تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

العرب ، وقرأ الباقون بضمّ الماء معها بناء على أنّ الأصل في هاء الضمير أن تكون مضمومة ، وانّما تكسر إذا وليها كسرة او ياء نحو بهم ، وعليهم ، وفي خبر أسؤلة عبد الله بن سلام (١) عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال : يا محمّد أخبرني كم خلق الله نبيّا من بني آدم؟ قال : يا بن سلام خلق الله مائة ألف نبي واربعة وعشرين ألف نبيّ ، قال : صدقت يا محمّد أخبرني آدم كان نبيّا مرسلا؟ قال : نعم أفما قرأت في التوراة قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، الآية قال صدقت يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

الأقوال في نبوّة آدم حين تعلّم الأسماء

أقول وظاهر هذا الخبر انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يومئذ نبيّا مرسلا ، وهو أحد الأقوال في المسألة ، وبه قالت المعتزلة نظرا إلى أنّ ما ظهر من آدم من علمه معجزة دالّة على نبوّته لكونه خارقا للعادة ، وإذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت ، وأجيب بانّا لا نسلّم كونه خارقا لأنّ حصول العلم باللّغة لمن علّمه الله وعدم حصوله لمن لا يعلّمه الله ليس بخارق للعادة والاولى أن يقال بعد تسليم ذلك انّ اظهار الخارق إنّما يكون دليلا على النبوّة مع اقترانه بالدّعوى والتحدّي وهو غير واضح في المقام.

وثاني الأقوال كونه مرسلا إلى حوّاء خاصة يومئذ ثمّ على ولده بعد خروجه

__________________

الوليد بن عبد الملك ، مات سنة (١١٨) ه الأعلام ج ٤ ص ٢٢٨.

(١) هو عبد الله بن سلام بن الحارث الاسرايلي أبو يوسف ـ صحابي أسلم عند قدوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة وكان اسمه الحصين ، فسمّاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عبد الله مات سنة (٤٣) ه. الأعلام ج ٤ ص ٢٢٣.

(٢) البحار ج ٥٧ ص ٢٤٢.

١٤١

من الجنّة وتجددهم ، وذلك لكونهم من أفراد نوعه ولأنّهم هم المحتاجون في معاشهم وعبادتهم إلى تبليغه ، وامّا اشتراك حواء معه في الخطاب بقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (١) حيث يدلّ على تلقّيها الوحي لا بواسطته فلا يقدح في رسالته إليها لأنّ ذلك من قبيل اشتراك النّبي مع المؤمنين في الخطابات العامة كقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

وفيه بعد الغضّ عمّا في الجواب من المناقشة انّه يبقى اصل القول دعوى بلا دليل ، والنّبوي المتقدّم مع ضعفه معارض بأقوى منه سندا وعددا ودلالة على ما يأتي ، واطلاق ما دلّ على نبوّته عليه‌السلام لا ينهض حجّه على إثباتها يومئذ للانصراف.

وثالثها : القطع بأنّه عليه‌السلام لم يكن في ذلك الوقت نبيّا لقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) (٢) الدّال على أنّه تعالى إنّما اجتباه بعد الزّلة فقبل الزّلة لم يكن مجتبى فلم يكن رسولا لأنّ الاجتباء والرّسالة متلازمان ، فإنّ الاجتباء هو التّخصيص بأنواع التشريعات وكلّ من جعله الله رسولا فقد خصّه بذلك لقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٣) ولأنّه لو كان نبيّا في ذلك الزمان لكانت قد صدرت المعصية بعد النبوة ، وذلك غير جايز فوجب أن لا يكون نبيّا في ذلك الزمان ، والملازمة بيّنة بعد القول بكون تلك الزّلة من الكبائر ، ولأنّه لو كان رسولا لكان إمّا مبعوثا إلى حوّاء وهو باطل ، لأنّها عرفت التكليف لا بواسطته أو إلى غيرها من الجنّ والملائكة ، ومن البيّن أنّه ما كان في السّماء أحد من الجنّ ، وأمّا الملائكة فهم أفضل من البشر ولا

__________________

(١) البقرة : ٣٥.

(٢) طه : ١٢٢.

(٣) الانعام : ١٢٤.

١٤٢

يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف.

وهذه الوجوه بمكان من الضّعف والقصور ، وأمّا حكاية الاجتباء فلانّ المراد به على ما ذكره المفسّرون هو الحمل على التّوبة والتّوفيق له ، كما في قوله في صاحب الحوت (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١) والاجتباء يكون قبل النبوّة كما في غير الأنبياء وبعدها كما في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (٢).

وأمّا الثّاني فهو واضح الفساد بناء على ما أجمعنا عليه من عدم صدور المعصية من الأنبياء قبل النبوة وبعدها.

وامّا الثالث فقد سمعت الجواب عنه مضافا إلى أنّ البشر عندنا أفضل من الملائكة ، نعم يمكن الاستدلال لهذا القول بما رواه في «الأمالي» عن الرّضا عليه‌السلام حيث سئل عن زلّة آدم ومنافاتها لعصمته عليه‌السلام فقال عليه‌السلام : إنّ الله خلق آدم حجّة في ارضه وخليفة في بلاده ولم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله تعالى فلمّا أهبط إلى الأرض وجعل حجّة وخليفة عصم بقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣). (٤)

وفي العيون عنه عليه‌السلام في خبر يأتي في كيفيّة وسوسة إبليس وصدور الزّلة منه

__________________

(١) القلم : ٥٠.

(٢) آل عمران : ١٧٩.

(٣) آل عمران : ٣٣.

(٤) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٧٢.

١٤٣

قال عليه‌السلام : وكان ذلك من آدم قبل النبوّة ولم يكن ذلك بذنب كبير استحقّ به دخول النّار وانّما كان من الصغائر الموهوبة الّتي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلمّا اجتباه الله وجعله نبيّا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة قال الله عزوجل : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (١) وقال عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ) الآية (٢).

أقول : ويظهر من الخبرين صحّة الاستدلال بالآيتين ايضا إلّا أنّ الظاهر ورودهما مورد التقيّة لاشتمالهما على ما علم فساده من ضرورة مذهب الاماميّة من جواز ارتكاب الذّنب قبل النبوّة ، اللهمّ إلّا أن يؤوّل بترك الأولى ، أو يقال : إنّ رفع اليد عن بعض الخبر لتقيّة او غيرها لا يوجب رفع اليد عن غيره ، ولذا قال الاصوليون : انّه كالعام المخصّص حجّة فيما بقي منه بعد التخصيص.

واحتمال أنّ المراد بما في الخبرين كونه حجّة في الأرض بعد التوبة فلا ينافي كونه حجّة في السّماء أو على الملائكة قبل الهبوط ، مدفوع ، لمخالفته لظاهر الخبرين سيّما الثّاني.

وفي تفسير الامام عليه‌السلام قال الله عزوجل : يا آدم أنبئ هؤلاء الملائكة بأسمائهم اسماء الأنبياء والأئمّة قال عليه‌السلام : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) فعرفوها أخذ عليهم لهم العهد والميثاق بالإيمان بهم والتفضيل لهم على أنفسهم قال الله تبارك وتعالى عند ذلك : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، سرّهما (وَأَعْلَمُ ما

__________________

(١) طه : ١٢١ ـ ١٢٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٧٨ عن العيون.

١٤٤

تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) وما كان يعتقده إبليس من الإباء على آدم إن أمر بطاعته وإهلاكه إن سلّط عليه ، ومن اعتقادكم انّه لا احد ياتي بعدكم إلّا وأنتم أفضل منه ، بل محمّد وآله الطيّبون أفضل منكم الّذين انبأكم آدم بأسمائهم (١).

وفيه تفصيل واستحضار لقوله : (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) وتنبيه على انّه هو العالم بأسرار الملك والملكوت ممّا خفي عليهم من غيوب السموات والأرض او ظهر لهم من أحوالهم الظّاهرة والباطنة ، وقيل : ما تبدون من نسبة الإفساد والسّفك وما تكتمون من استبطانكم انكم الاحقّاء بالخلافة أو ما تبدون من الطّاعة وما تكتمون من اسرار إبليس المعصية ، ولا يقدح فيه اختصاص الخطاب بالملائكة الّذين ليس منهم إبليس لأنّه لما عمّهم التكليف جاز أن يذكر في جملتهم مع انّه كان يرى للملائكة انّه منهم ، وكان ذلك معتقد كثير من الملائكة على ما يأتي.

قال في «المجمع» : وقد رويت روايات تدلّ عليه (٢) والاولى الحمل على العموم الشامل لجميع ما مرّ وغيره حتّى ما قيل : من انّ الله تعالى لما خلق أدم مرّت به الملائكة قبل أن ينفخ فيه الرّوح ولم تكن رأت مثله فقالوا لن يخلق الله تعالى خلقا إلّا كنّا أكرم منه وأفضل.

وروى العيّاشي عن الصادق عليه‌السلام قال : لمّا أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في أنفسها : ما كنّا نظنّ انّ الله تعالى خلق خلقا أكرم عليه منّا فنحن جيرانه ، ونحن أقرب خلقه إليه فقال الله الم أقل لكم إنّي أعلم ما

__________________

(١) تفسير البرهان : ج ١ ص ٧٣.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٨٢.

١٤٥

تبدون وما تكتمون فيما أبدوا من أمر بني الجان وكتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الّذين قالوا ما قالوا بالعرش (١).

وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام انّ الملائكة منّوا على الله بعبادتهم ايّاه فأعرض عنهم وانّهم قالوا في سجودهم في أنفسهم ما كنّا نظنّ أن يخلق الله خلقا أكرم عليه منّا نحن خزّان الله وجيرانه وأقرب الخلق إليه فلمّا رفعوا رؤوسهم قال الله : وأعلم ما تبدون من ردّكم عليّ وما كنتم تكتمون من ظنكم انّي لا اخلق خلقا أكرم عليّ منكم فلما علمت الملائكة انّها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش وانّما كانت عصابة من الملائكة ولم تكن جميعهم (٢).

أسئلة وأجوبة

ثمّ انّه ربما يورد في المقام وجوه من السؤال منها : أنّ آدم على نبيّنا وآله وعليه‌السلام انّما علّم الأسماء بتعليم الله سبحانه ، والملائكة ايضا كانوا قائلين لذلك ، ولذلك أنبأهم آدم بما جهلوه من تلك الأسماء ، فهلّا علّمهم الله تعالى اوّلا ثمّ أمرهم بتعليم آدم عليه‌السلام ، والرّد إلى حكمته البالغة وان خفيت المصلحة علينا مشترك بينه وبين ما أخبرهم به أولا من خلق آدم واختصاصه بالخلافة فلم يظهر من هذا التّفصيل مصلحة اخرى غير الرّد إلى الحكمة الّذي يقتضيه الايمان بالغيب.

وتوهّم ان الملائكة لم يكونوا مستعدّين لأخذ تلك العلوم بلا واسطة بل إنّما

__________________

(١) البحار : ج ١١ ص ١٤٨ عن تفسير العياشي.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٩ ص ٢٠٥ ح ١٩.

١٤٦

علموها بواسطة آدم عليه‌السلام وهو المراد بالفضيلة مدفوع بأنّ الملائكة هم الرسل إلى الأنبياء وهم الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا فهم الوسائط في العلوم الإلهية الواصلة إلى البشر.

والجواب انّه قد مرّت الإشارة إلى أنّ هذا التعليم كان تكوينيّا مختصا بآدم دون الملائكة الّذين ليس في طبيعتهم وجبلّتهم خلط وتركيب بل هم وحدانيّة الصّفة فردانيّة القوّة لا يفعل كلّ صنف منهم إلّا فعلا واحدا وما منهم إلّا لهم مقام معلوم ، فإنّى لهم الاحاطة بجميع العوالم والعلوم ، فإنّ مثالهم مثال القوى البسيطة كالحواس حيث انّ البصر لا يزاحم السمع في مدركاته وهي الأصوات ولا السمع البصر في المرئيّات ولا هما يزاحمان الشّم ولا الذّوق ولا شيء منهما يزاحم شيئا من الأوّلين وأمّا آدم فكان صفوة العالم وقد خلقه الله تعالى من أجزاء مختلفة وقوى متباينة حتّى استعدّ بذلك لإدراك انواع المدركات من المحسوسات والمعقولات والتمييز بينها والحكم عليها بما يليق بها والتوسط في الفيوض الواصلة إليها والعبور عنها جميعا إلى مركزه الاصلي وعالمه الكلّي فصلح بذلك لتحمّل أعباء الخلافة في جميع النشآت والعوالم فجعله الله مستودعا لأنوار علمه وحكمته ومعرفته وأودع فيه أنوار النّبي محمد واهل بيته الطّاهرين وغيرهم من الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم أجمعين ، ولذا كان آدم مخصوصا بمعرفة الأسماء كلّها والملائكة لا علم لهم إلّا بما علّمهم ربّهم من خصوصيّات جهات كينوناتهم ، ثمّ ان الله سبحانه قد نبّه على ما أراد التنبيه عليه من شرف آدم وفضله عليهم بان علّمه اوّلا بلا واسطة احد منهم ثمّ أمرهم بالرّجوع إليه في اقتباس العلوم واقتناص المعارف فله الفضل عليهم من

١٤٧

حيث التقدّم في المعرفة وتعليمه لهم وكون علمه الّذي هو أشرف الفيوض الالهيّة والمنح الرّبانيّة مفاضا عليهم بلا واسطة أصلا وعلومهم متأخّرا مع الواسطة ، فنبّه بذلك على عدم تأهّلهم لأخذ تلك العلوم إلّا بواسطته عليه‌السلام ، ثمّ انّه يمكن أن يكون المراد هو التّنبيه على تفرّده بعلم الغيوب واحاطته بجهات المصالح والحكم وذلك انّه أمرهم بالاخبار عن الأسماء الّتي لا يعرفونها كي يعترفوا بالعجز ويقرّوا بقصورهم عن نيل معرفتها فينبّههم على انّهم إذا لم يعرفوا ذلك ولم يعلموا باطن ما شاهدوا فهم من أن يعلموا باطن ما غاب عنهم أبعد ، ومن أن يحيطوا علما بمصالح جعل الخليقة واسرار الخليقة أعجز.

وعلى هذا فمعظم المقصود هو التنبيه على تفرّده بعلم المصالح ، وانّه يجب على كافّة العبيد الإذعان والتسليم لأمره ، وان استفيد منه ايضا ولو على جهة الاستتباع شرافة آدم وفضله عليهم.

ومنها : انّه تعالى كيف أمر الملائكة أن يخبروا بما لا يعلمون مع انّ من شرايط التكليف القدرة على الامتثال ومن البيّن انتفاؤها في المقام.

فان قلت : إنّ الممتنع هو التكليف المنجّز لاستحالة الطلب حينئذ وقبح التكليف بما لا يطاق ، وأمّا المشروط فلا بأس به ما لم يتنجّز التكليف ، وانّما القدرة شرط التّنجيز ، وهو في المقام مشروط بكونهم صادقين فيما ادّعوه ، وحيث لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق المشروط.

قلت : لم يظهر وجه لارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط الّذي هو صدقهم ، وما المراد بهذا الصدق المنتفي في حقّهم؟ وما الّذي ادّعت الملائكة حتّى خوطبوا بهذا

١٤٨

الخطاب؟

والجواب انّ الشرط هو علمهم بما سئلوا عنه فالمراد بالصدق صدقهم فيما ادّعوه من العلم بالصّراحة او بالالتزام حسبما مرّ أو صدقهم في الخبر الّذي كلّفوا بالاخبار عنه وذلك بعلمهم بالصدق ، ولا يكون إلّا بالعلم بالمخبر عنه فكأنّه قال لهم : أخبروا بذلك إن علمتموه ومتى رجعوا إلى نفوسهم فلم يعلموا فلا تكليف عليهم ، وهذا كما يقول القائل لغيره : أخبرني بذلك ان كنت تعلمه ، أو ان كنت تعلم انّك صادق فيما تخبر به عنه ، وبالجملة فالامر مشروط بالعلم المنتفي في حقّهم فلا تكليف ، وبهذا قد ظهر المراد بالصدق وارتباط الأمر بالانباء به.

وأمّا فائدة الأمر حينئذ على وجه الاشتراط مع علمه سبحانه بانّهم لا يتمكّنون من ذلك لفقد علمهم به فالوجه فيها هو أن يكشف بإقرارهم على أنفسهم بالجهل واعترافهم بعدم تمكنهم من الاخبار بالأسماء ما أراد الله سبحانه بيانه من استتاره بعلم الغيب وانفراده بالاطّلاع على وجوه المصالح في الدّين.

وقد أجاب السيّد المرتضى رضى الله عنه عن اصل الأشكال بوجه أخر وهو انّ الأمر وان كان أمرا بصورته وظاهره إلّا أنّه ليس بأمر في الحقيقة بل المراد به التقرير والتنبيه على مكان الحجّة قال : وتلخيصه انّ الله تعالى لمّا قال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فقال لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي انّي مطلع من مصالحكم وما هو انفع لكم في دينكم على ما لا تطّلعون عليه ، ثمّ أراد التّنبيه على أنّه لا يمتنع ان يكون غير الملائكة مع انّها تسبّح وتقدّس وتطيع ولا تعصي أولى

١٤٩

بالاستخلاف في الأرض ، وان كان في ذرّيته من يفسد فيها ويسفك الدّماء ، فعلّم آدم عليه‌السلام اسماء جميع الأجناس أو أكثرها وقيل : اسماء النّبي محمّد والأئمّة من ولده صلى الله عليهم أجمعين وفيه أحاديث مرويّة ، ثمّ قال للملائكة : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) مقرّرا لهم ومنبّها على ما ذكرناه ودالا على اختصاص آدم بما لم يخصّوا به ، فلمّا أجابوه بالاعتراف والتسليم إليه علم الغيب الّذي لا يعلمونه فقال تعالى لهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) منبّها على أنّه تعالى هو المنفرد بعلم المصالح في الدّين ، وانّ الواجب على كلّ مكلّف أن يسلّم لأمره ، ويعلم أنّه لا يختار لعباده إلّا ما هو الأصلح لهم في دينهم علموا وجه ذلك أم جهلوه ، قال : وعلى هذا الجواب يكون قوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) محمولا على كونهم صادقين في العلم بوجه المصلحة في نصب الخليفة أو في ظنّهم انّهم يقومون بما يقوم به هذا الخليفة ويكلون له فلو لا أنّ الأمر على ما ذكرناه وأن القول لا يقتضي التكليف لم يكن لقوله تعالى بعد اعترافهم وإقرارهم : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) معنى لأنّ التكليف الأوّل لا يتغيّر عن حاله بان يخبرهم آدم عليه‌السلام بالأسماء ولا يكون قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر الآية إلّا مطابقا لما ذكرناه من المعنى دون معنى التكليف فكأنّه قال إذا كنتم لا تعلمون هذه الأسماء فأنتم عن علم الغيب أعجز وبأن تسلّموا الأمر لمن يعلمه ويدبّر أمركم بحسبه اولى (١).

__________________

(١) الأمالى للسيّد المرتضى : ج ٢ ص ٦٩ ـ ٧٠.

١٥٠

أقول : ومرجعه إلى كون الأمر امتحانيا محضا غير مشتمل على التكليف أصلا ولو في صورة الاشتراط ، والفرق واضح بينه وبين الأمر المشروط ولو مع علم الآمر والمأمور بانتفاء الشرط وذلك لأن مطلوبيّة الفعل ومحبوبيّته حاصل في الأمر المشروط على فرض حصول الشرط ، وان كان عالما بانتفائه بخلاف الأمر التوطيني الّذي هو بمجرّد الامتحان او غيره من المصالح الخارجة الّتي لا تعلّق لها بالمأمور به ، بل المقصود حاصل بنفس الأمر.

فان قلت : إنّه لا سبيل في المقام إلى شيء من الوجهين لعلم كلّ من الآمر والمأمور بانتفاء الشرط بالنّسبة إلى جميع المكلّفين في جميع أزمنة الامتثال فيلغوا الاشتراط وينتفي فائدة الامتحان والابتلاء على أنّ السيّد رضى الله عنه وان جوّز الوجهين في المقام إلّا أنّ مذهبه في الأصول على خلاف ذلك فانّه قد صرّح بانّ الشروط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها ، فأمّا العالم بالعواقب وبأحوال المكلّف فلا يجوز أن يأمره بشرط إلى أخر ما ذكره رحمه‌الله فكيف التوفيق.

قلت : التّحقيق على ما قرّر في محلّه هو جواز الأمر المشروط مع علم الآمر والمأمور بانتفاء الشرط إذا كان هناك فائدة للتّعليق ، ولا وجه للقول بعدم الجواز حينئذ ، إذ قصارى ما يستدلّ به لذلك بعد وضوح عدم كونه تكليفا بالمحال لقضيّة الاشتراط وانتفاء الموضوع أنّ فعله عبث قبيح فيستحيل صدوره من الحكيم ، إذ المفروض اتّحاد الأحوال وعدم حصول القدرة على الشرط وعلم المأمور بذلك فلا يتأتّى منه التّوطين والعزم على الفعل مضافا إلى أنّ الأمر المشروط لا بدّ فيه من اعتبار الطّلب وتعلّقه بالفعل ولو معلّقا على الشرط وهو محال على الحكيم العالم

١٥١

بالحال ، ضرورة انّ طلب المحال محال والجواب :

أنّ مدار الجواز على حصول الفائدة الّتي بها يخرج الفعل عن العبث ، ومن البيّن انّ الفائدة غير منحصرة في التوطين ، بل ربما يكون المقصود اقرار المخاطب بالعجز والقصور كما في المقام ، وهو غرض صحيح يتعلّق به أمور مقصودة ، ومن هنا يتّجه ان يقال إنّه وان نسب إلى أصحابنا القول بعدم جواز التعليق من العالم بالنسبة إلى العالم إلّا أنّ كلامهم مقصور على ما انتفت فيه الفائدة كما ينادى به دليلهم ، وامّا مع تحقّقها فمذهبهم فيه هو الجواز ، فالنّزاع معهم صغروي في وجود الفائدة وعدمها لا كبروي في الجواز على فرضها ، وعليه ينزل كلام السيّد أيضا في المسألة الأصوليّة فيرتفع التنافي بين الكلامين على أنّ كلامه في المقام لبيان الجواب عن الأشكال ولو على مذاق غيره ، وقد ظهر ممّا قرّرناه جواز تعلّق الأمر على كلّ من الوجهين بلا فرق بين تعلّق القصد على وجه التّعليق وعدمه ، بل قد سمعت فيما مرّ انّه يحتمل أن يكون الأمر مطلقا بسبب تحقّق الشّرط وهو صدقهم فيما نسبوه إلى ذرّيّة آدم أو أضافوه إلى أنفسهم على ما مرّت الإشارة إليها.

ونزيد في المقام وجها ثالثا وهو : أن يكون الشرط صدقهم في الخبر اي علمهم بما يخبرون عنه على ما حقّقناه سابقا فيكون الحاصل تنجّز التكليف بالاخبار بشرط القدرة الّتي إليها مرجع العلم أيضا ، ومن البيّن انّه مقدور لهم بواسطة التّعلّم من آدم والرّجوع إليه ، ولذا أمر سبحانه آدم بتعليمهم تحقيقا للاستطاعة وازاحة للعلّة وابانة للفضيلة ، وهذا جواب أخر عن اصل الأشكال والله أعلم بحقيقة الحال.

١٥٢

ومنها ما أورده السيّد رضى الله قال : ولم نجد أحدا ممّن تكلّم في تفسير القرآن ولا في متشابهه ومشكله تعرّض له وهو من مهم ما يسأل عنه ، وذلك أن يقال من اين علمت الملائكة لما خبّرها آدم عليه‌السلام بتلك الأسماء صحة قوله ومطابقة الأسماء للمسمّيات ، وهي لم تكن عالمة بذلك من قبل ، إذ لو كانت الملائكة عالمة بالأسماء لأخبرت بالأسماء ولم تعترف بفقد العلم ، والكلام يقتضي انّهم لما أنبأهم آدم بالأسماء علموا صحّتها ومطابقتها للمسمّيات ولو لا ذلك لم يكن لقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معنى ولا كانوا مستفيدين بذلك نبوته وتميزه واختصاصه بما ليس لهم إذ كلّ ذلك إنّما يتمّ مع العلم دون غيره ثمّ أجاب عنه : بأنّه غير ممتنع من أن تكون الملائكة في الأوّل غير عارفين بتلك الأسماء فلمّا أنبأهم آدم عليه‌السلام بها فعل الله تعالى لهم في الحال العلم الضّروري بصحّتها ومطابقتها للمسمّيات إمّا عن طريق أو ابتداء بلا طريق ، فعلموا بذلك تميزه واختصاصه وليس لأحد أن يقول : انّ ذلك يؤدّي إلى أنّهم علموا نبوّته اضطرارا ، وفي هذا منافاة طريقة التكليف وذلك انّه ليس في علمهم بصحّة ما أخبر به ضرورة ممّا يقتضي العلم بالنّبوة ضرورة ، بل بعده درجات ومراتب لا بّد من الاستدلال عليها ، ويجري هذا مجرى ان يخبر أحدنا نبي ، بما فعل على سبيل التفصيل على وجه يخرق العادة ، وهو وان كان عالما بصدق خبره ضرورة لا بدّ له من الاستدلال فيما بعد على نبوّته ، لأنّ علمه بصدق خبره ليس هو العلم بنبوّته لكنّه طريق يوصل إليها على ترتيب.

ووجه آخر وهو انّه لا يمتنع أن تكون للملائكة لغات مختلفة فكلّ قبيل منهم

١٥٣

يعرف اسماء الأجناس في لغة دون لغة غيره ، الّا انّه يكون احاطة عالم واحد لأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة ، فلمّا أراد الله تعالى التنبيه على نبوّة آدم عليه‌السلام علّمه جميع تلك الأسماء فلمّا أخبرهم بها علم كلّ فريق مطابقة ما خبر به من الأسماء للغته ، وهذا لا يحتاج فيه إلى الرّجوع إلى غيره وعلم مطابقة ذلك لباقي اللّغات لخبر كلّ قبيل إذا كانوا كثيرة وخبروا بشيء يجري هذا المجرى علم بخبرهم ، فإذا أخبر كلّ قبيل صاحبه علم من ذلك في لغة غيره ما علمه في لغته.

وهذا الجواب يقتضي أن يكون قوله انبئوني بأسماء هؤلاء اي ليخبرني كلّ قبيل منكم بجميع هذه الأسماء.

وهذان الجوابان جميعا مبنيّان على أنّ آدم عليه‌السلام لم يتقدّم لهم العلم بنبوّته وانّ اخباره بالأسماء كان افتتاح معجزاته ، لأنّه لو كان نبيّا قبل ذلك وكانوا قد علموا تقدّم ظهور معجزات على يده لم يحتج إلى هذين الجوابين لأنّهم يعلمون إذا كانت الحال هذه مطابقة الأسماء للمسمّيات بعد أن يعلموا ذلك بقوله الّذي قد أمنوا به فيه غير الصّدق (١).

أقول ولعلّ الأولى من جميع ذلك هو العلم بصدقه بتصديق الله سبحانه له فيما أخبر به حيث قرّر ذلك بقوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ومنها أنّه ما الفائدة في سبق الأعلام بخلق أدم وتسميته خليفة؟

والجواب انّه نوع إبتلاء للملائكة وتمهيد لتمييز إبليس من جملتهم ، ليتبين

__________________

(١) أمالي السيّد المرتضى ج ٢ ص ٧٥ ـ ٧٦.

١٥٤

بذلك من يقصد الطاعة كالملائكة ممّن يضمر العداوة له والمخالفة لأمره سبحانه ، كإبليس على ما يأتي تمام الكلام فيه نقلا عن الصدوق (١).

مضافا إلى ما فيه من إظهار شرف آدم والتّمهيد لبيان فضله على الملائكة ، حيث إنّه تعالى نوّه باسمه وبشّر ملائكته بخلافته قبل أن يخلقه بسبعمائة عام على ما رواه الصّدوق في «الإكمال» وفيه أيضا صيانة للملائكة عن اعتراض الشبهة عليهم في وقت استخلاف آدم والحجج من ذرّيته عليهم.

وأمّا ما يقال من انّ الغرض تعليم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها فهو بمكان من الوهن والسقوط ، وكأنّهم أرادوا أن يستأنسوا بمثله لما وقع من الثّاني من الشورى في أمر الخلافة وهو كما ترى.

بقي الكلام في امور يستفاد من الآيات المتقدّمة ينبغي التنبيه عليها في فصول :

فضل الأنبياء على الملائكة

الفصل الأوّل : يستفاد من هذه الآيات وغيرها تفضيل الأنبياء على الملائكة وقد طال التشاجر في هذه المسألة بين المسلمين ، فالّذي عليه الإماميّة هو أنّ الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام أفضل من جميع الملائكة العلويّة والسّفلية ، ووافقهم عليه اكثر الاشاعرة واصحاب الحديث ، وربما يقال إنّ الخلاف في فضلهم على الملائكة العلويّة ، وأمّا السّفلية فالأنبياء أفضل منهم بالاتّفاق كما أنّ عامة البشر من المؤمنين

__________________

(١) إكمال الدين : ج ١ ص ١١.

١٥٥

أيضا أفضل من عامة الملائكة عندهم ، والمحكي عن المعتزلة والفلاسفة وبعض الاشاعرة تفضيل الملائكة ، ثمّ انّهم ربما عنونوا البحث بتفضيل البشر على الملائكة أو العكس ، وليس المراد بتفضيل كلّ فرد من أحدهما على جميع افراد الاخر ، ولا التّطبيق بين افراد النوعين بتفضيل كلّ فرد على ما يقابله ، بل المراد تفضيل الأنبياء والأئمّة على الملائكة او تفضيل المعصومين من البشر ، فيدخل فاطمة عليها‌السلام وسائر الأوصياء أيضا على جميع الملائكة ، وان كانوا كلّهم معصومين من الصّغائر والكبائر على ما أشرنا إليه ، او تفضيل الجنس ولو باعتبار النوع الأشرف على الجنس ، فلا ينافي ذلك تفضيل بعض الملائكة او كلّهم على بعض المؤمنين بل على الفسّاق والكفّار ، ثمّ المراد بالأفضل الأكثر ثوابا والأرفع درجة ، والأقرب إلى الله تعالى منزلة الأكمل باعتبار العلم والعمل وسائر الكمالات.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحقّ ما ذهب إليه الاماميّة لوجوه ، الأوّل : الإجماع القطعي الكاشف عن قول الإمام عليه‌السلام ورضاه حيث انّ الطّائفة المحقّة كانوا قديما وحديثا متّفقين على تفضيل الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام على الملائكة من دون نكير منهم في ذلك ، حتّى انّهم كانوا معروفين بهذا المذهب يعرفه منهم المخالفون لهم في المذهب كما يعرفون منهم القول بحلّية المتعة ، ووجوب المسح على الرّجلين ونفي العول والتّعصيب ، فلا يبعد دعوى ضرورة المذهب عليه بل هو كذلك.

ولذا قال شيخنا الصدوق في «العقائد» : اعتقادنا في الأنبياء والحجج والرّسل عليهم‌السلام أنّهم أفضل من الملائكة (١) وقال المفيد : اتّفقت الاماميّة على أنّ أنبياء

__________________

(١) البحار ج ٥٧ ص ٢٨٦.

١٥٦

الله ورسله من البشر أفضل من الملائكة ووافقهم على ذلك اصحاب الحديث وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك ، وزعم الجمهور منهم انّ الملائكة أفضل من الأنبياء والرسل وقال نفر منهم سوى من ذكرناه بالوقف في تفضيل أحد الفريقين على الاخر (١) إلى آخر ما ذكره رحمه‌الله.

وقال السيّد المرتضى رضى الله عنه : المعتمد في القطع على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة على اجماع الشيعة الاماميّة على ذلك لأنّهم لا يختلفون في هذا بل يزيدون عليه ويذهبون إلى أنّ الأئمّة أفضل من الملائكة أجمعين وإجماعهم حجّة لأنّ المعصوم في جملتهم وقد بيّنا في مواضع من كتبنا كيفيّة الاستدلال بهذه الطّريقة ورتّبناه وأجبنا عن كلّ سؤال يسأل عنه فيها وبيّنا كيف الطريق مع غيبة الامام إلى العلم بمذاهبه وأقواله وشرحنا ذلك فلا معنى للتّشاغل به هاهنا (٢).

وممّن ادّعى عليه اتّفاق الاماميّة العلّامة الحليّ في «أنوار الملكوت» (٣) والعلامة المجلسي في مواضع من البحار والرازي (٤) والدّواني وغيرهم من علماء الفريقين فلا ينبغي التّامل في تحقّق الإجماع عليه.

الثّاني : الآيات الكثيرة الدّالة عليه بظواهرها الّتي هي الحجّة حتّى في غير الفروع العلميّة الّذي لا يجري فيه دليل الانسداد على بعض الوجوه ، وذلك لما حقّقناه في المقدّمات من حجّية ظواهر الكتاب وهي كثيرة.

__________________

(١) البحار ج ٥٧ ص ٢٨٥ عن عقائد الصدوق.

(٢) البحار : ج ٥٧ ص ٢٨٧ ـ عن الغرر والدرر للسيّد المرتضى ج ٢ ص ٣٣٣.

(٣) البحار ج ٥٧ ص ٢٨٦ عن أنوار الملكوت.

(٤) مفاتيح الغيب للرازى ج ٢ ص ٢١٥.

١٥٧

منها : قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، القصّة بتمامها الدّالة عليه بوجوه من الدّلالة حيث انّه سبحانه جعل آدم خليفة له ، والمراد منه خلافة الولاية في التبليغ او في التكوين ، او في وجوب الطاعة والانقياد كما يومي إليه قصّة داود وهارون وغيرهما ، ومن البيّن أنّ أعظم النّاس منصبا عند الملك من كان قائما مقامه ، في كلّ من التبليغ والولاية والتصرف ووجوب الطّاعة حتّى سمّاه خليفة له ، ثمّ انّه تعالى نبّه على فضله وشرفه بتعليمه الأسماء وتخصيصه بعلمها دونهم ، وجعله معلّما للملائكة فكان عنده من العلوم الفاضلة ما لم يكن عندهم وقد قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (١) ، و (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ، ثمّ انّه تعالى أمرهم بالسجود لآدم تكريما وتعظيما له ، ومن البيّن انّ السجود نهاية التّواضع وتكليف الأشرف الأفضل بنهاية التّواضع للأدون مستقبح عقلا.

فان قلت : إنّ قضيّة خلافته كونه أشرف من كلّ من في الأرض ، وأين هذا من الّدلالة على فضله على جميع الملائكة حتّى من في السموات؟

وأمّا علمه بالأسماء فهو وان كان عالما بها وهم لم يعلموها لكن لعلّهم كانوا عالمين بعلوم اخرى لم يكن آدم عالما بها.

وامّا الأمر بالسجود فلعلّ آدم قبلة لهم في عبادتهم له سبحانه على أنّ الحكمة قد تقتضي تواضع الأشرف للشريف لبعض المصالح الّتي من جملتها

__________________

(١) المجادلة : ١١.

(٢) الزمر : ٩.

١٥٨

الامتحان وكسر سورة العجب والأنانيّة ، واظهار نهاية الطّاعة وغيرها.

قلت : قضية عموم الجمع المحلّى شمول الملائكة للجميع وظاهر اطلاق الخلافة كونها بالنّسبة إليهم جميعا ، ولو بمعونة ما مرّت إليه الإشارة وتأتي الأخبار الدّالة عليه من أنّ المقصود من خلق آدم ظهور أنوار محمّد ، وآله الطيّبين الّذين لهم الخلافة الكليّة على جميع ملائكة الأرضين والسموات والحجب والسّرادقات وحملة العرش وغيرهم ، وامّا التشكيك في أعلميّته باحتمال انّ لهم علوما آخر فغريب جدّا فكيف يندفع المحقّق بالمحتمل بل لعلّه كالرّد عليه سبحانه حيث انّه سبحانه وتعالى جعل تعليمه لآدم وجعله معلّما لهم في معرفة الأسماء الالهيّة الّتي هي أشرف العلوم دليلا على فضله عليهم ، وتنبيها لهم على وجوب رجوعهم إليه ، وتحقيقا لحسن ما اختاره من إيثاره عليهم.

واغرب من الجميع أنّ الرازي بعد ما أجاب عن الحجّة بما سمعت فساده قال : والّذي يحقّق هذا أنا توافقنا أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من آدم عليه‌السلام مع أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن عالما بهذه اللّغات بأسرها ، وأيضا فانّ إبليس كان عالما بان قرب الشجرة ممّا يوجب خروج آدم عن الجنّة وآدم لم يكن كذلك ، ولم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم ، والهدهد قال لسليمان (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) (١) ، ولم يلزم ان يكون أفضل من سليمان (٢).

وهو على ما ترى من الضعف والقصور ، ولكن من لم يجعل الله له نورا فماله

__________________

(١) النمل : ٢٢.

(٢) مفاتيح الغيب للرازي : ج ٢ ص ٢٣٥.

١٥٩

من نور ، وأمّا احتمال كون السجود له على وجه القبلة والجهة او مجرّد الامتحان من دون التكريم والتعظيم أصلا فيدفعه انّه لو كان كذلك لم يجز أنفة إبليس من ذلك بل قوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (١) وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢) وغير ذلك من مساق ما ورد في بيان هذه القصّة يدلّ على أنّ امتناع إبليس عن السجود انّما هو لاعتقاد التّفضيل به والتكرمة له ، فلو لم يكن الأمر على ذلك لوجب على الله إعلامه بانّه ما أمره بالسجود على وجه تعظيمه له ولا تفضيله عليه ، بل على الوجه الأخر الّذي لا حظّ للتفضيل فيه ، وقضيّة اللّطف عدم جواز إغفاله مع كونه سبب معصية إبليس وضلالته.

هذا مضافا إلى الاخبار الكثيرة الدّالة على كونه على وجه التعظيم والتكريم لآدم حسبما تأتي إلى جملة منها الإشارة ، ثمّ انّه بعد ما ثبت تفضيل آدم على جميع الملائكة بمقتضى ما تضمّنته هذه القصّة يثبت أيضا تفضيل سائر الأنبياء والمرسلين والأئمّة الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين عليهم أيضا لإطلاق الخليفة عليهم على بعض الوجوه ولأفضليّة بعضهم كاولي العزم وغيرهم ايضا على آدم ، ولعدم القول بالفصل بين آدم وغيره من الأنبياء.

ولذا قال السيّد رضى الله عنه في الغرر والدّرر انّه كلّ من قال إنّ آدم عليه‌السلام أفضل من الملائكة ذهب إلى أنّ جميع الأنبياء أفضل من جميع الملائكة ولا أحد من الأمّة فصّل بين الأمرين (٣).

__________________

(١) الإسراء : ٦٢.

(٢) الأعراف : ١٢.

(٣) الغرر والدرر : ج ٢ ص ٣٣٣.

١٦٠