تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٨

أمّا الوجوه النقليّة فمنها قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (١) حيث إنّ ظاهر العطف في أمثال المقام التّرقي من الأدنى إلى الأعلى سيّما مع تخصيص الملائكة بالمقرّبين منهم لكونهم أفضل كما يقال أفضل كما يقال : هذا العالم لا يستنكف من خدمته الوزير ولا الملك المقتدر ، وهذا الحجر لا يقدر على حمله العشرة ولا المائة أولو القوّة إذ من البيّن انّه لا يقال : في الأوّل ولا الجندي ، ولا في الثاني ولا الواحد ، فضلا من أن يوصفا بالحاجة والضّعف او يوصف بهما الأوّلان.

والجواب انّ الكلام إنّما سيق لردّ مقالة النصارى في المسيح حيث ادّعوا فيه مع النّبوة البنوة بل الألوهيّة والتّرفع عن العبوديّة ، ثمّ استطرد الكلام في ردّ من زعم انّ الملائكة بنات الله كما قال : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢) وقال : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) (٣) وتقديم الأوّل لسبق الخطاب مع أهل الكتاب في أمره في الآيات المتقدّمة.

وقد يجاب أيضا بانّ الواو لمطلق الجمع ، فتدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف والملائكة لا يستنكفون ، وامّا الترقّي والتّفضيل فغير مستفاد أصلا كما في قوله : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) (٤) وقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ

__________________

(١) النساء : ١٧٢.

(٢) الزخرف : ١٩.

(٣) الزخرف : ١٦.

(٤) المائدة : ٢.

١٨١

بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ) (١) ، وكذا قولك : ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو ، وما اقترضت من زيد ولا من عمرو.

نعم ربما يستفاد التّرقي إذا علم كون المعطوف أقوى في المعنى المراد ، وأمّا إذا لم يعلم ذلك فإثباته بمجرّد العطف لا يخلو عن دور.

وبانّ النّصارى إنّما توهّموا فيه البنوة بل الألوهيّة لكونه روح الله ولد من غير أب ، ولما ظهر فيه من صفات الرّوحانيّين من إخبار بما يأكلون وما يدّخرون ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص والأعمى ، ولا يبعد أن يكون الملائكة المقرّبون الموكّلون بتلك الشؤون أرفع في هذا المعنى وأقدر على تلك الشؤون والمعنى لا يترفع عيسى عن العبوديّة ولا من هو فوقه في هذا المعنى ، وهم الملائكة الّذين لا أب ولا أمّ ويقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى ، واين هذا من سائر الكمالات العلميّة والعمليّة الموجبة لمزيد القرب وكثرة الثواب.

وبانّه يجوز أن يكون الخطاب متوجّها إلى قوم اعتقدوا أنّ الملائكة أفضل من الأنبياء فاخرج الكلام على حسب اعتقادهم ، كما يقول أحد منّا : لن يستنكف أبي أن يفعل كذا ولا أبوك ، وان كان القائل يعتقد أنّ أباه أفضل ، وإنّما أخرج الكلام على حسب إعتقاد المخاطب وهو ضعيف.

وبانّه مع تقارب المراتب وتداني الدّرجات يحسن أن يؤخّر ذكر الأفضل الّذي ليس بينه وبين غيره فضل تفاوت كما يقال : لن يستنكف من خدمتي هذا الخادم ولا هذا الخادم ، ولا ذلك وان كان بينهم ضرب من التّفاضل من بعض

__________________

(١) المائدة : ١٠٣.

١٨٢

الجهات الّذي لم يساق الكلام للتنبيه عليها.

وبانّه إنّما اخّر ذكر الملائكة عن ذكر المسيح لأنّ جميع الملائكة اكثر ثوابا لا محالة من المسيح منفردا وهذا لا يدلّ على تفضيل كلّ منهم على المسيح ، وهو كما ترى.

وأمّا ما يجاب به أيضا من تسليم فضل الملائكة على المسيح وان كان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله مفضّلا عليهم كلّهم نظرا إلى أنّ المقصود اثبات القضيّة الجزئيّة فضعيف جدّا.

ومنها قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) حيث خصّهم بالذكر بعد التّعميم الشامل للأنبياء وغيرهم ، ووصفهم بالاستكانة والتّواضع ودوام الامتثال والخوف وترك المخالفة على وجه الإطلاق ، وفيه اشارة إلى أنّ غيرهم ليس كذلك ، وانّ اسباب التكبر والتّعظم حاصلة لهم.

على انّه يستفاد منه الاحتجاج بعدم استكبارهم على أنّ غيرهم وجب أن لا يستكبر ، ولو كان البشر أفضل منهم لما تمّ هذا الاحتجاج ألا ترى أنّ السلطان إذا أراد أن يقرّر على رعيّته وجوب طاعتهم له يقول : الملوك لا يستكبرون عن طاعتي ولا يحسن منه ان يحتج عليهم بطاعة الضّعفاء والمساكين له.

والجواب أنّ الآية إنّما تدلّ على الفضيلة لا الأفضليّة ، وفائدة التخصيص بعد التعميم التنبيه على حالهم تمهيدا لردّ من زعم من مشركي مكّة انّهم بنات الله ، ولذا

__________________

(١) النحل : ٤٩.

١٨٣

قال بعد هذه الآية بفصل قليل : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (١) ، الآيات.

على أنّه قد يقال : لا نزاع في انّ الملائكة أشدّ قوّة وقدرة من البشر ، ولو في زعم المخاطبين واعتقادهم ، فكانّه يقول إنّ الملائكة مع شدّة قوّتهم وطول أعمارهم لا يتركون العبوديّة لحظة واحدة فالبشر مع ضعفهم وعروض الفتور والهرم والمرض بالنّسبة إليهم أولى بأن لا يتركوا العبادة ، وهذا القدر كاف في صحّة الاستدلال ، وأين هذا من الدّلالة على الأفضليّة بمعنى كثرة الثواب والاقربيّة؟

ثمّ انّه يحتمل في الآية أن يكون (مِنْ دابَّةٍ) بيانا للموصولة (وَالْمَلائِكَةُ) عطفا عليها لظهور الدّبيب في حركة الأجسام ، فيكون المراد استيعاب الماديات والمجرّدات بناء على القول بتجرّد الملائكة ولذا استدلّ بها عليه على ما يأتي.

ومنها قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢).

والتقريب قريب ممّا مرّ من جهة التخصيص بعد التعميم للتشريف والتكريم والتوصيف بدوام التّسبيح ونفي الاستكبار والاستحسار والفتور ، على أنّ المراد بالعنديّة عنديّة القرب والشرف لا عنديّة المكان والجهة.

والجواب ظاهر بعد ما سمعت ، والعنديّة حاصلة للمؤمنين ايضا : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) ، وفي القدسيات : أنا عند المنكسرة قلوبهم (٤).

__________________

(١) النحل : ٥٧.

(٢) الأنبياء : ١٩ ـ ٢٠.

(٣) القمر : ٥٥.

(٤) في البحار : ج ٧٣ ص ١٥٧ : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اين الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عند المنكسرة قلوبهم.

١٨٤

ومنها : قوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٥) ، حيث إنّ ظاهره ولو بمعونة غيره من الآيات والأخبار كونهم رسلا إلى الأنبياء ، والّرسول أفضل من المرسل إليه ، سلّمنا كونهم رسلا إلى الملائكة ، لكنّ الرسول الّذي كلّ أمته رسل معصومون أفضل ممّن ليس كذلك ، وهو يتمّ على الوجه الاول ايضا.

والجواب انّ الرسالة قد تكون على وجه الحكومة والولاية على النفس والمال وغيرهما وهذا يدلّ على الفضيلة ، وقد تكون على وجه الإخبار والإعلام ومجرّد التبليغ ، ولا دلالة فيه على الأفضليّة كما يرسل السّلطان إلى وزيره واحدا من غلمانه لإعلامه ببعض مقاصده ، ولو مع اطّلاع الوزير قبل ذلك بما أخبره به لإقامة بعض الرسوم ودفع لجاج الخصوم ، فمجرّد الوساطة في التبليغ لا يدلّ على الأفضليّة.

ومنها قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (٦) ، فلو لم يكن حال الملائكة أفضل من حال النّبي لم يحسن منه مثل هذا الكلام.

والجواب أنّ الغرض من سوق الكلام إنّما هو نفي ما لم يكن عليه لا التّفضيل لذلك على ما هو عليه ، ولذا عطف عليه في الآية الاخرى (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) (٧) وهذه منزلة خسيسة ينبغي تنزيه النّبي

__________________

(٥) فاطر : ١.

(٦) الانعام : ٥٠.

(٧) هود : ٣١.

١٨٥

عنها على انّه انّما قال ذلك حين استعجلته قريش العذاب الّذي أوعدوا به بقوله : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١) ، والمعنى انّي لست بملك موكّل بالعذاب حتّى أنزله عليكم باذن الله كما كان ذلك بجبرئيل وغيره من الملائكة ، او انّهم سألوه الأمور العظيمة اقتراحا كصعود السماء واسقاطها كسفا وتفجير العيون من الأرض وغيرها فأجاب بانّي بشر عليّ إقامة الحجّة والهداية على الطّريقة السّوية ، ولست بملك موكّل بهذه الأمور كما حكى عنهم في قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (٢).

ومنها قوله تعالى في بني آدم : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٣) ، بناء على أنّ المكلّفين من مخلوقاته سبحانه أفضل من غيرهم ، وجملة المكلّفين اربعة انواع : الملائكة ، وبنو آدم ، والجنّ ، والشياطين ، ولا ريب انّ بني آدم أفضل من الأخيرين ، فلو كانوا أفضل من الاول ايضا لكانوا أفضل من جميع ما خلقه فلا يستقيم التّفضيل على الأكثر المشعر بعدم التفضيل على القليل سيّما في مقام الامتنان بالتّشريف والتكريم.

__________________

(١) الانعام : ٤٩.

(٢) الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣.

(٣) الإسراء : ٧٠.

١٨٦

والجواب انّك قد سمعت أنّ الآية دليل لنا لا علينا ، ولو بمعونة الأخبار المفسّرة لها حسبما مرّ شطر منها ، ولعلّ المعنى على ما قيل إنّا فضّلناهم على من خلقناه وهم كثير من دون أن يريد التّبعيض فيجري مجرى قوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (١) ، اي كلّ ثمن أخذ عنها فهو قليل من دون ان يريد التّخصيص بان يمنع عن الثمن القليل خاصّة ومثله قول الشاعر :

من أناس ليس من أخلاقهم

عاجل الفحش ولا سوء الجزع

وانّما أراد نفي الفحش والجزع على إطلاقهما وان وصفهما على صورة التقييد ، مع أنّه يمكن أن يكون المراد هو التّفضيل في وجوه الكرامة المذكورة في الآية من رزق الطّيبات وحملهم في البرّ والبحر وأين هذا من الأفضليّة بالأقربيّة واكثريّة الثّواب ، سلّمنا لكنّه لا حجيّة في دليل الخطاب في مثل المقام على ما قرّر في الأصول من عدم حجيّة مفهوم العدد واللّقب ونحوهما ، سلّمنا لكنّه باعتبار مقابلة المجموع بالمجموع.

ومنها قوله تعالى : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢) ، اي إلّا كراهة أن تكونا ملكين فرغّبهما في التناول من الشجرة في منزلة الملائكة حتّى دلّاهما بغرور ، وذاقا منها فبدت لهما سوءاتهما ، ومن البيّن أنّ التّغرير إنّما يحصل بالتّرغيب على منزلة هي فوق منزلته حتّى يحمله ذلك

__________________

(١) المائدة : ٤٤.

(٢) الأعراف : ٢٠.

١٨٧

على مخالفة الله ومعصيته طمعا في الارتقاء إلى منزلة الملائكة ، وهو دليل على فضلهم عليهما.

والجواب انّه من المحتمل قويّا أن يكون المراد اختصاص النّهي بهذين الفريقين اعني الملائكة والخالدين فكان غرض إبليس إيقاع الشبهة لهما بأنّه إنّما تعلّق النّهي بهما وانّ عدم الاكل مختصّ بمن كان ملكا او مخلّدا فيها ، وهذا كما تقول لواحد من فقراء السادات : ما حرّم الله عليك أخذ الخمس إلّا أن تكون غنيّا او من غير بني هاشم اي بكونك كذا وكذا ، وهذا كما ترى لا يدلّ على كونهما أفضل منه ، سلّمنا أنّ الصّورة الملكيّة والخلود كانا مرغوبين لهما لكنّه لا يدلّ على زيادة الفضل وكثرة الثواب والقرب بحصول شيء منهما ، ولعلّه إنّما رغّبهما في أن يكونا مساويين لهم في التجرّد والانسلاخ عن عوارض التركيب وان اختصا عنهم بمزيد الأجر والثواب كما أنّه رغّبهما في الخلود الّذي لا يقتضي مزيّة في الثواب ، وانّما هو نفع عاجل ، بل من البيّن انّ كلّا من الخلود والملكيّة ينافي زيادة الاستحقاق ورفع الدّرجة.

وامّا ما يجاب عنه ايضا من أنّ هذا قول إبليس فلا يكون حجّة ، وآدم وان اعتقد صحّة ذلك إلّا أنّه لم يكن نبيّا في ذلك الوقت ، وايضا لعلّه كان مخطئا في ذلك الاعتقاد لجواز الزلّة على الأنبياء ، سلّمنا كونه حجّة لكن آدم عليه‌السلام لم يكن قبل الزّلة نبيّا فلم يلزم من فضل الملك عليه حينئذ فضله عليه بعد نبوّته ، فلا يتم شيء منهما على الأصول المقرّرة عندنا كما لا يخفى ، ولعلّه إنّما ذكره من ذكره منّا على وجه الفرض والتّقدير ، كما أنّه يمكن أن يقال : سلّمنا دلالتها على فضله على آدم لكنّها لا

١٨٨

تدلّ على فضله على أولي العزم الذين هم أفضل من آدم ، وايضا لا تدلّ على فضل الملك على نبيّنا وآله الطّاهرين صلّى الله عليهم أجمعين الّذين هم أفضل من جميع الأنبياء والمرسلين.

ومنها قوله تعالى حكاية عن النسوة على وجه التقرير في تفاوت الدّرجة لا النّفي (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (١) بناء على أنّه ليس المراد وقوع التشبيه في الصورة بل في السيرة حيث انّه شبّهه بالملك الكريم ، والملك إنّما يكون كريما بسيرته المرضيّة الّتي هي نفي دواعي البشريّة من الشهوة والغضب والحرص على طلب المشتهى واثبات أضدادها من العصمة وغضّ البصر وقمع موادّ الشهوات والميل إلى المحرّمات ، فدلّ على أنّ جنس الملك أفضل من جنس البشر حتّى بالنّسبة إلى نوع الأنبياء كما هو قضيّة المورد.

والجواب أنّ هؤلاء النسوة اوّل ما رأين من يوسف إنّما هو حسن الصورة وكمال الجمال بحيث لم يرين مثله أحدا من الرجال ولذا نفين عنه البشريّة وظهر لهن عذر امرأة العزيز في شدّة عشقها له وعند ذلك قالت (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (٢) ولذا قيل إنّه كالصّريح في أنّ المراد إنّما هو حسن الصّورة لا كمال السّيرة ، سلّمنا انّ المراد هو التشبيه في الاعراض عن المشتهيات إلّا أنّه قد ظهر ممّا مرّ انّ قليل الاعراض من البشر يوجب كثير الثواب وكثير الاعراض من الملك يوجب قليل الثواب لمعارضة القوى المتضادّة في البشر دون الملك.

__________________

(١) يوسف : ٣١.

(٢) يوسف : ٣٢.

١٨٩

ومنها قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ) (١) ، الشامل بعمومه لجميع المكلّفين حتّى الأنبياء والمرسلين فيدلّ على أفضليّة الملائكة لحفظهم وكتابتهم المقصودة للشهادة لهم وعليهم بأعمالهم.

وضعفه واضح فإنّ شيئا من الحفظ والشهادة غير مستلزم للافضليّة أو المفضوليّة ، ولذا يصحّ استنادهما إلى الله وإلى رسوله وإلى من دون المكلّف من الجمادات والنّباتات وسائر أجزاء العالم ، ولذا ورد انّه خير حافظا وانّه تعالى يستشهد على الأمم برسولها وعلى الرّسل بنبيّنا وآله صلّى الله عليهم وانّه يستشهد على ابن آدم بالساعات والشهور والبقاع والأرضين وغيرها.

ومنها قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) (٢) ، وقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٣) ، فانّ أولي العلم في الاولى يشمل الرسل والتقدّم الذكري فيهما سيّما بملاحظة الابتداء به سبحانه ووقوعه في كلام الحكيم على الإطلاق يدلّ على التقدّم بحسب الرتبة والشرف.

ويضعّف بانّ الواو لمطلق الجمع واستفادة الاشرفيّة من مجرّد التّرتيب ضعيفة جدّا سيّما بعد ما سمعت من الآيات والصّحاح الصّراح ويؤيّده تقديم الكتب على الرسل في المقام.

ومنها قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٤) ، فانّه يدلّ على أنّ جبرئيل وهو

__________________

(١) الانفطار : ١١.

(٢) آل عمران : ١٨.

(٣) البقرة : ٢٨٥.

(٤) النجم : ٥.

١٩٠

واحد من الملائكة علّم محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو خاتم النّبيين وأفضل المرسلين ولا ريب أنّ المعلّم أفضل من المتعلّم وإذا ثبت فضله عليه ثبت فضله على الجميع ، وايضا وصفه في الآية بشدّة القوى وغيرها من الأوصاف المذكورة في الآيات التّالية.

وقد يقرّر اعلميّة جبرئيل بانّ العلوم قسمان : أحدهما العلم بالمبدإ الحقّ وصفاته وأسمائه وهما مشتركان في معرفته ، والاخر العلم بأفعاله واحوال مخلوقاته من الدّرة إلى الذّرة ، ولا شكّ أنّ جبرئيل عليه‌السلام أعرف بها لأنّه أطول عمرا واكثر مشاهدة لها فكان علمه بها اكثر واتمّ هذا في العلوم الكونيّة وامّا العلوم الشرعيّة الّتي لا يتوصل إليها إلّا بالوحي فهي لم تحصل لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا لاحد من الأنبياء إلّا بواسطة جبرئيل الّذي هو أمين الوحي ولذا كان واسطة بينه تعالى وبين جميع الأنبياء فكان عالما بجميع الشّرائع والأحكام مع علمه بشرائع الملائكة ايضا ولم يحصل هذه العلوم لواحد من الأنبياء ، وقد قال سبحانه : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١).

والجواب أنّ الأعلميّة ممنوعة جدّا كيف وقد تواترت الأخبار بأنّ النّبي والأئمّة صلّى الله عليهم كانوا معلّمين لجبرئيل وغيره من الملائكة المقرّبين ، وانّ الملائكة لخدّامهم وخدّام محبّيهم ، وانّ جبرئيل إذا أتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقعد بين يديه قعدة العبد ، وكان لا يدخل حتّى يستأذنه وانّه ما شرّفت الملائكة إلّا بحبّها لمحمّد وعلي عليهما‌السلام وقبولها لولايتهما ، وانّ الملائكة إنّما خلقوا بعد شيعيتهم وسبّحوا بعد تسبيحهم معلّما منهم والا فقد مكثوا مائة عام لا يعرفون تسبيحا ولا تهليلا إلى غير

__________________

(١) الزمر : ٩.

١٩١

ذلك ممّا مرّت إليه الإشارة في الاخبار المتقدّمة.

وأمّا الآية فالمراد بها التعليم الظّاهري في هذا العالم اقامة لرسم التبليغ ووظيفة الرسالة حسبما نشير اليه في تفسيرها ، مع أنّ فيها وجها آخر وهو نسبة التّعليم إليه سبحانه كما يظهر من تفسير القمي وغيره هذا مضافا إلى ما دلّت عليه الآية من كون آدم معلّما لهم بأمر الله تعالى إرشاده وانّه علّمهم الأسماء كلّها بعد ما لم يعلموها ، وأمّا التقسيم المقرّر لبيان أعلميّة جبرئيل ففيه وجوه من الاختلال ، وذلك للمنع عن الاشتراك في قدر المعرفة وان سلّمناه في أصلها ، وذلك لأنّ المعرفة على حسب الاستعداد والرّتبة والقرب والعبوديّة وقد سمعت تأخّر رتبة جبرئيل عنهم بل عن بعض شيعتهم كالعالين والكروبيّين وغيرهم ، وامّا العلم بالأمور الكونيّة فالاعلم بها من أشهدهم الله تعالى وجعلهم الأشهاد والأعضاد في تكوينها ، وامّا الاحكام الشرعيّة فقد ورد في كثير من الاخبار تفويضها إليهم كما أشير إليه في قوله تعالى : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١) بحسب التأويل (٢) وتّذكر في ذلك كلّه قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٣) ، وقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (٤).

ومنها ما رواه في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : قال الله عزوجل يا بن آدم اذكرني

__________________

(١) ص : ٣٩.

(٢) راجع تفسير الصافي : ج ٤ ص ٣٠١ ط دار المرتضى بمشهد.

(٣) طه : ١١٤.

(٤) القيامة : ١٧.

١٩٢

في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملأك (١).

وفيه مرفوعا قال : قال الله عزوجل لعيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي ، واذكرني في ملأك أذكرك في ملأ خير من ملأ الآدميّين (٢).

وفي بعض الأخبار : بملإ (٣) من الملائكة خير من ملأ الآدميّين.

والجواب ان خيرية ملأ نوع من الملائكة من ملأ كثير من افراد البشر باعتبار قربهم او ملأ جنس الملائكة من جنس بني آدم باعتبار عصمتهم لا ينافي افضليّة الأنبياء والأوصياء عليهم ، سيّما مع ما قيل من اشتمال ملائهم على أرواح النّبيين والمرسلين.

ثمّ انّه قد يحكى اتّفاق الفلاسفة على انّ الأرواح السّماوية المسماة عندهم بالملائكة أفضل من الأرواح النّاطقة البشريّة واستدلّوا عليه ببساطتها وبرائتها من شوب التركيب ولوازم الكثرة الدّاعية إلى الاختلال والفساد ، وأمّا البشر فهو مركّب من النفس والبدن ، والنفس مركّبة من القوى الكثيرة والبدن مركّب من العناصر المتضادّة ، ومن البيّن أنّ البسيط أشرف من المركب ، والملائكة وان لم نقل ببساطتها المطلقة نظرا إلى أنّ كلّ ممكن زوج تركيبي وانّها مركّبة من وجود ومهيّة لكنّها أبسط بالإضافة إلى الإنسان من وجوه كثيرة أوجبت شرافتها ، ولذا كان البسيط على الإطلاق وهو مبدأ الكلّ أعلى من الكلّ.

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ص ٤٩٨.

(٢) الكافي : ج ٢ ص ٥٠٢.

(٣) البحار ج ٦٠ ص ٣٠٠.

١٩٣

وبانّ الروحانيّات لها كمالات فعليّة حاضرة ولذا قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وقد سئل عن الملأ الأعلى صور عارية عن المواد خالية عن القوّة والاستعداد تجلّى لها ربّها فأشرقت ، وطالعها فتلألأت ، وألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله وخلق الإنسان ذا نفس ناطقة ، إن زكاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الاضداد فقد شارك بها السّبع الشداد (١).

وأمّا البشر فكمالاتهم واستعداداتهم بالقوّة لا بالفعل ، ولا يخفى أنّ ما بالفعل التّام أشرف ممّا بالقوّة مع أنّ في الخبر وجوها أخر من الدّلالة أيضا كالتّجرد وقبول التجلّيات الاوليّة وتوسطها بالاشراق على ما دونها والمظهريّة الكلّيّة وكون النفوس الانسانيّة بعد التزكية التامّة مشابهة لها ، مع دلالة التّشبيه على قوّة المشبّه به وكون تلك الجواهر هي العلل الاوليّة لها وغير ذلك ممّا يستفاد منه.

وبانّ الروحانيّات أشرف من الجسمانيّات في العلم والعمل فتكون أشرف مطلقا امّا شرفهم في العلم فلإحاطتها على المغيّبات وعلى الأمور المستقبلة والعلوم الكليّة والكمالات الفعليّة ، وامّا في العمل فلانّهم مواظبون على العبوديّة المحضة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبّحون الليل والنهار لا يفترون ، لا يلحقهم نوم العيون ولا يليهم سهو العقول ، طعامهم التّسبيح ، وشرابهم التقديس ، متجرّدون عن العلائق البدنيّة غير محجوبين بشيء من القوى الحيوانيّة ، وامّا الثّاني فواضح ضرورة رجوع اسباب الشرف والفضل إلى أحد الأمرين.

وبانّ الروحانيات نورانيّات علوية لطيفة فعالة منها العقول الكلّية والنفوس

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤٠ ص ١٦٥.

١٩٤

الفلكيّة والجسمانيّات ظلمانيات سفلية كثيفة منفعلة مشتملة على الحجب الظلمانيّة والغواسق الهيولانيّة.

وبانّ التقسيم العقلي دلّ على ذلك فانّ الموجود الحيّ أشرف من الميّت ثمّ الحيّ امّا خير محض ، او شرير محض ، او خيّر من وجه شرير من وجه ، فالاوّل هو الملك والثّاني هو الشيطان والثالث هو الإنسان.

وبانّ النّفوس النّاطقة وقواها واستعدادتها كلّها فائضة من المبادي العالية الّتي هي المتصرفة فيها المفضية عليها.

إلى غير ذلك من الوجوه الضعيفة المبنية على أصولهم الفاسدة المخالفة للشريعة المصطفويّة على صادعها وآله آلاف الثناء والتحيّة من اثبات العقول المجرّدة والنفوس الفلكيّة واستناد الحوادث إلى التشكلات والانظار الفلكيّة وغيرها ممّا تقوّله الفلاسفة وارباب الهياكل وغيرهم.

هذا مضافا إلى انكارهم الأصول الشرعيّة الحقّة المستفادة من الشريعة من تقدّم خلق الأرواح على الأبدان وانّ أرواح النّبي والأئمّة عليهم‌السلام متقدّمة في الخلقة على غيرهم ، وانّ جميع من سواهم من المجرّدات والماديات والعلويّات والسفليّات وأرواح الأنبياء والملائكة والسماوات والأرضين والكواكب والجنّة وجميع ما في العوالم الكونيّة كلّها مخلوقة من أشعّة أنوارهم كائنة من رشحات قطرات بحارهم ، فإذا أحرزت هذه الأصول وأتقنت ما أشرنا إليه في تضاعيف المباحث السابقة ظهر لك الجواب عن هذه الوجوه وغيرها ممّا أوردوه في المقام ، فلا داعي إلى اطناب الكلام في الجواب عنها بوجوه النّقض والإبرام.

١٩٥

دلالة الآيات الى المذهب الحق

اعلم أنّ هذه الآيات تدلّ بوجوه من الإشارة على حقّية مذهب الإماميّة القائلين بوجوب النصّ والعصمة والأعلميّة وعدم خلوّ العصر عن الحجّة وغيرها من الأصول الحقّة ، وذلك من وجوه.

أحدها : انّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة ، وذلك انّه لما تعلّقت المشيّة الالهيّة والحكمة الربانيّة بعمارة الأرض وإيجاد من يعبده ويوحّده فيها بدأ بالخليفة قبل الخليقة تقديما للأهم على ما هو الأعم ، وذلك لأنّ وجود الخليفة عندنا ليس على وجه التبعية المحضة والغيريّة الصّرفة كما توهّمه من خالفنا في الإمامة حيث جوّزوا مساواته لسائر افراد الرعيّة في قلّة العلم والفضيلة ، وعدم لزوم العصمة ، بل الخليفة عندنا هو المقصود بالذّات ولا بدّ أن يكون وجوده أشرف من وجود رعيّته والاهتمام بخلقه اكثر من الاهتمام بخلق غيره فيكون هو الواسطة في إيصال الفيوض الالهيّة إلى رعيّته ، لا لقصور في فيضه أو عجز منه في إيصاله إلى خلقه ، او لحاجة به إلى من ينوبه عنه فيه ، بل لقصور عامّة الخلق عن قبول فيضه وتلقّي امره ، فالخليفة في العالم كالقلب في البدن ، وكما انّ القلب أوّل الأعضاء خلقة وهو معدن الحرارة الغريزيّة ، فيتكوّن فيه الأرواح الحيوانيّة الّتي هي الأصل للأرواح الطبيعيّة والنّاطقة وغيرهما ، ثمّ يسري منها إلى الكبد والدّماغ وسائر الأعضاء والجوارح بواسطة العروق والشرائين ، كذلك الخليفة اوّل الخلق خلقة في عالم الملكوت او الناسوت ، وهو الواسطة في إيصال الفيوض الالهيّة إلى

١٩٦

سائر الخليقة بتوسّط نوابهم وأمنائهم وحملة علومهم وأحكامهم.

ولذا قال الصادق عليه‌السلام : إنّ الحجّة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق (١).

وانّه ما كانت الأرض الّا ولله منها عالم وانّه لو لم يكن في الأرض إلّا اثنان لكان أحدهما الحجّة (٢) ولو ذهب أحدهما بقي الحجّة ، وانّه ما ترك الله الأرض منذ قبض الله آدم إلّا وفيها امام يهتدى به إلى الله وهو حجّة الله على عباده (٣).

وفي العلوي المستفيض : اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحججه امّا ظاهرا مشهورا ، او خائفا مغمورا لئلّا تبطل حجج الله وبيناته وكم ذا وأين أولئك؟ أولئك والله الأقلّون عددا ، والأعظمون قدرا ، بهم يحفظ الله حججه وبيّناته ، حتّى يودّعوها نظرائهم ، ويزرعوها في قلوب أشباههم ، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة ، وباشروا روح اليقين ، واستلانوا ما استوعره المترفون ، وانسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى ، يا كميل أولئك خلفاء الله في ارضه ، والدّعاة إلى دينه (٤) ، آه.

والاخبار في هذا المعنى كثيرة مذكورة في كتب الفريقين ، ثمّ انّه يستفاد منه تعظيم أمر الخلافة حيث نوّه بذكر الخليفة قبل خلقه وأرشد الملائكة إلى كسب العلوم والمعارف منه وأوجب عليهم السجود له ، ثمّ لمّا امتنع إبليس عن السجود له أخرجه من فسيح ملكوت قربه ، وطرده عن باب رحمته ، وأوجب له الذلّ والصغار

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٧٧ ح ٤ باب الحجة لا تقوم إلا بالإمام.

(٢) الكافي : ج ١ ص ١٨٠.

(٣) الكافي : ج ١ ص ١٧٩ ح ٨.

(٤) البحار : ج ٢٣ ص ٤٦.

١٩٧

والخلود في دار البوار ، ولعنه في جميع كتبه وعلى ألسنة جميع أنبيائه وأوليائه ، وذلك لمخالفته في امر الخلافة الّذي هو الكاشف الأخير عن توحيده سبحانه ، فانّ انكار خلافة الأنبياء وأوصيائهم بمنزلة جحود ربوبيّته سبحانه في الكفر والإلحاد على ما تظافرت به الاخبار.

الخلافة من الله سبحانه

ثانيها : انّ الخلافة لا بدّ أن تكون بتعيين الله سبحانه ونصّه ونصبه ، فانّه منصب جليل ، وله خطب عظيم ، والقلوب مجبولة على حبّ أنفسها ، واختيار الخير لها ، وحيث أنّ الخلق لا يحيطون علما على جميع الحكم والمصالح ، ولا يطلعون على جميع الأسباب والمقتضيات والموانع ، فلذا جعل تعيين الخليفة إلى نفسه تعالى وقال : (إِنِّي جاعِلٌ) فاحتجّ به على عامة خلقه انّه ليس لهم سبيل إلى اختيار الخليفة ، كما لم يكن للملائكة إليه سبيل مع عصمتهم وقدمتهم وصفائهم ووفائهم ودوام عبادتهم وخلوّ فطرتهم عن مقتضيات الدّواعي الشهويّة والغضبيّة والانحرافات البشريّة ، وإذا كان حال الملائكة ذلك على ما يستفاد من الآية فما ظنك بعامّة البشر ، الّذين هم معادن القصور والتقصير مع ما ترى فيهم من خفاء الحقّ وغلبة الباطل ، واستيلاء الجهّال ، ودولة أهل الضّلال ، ثمّ لا يخلو أمرهم امّا أن يكونوا مريدين في زعمهم لاختيار الباطل ومتابعة الهواء والايتمام بأئمّة الضلال ، فالله سبحانه أعزّ واجلّ من أن يدعهم وأهوائهم ولو اتّبع الحقّ أهوائهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ ، وإمّا أن يكونوا مريدين لاختيار من يقوم بالحقّ فيهم

١٩٨

ويقيم كلمة الصدق فيما بينهم ، فإنّي لهم السبيل إلى معرفة من هو كذلك ، وكيف اطمأنّوا انّه لم يقع اختيارهم على من هو الأفسد في الدّين والدّنيا ، وإليه أشير بما في «الاحتجاج» عن سعد بن عبد الله القمي قال : سألت القائم عليه‌السلام في حجر أبيه عليه‌السلام فقلت : أخبرني يا مولاي عن العلّة الّتي تمنع القوم من اختيار امام لأنفسهم قال عليه‌السلام : مصلح او مفسد؟ قلت : مصلح قال : هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح او فساد؟ قلت : بلى قال : فهي العلّة ايّدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك ، قلت : نعم قال : أخبرني عن الرّسل الّذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم الكتب وايّدهم بالوحي والعصمة إذ هم أعلام الأمم وأهدى إلى ثبت الاختيار ، ومنهم موسى وعيسى عليهما‌السلام هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق ، وهما يظنّان انّه مؤمن قلت : لا قال : فهذا موسى كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من اعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربّه سبعين رجلا ممّن لم يشكّ في ايمانهم وإخلاصهم فوقعت خيرته على المنافقين قال الله عزوجل : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا) (١) ، فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله للنبوّة واقعا على الأفسد دون الأصلح وهو يظنّ انّه الأصلح دون الأفسد ، علمنا انّه لا اختيار لمن لا يعلم ما تخفي الصدور وما تكنّ الضمائر وتنصرف عليه السرائر ، وان لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لما

__________________

(١) الأعراف : ١٥٥.

١٩٩

أرادوا أهل الصّلاح (١).

أقول ولعلّ اختيار عيسى عليه‌السلام اشارة إلى ما اختاره من الحواريّين الاثني عشر حيث ضلّ كثير منهم واضلّوا قومه حتّى أنّ واحدا منهم وهو يهودا الاسكر يوطى دلّ الكفّار على أخذه وصلبه لجعل يسير وعدوه به على ما وقع التلويح عليه في أخبارنا والتّصريح به في انجيلهم ، ويدلّ على ذلك ايضا من طرق العامّة والخاصة اخبار كثيرة نورد شطرا منها في تفسير قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٢).

ثمّ انّ المدار في التكاليف على الامتحان والابتلاء بما لا يعرف حقيقته ويستحقر ظاهره ، ولما كان إبليس في الملائكة ولم يكن منهم وكانت الملائكة تظنّ أنّه منهم بل من خيارهم وأراد الله تعالى أن يظهر نفاق المنافق واخلاص المخلص (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٣) فأمرهم بالسجود لآدم فأظهرت الملائكة الانقياد والطّاعة واظهر إبليس الاستكبار والمعصية ، ولم تزل سنّة الله جارية في بني آدم بمثل هذا الامتحان في الايمان ببعث الأنبياء ونصب الأوصياء ، ففيهما ضلّ من ضلّ وهلك من هلك ، وأمّا الإقرار به سبحانه فلعلك ترى الأمم كلّها متّفقة على ذلك ، فالخلافة الّتي هي الولاية العامّة من قبله سبحانه لا بدّ أن تكون جارية مستمرّة في بني آدم بتعيينه سبحانه إلى انقراض العالم ، إقامة للنظم الأتمّ وهداية للعباد إلى ما هو احسن وأقوم.

__________________

(١) الاحتجاج : ص ٢٥٩ و ٢٦٠ وعنه البحار ج ٢٣ ص ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) القصص : ٦٨.

(٣) الأنفال : ٤٢.

٢٠٠