تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

بالمدينة وما والاها من بني إسرائيل ، أو من أسلم من اليهود وآمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أسلاف بني إسرائيل ، أقوال ثلاثة والأقرب الأول ، لأن من مات من أسلافهم لا يقال له : (آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ) (١) إلّا على ضرب من التأويل ، ومن آمن منهم لا يقال له : أمنوا ... إلّا بمجاز بعيد (٢) وتخصيص هذه الطائفة بالذكر والتذكير والتذكير لما أنهم أوفر الناس نعمة وأكثرهم كفرا بها.

(اذْكُرُوا) فعل أمر مبنيّ على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة ، والواو فاعل ، وهو مشتق من الذكر ـ بكسر الذال وضمها ـ بمعنى واحد ، ويكونان باللسان والجنان.

قال الكسائي (٣) : هو بالكسر للسان ، وبالضم للقلب. وضدّ الأول الصمت ، وضدّ الثاني النسيان.

وعلى الأول يكون المعنى أمرّوا النعم على السنتكم ولا تغفلوا عنها ، فإن إمرارها على اللسان ومدارستها سبب لأن لا تنسى.

وعلى الثاني يكون المعنى تنبّهوا للنعم ولا تغفلوا عن شكرها.

(نِعْمَتِيَ) هي مفعول به منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم والياء مضاف إليه.

__________________

(١) البقرة : ٤١.

(٢) تفسير البحر المحيط : ج ١ ص ١٧٤.

(٣) هو ابو الحسن علي بن حمزة الكوفي الكسائي ، أحد القرّاء السبعة ومؤدب هارون والأمين ، وكان من تلامذة الخليل.

قال الشافعي : من أراد أن يتبحر في النحو فهو عيال علي الكسائي مات سنة (١٨٩) ه ، العبر ح ١ ص ٣٠٢.

٤٤١

«حدّ النعمة» قال الراغب (١) في «المفردات» : النعمة : (بالكسر) الحالة الحسنة ، وبناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة ، والنعمة (بفتح النون) : التنعم وبناؤها المرّة من الفعل ، كالضربة والشتمة ، والنعمة ، والنعمة (بالكسر) للجنس تقال للقليل والكثير ، قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٢) ، (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) (٣).

وقال الرازي في «مفاتيح الغيب» : النعمة هي المنفعة المفعولة على جهة الإحسان الى الغير ، وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان لأنها لو كانت منفعة وقصد الفاعل نفع نفسه لا نفع المفعول به أو قصد الإضرار به لم يكن ذلك نعمة.

إذا عرفت النعمة فلنذكر مطلبين : الأول : أن كلّ ما يصل إلينا أناء الليل والنهار في الدنيا والآخرة من النفع ودفع الضرر فهو من الله تعالى على ما قال تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (٤).

ثمّ إنّ النعمة على ثلاثة أوجه :

أحدها : نعمة تفرد بها الله تعالى نحو الخلق ، والرزق.

وثانيها : نعمة وصلت إلينا من جهة غيره ، بأن خلقها وخلق المنعم ، ومكّنه من الإنعام ، وخلق فيه داعيته ووفقه عليه وهداه إليه ، فهذه النعمة في الحقيقة أيضا من الله عزوجل ، إلّا أنه تعالى لمّا أجراها على يد عبده كان ذلك العبد مشكورا ، ولكن

__________________

(١) الراغب الاصفهاني : أبو القاسم حسين بن محمد المفضل الشافعي صاحب اللغة والعربية والحديث والشعر والأدب توفي سنة (٥٠٢) ه.

(٢) النحل : ١٨.

(٣) البقرة : ٤٠.

(٤) النحل : ٥٣.

٤٤٢

المشكور في الحقيقة هو الله عزوجل ، ولهذا قال : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) (١) فبدأ بنفسه.

وثالثها : نعمة وصلت إلينا من الله تعالى بواسطة طاعاتنا وهي أيضا من الله تعالى ، لأنه لو لا أنه سبحانه وتعالى وفقنا على الطاعات وأعاننا عليها وهدانا إليها وأزاح الاعذار لما وصلنا الى شيء منها. فظهر بهذا التقرير أنّ جميع النعم من الله تعالى.

المطلب الثاني : أنّ نعم الله تعالى على عبيده ممّا لا يمكن عدّها وحصرها على ما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٢) لأنّ المنفعة هي اللذة ، أو ما يكون وسيلة الى اللذة ، وجميع ما خلق الله تعالى كذلك ، لأنّ كلّ ما يلتذّ به وهو وسيلة الى دفع الضرر فهو كذلك ، والذي لا يكون جالبا للنفع الحاضر ولا دافعا للضرر الحاضر فهو صالح لأن يستدلّ به على الصانع الحكيم فيقع ذلك وسيلة الى معرفته وطاعته وهما وسيلتان الى اللذات الأبديّة ، فثبت أنّ جميع مخلوقاته سبحانه نعم على العبيد ، والعقول قاصرة عن عدّها.

فأن قيل : فإذا كانت النعم غير متناهية ، وما لا يتناهى لا يحصل العلم به في حق العبد فكيف أمر بتذكّرها في قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ)؟

الجواب أنها غير متناهية بحسب الأشخاص والأنواع ، إلّا أنّها متناهية بحسب الأجناس ، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصانع الحكيم (٣).

__________________

(١) لقمان : ١٤.

(٢) النحل : ١٨.

(٣) مفاتيح الغيب : ج ٣ ص ٣٠ ـ ٣١.

٤٤٣

مضافا إلى أنّ المراد بالنعم في الآية ، النعم المخصوصة ببني إسرائيل بقرينة «أنعمت عليكم» والنعم المخصوصة بهم متناهية بكثرتها منها : استنقذهم ممّا كانوا فيه من البلاء من فرعون وقومه ، وأبدلهم من ذلك بتمكينهم في الأرض وتخليصهم من العبوديّة كما قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (١).

ومنها : جعلهم أنبياء وملوكا بعد أن كانوا عبيدا للقبط ، فأهلك أعدائهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم كما قال تعالى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢).

ومنها : أنزل عليهم الكتب العظيمة التي ما أنزلها على أمّة سواهم كما قال عزّ من قائل : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٣).

روي عن ابن عبّاس أنّه قال : من نعمة الله على بني إسرائيل أن نجّاهم من آل فرعون ، وظلل عليهم الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى في التيه ، وأعطاهم الحجر الذي كان كرأس الرجل يسقيهم ما شاءوا من الماء متى أرادوا ، فإذا استغنوا عن الماء رفعوه فاحتبس الماء عنهم ، وأعطاهم عمودا من النور ليضيء لهم بالليل ، وكان رؤوسهم لا تنشعث وثيابهم لا تبلى.

__________________

(١) القصص : ٦.

(٢) الشعراء : ٥٩.

(٣) المائدة : ٢٠.

٤٤٤

واعلم أنه سبحانه ذكّرهم بهذه النعم لوجوه :

أحدها : أنّ في جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو التوراة والإنجيل والزبور.

وثانيها : أنّ كثرة النعم توجب عظم المعصية ، فذكّرهم تلك النعم لكي يحذروا فخالفه ما دعوا إليه من الايمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وبالقرآن.

وثالثها : أنّ تذكير النعم الكثيرة يوجب الحياء عن إظهار المخالفة.

ورابعها : أن تذكير النعم الكثيرة يفيد أنّ المنعم خصّهم من بين سائر الناس بها ، ومن خصّ أحدا بنعم كثيرة فالظاهر أنه لا يزيلها عنهم لما قيل : إتمام المعروف خير من ابتدائه فكأن تذكير النعم السالفة يطمع في النعم الآتية ، وذلك الطمع مانع من اظهار المخالفة والعصيان.

فإن قيل : هذه النعم ما كانت للمخاطبين بهذه الآية ، بل كانت لآبائهم فكيف تكون سببا لعظم معصيتهم؟

قيل في الجواب وجوه :

أحدها : لو لا هذه النعم على آبائهم لما بقوا وما كان يحصل هذا النسل فصارت النعم على الآباء كأنّها تعمّ على الأبناء وثانيها : ان الانتساب الى الآباء وقد خصّهم الله تعالى بنعم الدين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد.

وثالثها : الأولاد متى سمعوا أنّ الله تعالى خصّ آباءهم بهذه النعم لمكان طاعتهم وإعراضهم عن الكفر والجحود رغب الولد في هذه الطريقة ، لأنّ الولد مجبول على التشبّه بالأب في أفعال الخير ، فيصير هذا التذكير داعيا إلى الاشتغال

٤٤٥

بالخيرات والاعراض عن الشرور.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ).

للمفسرين في هذا «العهد» أقوال :

أحدها : جميع ما أمر الله به من غير تخصيص ببعض التكاليف.

الثاني : ما حكي عن الحسن البصري (١) أنه قال : المراد منه العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل في قوله تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) (٢) وقال تعالى : (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ) الى قوله تعالى : (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٣) فمن وفّى لله بعهده ، وفّى الله له بعهده.

ثالثها : أنّ المراد أوفوا بما أمرتكم به من الطاعات ونهيتكم عنه من المعاصي أوف بعهدكم ، أي أرضى عنكم وأدخلكم الجنة ، وهو الذي حكاه الضحّاك (٤) عن ابن عباس ، وتحقيقه ما جاء في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) إلى قوله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) (٥).

__________________

(١) الحسن بن يسار أبو سعيد البصري ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ومات سنة (١١٠) ه ، العبر ج ١ ص ١٣٦.

(٢) المائدة : ١٢.

(٣) المائدة : ١٢.

(٤) هو الضحاك بن مزاحم الهلالي صاحب التفسير ، كان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي ، وكان يركب حمارا ويدور عليهم إذا عيى ، مات بخراسان سنة (١٠٢) ه ، العبر : ج ١ ص ١٢٤.

(٥) التوبة : ١١١.

٤٤٦

رابعها : أنّ المراد من هذا العهد ما أثبته في الكتب المتقدمة من وصف محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه سيبعثه على ما صرح بذلك في سورة المائدة بقوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (١) الى قوله (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) (٢).

قال الطبرسي في «مجمع البيان» : إن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيّا يقال له : محمد. فمن تبعه كان له أجران اثنان : أجر باتّباعه موسى وإيمانه بالتوراة ، وأجر باتباعه محمدا وإيمانه بالقرآن. ومن كفر به تكاملت أوزاره وكانت النار جزاءه ، فقال : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) في محمد (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أدخلكم الجنة ، عن ابن عبّاس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق ، وقيل : إنّما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين ، كما قال سبحانه : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (٣) وهذا القول أقوى لأنّ عليه أكثر المفسرين وبه يشهد القرآن. (٤)

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الوفاء ضدّ الغدر وهو الحفظ والإتمام وعدم النقض.

قال الراغب : وفي بعهده يفي وفاء ، وأوفى إذا تمّم العهد ولم ينقض حفظه ،

__________________

(١) آل عمران : ١٨٧.

(٢) آل عمران : ١٩٥.

(٣) آل عمران : ١٨٧.

(٤) مجمع البيان : ج ١ ص ٩٣ ـ ٩٤.

٤٤٧

واشتقاق ضدّه وهو الغدر ويدلّ على ذلك وهو الترك.

وكثيرا ما يستعمل في القرآن متعديا من باب الإفعال كما في المقام. وقوله تعالى : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) (١) ويستعمل من باب التفعيل أيضا كما قال تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٢).

والعهد : حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال والاهتمام به ، وهو من الصفات الاضافية له تعلّق بالعاهد ، والمعهود إليه والمعهود به إلّا أنّ في الأول يكون من الإضافة الى الفاعل ، وفي الثاني كذلك إذا كان مع العوض ، كما يكون من الاضافة الى المفعول أيضا.

قال الراغب في «المفردات» قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ) (٣) عهد الله تارة يكون بما ركزه في عقولنا ، وتارة يكون بما أمرنا به بالكتاب وسنة رسله ، وتارة بما نلتزمه كالنذور وما يجري مجراها وعلى هذا قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ) (٤).

والفرق بين الميثاق والعهد أنّ الميثاق أخصّ من العهد لأنّه العهد المؤكد بانحاء التأكيدات والتوثيقات ، سواء أكان بين الله تعالى وبين خلقه ، أم بين خلقه بعضهم مع بعض ومادّة «وث ق» تدلّ على كمال التثبت.

__________________

(١) البقرة : ١٧٧.

(٢) النجم : ٣٧.

(٣) يس : ٦٠.

(٤) التوبة : ٧٥.

٤٤٨

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) المعنى : أوفوا بعهدي الذي أبلغته إليكم بواسطة الأنبياء والرسل من المواثيق والطاعات والعبادات ، وهي كثيرة يأتي في الآيات التالية تعداد أصولها ، ومنها ما عهد إليهم الإيمان بشريعة خاتم المرسلين كما يستفاد من قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) (١).

والوفاء بالعهد سواء أكان من الناس أم من الله تعالى يرجع الى مصلحة الناس أنفسهم ، وإنما سمّى سبحانه ذلك عهدا وأوجب وفاءه على نفسه تحنّنا منه وترغيبا لعباده الى الطاعة حيث يكون لهم حق مطالبة الجزاء مع الشرط ، فيصير المقام نظير آية الاشتراء : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (٢) ، مع أن السلعة والمشترى وقدرته وإرادته من الله تعالى.

(أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب من باب الإفعال وقرأ الزهري (٣) : «أوفّ» بالتشديد من باب التفعيل ، يمكن أن يكونا بمعنى ، ولا فرق بينهما ، ويمكن أن يراد به الكثير ، وهو إشارة الى عظيم كرمه وإحسانه ومزيد امتنانه ، حيث أخبر وهو الصادق أنه يعطي الكثير في مقابل القليل ، وهو صرّح بذلك في قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٤).

عن تفسير الإمام عليه‌السلام : قال الله عزوجل : «يا بني إسرائيل ولد يعقوب إسرائيل الله

__________________

(١) البقرة : ٤١.

(٢) التوبة : ١١١.

(٣) الزهري : محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدني أحد العلماء الكبار ، ولد سنة (٥٠) ه ومات سنة (١٢٤) ه ، غاية النهاية : ج ٢ ص ٢٦٢.

(٤) الانعام : ١٦٠.

٤٤٩

«اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم» لمّا بعثت محمدا وأقررته في مدينتكم ، ولم أجشّمكم الحطّ والترحال اليه ، وأوضحت علاماته ودلائل صدقه لئلّا يشتبه عليكم حاله. (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) الذي أخذته على أسلافكم وأنبيائكم ، وأمروا أن يؤدوا الى أخلافهم ليؤمننّ بمحمد العربي القرشي الهاشمي المبان بالآيات ، والمؤيد بالمعجزات التي منها أن كلّمته ذراع مسمومة وناطقه ذئب ، وحنّ إليه عود المنبر ، وكثّر الله له القليل من الطعام ، وألان له الصلب من الأحجار ، وصلبت لديه المياه السائلة ، ولم يؤيد نبيا من أنبيائه بدلالة إلّا وجعل له مثلها أو أفضل منها ، والذي جعل من أكبر آياته علي بن أبي طالب عليه‌السلام شقيقه ورفيقه ، عقله من عقله ، وعلمه من علمه ، وحلمه من حلمه ، مؤيد دينه بسيفه الباتر ، بعد أن قطع معاذير المعاندين بدليله القاهر ، وعلمه الفاصل ، وفضله الكامل (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الذي أوجبت به لكم نعيم الأبد في دار الكرامة ومستقر الرحمة ، (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في مخالفة محمد ، فإنّي القادر على صرف بلاء من يعاديكم على مرافقتي ، وهم لا يقدرون على صرف انتقامي عنكم إذا آثرتم مخالفتي. (١)

وفي تفسير علي بن ابراهيم : حدّثني أبي ، عن محمد بن أبي عمير (٢) ، عن جميل (٣) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال له رجل : جعلت فداك! إنّ الله يقول : (ادْعُونِي

__________________

(١) تفسير الامام : ص ٧٦ ، وعنه البحار : ج ٩ ص ١٧٨ ح ٦ وج ٢٦ ص ٢٨٧ ، وتفسير البرهان : ج ١ ص ٩٠ ح ١.

(٢) هو محمد بن زياد بن عيسى المعروف بابن أبي عمير أوثق الناس عند الخاصة والعامة ومن أصحاب الإجماع توفي سنة (٢١٧) ه.

(٣) هو جميل بن دراج بن أبي الصبيح هو أيضا من أصحاب الإجماع توفي أيام الرضا عليه‌السلام.

٤٥٠

أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) وإنّا ندعوا فلا يستجاب لنا؟ قال : لأنكم لا توفون لله بعهده ، وأن الله يقول : (أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) والله لو وفيتم لله لوفى الله لكم. (٢)

وفي «أصول الكافي» عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله الله عزوجل (أَوْفُوا بِعَهْدِي) قال : بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) أوف لكم بالجنّة. (٣)

وفيه : عن أحمد بن محمد ، عن محمد الحسين ، عن عبد الله بن محمد ، عن الخشّاب ، قال : حدّثنا بعض أصحابنا ، عن خيثمة ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا خيثمة نحن شجرة النبوة ، وبيت الرحمة ، ومفاتيح الحكمة ، ومعدن العلم وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وموضع سرّ الله ، ونحن وديعة الله في عباده ، ونحن حرم الله الأكبر ، ونحن ذمّة الله ، ونحن عهد الله. فمن وفى بعهدنا فقد وفى بعهد الله ، ومن أخفرهما (٤) فقد خفر ذمّة الله وعهده. (٥)

وفي «تفسير الفرات» (٦) عن جعفر بن محمد الفزاري (٧) ، عن محمد بن

__________________

(١) غافر : ٦٠.

(٢) تفسير القمي : ج ١ ص ٤٦.

(٣) الكافي : ج ١ ص ٤٣١ ح ٨٩.

(٤) الخفر : الوفاء بالعهد ، والإخفار : نقض العهد ، والهمزة فيه للإزالة والسلب.

(٥) الكافي : ج ١ ص ٢٢١ ، مرآة العقول : ج ٣ ص ١٠.

(٦) هو أبو القاسم فرات بن ابراهيم بن فرات الكوفي من أعلام الشيعة ومن معاصري الكليني ، وربما كان من الناحية الفكرية زيديا ولعلّ السبب في عدم ذكره في الكتب الرجالية هو أنه لم يكن إماميا حتى تهتم الامامية به ، ولم يكن سنيّا حتى تهتم السنة به ـ راجع مقدمة التفسير ص ١٠ ـ ١١ ـ بتحقيق محمد كاظم.

(٧) هو جعفر بن محمد بن مالك الفزاري أبو عبد الله الكوفي وثقه الشيخ الطوسي وقال : يضعّفه قوم ، روى الفرات عنه في أكثر من مائة مورد.

٤٥١

الحسين الصائغ (١) ، عن موسى بن القاسم (٢) ، عن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) قال : أوفوا بولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام فرض من الله أوف لكم الجنة. (٣)

وفي «معاني الأخبار» باسناده الى ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا أنزل الله عزوجل : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) والله لقد خرج آدم من الدنيا وقد عاهد قومه على الوفاء لولده شيث ، فما وفى له ، ولقد خرج نوح من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيّه إسماعيل ، فما وفت أمته ، ولقد خرج ابراهيم من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيّه إسماعيل ، فما وفت أمته ، ولقد خرج موسى من الدنيا وعاهد قومه على الوفاء لوصيّه يوشع بن نون ، فما وفت أمّته ، ولقد رفع عيسى بن مريم الى السماء ، وقد عاهد قومه على الوفاء لوصيّه شمعون بن حمون الصفا ، فما وفت أمته ، وإني مفارقكم عن قريب ، وخارج من بين أظهركم ، ولقد عهدت إلى أمتي في عهد علي بن أبي طالب ، وإنها لراكبة سنن من قبلها من الأمم في مخالفة وصيي وعصيانه ، ألا وأني مجدّد عليكم عهدي في عليّ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما.

أيها النّاس إنّ عليا إمامكم ، وخليفتي من بعدي عليكم ، وهو وصيي ووزيري وأخي وناصري وزوج ابنتي ، وأبو ولدي وصاحب شفاعتي وحوضي ولوائي من

__________________

(١) محمد بن الحسين أبو جعفر الصائغ توفي سنة (٢٦٩) ه.

(٢) موسى بن القاسم بن معاوية البجلي قال النجاشي : ثقة ثقة جليل حسن الطريقة له كتب ، ووثّقه الشيخ وقال : له ثلاثون كتابا.

(٣) تفسير الفرات : ص ٥٨ ح ١٨.

٤٥٢

أنكره فقد أنكرني ، ومن أنكرني فقد أنكر الله تعالى ومن أقرّ بإمامته فقد أقر بنبوّتي ، ومن أقرّ بنبوّتي فقد أقرّ بوحدانية الله عزوجل.

يا أيها الناس من عصى عليّا فقد عصاني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليّا فقد أطاعني ، ومن أطاعني فقد أطاع الله عزوجل.

يا أيها الناس من ردّ على علي في قول أو فعل فقد ردّ علي ومن ردّ عليّ فقد ردّ الله فوق عرشه.

يا أيها النّاس من اختار منكم على عليّ إماما فقد اختار عليّ نبيّا ، ومن اختار عليّ نبيّا فقد اختار على الله عزوجل ربّا.

يا أيها الناس إنّ عليّا سيّد الوصيّين وقائد الغرّ المحجّلين ، ومولى المؤمنين ، ووليّه وليّي ، ووليّ وليّ الله ، وعدوّه عدوّي وعدوّي عدو الله عزوجل.

أيّها النّاس أوفوا بعهد الله في علي يوف لكم بالجنة يوم القيامة. (١) (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) إياي ضمير منفصل منصوب بفعل مقدّر بعده يفسّره الفعل المذكور أي إياي ارهبوا ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله : «فارهبون» لأنه مشغول كما لا يجوز في قولك : «زيدا فأكرمه» أن يكون منصوبا بقولك «فأكرمه» وعدم ظهور الفعل الناصب لاستغنائه عنه بما يفسّره.

(فَارْهَبُونِ) الرهبة ، والخشية ، والمخافة نظائر.

وقال الراغب في «المفردات» : الرهبة والرهب مخافة مع تحرّز واضطراب ، «وإياي فارهبون» أي فخافون. (٢)

__________________

(١) معاني الأخبار : ص ٣٧٢ ـ ٣٨٣ ح ١ ، وعنه تفسير البرهان : ج ١ ص ٩٠ ح ٥.

(٢) المفردات كتاب الراء : ص ٢٠٤.

٤٥٣

وقال الشيخ في «التبيان» : الفرق بين الخوف والرهبة أنّ الخوف هو شكّ في أنّ الضرر يقع أم لا. والرهبة معها العلم بأنّ الضرر واقع عند شرط ، فإن لم يحصل ذلك الشرط لم يقع. (١)

وقال الرازي في «مفاتيح الغيب» : اعلم أنّ الرهبة هي الخوف ، قال المتكلّمون : الخوف منه تعالى هو الخوف من عقابه ، وقد يقال في المكلّف : إنه خائف على وجهين : أحدهما مع العلم ، والاخر مع الظنّ ، أمّا مع العلم فإذا كان على يقين من أنه أتى بكلّ ما أمر به ، واحترز عن كلّ ما نهي عنه ، فانّ خوفه إنما يكون عن المستقبل ، وعلى هذا نصف الملائكة والأنبياء عليهم‌السلام بالخوف والرهبة ، قال تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٢) وأما الظنّ فإذا لم يقطع بأنّه فعل المأمورات واحترز عن المنهيّات فحينئذ يخاف أن لا يكون من أهل الثواب.

واعلم أنّ كلّ من كان خوفه في الدنيا أشدّ كان أمنه يوم القيامة أكثر ، وبالعكس.

روي : أنّه ينادي مناد يوم القيامة : وعزّتي وجلالي إنّي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أمنين ، ومن أمنني في الدنيا خوّفته يوم القيامة ، ومن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة. (٣)

__________________

(١) التبيان : ج ١ ص ١٨٤.

(٢) النحل : ٥٠.

(٣) مفاتيح الغيب : ج ٣ ص ٣٩ ـ ٤٠ ، الخصال : ج ١ ص ٣٩ ، وفيه : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انه قال : قال الله تبارك وتعالى : وعزّتي وجلالي لا أجمع على بعدي خوفين ولا أجعل له أمنين ، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة.

٤٥٤

اعلم أنّ الفاء في (فَارْهَبُونِ) وأمثاله المكررة في القرآن كثيرا فيها قولان :

أحدهما : أنها فاء الجواب المقدر ، تقديره : تنبّهوا ، كقولك ، «الكتاب فخذ» أي تنبّه فخذ الكتاب ، ثمّ قدّم المفعول اصطلاحا للّفظ لئلّا تقع الفاء صدرا ، والقول الثاني : أنها زائدة.

والنون في «فارهبون» ليس نون الجمع لأنها مكسورة ونون الجمع محذوفة جزما ، بل هي نون الوحدة والوقاية تدلّ بكسرها على ياء محذوفة.

وقرأ ابن أبي إسحاق : «فارهبوني» بالياء على الأصل. (١)

قال الطبرسي في «المجمع» : حذف الياء لأنه رأس آية ورؤوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوي فيها الوقف ، كما يفعل ذلك في القوافي ، وأجمعوا على إسقاط الياء من قوله : «فارهبون» إلّا ابن كثير (٢) ، فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف ، والوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء ، وفي كسر النون دلالة على ذهاب الياء. (٣)

ويستفاد من جملة (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) حصر الرهبة في الله تعالى ، كما في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، بل قال الزمخشري : «وهو أوكد في افادة الاختصاص من (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). (٤)

__________________

(١) البحر المحيط لأبي حيّان : ج ١ ص ١٧٦.

(٢) هو عبد الله بن كثير بن عمرو أبو معبد المكي القارئ المقري في مكة المكرّمة ولد بها سنة (٤٥) ه ومات سنة (١٢٠) ه ، غاية النهاية : ج ١ ص ٤٤٣ ـ ٤٤٤.

(٣) مجمع البيان : ج ١ ص ٩٢.

(٤) الكشاف للزمخشري : ج ١ ص ١٣١.

٤٥٥

قال المجلسي قدس‌سره في البحار : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) قيل : الرهبة خوف معه تحرّز ، ويدلّ على أنّ المؤمن ينبغي ألّا يخاف أحدا إلّا الله (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (١) ، أي بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الدنيا ، وقيل : الرهبة مقدّمة التقوى. (٢)

وفي «الخصال» : أنواع الخوف خمسة : خوف ، وخشية ، ووجل ، ورهبة ، وهيبة ، فالخوف للعاصين ، والخشية للعالمين ، والوجل للمخبتين ، والرهبة للعابدين ، والهيبة للعارفين.

أما الخوف فلأجل الذنوب ، قال الله عزوجل : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٣) ، والخشية لأجل رؤية التقصير ، قال الله عزوجل (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٤).

وأما الوجل فلأجل ترك الخدمة قال الله عزوجل (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (٥). والرهبة لرؤية التقصير قال الله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (٦) يشير الى هذا المعنى. (٧)

__________________

(١) البقرة : ٤١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧٠ ص ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٣) الرحمن : ٤٦.

(٤) فاطر : ٢٨.

(٥) حج : ٣٥.

(٦) آل عمران : ٢٩ و ٣٠.

(٧) الخصال : ٢٨١.

٤٥٦

(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي لا بدّ أن يكون الخوف من الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير ، والمطّلع على الضمائر والظواهر ، فإنّ الرهبة إن كانت لأجل عظمة الموهب منه وجلاله فلا نهاية لهما فيه عزوجل ، وإن كانت لأجل علمه بموجبات السخط والعقاب فلا يعزب عن علمه شيء في السماوات والأرض ، وإن كانت لأجل قهّاريته التامّة فهي من أخصّ صفاته ، وعهوده هبات منه عزوجل فيكون نقضها عظيما.

تفسير الآية (٤١)

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) عطف على ما تقدّم ، وتفصيل بعد إجمال ، فإنّ قوله تعالى : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) (١) يشمل الإيمان بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّه تعالى ذكره بالخصوص تنبيها لهم ، وتعظيما لأمره ، وهذه الآية المباركة تدل بالدلالة الالتزامية العادية على اخبار موسى عليه‌السلام بشريعة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ كلّ شريعة سابقة لا بدّ أن تخبر بالشريعة اللاحقة ، كما أخبر تعالى عن الشرائع السابقة في القرآن.

وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) يدل على تصديق هذه الشريعة لما تقدم من الشرائع.

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٠.

٤٥٧

(وَآمِنُوا) المخاطبون به هم بنو إسرائيل بدليلين : الأوّل : أنّه معطوف على قوله تعالى : (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) (١) والثاني : قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

وقيل : نزلت في كعب بن الأشرف (٢) وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم ، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في (أَوْفُوا بِعَهْدِي) بمجموع الأمر به والحثّ عليه المستفاد من قوله تعالى : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) للاشارة إلى أنّه المقصود للوفاء بالعهود.

والظاهر أنّ المخاطبين بهذه الآيات جميع بني إسرائيل كما تقدم ويندرج فيه كعب ومن معه.

(بِما أَنْزَلْتُ) ، (ما) موصولة و (أَنْزَلْتُ) صلته والعائد محذوف ، أي أنزلته.

وقيل : (ما) مصدرية ، قال أبو حيّان الاندلسي : وابعد من جعل ما مصدريّة

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٠.

(٢) كعب بن الأشرف الطائي من بني نبهان : شاعر جاهلي كانت أمّه من بني النضير فدان باليهودية. يقيم في حصن له قريب من المدينة يبيع فيه التمر والطعام ، أدرك الإسلام ولم يسلم. وأكثر من هجو النبيّ وأصحابه وتحريض القبائل عليهم. والتشبيب بنسائهم ، وخرج الى مكة بعد وقعة بدر فندب قتلى قريش فيها وحضّ على الأخذ بثارهم ، وعاد الى المدينة ، وأمر النبي بقتله فانطلق اليه خمسة من الأنصار وقتلوه سنة (٣) ه ، الأعلام : ج ٦ ص ٧٩ ـ ٨٠.

٤٥٨

وأنّ التقدير ـ وآمنوا بانزالي لما معكم من التوراة ـ فتكون اللام في (لِما) من تمام المصدر لا من تمام (مُصَدِّقاً) ، وعلى القول الأوّل يكون (لِما مَعَكُمْ) من تمام (مُصَدِّقاً) ، واللام على كلا التقديرين في (لِما) مقوّية للتعدية كاللام في قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١).

والمراد بما أنزل الله تعالى هو القرآن ، والذي معهم هو التوراة والإنجيل.

وقال قتادة (٢) : المراد بما أنزلت من كتاب ورسول يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (٣).

وإذا تدبّرنا الكتاب الكريم وتعقّلنا معنى النزول والإنزال من الله تعالى علمنا أنّ النزول والإنزال لم يكونا من السماء المحسوسة بالبصر ، فإنّ الله سبحانه وتعالى منزّه عن المكان بل المراد النزول والإنزال عن مقام أسمى من التصور.

فكما أنّ القرآن نازل إلى أراضي القلوب من سماء الربوبيّة كذلك الرسول نازل برسالته ووحيه ـ وتتحمّل الآية الكريمين كليهما ـ وصرّح سبحانه بأنّه تعالى أنزل كتابه وأنزل رسوله ـ قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ

__________________

(١) البروج : ١٦.

(٢) هو قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز ابو الخطاب السدوسي البصري ـ مفسّر حافظ ضرير أكمه ـ كان أحفظ أهل البصرة ـ ولد سنة (٦١) ه ومات بواسط سنة (١١٨) ه ، الأعلام : ج ٦ ص ٢٧.

(٣) البحر المحيط لأبي حيّان الاندلسي محمد بن يوسف المتوفى (٧٥٤) : ج ١ ص ١٧٦ ـ ١٧٧.

٤٥٩

وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) (١).

وقال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) ـ (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٢).

وكما أنّ القرآن يصدّق كتبهم المنزلة من الله تعالى وأنبيائهم كذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يصدّق كتبهم وأنبيائهم.

قال صدر المتألهين (٣) في تفسير في ذيل الآية الكريمة : أمرهم بالإيمان بعد ما أمرهم بايفاء عهد الله تنبيها على أنّه العمدة في ذلك ، بل لأحد أن يقول : إنّ الإيمان بما أنزل الله هو عين الإيفاء بعهد الله ، على التأويل الذي سبق ذكره (٤) في معنى العهد ، وهو النور الذي يتنوّر به القلوب ـ ويسلك به سبيل الآخرة ، وينكشف به حقائق الأمور ، ويطّلع به الإنسان على الحضرة الإلهية وأفعاله وآثاره ولطفه ، وحكمته في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) (٥) فالنور هو جنس معاني القرآن والكتاب آيات ألفاظه وهو آي القرآن منزل

__________________

(١) الكهف : ١.

(٢) الطلاق : ١٠ ـ ١١.

(٣) هو محمد بن ابراهيم صدر الدين الشيرازي الحكيم المتأله كان عالم أهل زمانه في الحكمة صاحب الأسفار الاربعة ـ توفي بالبصرة وهو متوجه الى الحج سنة (١٠٥٠) ه يروي عن المحقق الداماد والشيخ البهائي ـ قال صاحب تفسير الصراط المستقيم في منظومته الرجالية :

ثمّ ابن ابراهيم صدر الأجل

في سفر الحج (مريض) ارتحل

قدوة أهل العلم والصفاء

يروي عن الداماد والبهائي

(٤) تفسير الصدر : ج ٣ ص ١٩١.

(٥) المائدة : ١٥.

٤٦٠