الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

الشيرازي قدس‌سره ـ : أنّ الزمان في قاعدة اليقين قيد ، وفي الاستصحاب ظرف. وظاهر أنّ ظاهر الروايتين هو كون الزمان ظرفا لليقين السابق لا قيدا ، فتنطبق الروايتان على الاستصحاب (١).

وفيه : أنّ الزمان لا يكون قيدا في قاعدة اليقين ، إذ لو كنّا عالمين بالطهارة أوّل طلوع الشمس ، ثمّ شككنا بنحو الشكّ الساري في ذلك ، يكون المورد من موارد قاعدة اليقين ، مع أنّ الزمان ليس قيدا في الطهارة.

نعم ، يعتبر في الاستصحاب أن يكون الزمان ظرفا ، فالصحيح ما ذكرنا من الوجه ، فلا إشكال في دلالتهما أيضا على المطلوب إلّا أنّهما ليستا بصحيحتين ولا بموثّقتين ، إذ في سندهما قاسم بن يحيى ، وقد ضعّفه العلّامة (٢) وابن الغضائري (٣) وإن كان تضعيف ابن الغضائري لا اعتبار به ، لكونه كثير التشكيك ، وإنّما المعتنى به مدحه.

ورواية الموثّقين عنه لا تجعله موثّقا ما لم يعلم أنّهم ممّن لا يروي إلّا عن ثقة كابن أبي عمير ، أو لم يعلم أنّهم من مشايخ الإجازة كعبد الواحد بن عبدوس راوي نافلة العشاء ، فإنّه من مشايخ إجازة الصدوق.

وممّا استدلّ به على المطلوب : مكاتبة علي بن محمد القاساني ، قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : «اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية» (٤).

__________________

(١) ما جاء في هاشم بعض طبعات الرسائل بعنوان «صح» أدرج في متن الفرائد : ٣٣٣.

(٢) خلاصة الأقوال : ٣٨٩ ـ ١٥٦٣ (القسم الثاني).

(٣) تنقيح المقال ٢ : ٢٦ (باب القاف).

(٤) التهذيب ٤ : ١٥٩ ـ ٤٤٥ ، الاستبصار ٢ : ٦٤ ـ ٢١٠ ، الوسائل ١٠ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

٦١

واستدلّ بها الشيخ قدس‌سره على حجّيّة الاستصحاب ، وجعلها أظهر الروايات ، ودلالتها على الاستصحاب بملاحظة كون المراد من اليقين هو اليقين بعدم دخول رمضان ، وعدم ظهور هلال شوّال (١).

وأورد عليه صاحب الكفاية بأنّ المراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان ، وأنّه لا بدّ في وجوب الصوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول رمضان وخروجه ، ولا يصحّ الصوم بدون اليقين بذلك ، وهذا المعنى ممّا تشهد عليه الأخبار الكثيرة ، المدّعى تواترها ، الواردة في يوم الشكّ ، وأنّه يعتبر في صوم رمضان أن يكون مع اليقين بدخول الشهر (٢).

وأيّده شيخنا الأستاذ أيضا بأنّ دلالتها على الاستصحاب مبنيّة على كون الدخول في قوله عليه‌السلام : «اليقين لا يدخله الشكّ» بمعنى النقض ، وليس كذلك (٣).

والظاهر أنّ الاستدلال بالرواية تامّ لا إشكال فيه ، فإنّ النقض ـ كما فسّره الشيخ (٤) قدس‌سره ـ هو رفع الهيئة الاتّصاليّة للشيء ، يقال : انتقض الجدار : إذا تفرّقت أجزاؤه ، والدخول يستعمل في هذا المعنى كثيرا.

قال المحقّق الطوسي : «أدلّة وجود العقول مدخولة» (٥).

وتقدّم في رواية زرارة قوله عليه‌السلام : «ولا يدخل الشكّ في اليقين» (٦).

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٣٤.

(٢) كفاية الأصول : ٤٥٢.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٣.

(٤) فرائد الأصول : ٣٣٦.

(٥) تجريد الاعتقاد بشرح كشف المراد : ١٣١.

(٦) الكافي ٣ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ـ ٣ ، التهذيب ٢ : ـ ١٨٦ ـ ٧٤٠ ، الاستبصار ١ : ٣٧٣ ـ ١٤١٦ ، ـ

٦٢

ووجهه أنّ دخول الشيء في الشيء المتّصلة أجزاؤه لا يمكن إلّا بتفرّق أجزائه ورفع هيئتها الاتّصاليّة ، فلا يتمّ ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره.

وأمّا ما أفاده صاحب الكفاية ففيه : أنّ الرواية لا يمكن حملها على مفاد تلك الروايات ، وهو اعتبار اليقين بدخول رمضان ، والصوم مع اليقين بوجوبه ، فإنّ تفريع قوله عليه‌السلام : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» على قوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» لا يناسب ذلك ، فإنّ الصوم في أوّل الشهر يمكن أن يقع مع اليقين بوجوبه بأن لا يصوم يوم الشكّ في أنّه من شعبان أو رمضان بعنوان أنّه من رمضان ، وأمّا آخر الشهر ويوم الشكّ في أنّه من رمضان أو شوّال فأمره دائر بين المحذورين : الوجوب ، والحرمة ، فلا يمكن أن يصوم فيه مع اليقين بأنّه من رمضان ، فلا معنى لتفريع قوله : «أفطر للرؤية» على قوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» بهذا المعنى من اليقين.

ومن جملة ما استدلّ به على حجّيّة الاستصحاب : قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر» (١) وقوله عليه‌السلام : «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر» (٢) وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال حتى تعرف أنّه حرام» (٣).

ومحتملات هذه الروايات بحسب التصوّر العقلي سبعة وإن كان الممكن

__________________

ـ الوسائل ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل ، الحديث ٣. وتقدّم صدر الحديث في ص ٥٣ ، الهامش (٣).

(١) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ـ ٨٣٢ ، الوسائل ٣ : ٤٦٧ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٢) الكافي ٣ : ١ ـ ٢ و ٣ ، التهذيب ١ : ٢١٥ ـ ٦١٩ ، و ٢١٦ ـ ٦٢١ ، الوسائل ١ : ١٣٤ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

(٣) الكافي ٥ : ٣١٣ ـ ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ـ ٩٨٩ ، الوسائل ١٧ : ٨٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

٦٣

منها في مقام الإثبات أربعة :

الأوّل : كونها مسوقة لبيان الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين للأشياء فقط.

الثاني : كونها مسوقة لبيان قاعدتي الطهارة والحلّ فقط.

الثالث : كونها مسوقة لبيان قاعدة الاستصحاب.

الرابع : كونها مسوقة لبيان قاعدتي الطهارة والحلّيّة واستصحابهما معا ، واختاره صاحب الفصول (١).

الخامس : سوقها لبيان الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين بحسب صدرها واستصحابهما بحسب ذيلها ، وقد اختاره صاحب الكفاية (٢) فيها.

السادس : سوقها لبيان الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين والظاهريّتين.

السابع ـ وهو ما اختاره صاحب الكفاية في حاشية الرسائل (٣) ـ : أنّها تدلّ بصدرها على قاعدتي الطهارة والحلّيّة ، والطهارة والحلّيّة الواقعيّتين معا وبغايتها تدلّ على قاعدة الاستصحاب.

وأفاد في وجه ذلك أنّ «الشيء» المدخول ل «كلّ» في الروايات الثلاث لا شكّ في شموله للمشتبه ، مثل المائع المردّد بين كونه بولا وماء ، كما يشمل المائع المتيقّن كونه ماء ، والمحمول ـ وهو «حلال» أو «طاهر» ـ بالقياس إلى الأوّل حكم ظاهري ، وبالنسبة إلى الثاني حكم واقعي.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ الشكّ والعلم بالموضوع الخارجي ليس من حالات ذلك الموضوع ، بل من حالات المكلّف ، فكيف يكون الموضوع المشتبه مشمولا ل «كلّ شيء حلال»!؟.

__________________

(١) الفصول : ٣٧٣.

(٢) كفاية الأصول : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

(٣) حاشية فرائد الأصول : ١٨٥ ـ ١٨٦.

٦٤

وأجاب : بأنّه لا ينبغي الريب في أنّ المائع ـ الّذي لا يعلم حاله ـ شيء من الأشياء ، فإذا حكم بكونه حلالا ، لا يكون هذا الحكم إلّا ظاهريّا.

وأفاد في وجه دلالتها على الاستصحاب : أنّها بغايتها تدلّ على استمرار الحكم الواقعي أو الظاهري إلى حصول اليقين بخلافه ، فمفادها بحسب الغاية مفاد «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١).

وأورد عليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره : بأنّه لا يمكن دلالة الروايات بصدرها على بيان الحكم الواقعي والقاعدة كليهما بوجوه :

الأوّل : أنّ الحكم الثابت للعموم ك «أكرم كلّ عالم» لا يثبت لجميع أفراد العالم مأخوذة في كلّ فرد الخصوصيّة الفرديّة بحيث يكون الحكم ثابتا لزيد العالم بزيديته ولعمرو بعمريته ، وهكذا ، بل الحكم ثابت لطبيعيّ العالم ملغى عنه جميع الخصوصيّات ومرفوضا عنه جميع القيود ، ف «شيء» في «كلّ شيء نظيف» أو «حلال» وإن كان في نفسه شاملا للمشتبه أيضا إلّا أنّ الموضوع للحكم الواقعي هو الشيء مرفوضا عنه جميع القيود ، وغير ملحوظة فيه خصوصيّة من الخصوصيّات ، وهذا بخلاف الموضوع للحكم الظاهري ، فإنّه هو الشيء ملحوظا فيه كونه مشتبه الحكم ، فدلالة الرواية على الحكم الواقعي للأشياء بعناوينها الأوّليّة وعلى الحكم الظاهري لها بعنوان أنّها مشكوكة ومشتبهة الحكم متوقّفة على كون عنوان «كون الشيء مشتبه الحكم» ملحوظا وغير ملحوظ ، وهو واضح البطلان ، فالمائع المردّد بين الماء والبول بما هو مشتبه ومشكوك الحكم لا يشمله «كلّ شيء حلال» حيث إنّ ظاهره أنّه لبيان حكم الشيء بعنوانه الأوّلي ومن حيث هو ، لا بعنوان الثانوي وبما أنّه مشكوك

__________________

(١) حاشية فرائد الأصول : ١٨٥ ـ ١٨٦.

٦٥

الحكم ، وإن أريد التمسّك به لإثبات حلّيّته الواقعيّة ، فهو تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، إذ المفروض أنّه يحتمل أن يكون بولا وداخلا في أفراد المخصّص الّذي هو الأعيان النجسة ومنها البول.

الثاني : أنّ الحكم الظاهري ، وهكذا موضوعه متأخّر عن الحكم الواقعي وموضوعه بمرتبتين ، فإنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي ، فهو متأخّر عن الشكّ تأخّر الحكم عن موضوعه ، والشكّ متأخّر عن الحكم الواقعي تأخّر كلّ متعلّق عن متعلّقه ، وهكذا موضوع الحكم الظاهري ـ وهو الشكّ في الحكم الواقعي ـ متأخّر عن الحكم الواقعي تأخّر المتعلّق عن متعلّقه ، والحكم الواقعي متأخّر عن موضوعه تأخّر الحكم عن موضوعه ، فكلّ من الحكم الظاهري وموضوعه متأخّر عن كلّ من الحكم الواقعي وموضوعه بمرتبتين ، وما يكون كذلك ـ أي في طول الحكم الواقعي بمرتبتين ـ كيف يمكن إنشاؤه في عرض الحكم الواقعي بكلام واحد! (١) ولعلّ هذا الإيراد مبنيّ على أنّ الإنشاء بمعنى الإيجاد ، وأنّ الحكم يوجد باللفظ ، وهو نحو من الوجود ، وقد قرّرنا في مقرّه أن ليس الإنشاء إلّا إبراز الاعتبار النفسانيّ ، فإذا اعتبر الإنسان في نفسه ملكيّة شيء لشخص ، يقول : «بعتك» وبهذا اللفظ يبرز ما اعتبره في نفسه ، كما أنّ الإخبار أيضا ليس إلّا إظهار ما في النّفس من قصد حكاية المعنى ، وليست له كاشفيّة عن الخارج أصلا لا تامّا ولا ناقصا ، بل كلّ من الإخبار والإنشاء له كاشفيّة عمّا في نفس المخبر والمنشئ من قصد الحكاية في الأوّل ، واعتبار الملكيّة أو غيرها من الأمور الاعتباريّة في الثاني ، وهذه المرحلة مرحلة الدلالة والكاشفيّة في الإخبار

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٤ ـ ٣٧٥.

٦٦

والإنشاء ، ولا يحتمل الصدق والكذب في شيء منهما ، واحتمال الصدق والكذب ناش من احتمال مطابقة قصد المخبر للواقع وعدمه في الإخبار دون الإنشاء.

وعلى ذلك فيمكن للمولى أن يعتبر أوّلا طهارة الماء بعنوانه الأوّلي ، ثمّ يعتبر طهارة ما يشكّ في كونه ماء أو غيره ، ثمّ يبرز هذين الاعتبارين الطوليّين بمبرز واحد.

الثالث : أنّ «كلّ شيء لك حلال» أو «طاهر» إن كان لبيان الحكم الواقعي ، فلا يمكن أن يكون العلم غاية له إلّا بما هو طريق إلى ما هو غاية حقيقة بأن يكون المراد من قوله : «حتى تعلم أنّه قذر» حتى يلاقي البول أو ينقلب إلى عنوان نجس أو غير ذلك.

وإن كان لبيان الحكم الظاهري ، فالعلم بما هو وباللحاظ الاستقلالي غاية ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في استعمال واحد (١).

وهذا الإشكال أيضا غير تامّ ، فإنّ صاحب الكفاية قدس‌سره لم يجعل «حتى تعلم» غاية للحكم الواقعي ولا للحكم الظاهري ، بل جعله غاية لاستمرار الحكم ، ويدّعي أنّ قوله : «حتى تعلم» يدلّ على أنّ الحكم الثابت في الشريعة ـ واقعيّا كان أو ظاهريّا ـ مستمرّ إلى حصول العلم بطروّ ضدّه ، فالعمدة هي الإشكال الأوّل ، وإلّا فمع قطع النّظر عنه لا يرد عليه شيء.

بقي الكلام فيما أفاده في الكفاية من دلالة الروايات بصدرها على الحكم الواقعي ، وبذيلها على الاستصحاب (٢).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٥.

(٢) كفاية الأصول : ٤٥٢ ـ ٤٥٣.

٦٧

وحاصل ما أفاده أنّ «كلّ شيء حلال» أو «طاهر» يدلّ على أنّ كلّ جسم من الأجسام طاهر ، وهكذا كلّ فعل من الأفعال ـ سواء تعلّق بموضوع ، كالشرب المتعلّق بالماء وغيره ، أو لم يتعلّق بموضوع ، كالتكلّم ـ حلال ، بطهارة واقعيّة وحلّيّة كذلك ، وقوله عليه‌السلام بعد ذلك : «حتى تعلم أنّه قذر» أو «قذر» و «حتى تعرف أنّه حرام بعينه» يدلّ بالدلالة الالتزاميّة على أنّ هذا الحكم الثابت من الطهارة والحلّيّة مستمرّ إلى حصول العلم بالنجاسة والحرمة.

وفيه : أنّ كلّ قيد في الكلام إمّا راجع إلى الموضوع المذكور في الكلام ، أو المحمول ، أو النسبة الحكميّة ، فإنّ أجزاء القضيّة ليست إلّا ثلاثة :

فإن كان راجعا إلى الموضوع ـ كقوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) بناء على رجوع قيد (إِلَى الْمَرافِقِ) إلى الموضوع ، وهو اليد ، وأنّه تحديد للمغسول ، لا للغسل ، بمعنى أنّ اليد التي يجب غسلها حدّها إلى المرفق ، ونظيره كثير في العرف ، نحو «اكنس المسجد إلى نصفه» و «اغسل الثوب إلى ذيله» و «بعتك هذه الدار إلى الجدار» ـ فلا يكون له مفهوم إلّا بناء على حجّيّة مفهوم الوصف.

وهكذا إن كان راجعا إلى متعلّق الحكم ، كقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٢) بناء على رجوع القيد إلى الإتمام ، وأنّ متعلّق الوجوب هو إتمام الصيام إلى الليل ، فإنّه أيضا لا مفهوم له ، لعدم منافاة ثبوت الحكم لموضوع مقيّد أو فعل مقيّد مع ثبوته للمطلق أيضا.

وإن كان راجعا إلى الحكم أو النسبة الحكميّة بأن يقال : إنّ الصوم محكوم

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) البقرة : ١٨٧.

٦٨

بالوجوب المستمرّ إلى الليل ، فالقضيّة ذات مفهوم.

ففي المقام إن كانت الغاية قيدا للموضوع ـ وهو «الشيء» ـ حتى يكون المعنى أنّ كلّ شيء ما دام مشكوكا ولم يحصل العلم بنجاسته وحلّيّته طاهر أو حلال ، فمن الواضح أنّها أجنبيّة عن الاستصحاب ، ومفادها ليس إلّا قاعدتي الطهارة والحلّيّة.

وإن كانت الغاية راجعة إلى الحكم أو النسبة الحكميّة ـ بأن كان المعنى أنّ كلّ شيء إلى زمان حصول العلم طاهر أو حلال أو أنّ كلّ شيء محكوم بالطهارة المستمرّة إلى زمان حصول العلم بالنجاسة ، أو محكوم بالحلّيّة المستمرّة إلى زمان حصول العلم بالحرمة ـ فالغاية وإن كان لها مفهوم ، فتدلّ على عدم ثبوت الحكم بعد حصول الغاية ، وثبوته ما لم تحصل إلّا أنّ مفادها حينئذ هو أنّ الشيء محكوم بالطهارة المستمرّة أو الحلّيّة المستمرّة إلى زمان حصول العلم بالنجاسة أو الحرمة ، وأين هذا من الاستصحاب؟ إذ الاستصحاب هو استمرار الحكم الثابت ، لا جعل الحكم المستمرّ ، نظير جعل وجوب الصوم المستمرّ إلى الليل.

وحيث إنّ الحكم الواقعي لا يكون مغيا بالعلم بل غايته إمّا النسخ أو ملاقاة النجاسة مثلا أو الانقلاب أو الاستحالة أو غير ذلك ممّا يكون غاية للطهارة الواقعيّة والحلّيّة الواقعيّة ، فهذا الوجه أيضا يرجع ـ مع اعوجاج ـ إلى الوجه السابق ، وهو رجوع القيد إلى الموضوع.

والحاصل : أنّه لا تستفاد قاعدة الاستصحاب من الروايات ، بل مفادها ليس إلّا قاعدتي الحلّ والطهارة.

نعم ، لو كانت العبارة هكذا «كلّ شيء طاهر وهذا الحكم ثابت ومستمرّ

٦٩

حتى يعلم أنّه قذر» لكانت دالّة على الأمرين لكنّها ليست كذلك.

ومن ذلك ظهر ما في كلام صاحب الفصول من جعل الروايات دالّة على القاعدة والاستصحاب (١) ، وما في كلام الشيخ قدس‌سره في خصوص رواية «الماء كلّه طاهر حتى يعلم أنّه قذر» وادّعائه دلالتها على الاستصحاب ، نظرا إلى أنّ الماء بحسب خلقته الأوّليّة طاهر ، ولم يكن ماء لم يكن طاهرا بحسب الأصل ، وكان مردّدا بين النجاسة والطهارة بخلاف سائر الأشياء ، فالماء دائما حالته السابقة هي الطهارة ، فهذه الرواية تدلّ على أنّ الماء باق على طهارته الأوّليّة الأصليّة ما لم يعلم بعروض النجاسة عليه (٢).

وذلك لأنّ ما ذكرنا ردّا على صاحب الكفاية من رجوع القيد إلى الموضوع أو الحكم ـ إلى آخره ـ يرد عليهما حرفا بحرف ، فاتّضح عدم دلالة شيء من الروايات على استصحاب الطهارة والحلّيّة حتى يسرى إلى غيرهما بعدم القول بالفصل ، بل المستفاد منها هو قاعدتا الحلّ والطهارة في جميع الأشياء أو في خصوص الماء المشكوكة طهارته ونجاسته.

بقيت من الروايات رواية أخرى واردة فيمن يعير ثوبه الذّمّي وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل الخنزير ، قال : فهل عليّ أن أغسله؟ فقال : «لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه» (٣).

ودلالتها على الاستصحاب في موردها تامّة ، فإنّ الإمام عليه‌السلام حكم بطهارة الثوب مستندا إلى طهارته السابقة ، وعدم اليقين بارتفاعها ، لا بمجرّد

__________________

(١) الفصول : ٣٧٣.

(٢) فرائد الأصول : ٣٣٦.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٦١ ـ ١٤٩٥ ، الاستبصار ١ : ٣٩٢ ـ ١٤٩٧ ، الوسائل ٣ : ٥٢١ ، الباب ٧٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٧٠

الشكّ فيها ، فإن تمّ بعدم القول بالفصل فهو ، وإلّا ففي الروايات السابقة غنيّ وكفاية.

ثمّ إنّ المحقّق السبزواري قدس‌سره فصّل بين الشكّ في أصل وجود الرافع ، فالتزم بجريان الاستصحاب فيه ، وبين الشكّ في رافعيّة الموجود ـ سواء كانت الشبهة حكميّة ، كما إذا شكّ في المعاطاة بعد فسخ أحد المتعاملين في بقاء كلّ من العوضين على مالك مالكه قبل الفسخ ، وعدمه ، أو موضوعيّة ، كما إذا شكّ في بقاء الطهارة لخروج رطوبة مردّدة بين البول والمذي ـ فالتزم بعدم جريانه فيه بدعوى أنّ نقض اليقين في أمثال هذه الموارد يكون باليقين ، لا بالشكّ ، إذ الّذي أوقفنا عن العمل على طبق الحالة السابقة والجري على مقتضاها ليس هو الشكّ في رافعيّة الفسخ أو المردّد بين المذي والبول ، ضرورة أنّ هذا الشكّ كان موجودا قبل تحقّق الفسخ وخروج الرطوبة أيضا ، وكنّا نستصحب قبل ذلك قطعا ، بل الّذي أوقفنا عن العمل على طبق الحالة السابقة هو وجود أمر يقيني ، وهو الفسخ وخروج الرطوبة ، فنقض اليقين يكون باليقين لا بالشكّ (١).

وفيه : أنّ كلّ يقين لا يمكن أن يكون ناقضا لليقين ، وإلّا فاليقين بطلوع الشمس أيضا يمكن أن يكون ناقضا ، بل لا بدّ من يقين متعلّق بخلاف ما تعلّق به اليقين السابق حتى يجوز رفع اليد عنه بواسطته.

وما أفاده قدس‌سره من أنّ النقض ليس بالشكّ في رافعيّة الفسخ أو الرطوبة ، لكونه موجودا قبل ، فهو مغالطة واضحة ، فإنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ، فإذا كانت الكبرى قطعيّة وانطباق الكبرى على الصغرى أيضا قطعيّا ، فلا محاله ينتج القياس نتيجة قطعيّة ، أمّا لو كان أحد الأمرين أو كلاهما مشكوكا أو مظنونا ،

__________________

(١) ذخيرة المعاد : ١١٥ ـ ١١٦.

٧١

فلا محالة ينتج القياس نتيجة ظنّيّة أو مشكوكة ، فمشكوكيّة النتيجة ناشئة من مشكوكيّة إحدى المقدّمتين ، وفي المقام صغرى القياس ـ وهي تحقّق الفسخ أو خروج الرطوبة ـ قطعيّة ، وأمّا الكبرى ـ وهي رافعيّة الفسخ أو الرطوبة ـ مشكوكة ، فالنتيجة أيضا ـ وهي انفساخ العقد وارتفاع الطهارة ـ مشكوكة ، والشكّ فيها مسبّب عن الشكّ في كبرى القياس ، والنقض إنّما يكون بهذا الشكّ الحاصل من ضمّ صغرى قطعيّة إلى كبرى مشكوكة.

ثمّ من التفصيلات التفصيل بين الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، وينبغي التكلّم أوّلا في أنّ الحكم الوضعي هل هو مجعول مستقلّ حتى يمكن استصحابه مستقلّا ، أو تابع ومنتزع عن حكم تكليفي حتى يحتاج استصحابه إلى وجود أثر له؟

وتوضيح الكلام يقتضي تقديم أمور :

الأوّل : أنّ الحكم ـ كما مرّ مرارا ـ ليست حقيقته إلّا الاعتبار ممّن بيده الاعتبار ، فإن كان متعلّق هذا الاعتبار جعل الفعل على ذمّة المكلّف ، الّذي هو الوجوب ، أو جعل المكلّف محروما عن الفعل ، الّذي هو الحرمة ، أو جعله مطلق العنان ، الّذي هو الإباحة ، فالحكم تكليفي ، وإلّا فوضعي ، كاعتبار كون شخص محيطا بشيء ومسلّطا عليه ومالكا له.

ولا شغل لنا في تحقيق أنّ الملكيّة من مقولة الإضافة أو بمعنى الجدة ، وهذه أمور اعتباريّة تتحقّق في عالم الاعتبار في مقابل تحقّقها خارجا.

الثاني : أنّ الوجودات الخارجيّة الموجودة في عالم الأعيان كما أنّها على قسمين : متأصّلة ، وهي الجواهر والأعراض بأجمعها التي يعبّر عنها بالمقولات باعتبار أنّها يقال علي الأشياء التي بحذائها ، وانتزاعيّة ، وهي ما لا يكون بحذائه في الخارج شيء يقال عليه ، بل ينتزع عن شيء آخر ، وهي كالعلّيّة المنتزعة

٧٢

عن ذات العلّة ، والمعلوليّة المنتزعة عن ذات المعلول ، ومثل العناوين الاشتقاقيّة بأجمعها ، فإنّ العالم ـ مثلا ـ ليس بحذائه في الخارج شيء ، بل هذا العنوان ينتزع عن وجود جوهر هو الإنسان ، وعرض قائم به ، وهو العلم ، كذلك الوجودات الاعتباريّة على قسمين : متأصّلة ، كالوجوب والحرمة والرخصة ، والملكيّة والرقّيّة وغير ذلك من الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، وانتزاعيّة ، كالسببيّة والمسبّبيّة والشرطيّة والمشروطيّة وغيرها ، فإنّ الوجودات في القسم الأوّل وإن كانت اعتباريّة إلّا أنّ لها تأصّلا في عالم الاعتبار ، بخلاف الوجودات في القسم الثاني ، فإنّها ليس لها تقرّر وتأصّل ، لا في العين ولا في عالم الاعتبار ، بل هي أمور ليس بحذائها شيء ، تنتزع عمّا أخذ في أصل التكليف أو متعلّق التكليف من القيود ، مثلا : عند اعتبار المولى وجوب الصلاة عند دلوك الشمس ، وقوله : «إذا زالت الشمس فصلّ» حيث أخذ الدلوك مفروض الوجود ، وجعله قيدا للوجوب ، ينتزع عنوان السببيّة ، ويقال : إنّ الدلوك سبب لوجوب الصلاة ، وهكذا إذا اعتبر الفراق عند الطلاق ، تنتزع السببيّة عن الطلاق ، وعند أمره بعتق الرقبة المؤمنة تنتزع شرطيّة الإيمان للمأمور به ، وعند اعتباره ثبوت الصلاة المقيّدة بعدم وقوعها حال الحيض ، وقوله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» (١) تنتزع المانعيّة للحيض.

الثالث : أنّ نسبة المعتبر إلى الاعتبار كنسبة الماهيّة إلى الوجود.

إذا عرفت هذه الأمور ، نقول : إنّ السببيّة والشرطيّة والمانعيّة وغير ذلك ممّا يبحث عنه في المقام بأجمعها أمور انتزاعيّة لا تقرّر ولا تأصّل لها في وعاء من الأوعية ، منتزعة عمّا أخذ في المعتبر الّذي هو الحكم وضعيّا كان أو تكليفيّا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٨٨ ـ ١ ، التهذيب ١ : ٣٨٤ ـ ١١٨٣ ، الوسائل ٢ : ٢٨٧ ، الباب ٧ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

٧٣

أو في متعلّق المعتبر ، الّذي هو المأمور به والمكلّف به من القيود ، ولا واقع لها إلّا ذلك ، ولا يعقل أن يكون المجعول والمعتبر مسبّبا عن سبب تكويني حقيقي ، وإلّا ينقلب عن كونه مجعولا تشريعيّا ويصير من الموجودات الخارجيّة.

والحاصل : أنّ هذه الأمور بمعناها الواقعي لا يعقل أن تكون دخيلة في المجعول الشرعي ، الّذي هو أمر اعتباري ، وبغير ذلك المعنى لا تكون إلّا أمورا منتزعة عمّا تقيّد به المعتبر أو متعلّقه. وبعبارة أخرى : التكليف أو المكلّف به وجودا أو عدما ، ولا فرق في ذلك بين الأحكام التكليفيّة والوضعيّة كما عرفت من الأمثلة المتقدّمة.

نعم ، جرى الاصطلاح على تسمية قيود التكليف وما اعتبر وجودها أو عدمها فيه ، وهكذا المكلّف به بالشرائط والموانع ، وتسمية قيود الوضع بالأسباب.

ومن ذلك ظهر عدم تماميّة ما أفاده صاحب الكفاية في المقام من أنّ سبب التكليف وشرطه ومانعة أمور واقعيّة غير قابلة للجعل التشريعي أصلا لا مستقلّا ولا تبعا.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام المجعول والمعتبر ، وأمّا الاعتبار : فقد عرفت أنّه فعل من أفعال النّفس ، كالتصوّر والبناء والتفكّر والتدبّر وغيرها من أفعالها ، فهو من الأمور المتأصّلة ، وليس هو أيضا اعتباريّا حتى يلزم التسلسل أو الدور ، بل هو كسائر الأفعال لا بدّ له من سبب حقيقي وسائر ما يعتبر في تحقّق الأمور المتأصّلة ، وهو أجنبيّ عن محلّ الكلام.

وقد ظهر من ذلك أنّ ما أفاده صاحب الكفاية في الشرط المتأخّر من أنّ

٧٤

شرائط التكليف كلّها شرائط للّحاظ (١) ، وهكذا ما أفاده في باب جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه (٢) ، خلط لمقام الجعل بمقام المجعول ولشرط الاعتبار بشرط المعتبر ، فإنّ لحاظ جميع ما له دخل في التكليف أو الوضع شرط في مقام الاعتبار الّذي هو فعل من أفعال المولى ، لا في المعتبر الّذي هو الحكم ، كما لا يخفى.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ هذه الأمور بأجمعها أمور انتزاعيّة. وأمّا الأمور الاعتباريّة فهي نفس الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة ، وقد عرفت الفرق بينهما ، ولا وجه للخلط بينهما وجعل الأمر الاعتباري مرادفا للأمر الانتزاعي ، وإطلاق أحدهما على الآخر.

وبالجملة ، السببيّة والشرطيّة والمانعيّة للتكليف أو المكلّف به ، التي يبحث عنها في المقام قابلة للجعل بتبع جعل منشأ انتزاعها وهو الأمر بالصلاة عند الدلوك ، أو الحجّ عند الاستطاعة ، أو الصوم عند عدم الحيض والسفر ، وليس لحاظ هذه الأمور شرطا للتكليف ، بل الدلوك بواقعه وحقيقته له دخل في التكليف ، وكذلك واقع الاستطاعة شرط لوجوب الحجّ ، وواقع الحيض والسفر مانع عن وجوب الصوم.

بقي الكلام فيما أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّ سائر الأحكام الوضعيّة مثل الملكيّة والزوجيّة والرقّيّة والوقفيّة وغيرها ليست مجعولة بالاستقلال ، بل هي مجعولة بالتبع ، فإنّها منتزعة عن أحكام تكليفية (٣).

__________________

(١) كفاية الأصول : ١١٨ ـ ١٢٠. يعني أنّ الشّرط هو لحاظ ما يسمّى الشرط لا نفسه بوجوده الخارجي.

(٢) كفاية الأصول : ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٣) فرائد الأصول : ٣٥٠ ـ ٣٥١.

٧٥

وما أفاده غير تامّ أوّلا : بأنّ الالتزام بأنّها منتزعة عن الأحكام التكليفيّة وإن كان ممكنا إلّا أنّه مع إمكان جعلها مستقلّة واعتبارها بالأصالة ـ كما يعتبرها العقلاء كذلك ـ التزام بلا ملزم ، وشعر بلا ضرورة.

وثانيا : بأنّ الأحكام التكليفيّة بحسب ظواهر الأدلّة متفرّعة على هذه الأحكام ، ضرورة أنّ الحكم بجواز التصرّف في ملك نفسه ، وعدم جوازه في ملك غيره ، وجواز الوطء مع زوجته ، وعدم جوازه مع الأجنبيّة متفرّع على الملكيّة وعدمها ، والزوجيّة وعدمها في الأدلّة ، لا العكس.

وثالثا : بأنّا لا نجد في مورد حكما تكليفيّا واحدا أو اثنين أو ثلاثا يكون ملازما لهذه العناوين حتى يصحّ انتزاعها عنه ، بل كلّما نفرض حكما تكليفيّا ، يكون أعمّ من وجه من هذه العناوين ، مثلا : ربما يكون جواز التصرّف ثابتا والملكيّة غير ثابتة ، كما إذا كان مأذونا من قبل المالك أو مضطرّا إلى التصرّف ، وربما يكون بالعكس ، كما إذا كان المالك محجورا عن التصرّف لسفه وغيره ، وهكذا جواز الوطء قد يكون ثابتا بدون الزوجيّة ، كملك اليمين ، وقد يكون بالعكس ، كما إذا عرض مانع لا يجوز معه الوطء من مرض أو حيض أو حلف أو غير ذلك.

وتوهّم انتزاع هذه العناوين عن مجموع الأحكام المترتّبة عليها واضح الفساد ، إذ لازمه زوال الملكيّة مثلا مع زوال أحد أحكامها.

ورابعا : بأنّه لعلّ هذا في بعض الأحكام الوضعيّة من المستحيل كالحجّيّة ، فإنّ أيّ حكم تكليفي يفرض انتزاعها عنه يسقط بالعصيان مع أنّ الحجّيّة لا تسقط بالعصيان.

وخامسا : بأنّ لازم ذلك هو عدم جريان الاستصحاب بالنسبة إلى ما لم يكن سابقا ثابتا من الآثار والأحكام ، فلا يجري استصحاب بقاء الزوجيّة فيما

٧٦

إذا عقد شخص على صغيرة وشكّ حال البلوغ في بقاء علقة الزوجيّة وعدمها ، فإنّ استصحاب بقائها بلحاظ هذا الأثر ـ أي جواز الوطء ـ لا يمكن ، فإنّه يتبع استصحاب الحكم ، والمفروض انتفاء جواز الوطء في حال الصغر. نعم ، بناء على الاستصحاب التعليقي لا محذور فيه.

وهذا بخلاف ما قلنا من أنّ الزوجيّة بنفسها مجعولة ، فإنّ الاستصحاب يجري بلا إشكال ولو لم يكن للزوجيّة المستصحبة هذا الأثر حال وجودها ، لما سيجيء من كفاية وجود الأثر للمستصحب بقاء وحال الاستصحاب أو بعده ، مثلا : يجري استصحاب حياة الولد حال موت أبيه ، ويرتّب عليه إرثه منه وإن لم يكن للمستصحب أثر حال حياة أبيه.

ثمّ إنّه وقع النزاع في بعض الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة في أنّهما هل هما أمران واقعيّان كشف عنهما الشارع أو لا ، بل هما كسائر الأحكام الوضعيّة مجعولتان ، وممّا اعتبره الشارع؟

ذهب الشيخ قدس‌سره إلى الأوّل (١).

وفيه ـ مضافا إلى أنّه خلاف ظواهر الأدلّة ، فإنّ ظاهر «الماء كلّه طاهر» أو «البول نجس» هو أنّ الطهارة حكم ، وأنّ الشارع بما هو شارع حكم بطهارة الماء ، لا بما أنّه عالم بالغيب ، وكذلك النجاسة ، كما في قوله : «هذا ملك» أو «ذاك زوج» ـ أنّه خلاف الوجدان ، إذ أيّ أمر واقعي ـ لا يرى ولا يسمع ولا يدرك بأيّة آلة ولو بوضع ميكرسكوب ـ يوجد بمجرّد الشهادتين ، وينعدم بمجرّد كلمة ردّة ولو كان الرادّ من أنظف الناس؟

وإن كان المراد أنّهما أمران اعتباريّان اعتبرهما الشارع كالنظافة والقذارة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٥٠ ـ ٣٥١.

٧٧

العرفيتين اللتين يعتبرهما العرف والعقلاء ، وأنّ هذا الاعتبار لمصلحة واقعيّة أو مفسدة كذلك مترتّبة على الطاهر والنجس ، فكلّ حكم شرعي يكون كذلك ولا يختصّ بهما ، ويشهد لذلك أيضا حكم الشارع بطهارة المشكوك ، كما يستفاد من قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر» (١) ضرورة أنّ حمله على الإخبار لا يمكن ، لأنّه خلاف الواقع ، فلا بدّ من حمله على الإنشاء ، وأنّه اعتبر الطهارة الظاهريّة للمشكوك.

وتوهّم كونه تنزيلا نظير «الفقّاع خمر» أو «الطواف بالبيت صلاة» فاسد ، إذ لازمه ترتّب جميع آثار الطاهر الواقعي على المشكوك في ظرف الشكّ وعدم العلم بالقذارة ، فلو توضّأ بماء مشكوك النجاسة ثمّ انكشفت نجاسته ، فوضوؤه صحيح يجوز له الدخول في الصلاة مع هذا الوضوء وإن لا يجوز أن يتوضّأ بعد ذلك من هذا الماء ، ومن البعيد التزام الشيخ قدس‌سره أو غيره ممّن يقول بمقالته بذلك ، مع دلالة موثّقة عمّار (٢) على خلاف ذلك أيضا.

وممّا وقع النزاع فيه الصحّة والفساد ، فقيل : إنّهما أمران واقعيّان لا تنالهما يد الجعل. وقيل : كلاهما مجعول.

وفصّل صاحب الكفاية بين العبادات ، فذهب إلى أنّ الصحّة فيها بمعنى انطباق المأمور به على المأتيّ به ، وهو أمر واقعي غير قابل للجعل ، وبين المعاملات ، فالتزم بأنّ الصحّة فيها بمعنى ترتّب الأثر ، وهو أمر قابل للجعل ، فهي مجعولة بتبع جعل الملكيّة أو الزوجيّة وغير ذلك من الأحكام الوضعيّة (٣).

وفيه : ما أشرنا إليه سابقا من أنّ الصحّة والفساد وصفان للموجود

__________________

(١ و ٢) التهذيب ١ : ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ـ ٨٣٢ ، الوسائل ٣ : ٤٦٧ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٣) كفاية الأصول : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٧٨

الخارجي ، ولا يمكن اتّصاف الكلّي بهما ، فإذا وجد ما أمر به المولى على ما هو عليه في الخارج ، ينتزع عنوان الصحّة من انطباق الكلّي المأمور به على الموجود الخارجي المأتيّ به ، وعنوان الفساد من عدم انطباقه عليه ، وهكذا في المعاملات ، فإذا اعتبر المولى الملكيّة عند البيع الصادر عن البالغ العاقل المالك ، أو المأذون منه من دون غرر ولا ربا إلى آخر ما يعتبره ويجعله موضوعا للملكيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وانطبق هذا الموضوع الكلّي على المعاملة الخارجيّة ، ينتزع عنوان الصحّة ، ومع عدمه ينتزع عنوان الفساد ، فهما أمران انتزاعيّان ينتزعان من الانطباق وعدمه ، وليسا بمجعولين لا في العبادات ولا في المعاملات.

نعم ، الصحّة الظاهريّة ـ كما في موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز عند الشكّ في الانطباق في العبادات ، وهكذا في المعاملات في موارد أصالة الصحّة ـ أمر مجعول بتبع جعل نفس الانطباق ، فإنّ الشارع يعتبر انطباق المأمور به على الصلاة التي شكّ فيها بعد الفراغ مثلا ، وهكذا يرى ما جعله موضوعا للملكيّة منطبقا على المعاملة الواقعة المشكوكة ، فهما دائما تنتزعان من الانطباق وعدمه ، غاية الأمر أنّ الصحّة الواقعيّة والفساد الواقعي ينتزعان من الانطباق الخارجي الواقعي ، والظاهري منهما ينتزع من انطباق الجعل ، فالأليق بالتحقيق هو التفصيل بين الواقعي منهما والقول بعدم كونه مجعولا ، والظاهري منهما والقول بمجعوليّته.

وممّا وقع الكلام في أنّه حكم وضعي أو لا : العزيمة والرخصة.

والتحقيق أنّهما أجنبيّتان عن الحكم الوضعي ، فإنّ معنى أنّ سقوط الأذان عند كذا رخصة أنّه لا تكون مطلوبيته بتلك المرتبة الراقية التي كانت في غير هذا المورد ولكن لم يسقط عن المحبوبيّة بل في هذا المورد أيضا مستحبّ

٧٩

ومشروع ، ومعنى كونه عزيمة أنّه غير مشروع ، ولا بدّ من تركه ، وأين هذا من الحكم الوضعي؟

ثمّ إنّ مثل الصلاة والصوم والحجّ وغير ذلك من المركّبات الاعتباريّة التي سمّاها الشهيد قدس‌سره بالماهيّات المخترعة الجعليّة (١) ، وتبعه غيره ، واختاره شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره أيضا ، نظرا إلى أنّها مجعولة للشارع.

والتحقيق أنّها غير مجعولة ، فإنّ ماهيّة الصلاة مثلا مركّبة من الأمور المتباينة والماهيّات المختلفة حقيقتها ، كالقراءة والركوع والسجود وغير ذلك ، والشارع باعتبار ترتّب مصلحة واحدة وغرض ملزم واحد على هذه الأمور لاحظها في مقام التصوّر أمرا واحدا ، ففي مرحلة التصوّر لم تنلها يد الجعل تشريعا ، بل أوجدها وجعلها في النّفس تكوينا ، فإنّ تصوّر كلّ ماهيّة من الماهيّات جعل تكوينيّ لها في عالم النّفس ، وإيجاد لها فيه ، وهكذا في مرحلة إدراك أنّ هذه الأمور المتباينة يترتّب عليها غرض ملزم واحد ومصلحة واحدة ، فإنّ هذا الإدراك أيضا أمر واقعي غير قابل للجعل ، وبعد ما رأى هذه الأمور شيئا واحدا باعتبار ترتّب غرض واحد يجعلها في ذمّة المكلّف ، ويعتبر كونها في عهدته ورقبته ، وهذا الجعل عين جعل الوجوب لها ، فليس وراء جعل الحكم في هذه الماهيّات أمر آخر يكون مجعولا شرعيّا.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره ذهب إلى أنّ الحكم الوضعي لا بدّ وأن يكون مجعولا بنحو القضيّة الحقيقيّة ، كقوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ)(٣) أمّا المجعول بنحو القضيّة الشخصيّة ك «جعلت زيدا

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٢ و ٣٨٣.

(٣) الأنفال : ٧٥.

٨٠