تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

المجحفة ، يدفع عن المبتلى بها مكاره ليحذّركم بذلك عذاب الأبد الّذي لا تشوبه عافية ، ولا تقع في تضاعيفها راحة ولا رحمة (١).

وفي موضع آخر من التفسير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لليهود معاشر اليهود تعاندون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتأبون الاعتراف بأنّكم كنتم بذنوبكم من الجاهلين بانّ الله لا يعذّب بها اي بالتوبة والاعتراف أحدا ، ولا يزيل عن فاعل العناد عذابه ابدا إنّ آدم عليه‌السلام لم يقترح على ربّه المغفرة لذنبه إلّا بالتّوبة ، فكيف تقترحونها أنتم مع عنادكم؟ قيل : وكيف كان ذلك يا رسول الله؟ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا وقعت الخطيئة من آدم عليه‌السلام وخرج من الجنّة وعوتب ووبّخ قال : يا ربّ إن تبت وأصلحت أتردّني إلى الجنّة؟ قال : بلى قال آدم : فكيف اصنع يا ربّ حتّى أكون تائبا تقبّل توبتي؟ فقال الله تعالى : تسبحني بما أنا أهله ، وتعترف بخطيئتك كما أنت أهله ، وتتوسّل إليّ بالفاضلين الّذين علّمتك أسماءهم ، وفضّلتك بهم على ملائكتي ، وهم محمّد وآله الطّيبون وأصحابه الخيّرون.

فوفقه الله تعالى ، فقال : يا ربّ لا إله إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوء ، وظلمت نفسي ، فارحمني إنك أنت ارحم الرّاحمين بحقّ محمّد وآله الطّيبين ، وخيار أصحابه المنتجبين ، سبحانك وبحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء وظلمت نفسي ، فتب عليّ انك أنت التّواب الرحيم ، بحقّ محمد وآله الطّيبين وخيار أصحابه المنتجبين.

فقال الله تعالى : لقد قبلت توبتك وآية ذلك أن أنقّي بشرتك فقد تغيّرت ، وكان

__________________

(١) تفسير المنسوب إلى الامام عليه‌السلام : ص ٩٠ ـ ٩١ وعنه البحار ج ١١ ص ١٩٢ ـ ١٩٣.

٣٤١

ذلك لثلاث عشر من شهر رمضان فصم هذه الثلاثة الأيّام الّتي تستقبلك ، فهي ايّام البيض ينقّي الله في كلّ يوم بعض بشرتك ، فصامها فنقي في كلّ يوم منها ثلث بشرته ، فعند ذلك قال آدم : يا ربّ ما أعظم شأن محمّد وآله وخيار أصحابه؟ فأوحى الله إليه : يا آدم انّك لو عرفت كنه جلال محمّد عبدي وآله وخيار أصحابه لأحببته حبّا يكون أفضل أعمالك ، قال : يا ربّ عرّفني لأعرف ، قال الله تعالى : يا آدم إنّ محمّدا لو وزن به جميع الخلق من النبيّين والمرسلين والملائكة المقرّبين ، وسائر عبادي الصّالحين ، من أوّل الدّهر إلى آخره ، ومن الثرى إلى العرش لرجّح بهم ، وانّ رجلا من خيار آل محمّد لو وزن به جميع آل النبيّين لرجّح بهم ، وانّ رجلا من خيار أصحاب محمّد لو وزن به جميع أصحاب المرسلين لرجّح بهم ، يا آدم لو أحبّ رجل من الكفّار أو جميعهم رجلا من آل محمد وأصحابه الخيّرين لكافاه الله عن ذلك بان يختم له بالتّوبة والايمان ، ثمّ يدخله الله الجنّة إنّ الله ليفيض على كلّ واحد من محبّي محمد وآل محمد وأصحابه من الرّحمة ما لو قسمت على عدد كعدد ما خلق الله تعالى من أوّل الدّهر إلى آخره ، وكانوا كفّارا لكفاهم ، ولأدّاهم إلى عاقبة محمودة وهو الايمان بالله حتّى يستحقوا به الجنّة ، ولو أنّ رجلا كان ممّن يبغض آل محمّد وأصحابه الخيّرين أو واحدا منهم لعذّبه الله عذابا لو قسّم على عدد ما خلق الله لأهلكهم الله أجمعين (١).

وفي كتاب المحتضر للحسن بن سليمان ممّا رواه من كتاب منهج التّحقيق

__________________

(١) التفسير المنسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام ص ١٥٧ وعنه البحار ج ٢٦ ص ٣٣٠ ـ ٣٣١ ح ١٢.

٣٤٢

عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ الله تعالى خلق أربعة عشر نورا من نور عظمته قبل خلق آدم باربعة عشر ألف عام ، فهي أرواحنا فقيل له : يا ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عدّهم بأسمائهم فمن هؤلاء الأربعة عشر نورا؟ فقال : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين ، وتاسعهم قائمهم ثمّ عدّهم بأسمائهم ثمّ قال : والله نحن الأوصياء الخلفاء من بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن المثاني الّذي أعطاها الله نبيّنا ، ونحن شجرة النّبوّة ، ومنبت الرّحمة ، ومعدن الحكمة ، ومصابيح العلم ، وموضع الرّسالة ، ومختلف الملائكة ، وموضع سرّ الله ، ووديعة الله جلّ اسمه في عباده ، وحرم الله الأكبر وعهده المسؤول عنه ، فمن وفي بعهدنا فقد وفي بعهد الله ومن خفره (١) فقد خفر ذمّة الله وعهده ، عرفنا من عرفنا وجهلنا من نحن الأسماء الحسنى الّتي لا يقبل الله من العباد عملا إلّا بمعرفتنا ، ونحن والله الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه ، انّ الله تعالى خلقنا فأحسن خلقنا ، وصوّرنا فأحسن صورنا ، وجعلنا عينه على عباده ، ولسانه النّاطق في خلقه ، ويده المبسوطة عليهم بالرّأفة والرّحمة ، ووجهه الّذي يؤتى منه ، وبابه الّذي يدلّ عليه ، وخزّان علمه ، وتراجمة وحيه ، وأعلام دينه ، والعروة الوثقى والدّليل الواضح لمن اهتدى ، وبنا أثمرت الأشجار ، وأينعت الثّمار ، وجرت الأنهار ، ونزلت الغيث من السّماء ، ونبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عبد الله ، ولولانا ما عرف الله ، وأيم الله لو لا وصيّة سبقت وعهد أخذ علينا لقلت قولا يعجب منه أو يذهل عنه الأوّلون والآخرون (٢).

__________________

(١) اي ومن نقض عهدنا فقد نقض عهد الله.

(٢) المحتضر : ص ١٢٩ وعنه البحار ج ٢٥ ص ٤ ـ ٥ ح ٧.

٣٤٣

وعن كتاب الآل لابن خالويه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لمّا خلق الله آدم وحوّاء عليهما‌السلام تبخترا في الجنّة فقال آدم لحوّاء : ما خلق الله خلقا هو أحسن منّا ، فأوحى الله عزوجل إلى جبرئيل ان ائتني بعبدتي الّتي في جنّة الفردوس الأعلى فلمّا دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك (١) من درانيك الجنّة على رأسها تاج من نور ، وفي أذنيها قرطان من نور ، قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ، قال آدم : حبيبي جبرئيل من هذه الجارية الّتي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها؟ فقال : هذه فاطمة بنت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبيّ من ولدك يكون في آخر الزمان ، قال : فما هذا التّاج الذي على رأسها؟ قال : بعلها علي بن ابي طالب قال : فما القرطان اللذان في أذنيها؟ قال : ولداها الحسن والحسين ، قال : حبيبي جبرئيل أخلقوا قبلي؟ قال : هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة (٢).

وفي تفسير القمي عن الصادق عليه‌السلام قال : إن آدم عليه‌السلام بقي على الصفاء أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة وعلى خروجه من الجنّة من جوارح الله عزوجل ، فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا آدم ما لك تبكي؟ فقال : يا جبرئيل ما لي لا ابكي وقد أخرجني الله من جواره وأهبطني إلى الدّنيا ، قال : يا آدم تب إليه ، قال : وكيف أتوب؟ فانزل الله عليه قبّة من نور في موضع البيت فسطع نورها في جبال مكّة ، فهو الحرم وأمر الله جبرئيل أن يضع عليه الأعلام ، ثمّ قال : قم يا آدم فخرج به يوم التّروية وامره أن يغتسل ويحرم ، وأخرج من الجنّة أوّل يوم من ذي القعدة فلمّا كان

__________________

(١) الدرنوك بضم الدال نوع من البسط له خمل.

(٢) المحتضر : ١٣١ ـ ١٣٢ وعنه البحار ج ٢٥ ص ٥ ـ ٦.

٣٤٤

يوم الثّامن من ذي الحجّة أخرجه جبرئيل الى منى فبات بها فلمّا أصبح أخرجه إلى عرفات ، وقد كان علّمه حين أخرجه من مكّة الإحرام ، وعلّمه التّلبية ، فلمّا زالت الشمس يوم عرفة قطع التلبية ، وأمره أن يغتسل ، فلمّا صلّى العصر أوقفه بعرفات ، وعلّمه الكلمات الّتي تلقّى بها ربّه ، وهي سبحانك اللهم وبحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء وظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي انك أنت خير الغافرين ، سبحانك اللهم وبحمدك لا اله إلّا أنت عملت سوء وظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي انك أنت التّواب الرحيم ، فبقي إلى غروب الشمس رافعا يديه إلى السّماء يتضرّع ويبكي فلمّا غربت الشّمس ردّه إلى المشعر ، فبات بها فلمّا أصبح قام على المشعر الحرام فدعى الله تعالى بكلمات وتاب عليه ، ثمّ أفاض إلى منى وأمره جبرئيل أن يحلق الشعر الّذي عليه ، فحلقه ، ثمّ ردّه إلى مكّة فاتى به عند الجمرة الأولى ، فعرض إبليس عندها فقال : يا آدم اين تريد؟ فأمره جبرئيل أن يرميه بسبع حصاة ، وأن يكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة ففعل ، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثانية ، فأمره أن يرميه سبع حصاة فرمى وكبّر مع كلّ حصاة تكبيرة ، ثمّ ذهب فعرض له إبليس عند الجمرة الثالثة فأمره أن يرميه بسبع حصاة ويكبّر عند كلّ حصاة ففعل ، فذهب إبليس لعنه الله وقال له جبرئيل : إنك لن تراه بعد هذا اليوم ابدا فانطلق به إلى البيت الحرام وأمره أن يطوف به سبع مرّات ، ففعل ، فقال له : إنّ الله قد قبل توبتك وحلّت لك زوجتك ، قال : فلما قضى آدم حجّه لقيته الملائكة بالأبطح فقالوا : يا آدم برّ حجّك أما إنّا قد حججنا قبلك هذا البيت بألفي عام (١).

__________________

(١) تفسير القمي ص ٣٧ ـ ٣٨ وعنه البحار ج ١١ ص ١٧٨ ـ ١٧٩.

٣٤٥

وفي البحار عن بعض كتب المناقب : انّ آدم لما هبط إلى الأرض لم ير حوّاء فصار يطوف الأرض في طلبها ، فمرّ بكربلا فاغتمّ وضاق صدره من غير سبب ، وعثر في الموضع الّذي قتل فيه الحسين ، حتّى سال الدّم من رجله ، فرفع رأسه إلى السماء وقال : الهي هل حدث منّي ذنب آخر فعاقبتني به ، فإني طفت جميع الأرض وما أصابني سوء مثل ما أصابني في هذه الأرض؟

فأوحى الله تعالى إليه ، يا آدم ما حدث منك ذنب ، ولكن يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلما فسال دمك موافقة لدمه ، فقال آدم : يا ربّ أيكون الحسين نبيّا؟ قال : لا ولكنّه سبط النّبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ومن القاتل له؟ قال : قاتله يزيد لعين أهل السموات والأرض فقال آدم : فايّ شيء أصنع يا جبرئيل قال : العن قاتلة يا آدم ، فلعنه أربع مرّات ، ومشى خطوات إلى جبل عرفات فوجد حوّاء هناك (١).

وفي تفسير العيّاشي عن ابي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله حين أهبط آدم إلى الأرض أمره ان يحرث بيده فيأكل من كده بعد الجنّة ونعيمها ، فلبث يجأر ويبكي على الجنّة مائتي سنة ، ثمّ انّه سجد لله سجدة فلم يرفع رأسه ثلاثة ايّام ولياليها ، ثمّ قال : اي ربّ الم تخلقني؟ فقال الله : قد فعلت ، فقال : ا لم تنفخ فيّ من روحك؟ قال : قد فعلت ، قال : الم تسكني جنّتك؟ قال : قد فعلت ، قال : ألم تسبق لي رحمتك غضبك؟ قال الله : قد فعلت ، فهل صبرت او شكرت؟ قال : آدم : لا اله إلّا أنت سبحانك إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي انك أنت الغفور الرحيم ، فرحمه‌الله

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٤ ص ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ح ٣٧.

٣٤٦

بذلك وتاب عليه إنّه هو التّواب الرحيم (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المأثورة من طرق الاماميّة ، بل قد روي مثل ذلك أيضا من طرق المخالفين.

فعن ابن المغازلي الشّافعي في كتاب «المناقب» عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : سأله بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام الّا تبت عليّ فتاب عليه (٢).

وعن النّطنزي في «الخصائص» انّه قال ابن عباس : لمّا خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس ، فقال : الحمد لله ، فقال له ربّه : يرحمك ربّك ، فلمّا أسجد له الملائكة تداخله العجب فقال : يا ربّ خلقت خلقا هو أحبّ إليك منّي؟ قال : نعم ولولاهم ما خلقتك ، قال : يا ربّ فأرنيهم ، فأوحى الله عزوجل إلى ملائكة الحجب : أن ارفعوا الحجب ، فلمّا رفعت إذا آدم بخمسة أشباح قدّام العرش ، قال : يا ربّ من هؤلاء قال : يا آدم هذا محمّد نبيي ، وهذا عليّ أمير المؤمنين ابن عمّ نبيي ووصيّه ، وهذه فاطمة بنت نبيي ، وهذان الحسن والحسين ابنا عليّ وولدا نبيّي ، ثمّ قال : يا آدم هم ولداك ، ففرح بذلك ، فلمّا اقترف الخطيئة ، قال : يا رب اسألك بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين لمّا غفرت لي ، فغفر الله له فهذا الّذي قال الله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) ، إنّ الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه ، اللهم بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلّا تبت علي فتاب الله عليه (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار عن تفسير العياشي ج ١١ ص ٢١٢ ح ١٩.

(٢) المناقب لابن المغازلي ص ٦٣ ح ٨٩.

(٣) تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن النطنزي ج ١ ص ٨٩.

٣٤٧

أقول : وهذا الخبر قريب ممّا حكيناه عن : «كشف اليقين» إلّا أنّ فيه بعض الاختلاف ولذا حكيناه بلفظه.

وروى القاضي أبو عمرو عثمان بن أحمد أحد شيوخ السّنة يرفعه إلى ابن عباس عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لمّا شملت آدم الخطيئة نظر إلى أشباح تضيء حول العرش فقال : يا ربّ إنّي أرى أشباحا تشبه خلقي فما هي؟ قال : هذه الأنوار أشباح اثنين من ولدك اسم أحدهما محمّد ، أبدأ النّبوة بك وأختمها به ، والآخر أخوه وابن اخي أبيه اسمه عليّ أيّدت محمّدا به ، وانصره على يده ، والأنوار الّتي حولهما أنوار ذرّية هذا النّبي من أخيه هذا يزوّجه ابنته تكون له زوجة يتّصل بها اوّل الخلق ايمانا به وتصديقا له ، أجعلها سيّدة النّسوان وأفطمها وذرّيتها من النّيران ، تنقطع الأسباب والأنساب يوم القيمة إلّا سببه ونسبه ، فسجد آدم شكرا لله أن جعل ذلك في ذرّيته فعوّضه الله عن ذلك السجود أن أسجد له ملائكته (١).

ثمّ إن آدم عليه‌السلام لمّا تاب بالتوسّل بمحمّد وآله الطّيبين وتجديد العهد بولايتهم والاستشفاع بأنوارهم (فَتابَ) الله (عَلَيْهِ) بقبول توبته والرّجوع عليه بالاشفاق والرّحمة والنّعمة ، ويمكن أن يكون المراد الرّجوع عليه بتوفيقه للتّوبة ، وإلهامه لها أوّلا قبل توبته كما في قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٢) ومنه قوله في الدّعاء : «اللهم تب عليّ حتّى لا أعصيك» ، فإنّ التّوبة يتّصف بها العبد والربّ ، وللعبد توبة ، وللربّ توبتان : يوفق العبد ويلهمه التّوبة أوّلا ، ثمّ يتوب العبد ويرجع من البعد إلى

__________________

(١) البرهان : ج ١ ص ٨٩ ح ١٦.

(٢) التوبة : ١١٨.

٣٤٨

القرب ومن المعصية إلي الانقياد والطاعة ، ثمّ يقبل الله توبته ، فتوبة العبد تتعدّى بإلى وإذا نسبت إليه سبحانه تعدّت بعلى لتضمينه معنى الإشفاق والعطف.

وإنّما رتّبه بالفاء لأنّه كالتّفصيل لما أجمله اوّلا ، لتضمّن التلقّي لتوبته لما مرّ.

واكتفى بذكر آدم في كلّ من التلقّي والتّوبة مع سبق التشريك في الزلّة للإيجاز والتغليب له في الأفعال كالاحكام وللتنبيه بالتشريك والتفكيك على كون ابتداء الزلة منهما والتّلقي منه.

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) الرجّاع على عباده بالتوفيق والدّعاء إلى التوبة وقبول الرّحمة ، أو بالصّفح والمغفرة مرّة بعد اخرى ، او بقبولها في الذّنوب العظام ، فيحتمل كلّ من المادّة والهيئة وجهين والحاصل أربعة والأولى الحمل على الجميع.

(الرَّحِيمُ) المبالغ في إفاضة الرحمة المكتوبة الايمانيّة الّتي خصّ بها المؤمنين ، وفي الجمع بين الوصفين وعد للتائب بالإحسان مع الغفران.

تفسير الآية (٣٨)

(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً)

كرّره للتأكيد ، أو لاختلاف ما هو المقصود بالخطاب ، فانّ مساق الأوّل كون هبوطهم للزلّة والثاني أنّ المقصود الابتلاء بالتكليف ، أو لأنّ المقصود بالخطاب الأوّل هو آدم وحوّاء وذرّيتهما تابعة ، وفي الثاني بالعكس ، ولذا فرّع على الأوّل حديث التلقّي وقبول التّوبة ، وعلى الثّاني تقسيم النّاس إلى صنفين : ناج متبع لهداه وكافر تابع لهواه ، وليس من خطاب المعدوم من شيء على فرض استحالته ، ولو

٣٤٩

باعتبار التغليب لسبق خلق الأرواح الّتي ركّب فيها العقل والإدراك او غير ذلك ممّا مرّ في المقدّمات ، ويؤيّده قول الإمام عليه‌السلام في تفسير قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) ، يأتيكم وأولادكم من بعدكم منّي هدى يا آدم ويا إبليس (١).

أو لأنّهما لما أتيا بالزّلة أمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط ، ووقع في قلبهما أنّ الأمر بالهبوط لمّا كان بسبب الزّلة فبعد التوبة ينبغي أن لا يبقي الأمر بالهبوط فأعاده الله ليعلما انّه ما كان جزاء على ارتكاب الزّلة يزول بزوالها بل انّما هو تحقيق بالوعد المتقدّم من جعله خليفة في الأرض (٢).

وهذا الوجه ضعيف ، وإن قوّاه الرازي ، أو لأنّ الهبوط الاول من الجنّة إلى السّماء وهذا الهبوط من السماء إلى الأرض (٣).

وردّ بانه قد جعل الاستقرار في الأرض والتّمتع فيها حالا من الأوّل وان كانت حالا مقدّرة.

وفيه نظر لجواز كونه حالا باعتبار ما يؤول إليه حالهم بعد الهبوط ، وإلّا فلا استقرار ولا تمتّع حال الهبوط بل بعده ، أو لاختلاف الحالين فقد بيّن في الأوّل أنّ الإهباط كان في حال عداوة بعضهم لبعض ، وفي الثّاني انّه كان للابتلاء والتكليف كما يقال : اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا ، وان كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين ، وهو قريب من الثّاني ، او لأنّه من تعقيب المطلق بالمقيّد حيث قيّد الثاني بالاجتماع ، واليه الإشارة بما في تفسير الامام عليه‌السلام حيث قال : كان أمر في الاول أن

__________________

(١) تفسير الامام عليه‌السلام : ص ٩٠ وعنه البحار ج ١١ ص ١٩١.

(٢) تفسير الفخر الرازي : ج ٣ ص ٢٦.

(٣) نقله الرازي عن الجباعي.

٣٥٠

يهبطا (١) وفي الثّاني أمرهم أن يهبطوا جميعا لا يتقدّم أحدهم الاخر ، والهبوط إنّما كان هبوط آدم وحوّاء من الجنّة ، وهبوط الحيّة ايضا منها ، فانّها كانت من أحسن دوابّها ، وهبوط إبليس من حواليها فإنّه كان محرّما عليه دخول الجنّة (٢).

وامّا ما يقال : من أنّ جميعا حال في اللفظ تأكيد في المعنى فكانّه قيل : اهبطوا أنتم أجمعون ، ولذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد كقولك : جاءوا جميعا.

ففيه أنّه كما يتعذّر كونه تأكيدا في اللّفظ فكذلك لا يتعيّن ذلك معنى ، بل قضية الحاليّة بظاهرها اجتماعهم على الهبوط سلّمنا ، لكنّه لا اقلّ من استفادة اجتماعهم بعده وهذا مع سبق العداوة الظّاهرة ممّا يصلح لتمهيد الابتلاء والامتحان ولذا عدل عن التأكيد إلى الحالية أي اهبطوا مجتمعين.

(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) «إمّا» أصله إن الشرطيّة زيدت عليها «ما» ليصحّ دخول نون التأكيد في الفعل ، إيماء إلى رجحان جانب الوقوع بعد دلالة حرف الشرط على الشك ، فاكّدوا الفعل بالنون والأداة بما ، وقد يقال : إنّ الأداة إذا أكّدت بما وجب تأكيد شرطها فلا ينحطّ المقصود عن رتبة الاداة ، وبالجملة الأمر والنهي والاستفهام تدخل فيها النّون وان لم يكن معها ما ، لاشتداد الحاجة إلى التّوكيد في الأوّلين ، والثالث في معنى أخبروني ، وامّا الخبر فلا يدخله إلّا في القسم وما أشبه القسم في التوكيد لقولك زيد ليأتينّك وبجهد ما تبلغنّ ، وقد يقال في المقام : إنّ ما

__________________

(١) في نسخة : أن يهبطوا.

(٢) تفسير المنسوب الى الامام عليه‌السلام ص ٩٠ ـ ٩١.

٣٥١

لتأكيد الفعل اوّله كما انّ النون تأكيد له اخره كنظيره في لام القسم والنون في نحو : والله لأقومنّ ، وأمّا فتح ما قبل النون فقد يقال : إنّه لالتقاء سكون الياء والنّون الاولى ، والصحيح انّه للبناء والّا لما حرّك على الفتح في الصحيح.

والمراد بالهدى البيان والدّلالة بالعقل والشرع ، ولذا ورد انّ لله على النّاس حجّتين حجّة ظاهرة وهم الأنبياء والرسل وحجّة باطنة وهي العقول (١).

وعن الكاظم عليه‌السلام في خبر هشام انّ الله عزوجل أكمل للنّاس الحجج بالعقول وأفضى إليهم بالبيان ، ودلّهم على ربوبيّته بالأدلة فقال : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (٢). (٣) الآيتين.

وفي تفسير فرات عن الباقر عليه‌السلام في هذه الآية : انّ الهدى هو عليّ بن ابي طالب عليه‌السلام (٤).

والمراد كونه عليه‌السلام حجّة في عصره بعد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وفيه وجه آخر إنّما أتى فيه بالحرف الدّال في أصله على الشكّ ، لأنّ اقترانه بما الزائدة والتأكيد بالنون الثقيلة قد أخرجه عن معنى الشك رأسا فدلّ على تيقّن الوقوع وتحقّقه من دون تقيّد بزمان للشرط ولا للجزاء المترتّب عليه ، بل قضيّة اطلاق الفعل من حيث الأزمان عدم خلوّ الزّمان عن الحجّة الّذي هو الهدى

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ ص ١٣٧.

(٢) الزمر : ١٨.

(٣) البحار : ج ١ ص ١٣٢ ح ٣٠.

(٤) تفسير فرات الكوفي ص ٥٨ ح ١٧.

٣٥٢

المنصوب منه لا منّا ، ولذا أضافه إلى نفسه في موضعين من هذه الآية.

وامّا ما يقال : من أنّ الوجه في ذلك أنّ الإتيان محتمل في نفسه غير واجب عقلا ، فهو مردود بما هو المقرّر في محلّه من عدم خلوّ العصر عن الحجّة ، بل لا ريب في شمول الهدى للحجّة الباطنة الّتي هي العقول ، بل ما ذكره مبنيّ على قواعد الاشاعرة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين النافين لعدله سبحانه عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

ومثله في الضّعف ايضا ما قيل : من أنّ ذلك للإيذان بأنّ الإيمان بالله والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب ، وانّه إن لم يبعث رسولا ولم ينزل كتابا كان الايمان به وتوحيده واجبا لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكّنهم من النظر والاستدلال.

بل وما قيل أيضا : من أنّ فيه اشارة إلى وجه آخر غير ما ذكرناه وهو انّ إتيان الهدى بطريق الرسول والكتاب ليس بواجب فالإيمان به وبتوحيده وصفاته وأفعاله واجب عليهم على كلّ حال سواء يأتيهم الكتاب والرسول أو لم يأتهم ، وذلك لإفاضة نور العقل ونصب الأدلة ولو لم يكن طريق العقل كافيا لوجب عليه إرسال الرسل فلم يصحّ الإتيان بكلمة الشك ، فلمّا أتى بها آذن انّه ليس بواجب فتعيّن الوجوب بطريق العقل.

فانّ الكلّ ضعيف لمخالفته للأصل المقرّر عندنا من وجوب الحجّة في كلّ عصر ، ولظاهر الآية من حيث اقتران الشرط بحرفي التأكيد المخرجين. له عن الشك إلى رجحان الوقوع الموجب لتعيّنه في حقّه سبحانه على ما قضت به

٣٥٣

حكمته ، وجرت عليه أفعاله من إرادة الأصلح وترجيح الراجح على المرجوح ومن هنا مع كون الخطاب شاملا لذّريّته عليه‌السلام ولو باعتبار التغليب او غيره وظهور الآيتين في تصنيف النّاس إلى صنفين مع التّعريض بهما على هذه الأمّة الّتي هي في آخر الأمم إشارة إلى ما استقرّ عليه المذهب من عدم خلوّ الزمان عن الحجّة بل قد ورد في اخبار كثيرة : «أن علم آدم لم يرفع بل قد ورثه حجّة بعد حجّة.

ففي «البصائر» عن الفضيل قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إنّ العلم الّذي هبط مع آدم لم يرفع وانّ العلم ليتوارث وما يموت منّا عالم حتّى يخلفه من اهله من يعلم علمه او ما شاء الله (١).

وعن الحارث بن المغيرة عنه عليه‌السلام : انّ العلم الّذي نزل مع آدم لم يرفع ، وما مات عالم الّا وقد ورث عالم علمه ، انّ الأرض لا تبقي بغير عالم (٢).

وعن فضيل عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كانت في عليّ عليه‌السلام سنّة ألف نبيّ ، وقال :

إنّ العلم الّذي نزل مع آدم لم يرفع ، وما مات عالم فذهب علمه ، وانّ العلم ليتوارث وانّ الأرض لا تبقى بغير عالم (٣).

وفي «العلل» عنه عليه‌السلام قال : والله ما ترك الله الأرض منذ قبض الله آدم إلّا وفيها امام يهتدى به الى الله وهو حجّة الله على عباده (٤).

وفيه وفي الإكمال عن الصادق عليه‌السلام قال : والله ما ترك الله الأرض منذ قبض

__________________

(١) بصائر الدرجات : ص ٣٢ وعنه البحار ج ٢٦ ص ١٦٩.

(٢) البصائر : ص ٣٢ وعنه البحار ج ٢٦ ص ١٦٨.

(٣) البصائر : ص ٣٢ وعنه البحار ج ٢٦ ص ١٦٩ ح ٣١.

(٤) علل الشرائع : ٧٦ وعنه البحار ج ٢٣ ص ٧٦.

٣٥٤

آدم إلّا وفيها إمام يهتدى به إلى الله عزوجل ، وهو حجّة الله عزوجل على العباد ، من تركه هلك ، ومن لزمه نجى حقّا على الله عزوجل (١).

ثمّ انّ العقول وان استقلّت بإدراك بعض الحقائق كالتوحيد وغيره بل بإدراك بعض الاحكام او المصالح المقتضية لها كحسن الصدق النّافع وقبح الكذب الضّار ، إلا أنّها قاصرة عن الإحاطة بتفاصيل الأحكام فمتابعتها بهذا الاعتبار لا توجب الهدى التّام الّذي يوجب متابعته نفي الخوف والحزن رأسا ، ومخالفته الكفر الموجب للخلود في النّار ، وأمّا الكتب السّماويّة فانّها وان وجد فيها ما هو مشتمل على جميع الحقائق والاحكام كالقرآن إلّا انّه باعتبار بطونه الّتي لا يعلمها إلّا الله سبحانه أو من علّمه الله ولو بوسط.

بل نحن نرى النّاس مختلفين في فهم ظواهرها ، ولذا ترى كلّ ذي شرعة أو بدعة يتشبّث بشيء من ظواهرها في أصولهم وفروعهم ، وكلّ فرقة من فرق أمّة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد استدلّوا لمذاهبهم المختلفة المنحرفة عن طريق الحقّ بظواهر القرآن ، فليس فيه ايضا بنفسه البيان الواضح والهدى التّام بل إنّما يتحقّق ذلك في الأنبياء والأوصياء المعصومين صلّى الله عليهم أجمعين الّذين عندهم علم الكتاب ، وهم فصل الخطاب ، والعقل من حيث دلالته على الحجّة ، وكشفه عن صحّة دعواه فيه الهدى التّام ، وكذلك الكتاب من حيث اقترانه ببيان الحجّة وتفسيره وتأويله فيه الهدى التّام ، والحجّة هو الكتاب النّاطق الّذي ينطق بالحقّ ويقضي بالقسط ويبطل تأويل المؤولين ويدحض انتحال المبطلين وهو الهدى التّام الّذي علّق عليه الوعد

__________________

(١) العلل : ص ٧٦ وإكمال الدين ص ١٣٣.

٣٥٥

والوعيد في الآيتين.

وانّما اضافه إلى نفسه للتّنبيه على وجوب كونه منصوبا من قبله سبحانه لاشتراطه بالعصمة الّتي ليس للنّاس سبيل إلى معرفتها إلّا من طريق الاعجاز أو النّص ولغير ذلك على ما قرّر في محلّه.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) «من» شرطيّة عند الأكثر ، ويحتمل أن تكون موصولة ، بل وجّهه أبو حيّان وغيره لقوله في قسيمه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا) حيث أتى به موصولا مع عدم دخول الفاء في خبره ، ويؤيّده ضمائر الجمع الغائب ، والجملة شرطيّة كانت او خبريّة جواب للشرط المتقدّم.

والاتّباع هو الاقتداء والاحتذاء ، وأصله من تبعت القوم إذا مشيت خلفهم ، والمراد به في المقام الموافقة في الأفعال والأقوال والأحوال والعقائد والنيّات ، فانّه هو الاتّباع التّام ، وان كان له عرض عريض كمّا وكيفا ، وهو المعبّر عنه بالإيمان والتّصديق ، ولذا قابله بالكفر والتكذيب.

وانّما كرّر لفظ الهدى لإظهار شأنه وفخامته سيّما مع إضافته إليه ، تنبيها على قطع طمع الخائنين عن أن يكون لهم سبيل إلى نصب الحجّة ، وتوهّم كون الثّاني أعمّ من الأوّل بناء على شموله لما اقتضاه العقل ، مضافا إلى ما أتى به الرسل ، واختصاص الأوّل بالثّاني غير واضح بعد ظهور شمول الأوّل للأوّل أيضا ، سيّما مع كونه نكرة في سياق الشرط او ما بمعناه.

والمراد بالخوف هو التألّم الحاصل من توقّع الوعيد ، ونقيضه الأمن ، كما أنّ

٣٥٦

نقيض الحزن السرور ، وأصله غلظ الهمّ من الحزن وهو ما غلظ من الأرض ، والخوف إنّما يحصل من حلول المكروه المتوقّع ، والحزن عن فوات المحبوب الواقع ، وامّا قوله تعالى : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) (١) ، فقد أجاب عنه شيخنا البهائي قدس‌سره في كشكوله بانّ المراد انّه يحزنني قصد ذهابكم به ، قال : وبهذا يندفع احتراز ابن مالك على النّحاة بالآية الكريمة في قولهم : إنّ لام الابتداء تخلّص المضارع للحال.

أقول والأولى أن يقال : إنّه ايضا بالنسبة إلى الواقع بعد تحقّق الذّهاب لاستناد الفعل إليه ، فلا عبرة بحال التكلّم ، وامّا اندفاع الاحتراز به بالنسبة إلى اللام فقد سبقه فيه غيره كابن هشام ، وستسمع في موضعه تمام الكلام ، وان كنّا قد لوّحنا إليه في المقام أيضا ، فانّ تقدير الآية بعد التأويل بالمصدر انّه ليحزنني إذهابكم إيّاه ، ومن البيّن أنّ الإذهاب موجب للحزن في حاله ، وإن كانا مستقبلين بالنّسبة إلى حال التكلّم ، وبالجملة ففي المقام نفي عنهم خوف وقوع المكروه فضلا عن الخوف الواقع ، وهو ابلغ بيان في نفي العذاب الروحاني والجسماني واثبات الثواب على الوجهين.

وقرئ (هديّ) كقصّي على لغة هذيل ، حيث انّهم يقلبون ألف المقصورة إذا أضيف إلى ياء المتكلّم ، ياء لمناسبتها كسرة المضاف ويدغمونها ، وذلك لأنّ شأن ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها ، فجعل قلب الالف ياء بدل كسرها ، إذ الالف لا تتحرّك ، فهو مثل عليّ ولديّ ، وقرأ يعقوب فلا خوف بفتح الفاء ، على أنّ لا لنفي

__________________

(١) سورة يوسف : ١٣.

٣٥٧

الجنس ، وهذه قراءته في جميع القرآن ، والباقون بالرّفع والتنوين على إعمال لا عمل ليس.

وامّا ما يستدلّ به للأوّل من أنّ «لا» التبرئة اشدّ نفيا من «ليس» وان قوله تعالى : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) (١) لا خلاف في نصبه ، وإن كان ما بعده معطوفا عليه موضعه رفع ، فممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، سيّما فيما هو مبنيّ على التّوقيف.

وامّا ما يحكى عن الأعرج (٢) من قراءة هداي بالألف وسكون الياء ، فكأنّه نوى الوقف وإلّا فهو غلط.

تفسير الآية (٣٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

قسيم للجملة المتقدّمة ، صلة كانت او شرطا ، وبها ينقسم كلّ من بلغته الدّعوة ، وقامت عليه الحجّة إلى صنفين : متّبع مهتد آمن متنعّم بالنعيم الأبدي ، وكافر مكذّب مخلّد في العذاب السرّمدي.

وتقديم الكفر على التكذيب من باب تقديم المسبّب على السّبب ، أو من تقديم الملزوم على اللازم ، والمراد من السّبب سببية في الحكم ، ولو من جهة الكشف عن الموضوع ، كما في دلالة بعض أعمال الجوارح كسجود الشمس وغيره

__________________

(١) يس : ٤٣.

(٢) هو عبد الرحمن بن هرمز ابو داود الأعرج المدني التابعي المقري مات بالاسكندريّة سنة (١١٧) ـ غاية النهاية ج ١ ص ٣٨١.

٣٥٨

على الكفر.

والظّرف إمّا متعلّق بالثّاني ، والمراد كفرهم بالله وتكذيبهم بآياته وأنّ الفعلين متوجّهان إليه على جهة التنازع فيعمل أحدهما فيه والآخر في ضميره ، وموضع اسم الإشارة الرفع إمّا على أنّه مبتدأ خبره أصحاب النّار وهم فيها خبر بعد خبر على جهة الاستقلال ، أو انّهما بمنزلة خبر واحد ، وعلى الوجهين فهو بخبره خبر للموصولة ، وإمّا على أنّه بدل من الموصولة أو عطف بيان لها وأصحاب النّار بيان له جرى مجرى الوصف ، وجملة «هم فيها» هي الخبر ، ولم تدخل الفاء هنا مع دخولها في مثل قوله : (فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١) لما قيل : من أنّ ما دخل فيه الفاء من خبر الّذي وأخواته مشبّه بالجزاء ، وما لم يكن فيه فاء فهو على أصل الخبر.

وقد مرّ اشتقاق (الآية) في المقدمات ، وانّ المراد بها العلامة الظّاهرة وأنّها تطلق إطلاقا شائعا على الأنبياء والحجج ، وعلى طائفة من كلمات القرآن ، وعلى المصنوعات من حيث دلالتها على الصّانع وصفاته الكماليّة ونعوته الجلاليّة ، وعلى ما يدلّ على صدق الأنبياء من المعجزات الباهرات الصّادرة منهم ومن أوصيائهم ، بل الأوصياء أنفسهم من آيات الله سبحانه على صدق أنبيائه ، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : ما لله أية أعظم منّي (٢).

وفي تفسير القمّي في غير هذا الموضع الآيات امير المؤمنين والائمة عليهم‌السلام ، بل قد يستفاد ذلك ايضا من وضع الآيات موضع الهدى المفسّر به عليه‌السلام ، ولا تظننّ

__________________

(١) الحج : ٥٧.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٣ ص ٥٤ ح ٣١ عن تفسير القمي.

٣٥٩

انّهم عليهم‌السلام حججه سبحانه بعد نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مع أنّ الآية عامّة حاكمة على جميع ذرّية آدم ، فانّ الإقرار بولايتهم مأخوذة على جميع الأمم في جميع الأعصار ، بل متابعة حججه سبحانه في كلّ عصر وزمان إنّما هي من مقتضيات ولايتهم ، حسبما قرّر في موضع آخر.

ولذا قال الامام عليه‌السلام في تفسيره للآية : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) الدّالات على صدق محمّد على ما جاء به من اخبار القرون السالفة ، وعلى ما ادّاه إلى عباد الله من ذكر تفضيله لعليّ وآله الطّيبين خير الفاضلين والفاضلات بعد محمّد سيّد البريّات ، أولئك الدّافعون لصدق محمّد في أنبائه ، والمكذّبون له في نصب أوليائه عليّا سيّد الأوصياء والمنتجبين من ذرّيته الطّيبين الطّاهرين (١).

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) والآية ناعية على أهل السنّة وغيرهم ممّن أنكر الحجج المعصومين صلّى الله عليهم أجمعين قاضية عليهم بالكفر الصريح ، ولذا قرنه بالتكذيب بهم بل قدّمه عليه لما مرّت الإشارة إليه.

بسط في المقام للتنبيه على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام

اعلم : أنّ هذه القصّة وهي قصّة أبينا آدم عليه‌السلام وما ضاهاها من قصص الأنبياء والأوصياء عليهم الصلاة والسّلام ، ممّا قد استدلّت بها الحشوية (٢) وغيرهم ممّن لا

__________________

(١) تفسير البرهان ج ١ ص ٨٩ ـ ٩٠ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

(٢) الحشويّة : طائفة تمسكوا بالظواهر وذهبوا الى التجسّم ، وغيره سمّوا بالحشوية لأنهم كانوا في حلقة الحسن البصري المتوفى (١١٠) ، فوجدهم يتكلمون كلاما فقال : ردّوا هؤلاء الى حشاء الحلقه. وقيل غير هذا الوجه أيضا.

٣٦٠