الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

استصحاب عدم الحرمة للحكم بعدم استحقاق العقاب على الفعل والترك مثبتا ، كما لا يكون استصحاب الوجوب أو الحرمة لترتيب وجوب الموافقة وحرمة المخالفة مثبتا.

والسرّ في ذلك أنّ موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب وعدم استحقاقه هو مخالفة تكليف المولى أو عدم مخالفته ، كان التكليف واقعيّا أو ظاهريّا ، فإذا ثبت التكليف ـ ولو ظاهرا ـ يتحقّق موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفته ، وإذا ثبت عدم التكليف ـ ولو ظاهرا ـ يتحقّق موضوع حكم العقل بعدم استحقاق العقاب على الفعل أو الترك.

وبالجملة ، هذا الفرع لا يندرج تحت الكبرى التي أفادها في التنبيه الثامن (١) في كلامه ، إذ لا ربط له بها أصلا وإنّما هو من متفرّعات الكبرى التي أفادها في التنبيه التاسع في الكتاب (٢) ، وما ذكره فيه متين جدّاً.

ثمّ إنّه قدس‌سره نبّه في التنبيه العاشر في كلامه على أنّ الغافل ربّما يتخيّل أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون حدوثا قابلا للتعبّد بنفسه أو باعتبار أثره ، وهو خيال فاسد ، حيث إنّ أدلّة الاستصحاب لا تكون متعرّضة لحال الحدوث أصلا ، بل هي متعرّضة لحال البقاء وتعبّد بالبقاء ، فإذا فرضنا أنّ إباحة شرب التتن وعدم المنع عنه لم يكن قابلا للتعبّد في الأزل ، لعدم تعلّق القدرة عليه من جهة عدم قابليّة المحلّ ، يصحّ استصحاب عدم المنع الأزلي إلى ما بعد ورود الشرع والشريعة ، لكونه قابلا للتعبّد حينئذ ، وهكذا في استصحاب الموضوع إذا فرضنا أنّ مائعا كان خمرا قبل نزول آية حرمة الخمر ، وشككنا في بقائه على خمريته إلى زمان نزول الآية ، نستصحب خمريته ، وذلك لصدق نقض اليقين

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٤.

(٢) كفاية الأصول : ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

١٦١

بالشكّ في جميع ذلك ، وهكذا إذا لم يكن لحياة زيد في زمان أثر أصلا وكان حيّا في ذلك الزمان ثمّ مات أبوه بعد ذلك ، نستصحب حياته إلى حين موت أبيه ونحكم بإرثه منه (١).

وهذا الّذي أفاده أيضا تامّ لا ينبغي الإشكال فيه.

التنبيه التاسع ـ في كلامنا ، الحادي عشر في كلام صاحب الكفاية (٢) ـ : في الشكّ في تقدّم الحادث وتأخّره بعد القطع بحدوثه.

فنقول : إن كان الشكّ في تقدّم الحادث وتأخّره بملاحظة عمود الزمان فقط لا بملاحظة الحادث الآخر ـ كما إذا علمنا بحدوث جنابة إمّا يوم السبت أو الأحد ـ فلا إشكال في استصحاب عدم هذا الحادث إلى زمان نعلم بتحقّقه فيه ، فنستصحب عدم حدوث الجنابة إلى يوم الأحد ، وتترتّب آثار عدم الجنابة في يوم السبت ولكن لا تترتّب على هذا الاستصحاب آثار تأخّر الحادث عن الزمان المشكوك تحقّقه فيه ، ولا آثار حدوثه في الزمان المتيقّن تحقّقه فيه إلّا على القول بالأصل المثبت أو خفاء الواسطة وأمثال ذلك.

وإن كان الشكّ فيهما بملاحظة الحادث الآخر ـ كما إذا شكّ في تقدّم موت أحد المتوارثين على موت الآخر وتأخّره عنه ـ فهل يجري الاستصحاب فيهما ، أو لا يجري في شيء منهما ، أو يفصّل بين مجهول التاريخ فيجري ومعلومه فلا يجري ـ كما يظهر من كلام الشيخ (٣) قدس‌سره ـ؟ وجوه.

وصور المسألة ثمان ، فإنّ الحادثين إمّا كلاهما مجهول التاريخ ، أو أحدهما معلوم التاريخ فقط ، والأثر في كلّ منهما إمّا للوجود أو للعدم ، وهو

__________________

(١ و ٢) كفاية الأصول : ٤٧٦.

(٣) كفاية الأصول : ٤٧٦.

١٦٢

على جميع التقادير إمّا مترتّب على المستصحب بمفاد «كان» أو «ليس» التامّتين أو بمفاد «كان» أو «ليس» الناقصتين ، فلكلّ من مجهولي التاريخ ومعلومه أربع صور.

وقبل الورود في بيان أحكام صور المسألة نقدّم أمرا قد تقدّم مرارا ، وإجماله : أنّ الموضوع المركّب إذا أحرز أحد جزأيه بالوجدان وجزؤه الآخر بالأصل يلتئم ويتمّ ، وهكذا الكلام في المتعلّق ، فإنّهما من واد واحد ، لكن هذا إذا لم يكن عنوان بسيط مأخوذا في الموضوع.

وربّما يستشكل في ذلك بأن الأصل الجاري في أحد جزأي المركّب معارض دائما باستصحاب عدم تحقّق تمام الموضوع المركّب ، المتيقّن في زمان ما ، مثلا : إذا كان موضوع جواز التقليد العالم العادل وفرضنا أنّ زيدا في أوّل بلوغه كان عادلا ولم يكن عالما ثمّ صادر بعد ذلك عالما وفي هذا الحال شككنا في بقائه على عدالته السابقة وعدمه ، فكما يجري استصحاب كونه عادلا ويتمّ الموضوع بضمّه إلى كونه عالما المعلوم لنا بالوجدان كذلك يجري استصحاب عدم اتّصافه بهاتين الصفتين وعدم كونه عالما عادلا ، المتيقّن سابقا في زمان ما.

وأجاب عنه شيخنا الأستاذ قدس‌سره : بأنّ الشكّ في تحقّق المركّب وعدمه لا منشأ له إلّا الشكّ في بقاء العدالة ، فإذا جرى الأصل في السبب ، لا تصل النوبة إلى الأصل المسبّبي (١).

وما أفاده ـ من كون الشكّ في تحقّق المركّب وعدمه مسبّبا من الشكّ في بقاء أحد جزأيه ـ متين إلّا أنّ السببيّة ليست بشرعيّة في المقام.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢٦.

١٦٣

فالتحقيق في الجواب : أنّ هذا مغالطة محضة ، فإنّ الموضوع إن كان عنوانا بسيطا منتزعا من جزءين ، فلا يجري إلّا استصحاب عدم التحقّق فقط.

وإن كان مركّبا من نفس الجزءين ، فإذا علم بتحقّق أحدهما وأحرز الآخر بالأصل فأيّ معنى لاستصحاب عدم تحقّقهما؟ ففرض جريان الاستصحابين والمعارضة بينهما فرض اجتماع الضدّين : كون الموضوع بسيطا ومركّبا.

وبعد ذلك نتكلّم في حكم الصور ، ونقدّم صور مجهولي التاريخ.

فنقول : أمّا إذا كان الأثر للوجود ، فإن كان مترتّبا عليه بنحو مفاد «كان» التامّة وكان لأحد الحادثين ، تجري أصالة عدم التقدّم مثلا في ذي الأثر ، ويمكن فرض ذلك فيما إذا شككنا في تقدّم موت أحد الأخوين على موت الآخر ، اللذين لأحدهما ولد دون الآخر ، فإنّ الولد يرث من الآخر على تقدير تقدّم موته عليه دون العكس.

وإن كان الأثر لكليهما كما في باب المسابقة ، فإنّ العوض للسابق أيّا من كان ، فإن علم بالسبق ولم تحتمل المقارنة ، يجري الأصل في كلّ منهما ويتعارضان ، فلا يحكم باستحقاق العوض لواحد منهما. وإن احتملت المقارنة ، يجري كلا الاستصحابين ، ونقول مثلا : الأصل عدم تقدّم زيد على عمرو ، والأصل عدم تقدّم عمرو على زيد ، ونحكم بعدم استحقاق كلّ منهما.

وإن كان الأثر مترتّبا على وجود أحد الحادثين بمفاد «كان» الناقصة ، كما إذا أوصى للمتقدّم ولادة من مولوديه شيئا واشتبه ، فذهب صاحب الكفاية إلى عدم جريان الاستصحاب في شيء منهما ، لأنّ الاتّصاف بالتقدّم ليست له حالة سابقة ، فأركان الاستصحاب غير تامّة ، وهذا بخلاف الصورة السابقة ، فإنّ عدم

١٦٤

الجريان فيها لمكان المعارضة لا لعدم تماميّة أركانه (١).

وما أفاده تامّ إن أردنا إجراء الاستصحاب لترتيب آثار الاتّصاف ، وأمّا إن كان المقصود منه نفي آثار الاتّصاف ، فأركانه تامّة ، إذ عدم الاتّصاف ، له حالة سابقة يقينيّة فنستصحبه ، ونحكم بعدم ترتّب آثار الاتّصاف كما نستصحب عدم اتّصاف المرأة بكونها من قريش لنفي آثار القرشيّة من أنّها تحيض إلى ستّين.

والحاصل : أنّه لا إشكال في تماميّة أركان الاستصحاب بناء على ما بنينا عليه وفاقا له في بحث العامّ والخاصّ وللشيخ قدس‌سره من جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة (٢) ، وأنّه أليق بالتحقيق ، فما أفاده في المقام لعلّه سهو من قلمه الشريف أو اشتباه في التطبيق.

وأمّا إذا كان الأثر مترتّبا على العدم ، فإن كان بمفاد «ليس» الناقصة ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب لترتيب آثار العدم ، فإنّ ما يكون موضوعا للأثر ـ وهو العدم النعتيّ والسالبة المعدولة ـ ليست له حالة سابقة ، وما تكون له حالة سابقة ـ وهو العدم المحمولي والسلب المحصّل ـ لا يكون موضوعا للأثر على الفرض ، ولا يثبت باستصحاب العدم المحمولي العدم النعتيّ إلّا على القول بالأصل المثبت. وأمّا الاستصحاب لنفي آثار العدم النعتيّ فلا إشكال في جريانه ، لأنّ الاتّصاف بالعدم كالاتّصاف بالوجود مسبوق بالعدم ، ويصحّ أن يقال : إنّ زيدا قبل وجوده لم يكن متّصفا بالبصر ولا متّصفا بالعمى وعدم البصر ، فباستصحاب عدم الاتّصاف بالعدم تنفي آثار الاتّصاف بالعدم.

ومن هنا ظهر ما في كلام صاحب الكفاية من عدم الجريان في هذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

(٢) كفاية الأصول : ٢٦١ ، مطارح الأنظار : ١٩٤.

١٦٥

القسم (١) ، وأنّه تامّ على تقدير إرادة ترتيب آثار العدم النعتيّ عليه ، وغير تامّ على تقدير إرادة نفي آثار العدم النعتيّ.

وإن كان بمفاد «ليس» التامّة ، ففيه خلاف ، وتترتّب على هذا ثمرة مهمّة في باب الإرث وغيره ، فإذا فرضنا أنّ موضوع الإرث مركّب من إسلام القريب في زمان موت مورّثه ، فإن قلنا بجريان الاستصحاب في كلا الحادثين ـ لو لا التعارض ـ في هذا القسم ، فلا محالة يجري في مورد لم يكن فيه تعارض في البين ، كما إذا كان الأثر مختصّا بعدم أحد الحادثين فقط دون الآخر ، فيجري عدم إسلام الوارث إلى زمان موت مورّثه وقسمة تركته ، ويترتّب عليه عدم الإرث ، ولا يجري استصحاب عدم موت المورّث إلى زمان إسلام قريبه ، فإنّه ليس موضوعا لحكم شرعي ، ولا يثبت بهذا الاستصحاب موته في زمان إسلامه إلّا على القول بالأصل المثبت.

ولو لم نقل بجريانه في هذا القسم حتى مع عدم التعارض ، فلا يجري في الفرض المزبور في ذي الأثر أيضا.

وبالجملة ، ذهب صاحب الكفاية قدس‌سره إلى عدم الجريان ، نظرا إلى اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين (٢) ، واستفاد ذلك من كلمة «فاء» في قوله عليه‌السلام : «من كان على يقين فشكّ» (٣) وقوله عليه‌السلام مضمونا : «لأنّك كنت على يقين من وضوئك فشككت» (٤) فلا بدّ من إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين وعدم

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٨.

(٢) كفاية الأصول : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

(٣) الخصال : ٦١٩ ، الوسائل ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٤) التهذيب ١ : ٤٢١ ـ ٤٢٢ ـ ١٣٣٥ ، علل الشرائع : ٣٦١ ، الباب ٨ ، الحديث ١ ، الوسائل ٣ : ٤٦٦ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

١٦٦

الفصل بينهما بيقين آخر ، فلو علم بالفصل ـ كما إذا علم بنجاسة ثوبه بعد العلم بطهارته ثمّ شكّ في بقائها ـ لا مجرى إلّا لاستصحاب النجاسة إذا احتمل طهارته بعد نجاسته ، ولا معنى لمعارضة استصحاب النجاسة لاستصحاب الطهارة ، فإنّ اليقين بالطهارة والشكّ في بقائها وإن كان متحقّقين إلّا أنّه انفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين بتخلّل اليقين بالنجاسة في البين.

ولو احتمل الفصل بأن علم حدوث حادثين ، ولم يعلم تقدّم أحدهما بالخصوص على الآخر ، فلا يجري الاستصحاب في شيء منهما بعد ما لم يكن الأثر مترتّبا على كلّ منهما بلحاظ عمود الزمان ، لعدم خصوصيّة يوم دون يوم في إرث الوارث من مورّثه ، بل الأثر مترتّب على عدم كلّ منهما في زمان حدوث الآخر ، لأنّ التمسّك بأدلّة الاستصحاب في مثله بعد اعتبار الاتّصال في موضوعه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة سيّما في مثل المقام الّذي لا يكون التقييد بدليل منفصل بل يكون بالمتّصل ، فإنّه لا يجوز بلا كلام.

والحاصل : أنّ المستفاد من أخبار الاستصحاب ببركة كلمة «فاء» أنّه يعتبر عدم فصل زمان بين زماني اليقين والشكّ ، فلو تخلّل أو احتمل تخلّل زمان لا يكون زمان اليقين ولا زمان الشكّ ، لا تشمله أدلّة الاستصحاب ـ كما في فرض العلم بالتخلّل ـ أو لا يعلم شمولها له كما في صورة احتماله ، ففي المثال المتقدّم إذا فرضنا أنّ يوم الجمعة لم يتحقّق فيه موت ولا إسلام ، ويوم السبت زمان تحقّق أحدهما ، والأحد زمان تحقّق الآخر ، فإن كان الموت في علم الله تعالى حادثا يوم السبت ، فزمان الشكّ في إسلام الوارث متّصل بزمان اليقين بعدمه وهو يوم الجمعة. وأمّا إن كان الموت في علم الله حادثا يوم الأحد ، فقد تخلّل زمان ـ وهو يوم السبت ـ بين زمان اليقين بعدم الإسلام ـ الّذي هو يوم الجمعة ـ وزمان الشكّ في حدوثه ، وهو يوم الأحد ، وهذا الزمان المتخلّل

١٦٧

لا يكون زمان اليقين بعدم الإسلام ، إذ المفروض تحقّق الإسلام فيه ، ولا زمان الشكّ في حدوث الإسلام ، إذ الفرض كون زمان الشكّ في حدوثه هو يوم الأحد ، وحيث إنّا نحتمل وجدانا حدوث الموت يوم الأحد فنحتمل انفصال الزمانين والتخلّل في البين ، فلا يمكن التمسّك ب «لا تنقض اليقين بالشكّ» لمثل المقام ، لعدم العلم بشموله له ، وعدم إمكان كون العامّ محرزا لموضوع نفسه (١). هذا ملخّص ما أفاده في متن الكفاية وهامشها بتوضيح منّا.

وفيه : أنّه إن كانت العبرة بعدم تخلّل زمان بين الزمانين ـ أي زماني المشكوك والمتيقّن ـ واقعا ، فلازمه أن لا يكون شيء من الحادثين مشكوكا في زمان أصلا ، فإنّ الإسلام مقطوع التحقّق يوم السبت إن كان الموت حادثا يوم الأحد واقعا ، ومعلوم البقاء يوم الأحد ، وإن كان العكس فالعكس ، فأين زمان الشكّ فيه؟

وإن كانت العبرة بفعليّة الشكّ واليقين في زمان واحد ، وأنّ المكلّف لا بدّ في زمان إجراء الاستصحاب أن يكون على اليقين بتحقّق الكفر سابقا والشكّ في بقائه ، فلا يعقل احتمال الانفصال ، فإنّ اليقين والشكّ صفتان وجدانيّتان غير قابلتين لدخول الشكّ فيهما ، فكلّ أحد يعرف أنّه شاكّ أو متيقّن ، فيوم الأحد ـ في المثال المتقدّم ـ هو زمان اليقين بعدم الإسلام يوم الجمعة ، وهذا اليوم بعينه زمان الشكّ في حدوث الإسلام بعد يوم الجمعة إلى زمان حدوث الموت واقعا ، ولا يعقل احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين ، فإنّ معنى انفصاله عنه جزما أو احتمالا أن يفصل اليقين بخلاف الحالة السابقة بين اليقين والشكّ جزما أو احتمالا ، ومن المعلوم أنّه يوم الأحد في المثال يعلم بعدم

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

١٦٨

تحقّق الإسلام قبل يومين ، ويعلم أيضا بتحقّق الموت بعد الجمعة ، والشكّ حاصل بالوجدان في هذا الآن ـ الّذي هو آن اليقين بعدم الإسلام ـ في انقلاب ذلك العدم السابق إلى الوجود ، وبقاء الكفر إلى زمان حدوث الموت وعدمه ، وبالضرورة في هذا الآن لا يعلم بضدّ الحالة السابقة ، أي حدوث الإسلام في زمان الموت ، وبالوجدان لا يحتمل أن يكون الآن متيقّنا بعروض ضدّ الحالة السابقة في زمان الموت ، بل الآن بالوجدان متيقّن بعدم الإسلام قبل زمان الموت وشاكّ في حدوثه إلى زمان الموت.

وبالجملة ، معنى اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين هو عدم فصل اليقين بالخلاف بعد اليقين المتعلّق بالأمر السابق حتى يصدق نقض اليقين بالشكّ ، إذ مع حصول اليقين بالخلاف يكون من نقض اليقين باليقين ، وهذا المعنى ممّا لا يعقل الشكّ في مصداقه ، فإنّ الشبهة المصداقيّة تتصوّر في الموضوعات الواقعيّة النّفس الأمريّة لا في الصفات الوجدانيّة التي لا مئونة لإحرازها إلّا الرجوع إلى الوجدان ، وموضوع دليل الاستصحاب بل جميع الأصول وكلّ ما أخذ في موضوعه اليقين أو الظنّ أو الشكّ أو غير ذلك من الصفات الوجدانيّة.

نعم ، هناك شبهة راجعة إلى المقام ، وهي أنّ الشكّ في حدوث الإسلام في زمان الموت وبالعكس لا يحصل ولا يتحقّق إلّا بعد العلم بحدوث كلا الحادثين ، فقبل ذلك ـ أي قبل العلم بحدوث الموت والإسلام ـ لا شكّ في حدوث الإسلام في زمان الموت ، ولا شكّ في حدوث الموت في زمان الإسلام ، حيث إنّه لا موضوع له بدونه ، فزمان اليقين بعدم الإسلام في المثال المتقدّم هو يوم الجمعة ، ولا يحصل الشكّ في حدوث الإسلام في زمان الموت إلّا يوم الأحد الّذي هو يوم العلم بحدوث كلا الحادثين ، فقد تخلّل يوم السبت بين زماني اليقين والشكّ قطعا.

١٦٩

وجواب هذه الشبهة قد ظهر ممّا ذكرنا آنفا من أنّ الميزان في باب الاستصحاب هو الشكّ في بقاء ما كان على يقين منه بالفعل بوجوده سابقا سواء كان حدوث اليقين بالفعل أيضا أو سابقا على زمان الشكّ أو متأخّرا عنه ، ومن المعلوم أنّ اليقين بالعدم والشكّ في انقلابه إلى الوجود كلاهما موجود يوم الأحد ولم يتخلّل بينهما زمان.

ثمّ إنّ بعض الموارد توهّم كونه من الشبهة المصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ.

أحدها : ما ذكره بعض الأكابر من أنّه إذا تيقّن بطهارة ثوبه وشكّ في بقائها واحتمل حصول القطع له بنجاسته بعد القطع بطهارته ، لا يجري الاستصحاب ، لاحتمال حصول النقض وانتفاء موضوع الاستصحاب.

وفيه ـ مضافا إلى أنّه منقوض بجميع الأمور القصديّة العباديّة وغيرها ممّا لا يتحقّق إلّا بالقصد والالتفات ، فإنّ لازم ما ذكره هو عدم جريان استصحاب هذه الأمور إذا كان متيقّنا بها سابقا واحتمل ارتفاعها ، فإنّ ارتفاعها لا يمكن إلّا بالعلم بتحقّقه والالتفات والقصد إليه ، فاحتمال الارتفاع ملازم لاحتمال العلم بالارتفاع ، مثلا : من كان على يقين من جنابته واحتمل اغتساله منها ليس له استصحابها ، لأنّه يحتمل حصول النقض ليقينه السابق ، والقطع بارتفاع جنابته على تقدير اغتساله منها ـ أنّ الميزان كما ذكرنا آنفا هو تحقّق اليقين حين الشكّ في البقاء ، ولا اعتبار باليقين الحادث في السابق ، بل المناط هو سبق متعلّق اليقين ، ولا معنى لاحتمال انتقاض اليقين الفعلي بالجنابة السابقة.

وثانيها : ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره في بعض موارد العلم الإجمالي بخلاف الحالة السابقة ، وحاصل ما أفاده : أنّه إذا فرضنا نجاسة إناءين وحصل العلم الإجمالي بطهارة أحدهما ، فأمر متعلّق هذا العلم لا يخلو عن أحد أقسام

١٧٠

ثلاثة :

الأوّل : أن لا يكون تعيّن للمعلوم إلّا بعنوان «أحدهما» حتى في علم الله تعالى.

الثاني : ما كان المعلوم متعيّنا تفصيلا بجميع خصوصيّاته الخارجيّة ومميّزاته كأن طهّر أحدهما المعيّن ثمّ اشتبه الطاهر بالنجس.

الثالث : ما كان وسطا بينهما بأن كان متعيّنا بوجه من التعيّن ، كما إذا علم بإصابة المطر للإناء الواقع خارج السطح ولا معرّف له إلّا عنوان كونه خارج السطح.

ثمّ بنى قدس‌سره على عدم جريان الاستصحاب في شيء من الأقسام (١) ، خلافا للسيّد صاحب العروة ، حيث أجرى الاستصحاب في الجميع (٢).

وإنكاره قدس‌سره جريان الاستصحاب في القسم الأوّل مبنيّ على ما بنى عليه من عدم جريان الأصول التنزيليّة في جميع أطراف العلم الإجمالي ولو لم تلزم منه مخالفة قطعيّة عمليّة.

وقد أبطلنا هذا المبنى سابقا وبنينا على جريان الأصول مطلقا في جميع أطراف العلم الإجمالي إذا لم يلزم منه المحذور المذكور ، ولا يفرّق بين أن يكون الاستصحاب أصلا أو أمارة لا تكون مثبتاتها حجّة.

وأمّا إنكاره جريان الاستصحاب في القسمين الأخيرين فهو بملاك آخر ، وهو احتمال حصول النقض في كلّ من الطرفين.

بيان ذلك : أنّ العلم بالنجاسة ، المتعلّق بكلّ واحد من الإناءين قد انتقض في أحدهما المعيّن والمشخّص ـ الّذي له تعيّن في الواقع ـ بالعلم التفصيليّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢٩ ـ ٤٣١.

(٢) العروة الوثقى (فصل في طريق ثبوت النجاسة) المسألة ٢.

١٧١

بطهارته ، فقد سقط الاستصحاب في ذلك الفرد قطعا ، وبعد الاشتباه نحتمل في كلّ واحد أنّه هو الّذي سقط الاستصحاب فيه بحصول النقض ، فيحتمل في كلّ أن يكون نقض اليقين باليقين لا بالشكّ ، ولا يفرّق بين القسمين الأخيرين في ذلك ، فإنّ الملاك هو تعلّق اليقين بالطهارة بالشخص ، وهو متحقّق فيهما ، ولا يلزم أن يكون مشخّصا بجميع خصوصيّاته ، وهذا بخلاف القسم الأوّل ، فإنّ المعلوم فيه لا تعيّن ولا تشخّص له حتى في علم الله ، ولذا لا يمكن تعيينه ـ لو انكشفت طهارة كلا الإناءين ـ لأحد أصلا ، فلم يحصل النقض بالنسبة إلى شيء من الفردين.

ثمّ رتّب قدس‌سره على ما أفاده أثرا فقهيّا ، وهو عدم جريان استصحاب نجاسة الدم المشكوك كونه من الباقي في الذبيحة ـ بعد خروج الدم المتعارف منه ـ أو من الخارج ، وذلك لحصول القطع التفصيليّ بطهارة الباقي وسقوط استصحاب النجاسة فيه ، ويحتمل أن يكون المشكوك هو من الباقي الّذي سقط الاستصحاب فيه (١).

هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّ الإناء الّذي علم بطهارته تفصيلا بعنوانه المعلوم ـ كإناء زيد أو الإناء الّذي كان خارج السطح ـ لا يجري فيه الاستصحاب قطعا ، فإنّه معلوم الطهارة ، لكن نشير إلى كلّ واحد من الإناءين ونقول : كنّا على يقين من نجاسته سابقا ونكون الآن شاكّين فيها فنستصحبها ، ولا معنى لقولنا : لعلّنا لم نكن بشاكّين فيها ، واحتمال انطباق إناء زيد ـ المعلومة لنا طهارته ـ على كلّ واحد من الإناءين بالخصوص لا يجعلنا متيقّنين بطهارة ما نشكّ وجدانا في بقائه على نجاسته السابقة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

١٧٢

وتوضيح الحال بالمثال أن يقال : إنّه إذا فرضنا أنّا نرى من البعيد جسد أحد وعلمنا بموته ونحتمل أن يكون هذا الشخص هو مورّثنا أو مقلّدنا ألسنا نستصحب حياة مورّثنا أو مقلّدنا؟ وهل استشكل أحد في جريان هذا الاستصحاب لأجل احتمال انطباق من علمنا بموته على من كنّا على يقين من حياته؟

وبالجملة ، موضوع الاستصحاب حيث إنّه اليقين والشكّ إمّا أن يعلم بتحقّقه أو يعلم بعدم تحقّقه ، وأمّا الشكّ في ذلك فلا يعقل في مورد أصلا.

فظهر أنّ ما جعله صاحب الكفاية وبعض الأكابر وشيخنا الأستاذ قدس‌سره من الموارد الثلاثة من الشبهة المصداقيّة لموضوع دليل الاستصحاب ليس على ما ينبغي.

وظهر أيضا جريان الاستصحاب في جميع صور مجهولي التاريخ في نفسه ، وأنّ عدم الجريان مستند إلى المعارضة لا إلى وجود المانع في نفسه ، وقد عرفت أنّ الصورة الرابعة من هذه الصور ـ وهي ما كان الموضوع مركّبا من وجود أحد الحادثين وعدم الآخر في زمانه ـ مسألة مهمّة تترتّب عليها فروع مهمّة ، منها : باب الإرث ، فينفى الإرث باستصحاب عدم الإسلام إلى زمان الموت ، لعدم كونه معارضا باستصحاب بقاء الحياة إلى زمان الإسلام ، لعدم كون الحياة في حال الإسلام موضوعا لحكم شرعي ، وعدم إثبات هذا الاستصحاب تحقّق الموت في زمان الإسلام ، فلا يتمّ ما أفاده شيخنا الأستاذ من المعارضة (١). هذا كلّه في مجهولي التاريخ.

وأمّا ما كان أحدهما معلوم التاريخ فيجري الاستصحاب في الثلاث الأول

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢٧ و ٤٣٢ و ٤٣٤.

١٧٣

منها في معلوم التاريخ ومجهوله ، ويسقطان بالتعارض إن لم تحتمل المقارنة ، وإلّا فيجريان معا. وإن كان الأثر لأحدهما فقط ، يجري فيه خاصّة.

وصاحب الكفاية يمنع عن جريان الاستصحاب فيما منع عنه في مجهولي التاريخ ، وهو ما كان الأثر مترتّبا على وجود كلّ منهما بنحو مفاد «كان» الناقصة ، أو مترتّبا على العدم بمفاد «ليس» الناقصة (١). والجواب هو الجواب.

وأمّا الصورة الأخيرة ـ وهي ما كان الأثر مترتّبا على عدم أحدهما في زمان وجود الآخر بمفاد «ليس» التامّة وكان أحدهما معلوم التاريخ ـ فيجري في مجهول التاريخ بلا إشكال ، لاتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين حتى على مذهب صاحب الكفاية ، فإذا كان تاريخ الموت يوم السبت ، يستصحب عدم الإسلام إلى هذا اليوم وينفى الإرث.

وأمّا في معلوم التاريخ : فصاحب الكفاية قدس‌سره قد منع عن جريان الاستصحاب فيه ، لما بنى عليه من اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين (٢). وقد عرفت ما فيه.

والتحقيق عدم المانع من الاستصحاب لو لا المعارضة ، فنقول : الأصل عدم تحقّق الموت إلى زمان الإسلام ، لأنّ زمان الموت وإن كان معلوما فليس لنا شكّ فيه في عمود الزمان إلّا أنّ معلوميته بهذا العنوان لا تنافي كونه مشكوكا بعنوان آخر ، وهو عنوان تحقّقه في زمان الإسلام الواقعي ، فإنّا نكون شاكّين فيه بهذا العنوان بالوجدان بعد ما كنّا على يقين من عدمه ، والميزان في باب الاستصحاب هو وجود الشكّ واليقين واجتماعهما في شيء بعنوان وإن كان معلوما غير مشكوك بعنوان آخر ، كما مثّلنا له آنفا باستصحاب حياة المقلّد ولو

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٧ ـ ٤٧٨.

(٢) كفاية الأصول : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

١٧٤

احتملنا انطباق من علمنا بموته عليه.

وبالجملة ، العلم بتحقّق الموت يوم السبت والإسلام في زمان آخر منشأ للشكّ في تأخّر الإسلام عن الموت وتقدّمه عليه ، لتساوي الاحتمالين عندنا ولا يجعل المشكوك متيقّنا.

ومن ذلك ظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ قدس‌سره حيث أنكر الاستصحاب في معلوم التاريخ.

وتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الاستصحاب في نفسه جار في جميع صور المقام ، كان أحد الحادثين معلوم التاريخ أو كانا مجهولي التاريخ ، وعدم الجريان مستند إلى المعارضة لا غير.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره ذهب إلى نجاسة ماء تواردت عليه حالتان : الكرّيّة ، والملاقاة بعد ما كان قليلا ، سواء كانتا مجهولتي التاريخ أو كان تاريخ الملاقاة معلوما دون الكرّيّة أو العكس.

أمّا في مجهولتي التاريخ : فلأنّ استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة جار ، وتترتّب عليه نجاسة الماء ، لتحقّق كلا جزأي موضوع النجاسة : أحدهما بالوجدان ـ وهو الملاقاة ـ والآخر بالاستصحاب ، وهو القلّة وعدم الكرّيّة في زمان الملاقاة. ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب عدم حصول الملاقاة إلى زمان الكرّيّة ، فإنّه لا يثبت كون الملاقاة بعد الكرّيّة حتى يحكم بالطهارة.

وأمّا فيما كان تاريخ الملاقاة معلوما فحيث لا يجري الاستصحاب في معلوم التاريخ على مبناه فاستصحاب عدم حصول الكرّيّة إلى زمان الملاقاة يجري بلا معارض ، وتترتّب عليه أيضا نجاسة الماء.

وأمّا إذا كان تاريخ الكرّيّة معلوما ، فأصالة عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة وإن كانت لا تجري في نفسها إلّا أنّ أصالة عدم حصول الملاقاة إلى زمان الكرّيّة

١٧٥

أيضا لا تثبت سبق الكرّيّة على الملاقاة ، وسبق العاصميّة للماء ـ ولو آناً ما ـ معتبر في عدم تأثير ملاقاة النجس ، وإذا لم تثبت بالاستصحاب لا نجاسة هذا الماء ولا طهارته ، فلا بدّ من الحكم بنجاسته لا من باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، بل من باب أنّ عدم التنجيس علّق في قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (١) على موضوع الكرّ ، والحكم في المخصّص ـ سواء كان متّصلا أو منفصلا ـ إذا علّق على أمر وجودي ، فلا بدّ من إحراز ذلك الأمر الوجوديّ بحسب الفهم العرفي.

مثلا : إذا قال المولى : «لا تعط أحدا هذا المال إلّا إذا كان فقيرا» أو «لا تأذن لأحد في دخول داري إلّا إذا كان صديقا لي» لا يشكّ العرف في لزوم إحراز الفقر في جواز الإعطاء ، ولزوم إحراز الصداقة في جواز الإذن للدخول ، ولا يرونه معذورا إذا أعطى من يشكّ في فقره ، أو أذن من يشكّ في صداقته لو كان غنيّا أو غير صديق.

وبالجملة ، بنى على النجاسة في الصورة الأخيرة لهذه الكبرى ، كما بنى على عدم عفو الدم المشكوك كونه أقلّ من الدرهم أو أزيد ، وعلى حرمة النّظر إلى المرأة المشكوك كونها أجنبيّة لذلك أيضا (٢).

هذا ، ولكن لا يخفى عدم تماميّة ما أفاده ، والظاهر استناد عدم الجريان في جميع الصور الثلاث إلى التعارض ، وإلّا فلا مانع في نفسه من الجريان أصلا ، فإنّ منعه قدس‌سره عن جريان استصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرّيّة لأجل كونه مثبتا في الصورة الأولى والثالثة ، في غير محلّه ، فإنّ الماء القليل إذا لم يلاق

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ ـ ١ ، الفقيه ١ : ٨ ـ ١٢ ، التهذيب ١ : ٣٩ ـ ٤٠ ـ ١٠٧ ، الاستبصار ١ : ٦ ـ ١ ، الوسائل ١ : ١٥٨ ـ ١٥٩ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٥ ـ ٤٣٦.

١٧٦

النجس طاهر بلا إشكال ، فباستصحاب عدم الملاقاة في زمان القلّة يحكم بطهارته ، ولا نحتاج إلى إثبات بعديّة الملاقاة عن الكرّيّة ، ومنعه عن جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ أيضا قد عرفت ما فيه ، ففي جميع الصور الثلاث يجري الاستصحابان : أحدهما يقتضي طهارة الماء ، والآخر نجاسته ، فيسقطان من جهة المعارضة.

ويبقى الكلام في الكبرى التي أفادها ، والظاهر أنّه لا أساس لها ، فإنّ مثل عدم جواز إعطاء المال لمشكوك الفقر أو عدم جواز الإذن في دخول الدار لمشكوك الصداقة من جهة عدم إحراز الإذن الّذي هو موضوع لجواز التصرّف في مال الغير ، فإنّ إعطاء مال الغير لأحد ، وإدخال الغير في ملك المالك تصرّف في ملك الغير ، فلا بدّ من إحراز إذنه.

هذا بالنظر البدوي ، وإلّا ففي غالب موارد تعليق الحكم الترخيصي في المخصّص على أمر وجودي يوجد أصل موضوعي يحرز به عدم تحقّق ذلك الأمر الوجوديّ ، فإنّه ـ أيّا ما كان ـ حادث مسبوق بالعدم ولو أزلا ، فبأصالة عدم فقر المشكوك أو صداقته ، أو أصالة عدم حصول العلقة الزوجيّة أو عدم تحقّق النسب وسبب الحلّ في المرأة المشكوك كونها زوجة أو من المحرّمات النسبيّة يثبت عدم تحقّق عنوان المخصّص ، وبذلك يدخل في موضوع العامّ ، فإذا فرضنا عدم وجود أصل موضوعي يثبت عدم تحقّق عنوان المخصّص ، فمقتضى القاعدة هو البراءة ، لكونه شبهة في الموضوع ، فلا يمكن الحكم بنجاسة الماء المشكوك الكرّيّة ، الملاقي للنجس في المثال المتقدّم بعد تعارض الاستصحابين ، بل لا بدّ من الحكم بطهارته بقاعدة الطهارة.

هذا ، مع أنّ الإحراز لا يكون قيدا مأخوذا في موضوع عدم الانفعال بحيث يكون عدم الانفعال حكما مترتّبا على الماء المحرز الكرّيّة ، وإلّا تلزم

١٧٧

نجاسة الكرّ الواقعي بملاقاته للنجس حين عدم إحراز كرّيّته ، وهو قدس‌سره أيضا لا يلتزم بذلك بل يصرّح بخلافه ، فلا بدّ أن يكون طريقا إلى الواقع ، وحينئذ فالمحكوم بعدم الانفعال هو الكرّ الواقعي ، وبالانفعال هو ما يكون قليلا واقعا ، فالمشكوك ـ على ما أفاده ـ محكوم بحكم ظاهريّ هو الانفعال ، وكيف يمكن استفادة الحكم الواقعي للمعلوم وغيره ، والحكم الظاهري للمشكوك من قوله عليه‌السلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء»!؟

هذا كلّه في الموضوعات المركّبة ، أمّا إن كان الأثر مترتّبا لا على الموضوع المركّب من وجود أحد الحادثين في زمان عدم الآخر أو العكس ، بل الأثر كان مترتّبا على المتأخّر من الحادثين المتضادّين في الوجود ، كالقيام والقعود ، والفسق والعدالة ، والحدث والطهارة وغير ذلك ممّا لا يمكن اجتماعهما في زمان واحد ، ووجود أحدهما ملازم لانتفاء الآخر ، ففي جريان الاستصحاب فيهما في نفسه لو لا التعارض مطلقا ، أو عدم الجريان في نفسه مطلقا بمعنى عدم تماميّة أركانه ، أو التفصيل بين معلوم التاريخ ومجهوله وجوه تقدّمت في الموضوعات المركّبة ، فصاحب الكفاية يمنع عن جريان الاستصحاب في مجهولي التاريخ ، لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين (١). لكنّ بين المقامين فرقا من جهة أنّ هناك كان زمانا يعلم بتحقّق كلا الحادثين فيه ، والانفصال باعتبار تخلّل زمان بين زماني المشكوك والمتيقّن ، بخلاف المقام ، فإنّا إذا علمنا بتحقّق وضوء وحدث فيما بين طلوع الشمس والزوال ولم نعلم المتأخّر منهما ، ففي أيّ آن أشرنا إليه من الزوال إلى الطلوع نحن على شكّ من الوضوء والحدث ، ولا علم لنا في هذا القوس النزولي من الزمان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٨ ـ ٤٧٩.

١٧٨

بأحدهما في جزء منه أصلا ، فعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في المقام بهذا الاعتبار ، فإنّه ليس زمان معيّن عندنا نعلم بتحقّق الحدث أو الطهارة فيه حتى يكون زمان الشكّ متّصلا به ، بل أيّ زمان فرض فهو زمان الشكّ.

ولكن لا يخفى ما في هذا الكلام ، إذ لا يعتبر في الاستصحاب أن يكون زمان المتيقّن معلوما لنا بشخصه ، بل الاعتبار باليقين السابق والشكّ اللاحق ، ولذا لم يستشكل أحد في استصحاب ما لم يعلم زمان تحقّقه تفصيلا في غير مورد العلم الإجمالي ، كالحدث المعلوم تحقّقه إجمالا فيما بين الطلوعين ، وشكّ في ارتفاعه شكّا بدويّا.

والحاصل : أنّه لم يعتبر أحد العلم تفصيلا بزمان المتيقّن يومه وساعته ودقيقته ، فعلى ذلك نقول : كنّا على يقين من الحدث في زمان مجهول عندنا المعلوم عند الله تعالى ، والآن نحن على شكّ من بقائه ، فنستصحبه ، وهكذا بالنسبة إلى الوضوء ، فالصحيح جريان الاستصحابين ، لتماميّة أركانهما ، وتساقطهما بالتعارض. هذا في مجهولي التاريخ.

وأمّا إذا كان تاريخ أحدهما معلوما بأن نعلم بتحقّق وضوء في الساعة الخامسة من النهار ونعلم أيضا بتحقّق نوم مثلا قبله أو بعده ، فصاحب الكفاية بنى على جريان الاستصحاب في معلوم التاريخ دون مجهوله على مبناه من اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين المعلوم تفصيلا (١). ووافقه الشيخ (٢) قدس‌سره وغيره لكن بملاك آخر.

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه : إنّ هذا الفرع متفرّع على القسم

__________________

(١) انظر : كفاية الأصول : ٤٧٩ ـ ٤٨٠.

(٢) انظر ما يأتي في ص ١٨٢ عند قوله : ثمّ إنّ ما نسبناه ، إلى آخره. وكذا ما تقدّم في ص ١٦٢ عند قوله : أو يفصّل بين مجهول التاريخ ، إلى آخره.

١٧٩

الرابع من أقسام استصحاب الكلّي الّذي تصوّرناه ومثّلنا له بما إذا رأى أثر جنابة على ثوبه ليلة الخميس واغتسل منه ثمّ رأى بعد ذلك أثرا آخر في ثوبه ويحتمل أن يكون حاصلا بعد الموجب الأوّل الّذي اغتسل منه وأن يكون موجبا ثانيا حصل بعد الغسل من الموجب الأوّل ، وذكرنا الخلاف في أنّه هل هو من القسم الثالث أو الثاني؟ وألحقه جماعة بالثالث ، نظرا إلى أنّه إن كان حاصلا قبل الغسل ، فقد ارتفع قطعا ، واحتمال حدوثه بعد الغسل احتمال لحدوث سبب آخر للجنابة بعد القطع بزوال السبب الأوّل.

هذا ، ولكن نحن نستصحب طبيعيّ الحدث المتحقّق عند الأثر الثاني كان مسبّبا عنه أو عن الأوّل ، فالصواب إلحاقه بالقسم الثاني ، وعليه فلا مانع من استصحاب الحدث والطهارة كليهما في المقام ، غاية الأمر أنّهما يسقطان بالتعارض ، ولكن لا بدّ له من الوضوء للصلاة بمقتضى قاعدة الاشتغال.

نعم ، في الحدث الأكبر والغسل إذا شكّ في المتأخّر منهما تجري أصالة البراءة عن حرمة المكث في المسجد بعد تعارض الاستصحابين ، كما أنّه في الشكّ في تأخّر ملاقاة البول عن غسل الثوب وتقدّمها يرجع إلى قاعدة الطهارة.

ومن هنا ظهر وجه ما نسب إلى العلّامة قدس‌سره ـ من الأخذ بضدّ الحالة السابقة ـ والجواب عنه ، فإنّ وجهه عين ما ذكر ـ من القطع بزوال الحالة السابقة على الحالتين ، مثلا : إذا قام عن نومه صباحا وعلم بأنّه نام مرّة ثانية وتوضّأ أيضا إمّا قبل النوم الثاني أو بعده ، فإن نام قبله فقد وقع الحدث على الحدث ولا يؤثّر ، واحتمال حدوث النوم بعد الوضوء احتمال حدوث سبب آخر للوضوء بعد ارتفاع الأوّل ـ والجواب هو الجواب.

ثمّ إنّ هناك فرعا يتفرّع على هذا البحث قد تعرّض له صاحب الكفاية في

١٨٠