدنى من ذلك ، فكيف بما هنالك ، ولو ساغ في الشريعة فتح باب أمثال هذه التأويلات والاحتمالات المشتملة على ما لا يخفى من التكلّف والتحمّل لما اخضرّ للدّين عود ، وما قام للإسلام عمود ، لكنّهم قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ولذا تراهم يتلاعبون بأحكام الشريعة ويستخفون باهلها ، ويتصرّفون بعقولهم القاصرة وفطرتهم المغيّرة وأحلامهم الناقصة في أحكامها الظّاهرة بلا برهان ولا دليل ، فأضلوا كثيرا وضلّوا عن سواء السبيل.

وبالجملة يجب التصديق والإذعان بما صحّ عنهم فيما لا تصل إليه عقولنا ، وقد سمعت أنّ الظّاهر من الكتاب والسّنة كونهم أجساما لطيفة نورانيّة كما عليه أكثر المسلمين ، نعم لا نأبى من القول بأن يكون هناك أصناف أخر من الملائكة غير جسمانيّة ، ولا متعلقة بالأجسام ، بل يكون فوق عالم الأجسام كملائكة العالين

__________________

(١) البحار : ج ٥٩ ص ١٨٥.

٧٧

والكروبيّين ، والرّوح الذي هو من أمره سبحانه دون الذي على ملائكة الحجب.

الملائكة عند الفلاسفة

بقي الكلام في سائر الأقوال التي ذكروها في حقيقتها وهي عديدة منها : ما يحكى عن الفلاسفة وهي أنّها جوهرة قائمة بنفسها ليست بمتحيّزة البتّة ، وانّها بالمهيّة مخالفة لأنواع النفوس النّاطقة البشريّة ، وانّها أكمل قوّة منها واكثر علما وأنّها للنفوس البشريّة جارية مجرى الشمس بالنّسبة إلى الأضواء ، ثمّ أنّ هذه الجواهر على قسمين : منها ما هي بالنّسبة إلى اجرام الأفلاك والكواكب كالنفوس الناطقة بالنّسبة إلى أبداننا ، ومنها ما هي أعلا شأنا من تدبير أجرام الأفلاك بل هي مستغرقة في معرفة الله مشتغلة بطاعته وهذا القسم هم الملائكة المقرّبون ، ونسبتهم إلى الملائكة الّذين يدبّرون السّماوات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة فهذان القسمان قد اتفق الفلاسفة على إثباتها ، ومنهم من أثبت نوعا آخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبّرة لأحوال هذا العالم السفلي ، ثمّ أنّ مدبّرات هذا العالم وإن كان خيّرة فهم الملائكة ، وإن كانت شريرة فهم الشياطين ، وهذا القول ربما مال إليه بعض الإسلاميّين كالسّيد الدّاماد والصدر الأجل الشيرازي وغيرهما.

قال السيّد : إنّ القول بتجسم الملائكة إنّما هو ممشى الخارجين عن دائرة التحصيل ، وأمّا ما هو صريح الحقّ وعليه الحكماء الإلهيّون والمحصّلون من أهل الإسلام فهو أنّ الملائكة على قبائل : سفليّة وعلويّة أرضية وسماويّة ، جسمانيّة وقدسانيّة ، وفي القبائل شعور وطبقات كالقوى المنطبقة والطبائع الجوهرية وأرباب

٧٨

الأنواع والنفوس المفارقة السماوية ، والجواهر العقليّة القادسة بطبقات أنواعها وأنوارها ، ومنها روح القدس النّازل بالوحي النّافث في أرواح أولى القوّة القدسيّة باذن الله سبحانه.

وقال الصّدر الأجل بعد الإشارة إلى دعاء الصحيفة المشتمل على اصناف الملائكة وقبائلها : إنّ قوله «اللهم وحملة عرشك» إشارة إلى الملائكة المقرّبين والجواهر المقدّسين الواقعين في سلسلة العقول المفارقة ، وقوله : «والرّوح الذي هو على ملائكة الحجب والرّوح الّذي هو من أمرك» إشارة إلى الأرواح المهيمنة الذين يستغرقون في شهود جمال الأزلية وليس لهم رسالة من الله إلى خلقه ، ولذا سمّاهم بالرّوح ولم يطلق عليهم اسم الملك لأنّه مشتقّ من الألوكة بمعنى الرّسالة وكلّ روح مفارق لا رسالة له فهو ليس بملك وانّما هو روح فقط ، وقوله : «على الملائكة الّذين من دونهم» إشارة إلى الملائكة الموكّلين بالاجرام السّماوية والنفوس المدبرة للجواهر الفلكيّة والكوكبيّة ، قوله : «وعلى الروحانيين من ملائكتك» اشارة إلى الملائكة العقليّة الواسطة في سلسلة اسباب الوجود بينه وبين ملائكة السّماء ولهذا قال في الدّعاء : «وأسكنتهم بطون أطباق سماواتك» فانّ بطون أطباق السماوات هي نفوسها المحركة لها إذ لكلّ نفس فلكي جوهر عقلي مفارق مسكنه قلب ذلك الفلك ونفسه الناطقة كما أنّ قلب المؤمن بيت الله اي نفسه الناطقة مكان معرفة الله سبحانه وقوله : «وخزّان المطر» آه إشارة إلى ملائكة الأرضين وهم مبادئ الصّور النّوعيّة للأنواع الطّبيعية العنصريّة ، فكلّ ملك من جنس ما يدبّره ويحرّكه باذن الله تعالى وأمره : فملك الرّياح من باب الرّياح ، وملك الأمطار من باب الأمطار ، وملك الجبال

٧٩

من باب الجبال ، وكذا ملك النّار من باب النّار ، وملك الماء وملك الأرض كلّ هؤلاء من نوع ضمّه ومسمّى باسمه فملك الأرض أرض لعالم الغيب والملكوت وملك الماء ماؤه وملك الهواء هوائه وملك النّار ناره بل ما من موجود في هذا العالم إلّا وله صورة طبيعيّة محركة ونفس تدركه وعقل يسخّره واسم إلا هي يبدعه وإذا ترقيت بذهنك إلى عالم الملكوت الأعلى شاهدت الماء هناك وهو حياة كلّ شيء والهواء عشق كلّ ذي روح وشوقه والنّار قدر كلّ حي وقهره والأرض قوّة تمسكه لكلّ جوهر ومديله انتهى.

وأنت ترى أن هذا كلّه رجم بالغيب وما كلّفنا بالتّصديق بأمثال هذه التخريجات الظّنّيّة والاعتبارات الوهميّة إن هم إلّا يظنّون وإن هم إلّا يخرصون.

الملائكة عند النصارى والمجوس

ومنها ما يحكى عن النصارى وهو أنّ الملائكة في الحقيقة هي الأنفس الناطقة بذاتها المفارقة لأبدانها على نعت الصفاء والخيريّة ، وذلك لأنّ هذه النّفوس المفارقة إن كانت صافية خالصة فهي الملائكة ، وإن كانت خبيثة كدرة فهي الشياطين.

ومنها : قول معظم المجوس والثّنوية وهو أنّ هذا العالم مركّب من أصلين أزليّين ، وهما النّور والظلمة ، وهما في الحقيقة جوهران شفّافان حسّاسان مختاران قادران ، متضادّا النفس والصورة ، مختلفا الفعل والتدبير ، فجوهر النّور فاضل خيّر ، تقيّ طيّب الرّيح كريم النفس ، يسرّ ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويحيي ولا يبلي ،

٨٠