تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

خلق ما في الأرض والقول في طرف منه ، فإنّ الأمر بالسجود كان قبل خلقه على وجه التعليق كما يستفاد من قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (١).

وقوله : لهم إمّا بالإلهام إلى كلّ منهم ، أو بالخطاب العامّ الشامل لجميعهم ولو بخلق الأصوات ، أو بالتبليغ إليهم بتوسّط بعضهم ، او بواسطة أنوار محمّد وآله الطّيبين صلّى الله عليهم أجمعين كما وقع التلويح إليه في بعض الأخبار.

وقت الأمر بالسجود

والآية وان كانت ظاهرة في كون الأمر بالسجود بعد وجود آدم ونفخ الرّوح فيه سيّما بملاحظة فسجدوا الظاهر في اتّصال الفعل بالأمر إلّا أنّ المستفاد من قوله تعالى في سورة الحجر : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢) ، وقوع الأمر مقترنا بالبشارة بالخلق وقد مرّ مرسلا في عبارة الصدوق : انّ الله سبحانه قال هذه المقالة للملائكة قبل خلق آدم بسبعمائة عام (٣).

وفي تفسير القمي وغيره في تفسير قوله : (فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) انّه كان ذلك

__________________

(١) الحجر : ٢٩.

(٢) الحجر : ٢٩.

(٣) كمال الدين : ج ١ ص ١١.

٢٤١

تقدّمه من الله في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجا منه عليهم (١).

لكنّه لا منافاة بينهما لاحتمال التعدّد تنبيها على مزيد الاهتمام والتأكيد ، بل كانّه المتعيّن وبه يجمع بين ما مرّ وبين ما في الأعراف : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٢) ، نعم سيأتي في تفسير قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) (٣) ، عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق العامة : أنّه لما اقترف الخطيئة ونظر الى أشباح النبي والأئمّة حول العرش وأخبره الله تعالى انّهم من ذرّيته ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فسجد آدم شكرا لله أن جعل ذلك في ذريّته ، فعوضه الله عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته.

وظاهره كما ترى كون الإسجاد بعد الاقتراف ، ولعلّه مخالف لظاهر الكتاب وصريح الاخبار.

في معنى السجود

والسجود في اللّغة هو الخضوع والتذلّل ، وكلّ شيء ذلّ فقد سجد ، وسجد البعير خفض رأسه عند ركوبه ، ومنه قوله : «وقلن له أسجد لليلى فأسجدا» ، يعني البعير أي طأطأ لها لتركبه من قولهم : أسجد الرجل إذا طأطأ رأسه وانحنى ، قال حميد بن ثور يصف نساء.

فضول أزمتها أسجدت

سجود النصارى لأحبارها

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١٠٤ عن تفسير علي بن ابراهيم.

(٢) الأعراف : ١١.

(٣) البقرة : ٣٧.

٢٤٢

يقول : لمّا ارتحلن ولوين فضول أزمّة أجمالهنّ على معاصمهنّ أسجدت لهنّ.

وبالجملة فالظاهر إطلاقه لغة على كلّ من الخضوع والانحناء وتطأطأ الّرأس ، وأصل الأصل في معناه هو الأوّل ، وإطلاقه على الأخيرين باعتبار تحقّقه فيهما كما يطلق على غيرهما من الأفعال الصّادرة عن خضوع ، او الموضوعة لها بحسب العادة ، ومنها وضع الجبهة على الأرض أو ما أنبت ممّا لا يؤكل ولا يلبس ، فانّ الظاهر عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أو المتشرّعة فيه بل هو باق على معناه اللغوي وإن اعتبر للشارع في صحّته جزء للصّلاة أمورا خارجة عن مسمّاها لغة كما أشار إليه بعض مشايخنا معترضا به على من قبله ، لكنّه لا يخلو عن تأمّل نظرا إلى تبادر الهيئة الخاصّة منه عرفا بحيث لا ينبغي معه التّامل في صيرورته حقيقة فيها عند الشارع او المتشرعة ، وتمام الكلام في مقام آخر.

وممّا مرّ يظهر النظر فيما قوله الرازي : من أنّ السجود في عرف المتشرّعة عبارة عن وضع الجبهة على الأرض ، فوجب أن يكون في اصل اللغة كذلك لأنّ الأصل عدم التغيير (١).

إذ فيه انّ اللغة ثابتة لتنصيص وغيره ، وأمّا ما يأتي في خبر «القصص» فعلى فرض صحّته محمول على بيان النوع والكيفيّة فتأمّل.

واللام في قوله : «لآدم» متعلّق باسجدوا أي اخضعوا له طاعة لله سبحانه ، أو انّه بمعنى «إلى» والمتعلّق محذوف اي اسجدوا مقبلين إلى آدم على حدّ قول

__________________

(١) مفاتيح الغيب للرازي : ج ٢ ص ٢١٣.

٢٤٣

حسّان (١) :

ما كنت احسب هذا الأمر منصرفا

من هاشم ثمّ منها عن أبي الحسن

أليس اوّل من صلّى لقبلتكم

وأعرف النّاس بالقرآن والسنن

لكنّه بعيد لتظافر الأخبار على كون السجود لآدم تكريما له وان كان ربما يتحقّق معه ايضا ، وأبعد منه ما قيل من احتمال كونه للتّوقيت أو بمعنى بعد كما احتمل الوجهان في قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) (٢) ، بل ينبغي القطع بعدمه ، فانّ تعلّق السجود بآدم ليس على وجه مجرّد التّوقيت بخلقه والتوجه إليه ، بل كان تكريما له وتعظيما للأنوار المستودعة في صلبه المخصوصة بمقام الخلافة الكلّيّة والفيوض الربانيّة ، ولذا كان تعظيمهم تعظيم الله تعالى شأنه كما قال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (٣).

فلسفة سجود الملائكة لآدم

وروى الصدوق وغيره عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّ الله فضّل أنبيائه المرسلين على ملائكته المقرّبين وفضّلني على جميع النبيّين والمرسلين والفضل بعدي لك يا علي وللائمّة من بعدك ، وساق الخبر على ما مرّ إلى أن قال : ثمّ إنّ الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه وأمر الملائكة

__________________

(١) حسّان بن ثابت الانصاري الشاعر توفّي سنة (٥٤) ه عن مائة وعشرين سنة مناصفة في الجاهلية والإسلام ـ شذرات الذهب ج ١ ص ٦٠.

(٢) الإسراء : ٧٨.

(٣) الفتح : ١٠.

٢٤٤

بالسجود له تعظيما لنا وإكراما وكان السجود لله عزوجل عبوديّة ولآدم إكراما وطاعة لكوننا في صلبه (١).

وفي «القصص» بالإسناد عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام سجدت الملائكة لآدم ووضعوا جباههم على الأرض؟ قال : نعم تكرمة من الله سبحانه (٢).

وفي «الاحتجاج» في جواب مسائل الزنديق عن الصادق عليه‌السلام انّه سئل : أيصلح السجود لغير الله تعالى؟ قال : لا ، قال : فكيف أمر الله بالسجود لآدم؟ فقال : إنّ من سجد بأمر الله فقد سجد لله فكان سجوده لله إذ كان عن أمر الله (٣).

وعن «الاحتجاج» والتفسير في خبر مرّ صدره إلى أن قال عليه‌السلام : فلذلك قال الله : فاسجدوا لآدم لمّا كان مشتملا على أنوار هذه الخلايق الأفضلين ولم يكن سجودهم لآدم انّما كان آدم قبلة لهم يسجدون نحوه لله عزوجل وكان بذلك معظما له مبجلا (٤).

وفي «تحف العقول» عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام قال : إنّ السجود من الملائكة لآدم لم يكن لآدم وانّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لآدم (٥).

وفي «الاحتجاج» عن الكاظم عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام : انّ يهوديّا سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن معجزة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقابلة معجزات الأنبياء عليهم‌السلام فقال : هذا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١١ ص ١٣٩ ـ ١٤٠ عن العيون ص ١٤٥.

(٢) البحار : ج ١١ ص ١٣٩.

(٣) الاحتجاج : ص ٣١.

(٤) البحار : ج ١١ ص ١٣٨ عن تفسير الإمام عليه‌السلام.

(٥) تحف العقول : ص ٤٧٨.

٢٤٥

آدم عليه‌السلام أسجد الله له ملائكته فهل فعل بمحمّد شيئا من هذا؟ فقال عليّ عليه‌السلام : لقد كان ذلك ، ولكن اسجد الله لآدم ملائكته ، وسجودهم لم يكن سجود طاعة وأنّهم عبدوا آدم من دون الله ، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطي ما هو أفضل من هذا انّ الله جلّ وعلا صلّى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها (١) ، الخبر.

وفي تفسير الامام عليه‌السلام قال : ولمّا امتحن الحسين عليه‌السلام ومن معه بالعسكر الّذي قتلوه وحملوا رأسه ، قال لعسكره : أنتم في حلّ من بيعتي فالحقوا بعشائركم ومواليكم ، وقال لأهل بيته : قد جعلتكم في حلّ من مفارقتي فإنكم لا تطيقونهم لتضاعف أعدادهم وقواهم ، وما المقصود غيري فدعوني والقوم فانّ الله عزوجل يعينني ولا يخلّيني من حسن نظره كعاداته في أسلافنا الطيّبين ، فامّا عسكره ففارقوه ، وامّا أهله الأدنون من أقربائه فأبوا وقالوا : لا نفارقك ويحزننا ما يحزنك ، ويصيبنا ما يصيبك ، وإنّا أقرب ما نكون إلى الله إذا كنّا معك ، فقال لهم : فإن كنتم قد وطّنتم أنفسكم على ما وطّنت نفسي عليه ، فاعلموا أنّ الله إنّما يهب المنازل الشريفة لعباده باحتمال المكاره ، وانّ الله وان كان خصّني مع من مضى من اهلي الّذين أنا آخرهم بقاء في الدنيا من الكرامات بما يسهل عليّ معها احتمال المكروهات ، فانّ لكم شطر ذلك من كرامات الله تعالى ، واعلموا أنّ الدنيا حلوها ومرّها حلم ، والانتباه في الآخرة ، والفائز من فاز فيها ، والشقي من شقي فيها ، أولا أحدّثكم باوّل أمرنا وأمركم معاشر أوليائنا ومحبّينا والمتعصّبين لنا ليسهل عليكم احتمال ما أنتم له

__________________

(١) الاحتجاج : ص ١١١.

٢٤٦

مقرون معرّضون؟ قالوا : بلى يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : إنّ الله تعالى لمّا خلق آدم وسوّاه وعلّمه أسماء كلّ شيء ، وعرضهم على الملائكة جعل محمّدا وعليّا وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام أشباحا خمسة في ظهر آدم ، وكانت أنوارهم تضيء في الآفاق من السموات والحجب والجنان والكرسي والعرش ، فأمر الله الملائكة بالسّجدة لآدم تعظيما له ، إنّه قد فضّله بأن جعله وعاء لتلك الأشباح الّتي قد عمّ أنوارها في الآفاق ، فسجدوا إلّا إبليس أبى أن يتواضع لجلال عظمة الله ، وأن يتواضع لأنوارنا أهل البيت عليهم‌السلام وقد تواضعت لها الملائكة كلّها ، فاستكبر وترفّع وكان بإبائه ذلك وتكبّره من الكافرين.

ثمّ قال : قال عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما : حدّثني أبي عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال : يا عباد الله إنّ آدم لمّا رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره ، رأى النّور ولم يتبين الأشباح ، فقال يا ربّ ما هذه الأنوار؟ قال الله عزوجل : أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ، ولذا أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح فقال يا ربّ لو بيّنتها لي؟ فقال الله تعالى : أنظر يا آدم إلى ذروة العرش ، فنظر آدم عليه‌السلام ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش ، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصّافية ، فرأى أشباحنا ، فقال : ما هذه الأشباح يا ربّ؟ فقال الله : يا آدم هذه الأشباح أفضل خلائقي وبريّاتي : هذا محمّد وأنا الحميد المحمود في أفعالي ، شققت له اسما من اسمي ، وهذا عليّ وأنا العليّ العظيم شققت له اسما من اسمي ، وهذه فاطمة وأنا فاطر السموات والأرضين ، فاطم أعدائي عن

٢٤٧

رحمتي يوم فصل قضائي ، وفاطم أوليائي عمّا يعتريهم ويشينهم ، فشققت لها اسما من اسمي ، وهذا الحسن وهذا الحسين ، وانا المحسن المجمل شققت لهما اسما من اسمي ، هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريّتي ، بهم آخذ ، وبهم أعطي ، وبهم أعاقب وبهم أثيب فتوسّل إليّ بهم يا آدم ، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعائك ، فانّي آليت على نفسي قسما حتما (١) لا أخيّب بهم آملا ولا أردّ بهم سائلا ، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة ودعا الله عزوجل بهم فتاب عليه وغفر له (٢).

وقد ظهر من جميع ما مرّ ان سجود آدم كان تكريما له وتعظيما للأنوار المستودعة في صلبه ، وعبوديّة له سبحانه حيث كان ذلك امتثالا لأمره ، ولو لم يكن هناك أمر لم يكن لاحد من الملائكة ولا غيرهم احياء وأمواتا إلّا بصدور الأمر الخاص بالنسبة إليه.

ويدلّ عليه مضافا إلى ما مرّ ما رواه الصفار في البصائر بالإسناد عن الصّادق عليه‌السلام قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوما قاعدا في أصحابه إذ مرّ به بعير فجاء حتّى ضرب بجرانه (٣) الأرض ورغا (٤) فقال رجل : يا رسول الله أسجد لك هذا البعير فنحن احقّ أن نفعل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا بل اسجدوا الله ثمّ قال : لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (٥).

__________________

(١) في البحار : حقا.

(٢) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١٤٩ ـ ١٥١ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٣) الجران بكسر الجيم وتخفيف الرّاء : مقدّم عنق البعير أو الفرس.

(٤) رغا : أي صوّت.

(٥) البحار : ج ٢٧ ص ٢٦٥ عن البصائر ص ١٠٢.

٢٤٨

وفي خبر آخر بعد قوله : بل اسجدوا لله قال صلى‌الله‌عليه‌وآله انّ هذا الجمل يشكو أربابه ثمّ ذكر قصّة الجمل الخبر.

وفي الخرائج : إنّ اعرابيّا جاء إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال هل من آية فيما تدعوا إليه؟ فقال : نعم ايت هذه الشجرة فقل لها : يدعوك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : فمالت عن يمينها وشمالها وبين يديها فقطعت عروقها ، ثمّ جاءت تخدّ الأرض حتّى وقفت بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : فمرها فلترجع إلى منبتها ، فقال الأعرابي : ائذن لي أن أسجد لك ، فقال عليه‌السلام : لو أمرت أحدا أن يسجد لاحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، قال : فائذن لي أن أقبّل بين يديك فأذن له (١).

وفيه وفي «المناقب» عن انس أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله دخل حائطا للأنصار وفيه غنم فسجدت له ، فقال أبو بكر : نحن أحقّ لك بالسجود من هذا الغنم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّه لا ينبغي أن يسجد أحد لاحد ، ولو جاز ذلك لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (٢).

وقد مرّ في خبر العسكري انّه لا ينبغي لاحد أن يسجد لاحد من دون الله يخضع له كخضوعه لله ويعظمه بالسجود كتعظيمه لله تعالى ولو أمرت أحدا أن يسجد هكذا لغير الله لأمرت ضعفاء شيعتنا وسائر المكلفين من متبعينا أن يسجدوا لمن توسط في علوم عليّ وصيّ رسول الله ومحض وداد خير خلق الله عليّ بعد محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وفي «الاحتجاج» عن تفسير الامام عليه‌السلام في خبر احتجاج النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل

__________________

(١) الخرائج : ص ١٨٥ وعنه البحار ج ١٧ ص ٣٧٧.

(٢) مناقب آل ابي طالب : ج ١ ص ٨٦.

(٣) تفسير البرهان : ج ١ ص ٨١ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٢٤٩

الأديان قال : ثمّ أقبل يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على مشركي العرب وقال : وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله؟ فقالوا : نتقرّب بذلك إلى الله تعالى فقال لهم : أهي سامعة مطيعة لربّها عابدة له حتّى تتقرّبوا بتعظيمها إلى الله تعالى؟ قالوا : لا قال : فأنتم الذي نحتّموها بأيديكم؟ قالوا : نعم ، قال : فلأن تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها ، إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيها يكلفّكم ، قال : فلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا اختلفوا ، فقال بعضهم : انّ الله قد حلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصّورة فصورّنا هذه الصور نعظّمها لتعظيمنا تلك الصّور الّتي حلّ فيها ربنا.

وقال آخرون منهم : إنّ هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا فمثّلنا صورهم وعبدناهم تعظيما لله.

وقال آخرون : إنّ الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود لله كنا نحن أحقّ بالسجود لآدم من الملائكة ففاتنا ذلك ، فصورّنا صورته فسجدنا لها تقرّبا إلى الله كما تقرّبت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله ، وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكّة ففعلتم ثمّ نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم ، وقصدكم في الكعبة إلى الله تعالى لا إليها.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخطأتم الطريق وضللتم امّا أنتم ـ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله يخاطب الّذين قالوا : إنّ الله يحلّ في هياكل رجال كانوا على هذه الصور الّتي حل فيها ربنا ـ فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات! أو يحلّ ربكم في شيء حتّى يحيط به ذلك الشيء؟ فايّ فرق بينه وبين سائر ما يحلّ فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه

٢٥٠

وخشونته وثقله وخفته ، ولم صار هذا المحلول فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما؟!

وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال ، وهو عزوجل كان لم يزل ، وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال.

إلى أن قال : ثمّ اقبل صلى‌الله‌عليه‌وآله على الفريق الثّاني فقال : أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم لها وصلّيتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الّذي أبقيتم لربّ العالمين؟! أما علمتم أنّ من حقّ من يجب تعظيمه وعبادته أن لا يساوي به عبده؟

أرايتم ملكا عظيما إذا سوّيتموه بعبده في التعظيم والخشوع والخضوع أفيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير؟ فقالوا : نعم.

قال : أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظّمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين تزرون على ربّ العالمين؟! قال : فسكت القوم بعد أن قالوا : سننظر في أمرنا.

ثمّ قال رسول الله للفريق الثالث : لقد ضربتم لنا مثلا وشبّهتمونا بأنفسكم ولا سواء ، ذلك أنّا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا ، وننزجر فيما زجرنا ، ونعبده من حيث يريد منا ، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ، ولم نتعدّ إلى غيره ممّا لم يأمرنا ولم يأذن لنا ، لأنّا لا ندري لعلّه أراد منا الأوّل فهو يكره الثاني ، وقد نهانا أن نتقدّم بين يديه فلمّا أمرنا بالتّوجه إلى الكعبة أطعناه ثمّ أمرنا بعبادته بالتّوجه نحوها في سائر البلدان الّتي نكون بها فأطعناه ، فلم نخرج في شيء من ذلك من اتّباع أمره ، والله عزوجل حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته الّتي

٢٥١

هي غيره فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه لأنكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به.

ثمّ قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوما بعينه الكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير امره ، او لكم أن تدخلوا دارا أخرى مثلها بغير امره؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه او عبدا من عبيده او دابّة من دوابه الكم أن تأخذوا ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله؟ قالوا لا لأنّه لم يأذن لنا في الثاني كما اذن في الأوّل ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : فاخبروني آلله تعالى اولى بان لا يتقدّم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين؟ قالوا بل الله أولى بان لا يتصرّف في ملكه بغير اذنه ، قال : فلم فعلتم ومتى أمركم أن تسجدوا لهذه الصّور؟ قال : فقال القوم سننظر في أمرنا ثمّ سكتوا (١) ، الخبر.

الوجوه المحتملة في «خلق الله آدم على صورته»

أقول : ولعلّ من مثل هذه الأوهام الّتي سمعتها من المشركين سرى الوهم والزيغ إلى قلوب المشبّهين فأوّلوا النبوي المشهور بين الفريقين «انّ الله تعالى خلق آدم على صورته» (٢).

على ما يوافق مرامهم ويطابق كلامهم ، بل قد تمسّك بظاهره فرق من أصحاب الأخدود كالحلوليّة والاتّحادية والقائلين بوحدة الوجود مع انّ المروي من

__________________

(١) الاحتجاج : ص ٢٦ ـ ٢٨.

(٢) عوالي اللئالي : ج ١ ص ٥٣ رقم الحديث ٧٨.

٢٥٢

طرق الفريقين في تتمّة الخبر ما يسقط معه الاستدلال على مثل هذه الأوهام.

ففي «التوحيد» و «الاحتجاج» و «العيون» عن الحسين بن خالد قال : قلت: للرّضا عليه‌السلام : يا ابن رسول الله انّ النّاس يروون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إنّ الله خلق آدم على صورته فقال : قاتلهم الله لقد حذفوا أوّل الحديث إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ برجلين يتسابّان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبح الله وجهك ووجه من شبيهك فقال عليه‌السلام : يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك ، فانّ الله عزوجل خلق آدم على صورته (١).

وروته العامّة عن الزهري عن الحسن (٢) ، مع انّه قد يقال إنّ في الخبر وجوها أخر أيضا مثل ما قيل : من انّ الضمير راجع إلى آدم عليه‌السلام دون الله تعالى فيكون المعنى انّه خلقه على الصورة الّتي قبض عليها ، فانّ حاله لم يتغيّر في الصورة بلا زيادة ولا نقصان ، او إلى الله سبحانه ويكون المعنى انّه خلقه على الصورة الّتي اختارها واجتباها ، لأنّ الشيء قد يضاف على هذا الوجه إلى مختاره ومصطفاه أو انّ المراد بالصورة الصفة من كونه سميعا بصيرا متكلّما قابلا للاتّصاف بصفاته الجماليّة والجلاليّة ، او انّ المعنى أنّه سبحانه أنشأه على هذه الصورة الّتي شوهد عليها على سبيل الابتداع والاختراع وانّه لم ينقل إليها من صورة اخرى كما جرت العادة في البشر من كونه نطفة وعلقة ومضغة وغيرها من الأطوار الطّارئة عليه خلقا من بعد خلق ، او انّه خلق آدم وخلق صورته لينتفي بذلك الشك في أنّ تأليفه من فعل غيره لأنّ التأليف من جنس مقدور البشر وانّ خلق الجواهر هو الذي ينفرد

__________________

(١) الاحتجاج ص ٤١٠.

(٢) البحار ج ٤ ص ١٤ عن تنزيه الأنبياء للسيّد المرتضى.

٢٥٣

القديم تعالى بالقدرة عليه فكأنّه عليه‌السلام اخبر عن هذه الفائدة الجليلة وهو ان جوهر آدم وتأليفه كلّها من فعله سبحانه ، إلى غير ذلك من الوجوه الّتي لا ينبغي حمل الخبر عليها بعد استفاضة الاخبار من طرق الفريقين على خروجه على سبب خاص مذكور كما سمعت.

نعم قد روى الصدوق رحمه‌الله بالإسناد إلى محمّد بن مسلم قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عمّا يروون انّ الله تعالى خلق آدم على صورته فقال عليه‌السلام : هي صورة محدثة مخلوقة اصطفاها الله واختارها على سائر الصفة المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه وقال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (١) ، وفيه دلالة على تشريف هذه الصورة (٢).

وربما يقال : إنّه قد روى إنّ ملائكة التصوير إذا أرادوا تصوير النطفة ذكرا او أنثى فيقولون : يا ربّ على أيّ صورة نصوّره ، فان كان ذكرا قال سبحانه : أحضروا صور آبائه إلى آدم وصوّروه مثل واحدة منها ، وإن كان أنثى قال أحضروا صور أمّهاتها إلى حوّاء وصوّروها على مثل صورة واحدة منها ، ومن ثمّ قال عليه‌السلام : لا ينبغي لاحد أن يطعن في نسب ولده لأجل انّه لا يشبهه في الصورة فلعلّه إنّما صوّر مثل واحد من آبائه وهذا في غير أبينا آدم ، وامّا هو فليس فيه آباء ولا أمّهات حتّى يصوّر مثل واحدة منها بل خلق على تلك الصورة الّتي خلق عليها ، فقد تحصّل من جميع ما مرّ وجوه ثمانية في الخبر.

__________________

(١) الحجر : ٢٩ وص : ٧٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤ ص ١٣ ح ١٥ عن التوحيد للصدوق.

٢٥٤

واعلم أنّه قد استفيد من تضاعيف الأخبار المتقدّمة وغيرها أنّ السجود من العبادات المختصة به سبحانه لا ينبغي إشراك غيره معه فيه ، فما يفعله بعض الزائرين للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله او الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ينبغي منعهم والإنكار عليهم ، لأنّ الله تعالى يحبّ أن يعبد من حيث شاء وأراد وأمر ، ولم يرد الأمر بهذا النحو من التعظيم لغيره سبحانه ولو للأنبياء والأولياء.

واما ما يتخيّل من انّ السجود لهم عليهم‌السلام على أبوابهم وأعقابهم زيادة في تعظيم الله وعبادته ، باعتبار انّ وقوعه منه إليه إنّما هو لقدره وشرفه ورتبته عند الله تعالى ، فالسجود له حينئذ زيادة في تعظيم الله وتعظيم شعائره ففيه أنّه استحسان وهمي لا ينبغي الاعتماد عليه في الأمور التوقيفيّة الشرعيّة ، وقد استدلّ بمثله المشركون وأجاب عنهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بما لا مزيد عليه في خبر الاحتجاج والتفسير مضافا إلى ورود النّهي عنه في غير واحد من الأخبار الّتي مرّ شطر منها بل وعليه يحمل النهى في الصحيح المروي في العلل عن ابي جعفر عليه‌السلام قال صلّ بين خلال القبور ، ولا تتّخذ شيئا منها قبلة فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن ذلك وقال : لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدا فانّ الله عزوجل لعن الّذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد (١).

ثمّ انّ ظاهر الجمع المحلى في المقام كون المأمورين جميع الملائكة العلويّة والسفليّة حتّى جبرئيل وميكائيل وغيرهما من المقرّبين ، ويؤيّده قوله في موضع آخر (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٢) بل في فضائل الشيعة للصّدوق عن

__________________

(١) الفقيه : ج ١ ص ١٢٤.

(٢) سورة ص : ٧٣.

٢٥٥

النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (١) انا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين كنّا في سرادق العرش نسبّح الله وتسبّح الملائكة بتسبيحنا قبل أن خلق الله آدم بألفي عام ، فلمّا خلق الله عزوجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ، ولم يأمرنا بالسجود ، فسجدت الملائكة كلّهم إلّا إبليس فانّه أبى أن يسجد ، فقال الله تبارك وتعالى : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) اي من هؤلاء الخمس المكتوب أسماؤهم في سرادق العرش (٢).

فان فيه زيادة تأكيد في ارادة جميع الإفراد وفي خبر المعراج المرويّ في التفسير والاحتجاج : انّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجبرئيل : تقدّم يا جبرئيل فقال له : إنّا لا نتقدّم على الأدميّين منذ أمرنا بالسجود لآدم عليه‌السلام (٣).

إلى غير ذلك من ظواهر الاخبار الكثيرة الّتي هي الحجّة ، ومع ذلك كلّه فلا ينبغي الإصغاء إلى ما ينسب إلى الحكماء من حمل الملائكة في الآية على القوى الجسمانيّة البشريّة المطيعة للنفس الناطقة نظرا إلى أنّه يستحيل أن تكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة ، إذ هو كما ترى مبنيّ على ما استحسنوه بالأوهام الضعيفة والخيالات الواهية.

ثمّ انّ المشهور كسر التّاء في قوله (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) ، وعن أبي جعفر (٤)

__________________

(١) ص : ٧٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ١١ ص ١٤٢ ح ٩ عن فضائل الشيعة.

(٣) علل الشرائع : ص ١٤ وعنه البحار ج ٢٦ ص ٣٣٨ ح ٣.

(٤) المراد به ابو جعفر القاري يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة كان من التابعين وإمام اهل المدينة في القراءة توفي سنة (١٣٢) ه.

٢٥٦

وحده ضمّها حيث وقع ، إمّا لاتباع ضمّة الجيم ، أو لنقل ضمّة الهمزة إليها كانّها لم تسقط ، وهما ضعيفان كأصل القراءة (فَسَجَدُوا) جميعا لآدم انقيادا لأمره سبحانه بمطلق الخضوع والتذلّل ، أو بالانحناء ووضع الجبهة كما ربما يظهر من بعض الأخبار المتقدّمة ، سيّما خبر «القصص» او على اختلاف أنحاء تذلّلاتهم الّتي لا يمثل واحد منها بالآخر لاختلاف درجاتهم وطبقاتهم ولذا قالوا : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١) ، وكان سجودهم في الأرض على ظهر الكوفة كما في تفسير العياشي عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : اوّل بقعة عبد الله عليها ظهر الكوفة لما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة (٢).

(إِلَّا إِبْلِيسَ) المبلس اي الآيس من رحمته سبحانه ، ولذا سمّي به ، والّا فكان مسمّى بالحارث ويكنّى أبا مرّة كما في المعتبرة ففي «المعاني» عن الرضا عليه‌السلام : كان اسمه الحارث سمّي إبليس لأنّه ابلس من رحمة الله (٣).

وفي «البحار» عن كتاب «غور الأمور» عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انّ اسمه الحارث وكنيته أبو مرّة ، وانّما سمّاه الله إبليس لأنّه ابلس من الخير كلّه يوم آدم عليه‌السلام (٤).

وفي «العيون» و «العلل» بالإسناد انّه سأل الشامي أمير المؤمنين عليه‌السلام عن اسم إبليس ما كان في السّماء؟ فقال : كان اسمه الحارث (٥).

__________________

(١) الصافات : ١٦٤.

(٢) تفسير العيّاشي : ج ١ ص ٣٤ وعنه البحار ج ٥ ص ٤٠.

(٣) معاني الاخبار : ص ١٣٧.

(٤) بحار الأنوار : ج ٦٠ ص ٢٢٦.

(٥) العيون : ص ١٣٤ والعلل ج ٢ ص ٢٨١.

٢٥٧

وعن ابن عباس كان اسم إبليس حين كان مع الملائكة عزازيل ثمّ صار إبليس (١) ، ويقال : إنّ اسمه كان نابل فلمّا سخط الله عليه سمّي شيطانا ، وعن بعضهم انّه كان كنية إبليس أبا كدوس.

ثمّ انّه قد ظهر ممّا مرّ أنّ إبليس عربي مشتق من الإبلاس ، قال في الصحاح : أبلس من رحمة الله أي يئس ، ومنه سمّي إبليس ، وكان اسمه عزازيل ، والإبلاس ايضا الانكسار والحزن يقال : أبلس فلان إذا سكت غمّا.

قال الراجز (٢) :

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه وأبلسا

وجعله الفيروزآبادي والراغب وغيرهما أحد الوجهين ، والوجه الآخر الّذي قد يقال بتعيّنه كونه أعجميّا سبيله سبيل إنجيل في كونه معرّبا غير مشتق ، واستدلّوا بأنّه لا ينصرف في المعرفة للتعريف والعجمة.

وأجيب بأنّه إنّما لم يصرف استثقالا له من حيث انّه اسم لا نظير له في اسماء العرب فشبّهته العرب بأسماء العجم الّتي لا تنصرف كإسحاق وأيّوب وإدريس ، ونحوها ممّا لا تنصرف مع اشتقاقها من أسحقه الله إسحاقا وآب ويؤوب ، ومن الدّرس.

قال شيخنا الطبرسي وغلطوا في جميع ذلك لأنّ هذه الألفاظ معربة وافقت الألفاظ العربيّة ، وكان أبو بكر السراج (٣) يمثّل ذلك على وجه التبعيد بمن زعم أنّ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٨٣.

(٢) هو العجّاج عبد الله بن رؤبة الشاعر المتوفي سنة (٩٠).

(٣) هو محمد بن جعفر بن احمد بن الحسين ابو بكر السراج المتوفى سنة (٥٠٠).

٢٥٨

الطير ولد الحوت.

قال رحمه‌الله : وغلطوا أيضا في أنّه لا نظير له في اسماء العرب لأنّهم يقولون : إزميل للشفرة ، وإعزيض للطّلع ، وإحريض لصبغ احمر ، ويقال هو العصفر ، وسيف إصليت ما من كثير الماء ، وثوب إضريح مشبع الصبغ ، وقالوا : هو من الصفرة خاصّة ، ومثل هذا كثير (١).

وفي المصباح : انّه لو كان عربيّا لانصرف كما تنصرف نظائره نحو : إجفيل وإخريط.

أقول : ولو تمّ ما ذكروه لتعيّن حمل الأخبار على الاشتقاق المعنوي ، والخطب سهل بعد القطع بعدم انصرافه ، واستفادة الإبلاس من لفظه.

ثمّ إنّ الاستثناء منقطع لما ستعرف من عدم كونه من الملائكة ، أو متّصل باعتبار كونه جنيّا واحدا في ألوف من الملائكة مغمورا بهم معدودا في عدادهم ، حتّى ظنّ بعض الملائكة انّه منهم فغلّبوا عليه في الخطاب حين خوطبوا وفي حكاية القصّة لنا او في الثاني خاصّة ، وامّا الخطاب التكليفي فلعلّه قد وقع على نحو آخر من دون لفظ وأصوات ولا عبارات وكلمات وانّما ألهمهم ذلك بإلهامات غيبيّة وطرق قطعيّة.

ثمّ انّ ظاهر الآية بل الآيات والاخبار المشتملة لذكر القصّة كون المتمرّد العاصي هو إبليس خاصّة لكن في النهج في خطبة يذكر فيها خلقة آدم عليه‌السلام إلى أن قال : فسجدوا إلّا إبليس وقبيله اعترتهم الحميّة ، وغلبت عليهم الشقوة ، وتعزّزوا

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٨١.

٢٥٩

بخلقة النّار ، واستوهنوا خلق الصلصال فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة واستتماما للبلية وانجازا للعدة فقال : انك من المنظرين (١) الخطبة.

حيث انّ الظاهر منها تعدّد المتمرّدين فانّ القبيل في الأصل الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتّى ، فان كانوا من أب واحد فقبيله ، ولعلّ المراد بقبيله وذرّيته الّذين رضوا بفعله ، ولذا قال عليه‌السلام : إنّما يجمع الناس السخط والّرضا (٢).

ويؤيّده قوله بعد صيغ الجمع فأعطاه الله النظرة ، وربما يحتمل ايضا أن يكون المراد به أشباهه من الجنّ في الأرض بأن يكونوا مأمورين بالسجود ايضا وعدم ذكرهم في الآية والاخبار للاكتفاء بذكر رئيسهم ، أو المراد به طائفة خلقها الله في السماء غير الملائكة ، وفيهما تكلّف ، والأوّل أولى وقال تعالى : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) (٣) فتأمّل.

(أَبى) : امتنع أن يتواضع لجلال عظمة الله وأن يتواضع لأنوار أهل البيت وقد تواضعت له الملائكة كلّها.

(وَاسْتَكْبَرَ) وترفّع استنكافا عن عبوديّته سبحانه واستصغارا لمن رفعه الله وشرّفه وخصّه دونهم بالعلم والخلافة ، فلم يخضع له ولم يتخذه وسيلة إلى التقرّب إليه سبحانه ، والإباء ترك الطاعة باختيار ، قيل : وليس الإباء بمعنى الكراهة لأنّ العرب تتمدح بانّها تأبى الضيم ولا مدح في كراهة الضّيم وانّما المدح في الامتناع

__________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١ ص ٩٧ ط مصر.

(٢) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٧٩ وفيه : إنّما يجمع الناس الرضى والسخط.

(٣) الأعراف : ٢٧.

٢٦٠