الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

«النقض» الوارد في رواية زرارة (١) في باب الاستصحاب من أنّه عبارة عن أمر مستمرّ حاصل من تلك الأفعال ، لا نفسها ، فإنّها توجد وتنعدم ، ولا معنى لكون شيء ناقضا لها ، فالطهارات تكون من الشرائط المقارنة ، وشرط صلاة الصبح مثلا ـ كما أشرنا إليه ـ هو تلك الحصّة المقارنة لصلاة الصبح من ذلك الأمر المستمرّ ، وأمّا الطهارة الموجودة قبلها وبعدها فهي خارجة عن الصلاة ، أجنبيّة عن كونها شرطا لها.

ومنها : الشرائط المقارنة ، وهي على قسمين :

الأوّل : ما يكون شرطا لمجموع الصلاة مثلا ، بحيث يكون شرطا حتى في السكونات المتخلّلة ، كالاستقبال.

الثاني : ما يكون شرطا لخصوص الأجزاء لا للعمل ، كالاستقرار والنيّة.

أمّا الأوّل : فلا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيه إذا كان محرزا للشرط بالنسبة إلى ما بيده ، مثلا : إذا شكّ حينما يكون ساجدا مستقبل القبلة في أنّ ركوعه هل كان عن استقبال أو لا؟ تشمله قاعدة الفراغ بلا إشكال ، لصدق «المضيّ» و «التجاوز» أمّا إذا كان شاكّا حتى بالنسبة إلى ما في يده من الجزء ، فلا وجه لجريان القاعدة لا بالنسبة إلى الشرط ، لأنّ وجوده مشكوك ولم يمض محلّه الشرعي بالنسبة إلى ما بيده ، وبدونه لا يفيد جريانها بالقياس إلى الأجزاء السابقة ، ولا بالنسبة إلى المشروط وهي الصلاة مثلا ، إذ المفروض أنّه لم يفرغ منها.

ومن هذا القبيل الطهارة بناء على ما اخترناه من كونها من الشرائط

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٢٦١

المقارنة ، فلا تجري قاعدة الفراغ إذا شكّ فيها ، لعدم صدق المضيّ ، فلا وجه لما قيل من أنّه إذا كان الماء عنده ، يتوضّأ ويتمّ صلاته ، لما عرفت من أنّها شرط للعمل حتى في السكونات المتخلّلة ، فلا يفيد إحراز الشرط بقاعدة الفراغ فيما مضى من الأجزاء ، وبالوجدان فيما يأتي ، للزوم إحرازه في هذا السكون المتخلّل بينهما.

وربما يقال بأنّ الطهارة وإن كانت من الشرائط المقارنة إلّا أنّها مسبّبة شرعا عن الغسلات والمسحات ، فلا مانع من جريان القاعدة بالنسبة إلى سببها ، فإنّ محلّه الشرعي قبل الصلاة ، كما يستفاد من قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(١) إلى آخر الآية.

لكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ سببها ليس له محلّ شرعي ، بل حيث لا يمكن عقلا إتيان الصلاة مع الطهارة بدون إيجاد سببها قبل الصلاة ، فلا بدّ من تحصيله قبل الصلاة فليس له محلّ شرعي بل محلّه عقلي ولا اعتبار به ولا بالمحلّ العادي ، وإلّا يلزم تأسيس فقه جديد كما قيل.

وتوهّم أنّ مقتضى التعليل بالأذكريّة اعتبار المحلّ العادي والعقلي أيضا مدفوع بأنّ التعدّي عن مورد العلّة إنّما يكون فيما يناسبه ويسانخه لا مطلقا ، ضرورة أنّه لا يتعدّى عن تعليل «لا تأكل الرمّان» بأنّه حامض إلى مطلق استعمال الحامض بل يتعدّى إلى أكل كلّ حامض ، والتعليل في المقام لعدم الاعتناء تعليل بالشكّ فيما مضى من أجزاء الوضوء وغيرها من المقدّمات الداخليّة ، فلا بدّ من التعدّي عنه إلى الشكّ فيما مضى من الأجزاء أو المقدّمات الداخليّة في كلّ مركّب وضوءا كان أو غيره ، ولا يجوز التعدّي حتى إلى ما هو خارج عن

__________________

(١) المائدة : ٦.

٢٦٢

المركّب من المقدّمات.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو ما يكون شرطا لخصوص أجزاء العمل ، كالاستقرار والموالاة والنيّة ، سواء كانت بمعنى قصد القربة أو قصد عنوان العمل ، فإنّه لا يعتبر في غير الأجزاء ، ولذا لو نوى الخلاف في السكونات المتخلّلة ، لا يضرّ بصحّة صلاته ـ فلا مانع في خصوص الشكّ في الاستقرار من جريان قاعدة الفراغ بالقياس إلى ما مضى من الأجزاء ، فإذا انضمّ الباقي من الشرائط إلى الماضي ، تصحّ الصلاة ، وهذا بلا فرق بين أن يكون محرزا للشرط بالنسبة إلى ما بيده أو لا إذا أتى به وبما بعده صحيحا.

وأمّا الموالاة : فتارة يراد منها الموالاة بين الأجزاء المستقلّة ، كالتكبير والقراءة والركوع والسجود ، واعتبارها بهذا المعنى شرعي كما اعتبرت في الصلاة والوضوء دون الغسل الترتيبي. وأخرى يراد منها الموالاة بين أجزاء كلمة واحدة أو كلمات كلام واحد مرتبط بعضها ببعض.

والشكّ فيها بالمعنى الأوّل مورد لقاعدة الفراغ إذا أحرز تحقّقها فيما بيده ، مثلا : إذا شكّ في السجود بعد إحراز تحقّق الموالاة بينه وبين الركوع في أنّه هل تحقّقت الموالاة بين الركوع وما قبله من الأجزاء أو لا؟ تجري قاعدة الفراغ ، وأمّا إذا كان حال السجود شاكّا في أنّ سجوده كان عن موالاة بينه وبين ما قبله ، فلا يكون موردا لقاعدة الفراغ ، لعدم صدق المضيّ والتجاوز.

نعم ، بما أنّ اعتبار الموالاة ليس مدلولا لدليل لفظي أخذ فيه عنوان وجودي بل مدركه الإجماع ، وأنّ حقيقة الموالاة هي عدم الفصل الطويل ، يمكن استصحاب هذا العدم المتحقّق سابقا.

وأمّا الموالاة بالمعنى الثاني : فحيث إنّها عقليّة ، بمعنى أنّها من مقوّمات تحقّق الكلمة ، وبدونها لا تتحقّق ، فالشكّ فيها يرجع إلى الشكّ في وجود

٢٦٣

أصل الكلمة أو الكلام ، وتجري قاعدة الفراغ بعد الدخول في «الغير» المترتّب ، ولا تجري بدونه.

وأمّا النيّة : فإن كانت بمعنى قصد القربة ، فاعتبارها شرعيّ على ما اخترناه في محلّه ، والشكّ في تحقّقها بعد إتيان الجزء مورد لقاعدة الفراغ ولو لم يدخل في «الغير» المترتّب ، لصدق عنوان المضيّ ، بخلاف الشكّ فيها حال إتيان الجزء ، فإنّه لا يكون كذلك ، لعدم صدق المضيّ.

وإن كانت بمعنى قصد عنوان الفعل ، فاعتبارها عقليّ ، والشكّ فيها راجع إلى الشكّ في أصل وجود المشكوكة صحّته من هذه الجهة ، فلو شكّ في صحّة جزء من هذه الجهة بأنّ شكّ مثلا في صحّة الركوع من جهة أنّه أتى به بقصد صلاة الظهر أو لا ، فإن دخل في «الغير» المترتّب بأن كان شكّه في المثال المذكور في حال السجدة ، تجري قاعدة التجاوز ، وإن كان شكّه في صحّة الركوع بعد الفراغ منه ، لا يكون موردا لقاعدة التجاوز ، لعدم صدق المضيّ والتجاوز.

المسألة التاسعة : أنّ إطلاق الروايات وإن كان يشمل صورة الشكّ في الصحّة مع احتمال الإخلال عمدا إلّا أنّ مقتضى التعليل بالأذكريّة والأقربيّة إلى الواقع عدم جريان القاعدة في هذه الصورة ، كما لا تجري في صورة الغفلة المحضة واحتمال تحقّق الجزء أو الشرط قهرا وصدفة مع شمول الإطلاق لها أيضا ، لصدق الشكّ في الشيء الماضي في كلتا الصورتين.

والحاصل : أنّ مقتضى قوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى» (١) إلى آخره ، وإن كان التعميم وجريان القاعدة حتى مع احتمال الإخلال

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٤٤ ـ ١٤٢٦ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢٦٤

عمدا أو مع العلم بالغفلة حين العمل إلّا أنّ التعليل يخصّص العموم بغير هذين الموردين ، فإذا شكّ في صحّة ما أتى به واحتمل أنّه لم يأت بركوع صلاته عمدا ، لا تجري القاعدة ، فلا بدّ من الإعادة بمقتضى قاعدة الاشتغال ، فإنّ الشكّ في مقام الامتثال ، وهو مورد للاشتغال.

نعم ، لو شكّ في ذلك بعد خروج الوقت ، فليس عليه القضاء ، لأنّ القضاء تكليف جديد ، وهو مشكوك على الفرض ، ففرق بين الوقت وخارج الوقت ، إذ نتيجة عدم جريان قاعدة الفراغ في الوقت هي الاشتغال ، لكون الشكّ في امتثال التكليف المعلوم ، وفي خارج الوقت هي البراءة عن القضاء ، لكون الشكّ في أصل التكليف بالقضاء.

واستصحاب عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت لا يثبت به عنوان «الفوت» الّذي هو موضوع القضاء ، إذ الفوت ـ سواء كان أمرا وجوديّا أو عدميّا ـ عنوان ملازم لعدم الإتيان لا أنّه عينه.

بقي الكلام في عموم القاعدة للشكّ في أجزاء الطهارات الثلاث ، وعدمه ، وعلى تقدير عدم عمومها لها هل يعمّ غير الموارد المنصوصة في الوضوء بالخصوص ، كالشكّ في صحّة الجزء الماضي ، أو لا؟ مثل ما إذا شكّ في حال غسل اليد في أنّه غسل الوجه نكسا ومن الأسفل إلى الأعلى أو من الأعلى إلى الأسفل.

وقد اتّفقت الروايات والفتاوى على لزوم الاعتبار بالشكّ في أجزاء الوضوء في الجملة ، وقد اختلفت كلماتهم في كون الغسل والتيمّم ملحقين به في ذلك أم لا ، وقد ذكر للإلحاق وجهان :

الأوّل : ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ المجعول بالأصالة هو قاعدة الفراغ ، وقاعدة التجاوز ملحقة بها بالحكومة وبالتعبّد المولوي ، فلا بدّ من

٢٦٥

الاقتصار في الإلحاق على مورد التعبّد ، ولم يثبت التعبّد في الطهارات الثلاث مطلقا ، فلا بدّ من الاعتناء بالشكّ فيها قبل الفراغ منها (١).

وقد عرفت عدم تماميّة مبناه قدس‌سره ، وأنّ القاعدتين مجعولتان بجعل واحد ، فلا إشكال في دخولها تحت الكبرى المجعولة ، فلا يتمّ ما أفاده من أنّه متى كان داخلا حتى يحتاج خروجه إلى دليل؟ (٢).

والثاني : ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّ الشارع اعتبر كلّا منها شيئا واحدا باعتبار وحدة أثره ، فغسل الوجه واليدين ومسح الرّأس والقدمين وإن كانت أمورا متعدّدة حقيقة إلّا أنّها أمر واحد في اعتبار الشارع ونظره ، فمن هذه الجهة لا تجري القاعدة في الشكّ في أجزائها (٣).

وهذا الّذي أفاده نظير ما ذكرنا في الشكّ في صحّة كلمة واحدة أو كلام واحد مربوط بعضها ببعض قبل تماميته ، لاحتمال الإخلال بالحرف الأوّل أو الكلمة الأولى ، فإنّ الشكّ وإن كان في الشيء الماضي حقيقة إلّا أنّ حروف الكلمة الواحدة أو كلمات كلام واحد ، مرتبط بعضها ببعض عند العرف شيء واحد ، فلا يصدق المضيّ عرفا.

ولكن لا يخفى ما فيه ، إذ لازمه عدم جريان القاعدة في شيء من المركّبات الارتباطيّة ، فإنّ الصلاة أيضا في نظر الشارع واعتباره أمر واحد ، لوحدة الغرض المتعلّق بها ، ولا يلتزم به أحد ، فلا يصلح هذان الوجهان للمانعيّة عن عموم القاعدة ولا إجماع محقّقا في البين ، بل ذهب صاحب الجواهر قدس‌سره إلى عموم القاعدة لغير الموارد المنصوصة من الوضوء مدّعيا عدم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٨.

(٣) فرائد الأصول : ٤١٢ ـ ٤١٣.

٢٦٦

تعرّض الأصحاب لتخصيص القاعدة بالقياس إلى غير الموارد المنصوصة من الوضوء (١) ، وإن ذكر الشيخ قدس‌سره في طهارته (٢) جملة من الفقهاء المتعرّضين لذلك لكن غايته هي الشهرة الفتوائية ، وهي لا تفيد ، فالصحيح ما ذهب أو مال إليه صاحب الجواهر قدس‌سره من تعميم قاعدة الفراغ والتجاوز لغير الوضوء من الغسل والتيمّم ، وخروج خصوص الوضوء عنه لكن مطلقا لا خصوص الشكّ في أصل وجود الجزء السابق الّذي هو المنصوص ، كما توهّمه صاحب الجواهر ، وذلك لأنّ قوله عليه‌السلام مضمونا : «إذا شككت في شيء ممّا أوجبه الله وسمّاه في كتابه من وضوئك فكذا» (٣) وإن كان ظاهره هو الشكّ في أصل الوجود إلّا أنّك عرفت سابقا أنّ الشكّ في صحّة الشيء بعينه هو الشكّ في أصل وجود المأمور به وتحقّقه ، إذ الفاسد من غسل الوجه مثلا ليس بمأمور به ، فلا وجه للتفصيل في الوضوء ، بل لا بدّ من التفصيل بين الوضوء وغيره من الغسل والتيمّم ، والالتزام بعدم الجريان في الوضوء مطلقا. هذا تمام الكلام في قاعدة الفراغ.

__________________

(١) جواهر الكلام ٢ : ٣٦٢.

(٢) كتاب الطهارة : ١٦٤.

(٣) الكافي ٣ : ٣٣ ـ ١ ، التهذيب ١ : ١٠٠ ـ ٢٦١ ، الوسائل ١ : ٤٦٩ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٢٦٧
٢٦٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

الكلام في أصالة الصحّة في فعل الغير.

لا إشكال ولا كلام في حجّيّة أصالة الصحّة في الجملة ، وتقدّمها على الاستصحاب ـ الجاري في موردها ، كاستصحاب عدم انتقال المبيع إلى المشتري وعدم انتقال الثمن إلى البائع ، المعبّر عنه بأصالة الفساد ـ نحو تقدّم لا أقلّ من أن يكون التقدّم لأجل وجود أصالة الفساد في جميع موارد أصالة الصحّة ، وإنّما الكلام يقع في جهات :

الأولى : أنّ المراد بأصالة الصحّة إن كان حمل فعل الغير على الصحيح من حيث التكليف بمعنى حمله على الجائز والمباح والحسن في مقابل القبيح والحرام ، فهو وإن كان ممّا لا شبهة فيه ، لتظافر الآيات والروايات على ذلك إلّا أنّه خارج عن محلّ الكلام.

وإن كان المراد حمل الفعل على الصحيح من حيث الوضع ، بمعنى ترتيب أثر الصحيح عليه خارجا ـ كما إذا رأينا أنّ أحدا يصلّي على جنازة فاكتفينا بصلاته بأصالة الصحّة ـ فلا يدلّ عليه شيء من الآيات والروايات المذكورة ، والإجماع القولي تحصيله في كلّ مورد مورد صعب مستصعب ، وإنّما عمدة دليلها هي السيرة القطعيّة المعبّر عنها بالإجماع العملي ، المؤيّدة بالتعليل الوارد في ذيل الرواية الدالّة على حجّيّة اليد بأنّه «لو لا ذلك لما قام

٢٦٩

للمسلمين سوق» (١) إذ لم يعهد من أحد من المسلمين التحقيق والتفتيش عن حال معاملة المسلم وإحراز صحّتها وواجديّتها لشرائط الصحّة ، بل إذا اشترى أحد شيئا من أحد ومات في ليلته يحكمون بإرث وارث المشتري المبيع وبمالكيّة البائع للثمن بلا تأمّل.

ونسب إلى المحقّق الثاني التمسّك ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) و (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ)(٣).

وفيه ـ مضافا إلى أنّه أخصّ من المدّعى ، حيث إنّ هذا الدليل مختصّ بباب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون مثل غسل الثوب والعبادات ـ : أنّه مبنيّ على التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، وهو غير جائز ، فإذا شككنا في أنّ البيع الفلاني ربويّ أو لا ، فالشكّ راجع إلى أنّه مصداق للخاصّ حتى لا يكون صحيحا ، أو العامّ حتى يكون صحيحا ، فلا يصحّ التمسّك بالعامّ لإثبات أنّه غير ربويّ.

الجهة الثانية : أنّ مورد أصالة الصحّة هو فعل الغير ، ومورد قاعدة الفراغ هو فعل نفس المكلّف ، ولذا لا تختصّ ببعد الفراغ عن العمل ، بل تجري في أثناء العمل أيضا ، فنحكم بسقوط صلاة الميّت عنّا إذا رأينا مسلما يصلّي عليه ، وهذا بخلاف قاعدة الفراغ ، حيث لا تجري في الأثناء ، بل لا بدّ من المضيّ والتجاوز عن العمل في جريانها ، وليست لنا قاعدة أخرى غير قاعدة الفراغ تسمّى بأصالة الصحّة في فعل نفس المكلّف.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٧ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٣١ ـ ٩٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ـ ٦٩٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ٢.

(٢) المائدة : ١.

(٣) النساء : ٢٩.

٢٧٠

الجهة الثالثة : أنّ المراد من الصحّة هو الصحّة الواقعيّة لا الصحّة عند الفاعل ، كما نسبه الشيخ قدس‌سره إلى بعض المعاصرين (١) ـ وكتب بعض المحشّين أنّ المراد منه هو صاحب القوانين ـ فإنّ هذا الاحتمال ساقط من أصله ، ضرورة أنّ الصحيح عند الفاعل من حيث التكليف خارج عن محلّ الكلام ، ومن حيث الوضع لا تترتّب عليه فائدة أصلا.

الجهة الرابعة : في مقدار سعة دائرة موضوع أصالة الصحّة وضيقها ، وأنّها في أيّ مورد تجري وفي أيّ مورد لا تجري ، فنقول : إنّ الشكّ في صحّة فعل الغير يتصوّر على صور :

الأولى : ما إذا علم الشاكّ بجهل الفاعل بوجوه صحّة الفعل وفساده ، سواء كان في الشبهة الحكميّة ـ كما إذا علم أنّه لا يعلم اعتبار العربيّة في الصيغة وعدمه ـ أو في الشبهة الموضوعيّة ، كما إذا علم بأنّ ما اشتراه طرف للعلم الإجمالي بأن كان هو أو لحم آخر ميتة ، وسواء كان الجهل عذرا له أو لم يكن ، كما إذا علم الشاكّ بأنّ المشتري أيضا يعلم بأنّه طرف للعلم الإجمالي.

الثانية : ما إذا لم يعلم الشاكّ بحال الفاعل من حيث جهله بوجوه الصحّة وعدمه.

الثالثة : ما إذا علم بأنّه عالم بوجوه الصحّة والفساد. وهذه الصورة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما إذا علم باتّفاق النظرين تقليدا أو اجتهادا ، كما إذا علم بأنّه يرى اعتبار العربيّة أو الماضويّة في الصيغة وهو أيضا يعتبرها ، فاحتمال فساد فعله ناش من سهو أو خطأ أو عدم المبالاة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤١٦.

٢٧١

القسم الثاني : ما إذا جهل اتّفاق النظرين واختلافهما.

القسم الثالث : ما إذا علم اختلاف النظرين إمّا بنحو التداخل بأن يرى أحدهما وجوب السورة والآخر استحبابها ، فإنّه يمكن أن يأتي بها استحبابا ، أو بنحو التباين بأن يرى الشاكّ وجوب الجهر في صلاة الجمعة مثلا ، والفاعل وجوب الإخفات فيها ، أو يرى أحدهما وجوب القصر في مورد ، والآخر وجوب الإتمام فيه.

أمّا الصورة الأولى : فلا ينبغي الشكّ في عدم جريان أصالة الصحّة فيها مطلقا ، للقطع بعدم جريان السيرة ـ التي هي عمدة الأدلّة ـ في المقام ، ولا أقلّ من الشكّ ، إذا لم يثبت ترتيب آثار الصحّة على فعل تحتمل صحّته بمجرّد الصدفة الخارجيّة ، إذ المفروض أنّ الفاعل لجهله لا يقدم على الصحيح ، ولو وقع صحيحا ، فإنّما هو من باب الصدفة والاتّفاق ، مع أنّ التعليل ـ الّذي علّل به جماعة على ما ذكره الشيخ (١) قدس‌سره حجّيّة أصالة الصحّة من أنّ ظاهر حال المسلم أن يأتي بالعمل صحيحا ـ لا يجري في هذه الصورة أيضا ، إذ ليس ظاهر حال الجاهل بالصحيح الإقدام عليه.

وأمّا الصورة الثانية : فقد تنظّر الشيخ قدس‌سره في جريان أصالة الصحّة فيها (٢).

لكنّ الظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في جريانها فيها ، إذ أكثر موارد أصالة الصحّة إنّما هو هذه الصورة ، ولولاها للزم العسر الشديد والحرج الأكيد.

وأمّا الصورة الثالثة : فلا ينبغي الإشكال في الجريان في القسم الأوّل منها ، وهو مورد اتّفاق النظرين : نظر الشاكّ ونظر الفاعل ، إذ هو القدر المتيقّن

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤١٦.

(٢) فرائد الأصول : ٤١٧.

٢٧٢

من جريان السيرة ، والتعليل المذكور أيضا جار فيه ، لفرض علم الفاعل بوجوه الصحّة والفساد.

وهكذا تجري في القسم الثاني من هذه الصورة ، وهو مورد الجهل باتّفاق النظرين واختلافهما مع أنّ التعليل المذكور أيضا جار فيه.

وأمّا القسم الثالث من هذه الصورة ـ وهو مورد اختلاف النظرين ـ فالظاهر عدم الجريان ، لعدم العلم بجريان السيرة بل ينبغي القطع بعدم جريانها في الشقّ الثاني منه ، وهو أن يكون اختلاف النّظر بنحو التباين ، فإنّ حمل فعله على الصحيح الواقعي مقتضاه الحكم بإقدامه على الفاسد عنده ، وهو ـ مع القطع بأنّه خلاف السيرة المستمرّة ـ ينافي ظهور حال المسلم في الإقدام على الصحيح ، المذكور في كلام جماعة من الفقهاء ، وعلى ذلك فلا يمكن الاقتداء بمن يختلف نظره مع المؤتمّ الاختلاف التبايني بل الاختلاف التداخلي إذا احتمل اقتصاره على أقلّ الواجب إلّا إذا ثبت أنّ موضوع جواز الاقتداء هو الصحّة عند الإمام لا الصحّة الواقعيّة ، وأنّى لنا بإثبات ذلك؟

الجهة الخامسة : في أنّ موضوع أصالة الصحّة في باب العقود والإيقاعات أيّ شيء هو؟ الاحتمالات ثلاثة :

الأوّل ـ وهو الّذي يظهر من كلام الشيخ قدس‌سره ـ : أن يكون مجرّد الالتزام العرفي ، فإذا صدر التزام عقدي أو إيقاعي من شخص ، يحكم بصحّته سواء كان الشكّ فيما هو ركن له عند العقلاء أو عند الشرع أو كان الشكّ في غير الأركان. وبعبارة أخرى : يكفي في جريان أصالة الصحّة إحراز مجرّد الالتزام العرفي ولو لم تحرز قابليّة العوضين لأن يتملّكا ، وأهليّة المتعاملين للتمليك والتملّك عند العقلاء أو عند الشرع ، فتجري أصالة الصحّة في مورد الشكّ في جنون المتعاملين أو بلوغهما ، وهكذا في مورد الشكّ في ماليّة العوضين أو

٢٧٣

كونهما خمرا ، مع أنّ العقل ممّا به قوام العقد عند العقلاء ، فإنّهم لا يرتّبون الأثر على معاملة المجنون ، والبلوغ ممّا به قوام العقد عند الشارع وإن لم يكن كذلك عند العقلاء ، والماليّة كذلك عند العقلاء ، وعدم كون العوض خمرا كذلك عند الشارع.

الثاني ـ وهو الّذي يحتمل من كلام المحقّق الثاني والعلّامة قدس‌سرهما ـ : أن يكون الموضوع هو العقد العرفي العقلائي ، فكلّ ما رجع الشكّ فيه إلى غير ما يكون قوام العقد به عند العقلاء تجري فيه أصالة الصحّة ، وأمّا إذا كان الشكّ فيما له دخل في عقديّة العقد عندهم كالشكّ في حرّيّة المتعاملين أو جنونهما أو الشكّ في ماليّة العوضين ، فلا تجري ، فعلى هذا يكون موضوع أصالة الصحّة في الشبهات الموضوعيّة هو موضوع أصالة الإطلاق في الشبهات الحكميّة ، فكما إذا شكّ في اعتبار العربيّة أو الماضويّة في العقد يحكم بعدم اعتبارها بمقتضى إطلاق قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(١) لإحراز موضوعه وهو البيع العرفي ، ولا يجوز التمسّك به فيما يشكّ دخله في عقديّة العقد عرفا ، كذلك في أصالة الصحّة ، غاية الأمر أنّه يتمسّك بالإطلاق لرفع كلّ ما تحتمل شرطيته شرعا ، وبأصالة الصحّة لإثبات وجود ما هو شرط شرعا عند الشكّ في وجوده ولو كان المشكوك ممّا له قوام في العقد عند الشرع.

الثالث : هو ما يحتمل أيضا من كلام المحقّق الثاني والعلّامة قدس‌سرهما من أنّ الموضوع هو ما أحرز جميع ما له دخل في عقديّة العقد عند العقلاء والشرع من الشرائط ، فكلّ ما رجع الشكّ فيه إلى قابليّة المتعاقدين للتمليك والتملّك عرفا أو شرعا ـ كالشكّ في رشدهما أو عقلهما المعتبر في قوام العقد عرفا ، وكالشكّ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٢٧٤

في بلوغهما المعتبر في قوامه شرعا لا عرفا ـ أو إلى قابليّة العوضين لأن يتملّكا عرفا ـ كالشكّ في كون العوض خنفساء أو كونه حرّا ، فإنّ الماليّة من مقوّمات العقد عرفا ـ أو شرعا ، كالشكّ في كونه خمرا أو خلّا ، لا تجري أصالة الصحّة. وكلّ ما رجع الشكّ فيه إلى مقام الفعليّة بعد إحراز القابليّة ـ كالشكّ في كون المعاملة ربويّة أو لا ، أو في كونها غرريّة أو لا ـ تجري.

والضابط هو أنّ الشكّ إذا كان فيما هو خارج عن اختيار المتعاقدين ، فلا تجري ، وإذا كان فيما يكون تحت اختيارهما ، فتجري. والظاهر من كلام المحقّق الثاني والعلّامة قدس‌سرهما ـ بقرينة تمثيلهما لما لا تجري فيه أصالة الصحّة بالشكّ في بلوغ المتعاقدين ـ هو هذا المعنى ، لوضوح أنّ الشكّ في البلوغ شكّ فيما له قوام في العقد شرعا لا عرفا.

هذا ، وبما أنّ مدرك أصالة الصحّة ليس إلّا السيرة المستمرّة فلا بدّ من ملاحظة أنّ السيرة بأيّ مقدار متحقّقة؟ وهي في غير الأخير من الاحتمالات غير مقطوعة ، بل في بعض الموارد يقطع بعدم جريانها ، مثل ما إذا باع أحد ما لا يعلم أنّه خمر أو خلّ ، أو باع أحد مال اليتيم ولا يعلم أنّه وليّه أو وكيل لوليّه ، أولا ، أو باع أحد ما لا يكون تحت يده ولا يعلم كونه ملكا له ولا كونه وكيلا عن مالكه ، فإنّ من الضروري أنّ أحدا من المسلمين لا يقدم على الشراء في هذه الموارد بمقتضى أصالة الصحّة.

ويتفرّع على ذلك عدم جواز شراء ما يعلم بوقفيّته بمجرّد احتمال طروّ أحد من مسوّغات بيع الوقف ، فإنّ الوقف ممّا لا يكون قابلا للبيع إلّا إذا عرض له ما يسوّغ بيعه ، فما لم يحرز عروض ذلك لم تحرز قابليّته له ، فلا تجري أصالة الصحّة في بيع المتولّي له.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ أيّ مورد رجع الشكّ فيه إلى أهليّة المتعاملين عرفا

٢٧٥

أو شرعا أو قابليّة العوضين كذلك لا تجري أصالة الصحّة وتجري في غيره ، وذلك لعدم عموم أو إطلاق لفظي يمكن التعميم بسببه ، بل المدرك هو السيرة ، وهي غير متحقّقة في غير الشكّ في الفعليّة ، بل نقول : إحراز القابليّة معتبر في قاعدة اليد أيضا ، فلا تجري فيما لم تحرز أهليّة ذي اليد لتملّك ما في يده أو قابليّة ما في يده لأن يمتلك عرفا أو شرعا. وعبّر المحقّق الثاني عمّا ذكرنا بلزوم إحراز أركان العقد ، والعلّامة قدس‌سره بلزوم إحراز أهليّة المتعاملين ، وهو أحسن تعبير في المقام.

ومن العجيب أنّ الشيخ (١) قدس‌سره استشهد لعموم الموضوع وشموله للشكّ في الأركان بأنّا نرى أنّ المسلمين يعاملون بعضهم مع بعض مع احتمال أنّ ما يشتريه إنّما اشتراه بائعه في حال صغره ، فإنّ هذا لا ربط له بأصالة الصحّة ، وإنّما هو من جهة قاعدة اليد ، إذ لا يعتبر فيها إلّا أن يكون ذو اليد قابلا لتملّك ما في يده ، وما في يده قابلا لأن يتملّك له في حال كونه تحت يده ، واحتمال الانتقال إليه في حال صغره لا يزيد عن احتمال سرقته.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو شكّ في أنّ مجري الصيغة ، الوكيل من قبل المالك في ذلك بالغ أو لا ، تجري أصالة الصحّة مع إحراز بلوغ المالك بناء على عدم اعتبار البلوغ في الوكيل في إجراء الصيغة ، بخلاف الشكّ في بلوغ نفس المالك ، فإنّه لا تجري فيه.

وظهر أنّ مدّعي الصحّة يقدّم قوله ، ولا يحتاج إلى إقامة البيّنة إذا كان منشأ الاختلاف هو الشكّ في الفعليّة بعد الاتّفاق في القابليّة.

__________________

(١) انظر : فرائد الأصول : ٤١٨.

٢٧٦

وظهر أيضا أنّ غير المعاملات بالمعنى الأخصّ أيضا ملحق بها في ذلك ، فلو احتمل كفر من يصلّي على الميّت ، لا يحكم بصحّة صلاته بمقتضى أصالة الصحّة.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره بعد ما عمّم جريان أصالة الصحّة لمورد الشكّ في القابليّة أفاد تفصيلا بعد التنزّل ، وهو أنّ أصالة الصحّة جارية فيما له طرفان وأحرزت القابليّة في أحدهما ، كمطلق العقود والإيقاعات المسبوقة باستدعاء الغير ، وغير جارية في خصوص الإيقاعات الابتدائيّة غير المسبوقة باستدعائه ، فلو شكّ في صحّة معاملة من جهة الشكّ في بلوغ أحد المتعاملين ، فإجراء أصالة الصحّة في فعل من أحرز بلوغه كاف للحكم بصحّة الفعل ، وهكذا إذا ضمن أحد باستدعاء بالغ وشكّ في بلوغ الضامن ، فلو سلّم عدم جريان أصالة الصحّة في فعل الضامن للشكّ في بلوغه ، فلا مانع من إجرائها في فعل المستدعي الّذي علم ببلوغه ، فإنّ مقتضاها أنّ المسلم البالغ لا يعامل مع الصبي ، ولا يستدعي الضمان من غير البالغ ، وهذا بخلاف الضمان الابتدائي غير المسبوق باستدعاء المديون ، فإنّه لو اعتبرنا تماميّة أركان الصحيح ، لا تجري أصالة الصحّة في فعل الضامن ، للشكّ في بلوغه حال الضمان (١).

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّه بعد تسليم اعتبار إحراز القابليّة لا وجه للتفصيل ، بل لا بدّ من القول بعدم الجريان حتى فيما له طرفان ، إذ أصالة الصحّة في فعل البالغ مقتضاها ليس إلّا أنّه بحيث لو انضمّ غيره ممّا له دخل في ترتّب الأثر المرغوب منه ، لترتّب عليه الأثر. وبعبارة أخرى : مقتضاها هو الصحّة التأهّليّة الشأنيّة لا الفعليّة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤١٨.

٢٧٧

وهذا نظير ما أفاده بعد ذلك من أنّه لا يترتّب على أصالة صحّة الإيجاب إلّا صحّة الفعل إذا تعقّبه القبول ، ولا يحكم بملكيّة المشتري بمجرّد الحكم بصحّة الإيجاب بمقتضى أصالة الصحّة (١) ، فإنّ أصالة الصحّة في فعل البائع البالغ أو المديون المستدعي للضمان لا ربط لها بانضمام شيء آخر من بلوغ المشتري والضامن حال الضمان الّذي له دخل أيضا في ترتّب الأثر.

ودعوى أنّ مقتضى أصالة الصحّة في فعل البالغ هو معاملته مع البالغ لا غير ، فيثبت بذلك بلوغ الطرفين ويحكم بصحّة المعاملة ، غير مفيدة ، فإنّ أصالة الصحّة بمعنى أنّه يفعل فعلا مباحا غير ممنوع شرعا مسلّمة لكن ليست هي محلّ البحث ، وبمعنى أنّه فعل فعلا صحيحا يترتّب عليه الأثر لا تقتضي أزيد ممّا يرجع إليه ولا يثبت تحقّق شيء آخر ممّا له دخل أيضا في ترتّب الأثر ، كالبلوغ في المثال.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ أصالة صحّة عقد الفضولي لا تفيد ما لم تحرز إجازة من بيده الإجازة ، وهكذا أصالة صحّة عقد الهبة لا تفيد ما لم يحرز تحقّق القبض في الخارج ، فإنّ الإجازة والقبض أيضا ممّا له دخل في تأثير عقد الفضولي ، كما أنّ القبض له دخل في تأثير عقد الهبة ، ولولاه لم تحصل الملكيّة ، فلو وهب أحد مالا لأحد فمات الواهب وادّعى الوارث عدم تحقّق القبض ، والموهوب له تحقّقه ، لا يحكم بأصالة الصحّة أنّ هذا المال للموهوب له ، بل الأصل الحكمي ـ وهو أصالة عدم انتقاله إليه ـ يحكم بكونه للميّت ، فيرثه وارثه. وهكذا لو طلّق فضوليّ امرأة ، لا يجوز نكاحها بعد انقضاء عدّتها بمقتضى أصالة الصحّة.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤١٨ ـ ٤١٩.

٢٧٨

والضابط الكلّي لما ذكرنا أنّ الأثر ـ كالملكيّة والزوجيّة وغيرهما ـ إذا كان مترتّبا على أمور متعدّدة ، فلا بدّ من إحراز ما لا تجري فيه أصالة الصحّة.

ومن هنا يظهر حكم الفرع المعروف من أنّه إذا أذن المرتهن ثمّ رجع وشكّ في تأخّر رجوعه عن بيع الراهن حتى يصحّ بيعه ، أو تقدّمه حتى يبطل ، وأنّه لا يصحّ التمسّك بأصالة الصحّة لا في الإذن ولا في البيع ولا في الرجوع ، فإنّ بعضا أثبت صحّة البيع بجريانها فيه وبعضا أثبتها بجريانها في الإذن وبعضا أثبت بطلان البيع بأصالة الصحّة في الرجوع.

وليس شيء من هذه الوجوه بتامّ ، أمّا أصالة الصحّة في الإذن : فمقتضاها ليس إلّا أنّه لو تعقّبه البيع تترتّب عليه الملكيّة. وأمّا أصالة الصحّة في الرجوع أيضا : فمقتضاها أنّه لو وقع بعده البيع لا تترتّب عليه الملكيّة ووقع باطلا. وأمّا أصالة الصحّة في البيع : فلا تفيد ما لم يحرز كونه مسبوقا بالإذن ، فبأصالة الصحّة لا يمكن إثبات شيء لا صحّة البيع ولا بطلانه. والأصل الموضوعي ـ وهو استصحاب بقاء الإذن إلى زمان وقوع البيع ـ وإن كان يثبت صحّة البيع إلّا أنّه معارض بأصل موضوعيّ آخر ، وهو استصحاب عدم حدوث البيع إلى زمان الرجوع ، المقتضي لعدم وقوع البيع في زمان يترتّب عليه الأثر فيه ، وهو زمان الإذن ، فتصل النوبة إلى الأصل الحكمي ، وهو أصالة بقاء كلّ ملك في ملك مالكه الأصلي وعدم انتقاله عنه إلى غيره ، فينتج بطلان البيع.

الجهة السادسة : أنّه لا بدّ في جريان أصالة الصحّة من إحراز أنّ الفاعل قصد ما هو جامع بين الصحيح والفاسد ، لترتيب أثر الصحيح ، فإذا كان الأثر مترتّبا على فعل خاصّ ، فلا بدّ من إحراز كون الفاعل قاصدا له سواء كان القصد ممّا له دخل في تحقّق عنوان الفعل ـ بأن كان الفعل من العناوين القصديّة كعنوان التعظيم والتوهين ـ أو لم يكن ، وسواء كان من العبادات أو غيرها.

٢٧٩

أمّا ما كان من العناوين القصديّة فهو كنوع الصلوات ، فإنّ امتياز بعضها عن بعض ليس إلّا بالقصد ، إذ ما لم يقصد الظهر أو الأداء أو الصلاة عن الميّت لا يمتاز عن العصر والقضاء والصلاة عن نفسه.

وأمّا ما لم يكن كذلك فهو كغسل الثوب ، فإنّه لا دخل لقصد التطهير في حصول الطهارة به.

فلا تجري أصالة الصحّة في فعل لا يعلم أنّه صلاة النافلة أو الفريضة اليوميّة ، ولا يجوز الاقتداء بفاعله ، وأيضا لا يجوز الاكتفاء بفعل من نرى أنّه واقف بهيئة المصلّي على الميّت ولا نعلم أنّه قصد الصلاة عنه أو لا ، وهكذا لا يحكم بطهارة ثوب نجس رأينا أنّ مسلما يغسله واحتملنا أنّه لم يكن في مقام التطهير بل كان في مقام إزالة القذارة العرفيّة وأراد تطهيره بعد ذلك. وكلّ ذلك لما ذكرنا من أنّ مدرك هذا الأصل ليس دليلا لفظيّا عامّا أو مطلقا حتى نتمسّك بعمومه أو إطلاقه ، بل المدرك إنّما هو الإجماع العملي والسيرة المستمرّة ، والقدر المتيقّن منها هو غير هذه الموارد.

ومن هنا ظهر أنّ إحراز المستأجر للصلاة عن الميّت قصد الصلاة عن الميّت في فعله لازم ، وتجري أصالة الصحّة لو وقع الشكّ في صحّة صلاته من غير هذه الجهة ، ويترتّب عليها كلّ ما كان أثرا له من استحقاق النائب للأجرة ، وفراغ ذمّة الميّت ، وجواز استئجاره ثانيا لهذا العمل فيما يكون فراغ الذمّة شرطا لصحّة الإجارة ، كالحجّ.

والشيخ قدس‌سره فرّق بين الآثار بما ملخّصه أنّ فعل النائب ، له اعتباران ولكلّ أثر :

أحدهما : أنّه فعل لنفس النائب من حيث إنّه يصدق حقيقة أنّه صلّى ، ولو قيل : لم يصلّ هو ، لعدّ قائله كاذبا ، وبهذا الاعتبار لا بدّ أن يراعي في صلاته

٢٨٠