الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

ومنهم من بنى ـ كشيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ـ على حكومتها على الاستصحاب ولو سلّم كونها أيضا أصلا كالاستصحاب بدعوى أنّ دليلها ناظر إلى دليله ، ومبيّن للزوم الحكم بالصحّة فيما شكّ في الإتيان بعد اليقين بعدمه إذا فرغ أو تجاوز ، فهو بمدلوله المطابقي يدلّ على حكم الشكّ المسبوق باليقين بعد الفراغ والتجاوز.

وفيه : أنّه لا بدّ في الحكومة بهذا المعنى من أن يكون دليل الحاكم لغوا لو لا ورود دليل المحكوم ولو متأخّرا ، كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» ، فإنّه ـ لو لا وجود دليل متكفّل لبيان أحكام للشكّ ، سابق أو لا حق عليه ليكون ناظرا إليه ـ لغو محض لا تترتّب عليه فائدة أصلا. وهكذا أدلّة الحرج والضرر ، فإنّ صحّتها أيضا متوقّفة على وجود أحكام في الشريعة ، وفي المقام ليس الأمر كذلك ، ضرورة صحّة التعبّد بعدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ أو التجاوز ولو لم يكن الاستصحاب مجعولا أصلا ، فالصحيح ـ على تقدير كون كلتيهما أمارتين كما هو الصحيح أو أصلين ـ أنّ تقديم دليل الاستصحاب على دليلها موجب للغويّة دليلها ، لاختصاص دليلها حينئذ بموارد نادرة لا يناسب مثل هذا الاهتمام لأجلها ، إذ ما من مورد غالبا من موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز وأصالة الصحّة في عمل الغير إلّا وهو مورد لجريان استصحاب عدم الإتيان ، فبتقديم دليل الاستصحاب على دليلها لا يبقى له إلّا موردان :

أحدهما : ما إذا شكّ بعد الفراغ في أنّه صلّى بلا طهارة أو معها ، وكانت له قبل الصلاة حالتان متبادلتان لا يجري فيهما الاستصحاب ، للتعارض أو لعدم اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٣ ـ ٤٦٤.

٢٢١

ثانيهما : ما إذا شكّ في حدوث قاطع من القواطع منه ، كالقهقهة والتكلّم بكلام آدميّ والبكاء والاستدبار وغير ذلك من القواطع ، فإنّ الاستصحاب في هذه الموارد موافق لقاعدتي الفراغ والتجاوز.

ومن الواضح أنّ اختصاص القاعدة بالمورد الأوّل هو اختصاصها بفرد واحد ومورد نادر ، واختصاصها بالثاني أيضا لغو لا فائدة فيه ، إذ التعبّد بالاستصحاب مغن عنها ، فاللازم هو تخصيص دليل الاستصحاب بغير موارد القاعدة ، وهو إلى ما شاء الله ، فتقدّم القاعدة على الاستصحاب على هذا من باب التخصيص لا الحكومة.

هذا ، مضافا إلى ورود القاعدة في مورد الاستصحاب كما يظهر ذلك بمراجعة أخبار الباب ، فهذا أيضا وجه آخر للزوم تخصيص دليل الاستصحاب دون دليلها.

وبهذا ظهر أيضا وجه تقديم قاعدة اليد على الاستصحاب على تقدير كونهما أمارتين أو أصلين ، فإنّ تقديم دليل الاستصحاب على دليلها أيضا موجب لتخصيص دليلها بالفرد النادر دون العكس ، كما عرفت في قاعدة الفراغ ، فالتقديم من هذه الجهة ، لا لما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من الحكومة.

نعم ، يجري الاستصحاب دون قاعدة اليد في موردين :

أحدهما : ما إذا اعترف ذو اليد في مورد التداعي بأنّ المال انتقل من المدّعي إليه ، فحينئذ تنقلب الدعوى ، ويصير المدّعي منكرا وذو اليد مدّعيا ، فعليه البيّنة على الانتقال ، لاستصحاب عدم الانتقال.

وثانيهما : ما إذا كان حال اليد معلومة من كونها يد غصب أو أمانة أو عارية أو إجارة أو غير ذلك ، فشكّ في انقلابها إلى اليد المالكيّة وعدمه وانتقال المال إليه وعدمه ، فيجري أيضا استصحاب عدم الانتقال دون قاعدة اليد.

٢٢٢

وذلك لا لما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من أنّ عدم جريان قاعدة اليد من جهة أنّ الاستصحاب محرز لحال اليد ، وأنّها لم تنقلب عمّا هي عليه من عدم كونها مالكيّة (١) ـ فإنّه غير تامّ ، لعدم أخذ الشكّ في موضوع قاعدة اليد في لسان الدليل ، بل اليد مطلقة جعلها الشارع أمارة للملكيّة ، بل لعدم شمول دليل اليد للمقام ، فإنّ دليلها إمّا السيرة أو الروايات ، مثل قوله عليه‌السلام : «لو لا ذلك ، لما قام للمسلمين سوق» (٢). وشيء منهما لا يشمل المقام ، أمّا عدم شمول السيرة : فواضح. وأمّا الروايات : فلانصرافها إلى غير هذين الموردين ، فإنّها في مقام بيان أنّ اليد لو لم تكن حجّة ، للزمت على الناس من الصباح إلى المساء إقامة البيّنات على مالكيّتهم لما يبيعونه ، وهو مستلزم لتعطيل السوق.

بقي الكلام في تعارض الاستصحاب مع القرعة. وقد ذكر لتقدّم الاستصحاب في موردها عليها وجوه :

منها : ما ذكره صاحب الكفاية (٣) وغيره من أنّ دليل الاستصحاب أخصّ من دليلها ، لأخذ اليقين السابق في موضوع دليله دون دليلها.

وأورد عليه بأنّ النسبة عموم من وجه ، لخروج الأحكام عن تحت دليل القرعة بالإجماع ، بخلاف دليل الاستصحاب.

وأجابوا بأنّ دليل القرعة عامّ قد ورد عليه مخصّصان ، فهو عامّ بالنسبة إلى كلّ منهما : معقد الإجماع ، ودليل الاستصحاب.

وفيه : أنّه بعد فرض القطع من إجماع أو غيره بأنّ المراد الجدّي من العامّ كذا ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة بين المخصّص اللفظي وما يراد من العامّ على ما

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.

(٢) الكافي ٧ : ٣٨٧ ـ ١ ، الفقيه ٣ : ٣١ ـ ٩٢ ، التهذيب ٦ : ٢٦١ ـ ٢٦٢ ـ ٦٩٥ ، الوسائل ٢٧ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، الباب ٢٥ من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث ٢.

(٣) كفاية الأصول : ٤٩٣.

٢٢٣

سيظهر إن شاء الله في بحث التعارض في باب انقلاب النسبة.

هذا ، مضافا إلى أنّه إنّما يتمّ على تقدير كون المراد من «المشكل» و «المشتبه» هو المجهول ، وسيجيء أنّه غير تامّ.

ومنها : أنّ دليل القرعة حيث خصّص كثيرا وتخصيص الأكثر مستهجن ، فنستكشف من ذلك أنّ موضوعه مقيّد بقيد لا نعلمه ، فيصير مجملا لا يمكن التمسّك به إلّا بالمقدار المتيقّن ممّا عمل به الأصحاب ، وهو مختصّ بغير مورد جريان الاستصحاب على خلافه.

وفيه : أنّه أيضا مبنيّ على كون المراد من «المشتبه» و «المشكل» هو المجهول ، وليس كذلك.

ومنها : أنّ معنى «المشتبه» و «المشكل» عرفا ولغة هو الملتبس ، يقال : أشكل عليه الأمر : أي التبس عليه. وبالجملة ، مفهوم «المشتبه» و «المشكل» ليس من المشكلات والمشتبهات ، بل يعرفه كلّ أحد ، وهو : ما لم يعرف حكمه ولم يبيّن حاله ، ولذا في مورد لا يمكن فيه للفقيه استنباط حكم موضوع واقعيّا أو ظاهريّا يكتب في رسالته : أنّ هذه المسألة مشكلة. أو : فيها إشكال ، وأمثال ذلك. ومن هنا يختصّ دليل القرعة بموارد لم يرد فيها من الشارع بيان للحكم لا تأسيسا ولا إمضاء ، فما علم حكمه الواقعي أو الظاهري بالاستصحاب أو غيره ولو بأضعف الأصول ، أو الإمضائي ـ كموارد العلم الإجمالي والشبهات البدويّة قبل الفحص حيث علمت فيه الوظيفة من الشارع ـ لا يصدق عليه أنّه مشكل أو مشتبه ، فتختصّ موارد القرعة بما إذا لم يكن شيء ممّا ذكر ، كما إذا نذر لأحد مالا ، ولم يعلم أنّ المنذور له زيد أو عمرو ، أو أوصى الميّت مالا لشخص خاصّ وتردّد الموصى له بين الشخصين ، وهكذا فيما إذا علم إجمالا بأنّ الواقف وقف مزرعة خاصّة للسادة أو الطلبة ، أو طلّق الزوج إحدى زوجتيه

٢٢٤

واشتبهت المطلّقة عنده ، وغير ذلك ممّا لم تعلم الوظيفة فيه لا واقعا ولا ظاهرا.

وإذا فرض مورد علمت الوظيفة فيه ، ومع ذلك تعبّدنا الشارع بالقرعة ، كما ورد في قطيع غنم إحدى شياهه موطوءة (١) ، فهو إلحاق حكميّ ، لأنّه مورد للقرعة من باب أنّه مشكل ومشتبه.

ثمّ إنّه يستفاد من بعض روايات القرعة أنّ موردها ما إذا كان له واقع معيّن عند الله واشتبه في الظاهر (٢) ، فإذا قال : «إحدى زوجتيّ طالق» من دون أن يقصد إحداهما بالخصوص ، لا يصحّ تعيينها بالقرعة ، ولو فرض التعبّد بها ، فهو أيضا إلحاق حكميّ.

ومن ذلك ظهر ما في كلام شيخنا الأستاذ قدس‌سره حيث عمّ مورد القرعة بما إذا لم يكن له واقع معيّن أيضا استظهارا لما يكون كذلك وورد فيه التعبّد بها (٣) ، وقد عرفت أنّه إلحاق حكميّ.

فاتّضح من جميع ما ذكرنا أنّه لا تجري القرعة في شيء من موارد الاستصحاب ، ولا يجري هو في مواردها ، فهما مختلفان من حيث المورد ، ولا وجه لملاحظة النسبة مع كونهما كذلك.

هذا تمام الكلام في بحث الاستصحاب. والحمد لله أوّلا وآخرا ، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين. ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

تاريخ : الأحد ٢٤ شعبان المعظّم ـ ١٣٦٩ ه‍ ، ق.

__________________

(١) تحف العقول : ٣٥٩ ، الوسائل ٢٤ : ١٧٠ ، الباب ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الحديث ٤.

(٢) انظر الفقيه ٣ : ٥٢ ـ ١٧٤ ، التهذيب ٦ : ٢٣٨ ـ ٥٨٤ و ٢٤٠ ـ ٥٩٣ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥٧ ـ ٢٦٠ ، الباب ١٣ من أبواب القرعة ، الحديث ٤ و ١١.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٩٤.

٢٢٥
٢٢٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه ، محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

أمّا بعد ، فالبحث في قاعدة الفراغ. والكلام فيها ـ قبل الورود في البحث ـ يقع في أمور :

الأوّل : في أنّها هل هي من القواعد الفقهيّة أو الأصوليّة؟

فنقول : الميزان في كون القاعدة قاعدة أصوليّة هو أن يستنتج منها ـ إذا انضمّت إليها صغرى من صغرياتها ـ حكم كلّي إلهي قابل لإلقائه إلى المقلّدين وإلى عامّة الناس ، ويكون تطبيق الكبرى على الصغرى من شئون المجتهد ، ولا حظّ للمقلّد في ذلك ، وهذا كمسألة حجّيّة خبر الواحد وقاعدتي الحلّ والبراءة في الشبهات الحكميّة ، مثلا : إذا أخبر زرارة بوجوب السورة ، تصير صغرى قاعدة حجّيّة خبر الواحد وجدانيّة ، فيقال : السورة ممّا أخبر العادل بوجوبها في صلاة الفريضة : وكلّ ما أخبر العادل بوجوبه فهو واجب أو إخباره علم بالوجوب أو منجّز للواقع على اختلاف المشارب في معنى الحجّيّة من جعل الحكم المماثل أو الطريقيّة أو المنجّزيّة ، هذا هو ميزان القاعدة الأصوليّة.

وأمّا القاعدة الفقهيّة فهي ما يكون بنفسه كذلك ، أي حكما كلّيّا إلهيّا قابلا للإلقاء إلى عامّة الناس ، ويكون تطبيقها على صغرياتها من وظائف المقلّد ، ولا فائدة لعلم المفتي بالصغرى ما لم يعلم المقلّد بها ، وهذا كقاعدة الطهارة المضروبة لكلّ ما شكّ في طهارته ونجاسته من الموضوعات من جهة الشبهة الخارجيّة ، فإنّها بنفسها حكم كلّي ، وفعليّة هذا الحكم تابعة لفعليّة موضوعه

٢٢٧

لكلّ أحد ، فلو فرض أنّ المقلّد شاكّ في نجاسة شيء فهو بنفسه يجري قاعدة الطهارة بعد فتوى مفتيه بذلك ، ولو لم يحصل له شكّ فلا يجري ، ولا عبرة بعلم المجتهد وعدمه ، فلو أخبر بنجاسة ثوب مقلّده وكان هو شاكّا ، يكون محكوما بالطهارة بقاعدتها إلّا على القول بكفاية شهادة الواحد في الموضوعات ، فيصير إخباره حجّة عليها من هذه الجهة لا من حيث هو مفت.

وقاعدة الفراغ تكون كذلك ، لأنّها بنفسها حكم كلّي قابل لإلقائه إلى عامّة الناس ، موضوعها هو الشكّ بعد الفراغ عن العمل المأمور به ، وتطبيقها على صغراها بيد المقلّد ، فإذا حصل الشكّ بعد الفراغ للمقلّد .... (١). الامتثال ، يجريها بعد فتوى مفتيه بذلك ولو علم مفتيه بعدم إتيانه المأمور به على ما هو عليه.

الثاني : في أنّ روايات الباب ، منها ما هي خاصّة بخصوص مورد ، كالصلاة والطهور ، وهي كثيرة. ومنها ما هي عامّة لا تختصّ بمورد دون مورد ، ومجموعها ستّة :

١ ـ ما رواه زرارة ـ في الصحيح ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» (٢).

٢ ـ رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض ، كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (٣).

__________________

(١) محلّ النقاط في الأصل مخروم.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٥٢ ـ ١٤٥٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ٢ : ١٥٣ ـ ٦٠٢ ، الاستبصار ١ : ٣٥٨ ـ ١٣٥٩ ، الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

٢٢٨

٣ ـ موثّقة ابن بكير : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (١).

٤ ـ موثّقة ابن أبي يعفور : «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» (٢).

٥ ـ قوله عليه‌السلام فيمن شكّ في الوضوء بعد ما فرغ : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٣).

٦ ـ ما رواه في الفقيه عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «إن شكّ الرّجل بعد ما صلّى فلم يدر ثلاثا صلّى أم أربعا وكان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ ، لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» (٤).

والعموم في الروايتين الأخيرتين ـ مع ورودهما في الوضوء والصلاة بالخصوص ـ مستفاد من قوله في الأخيرة : «وكان حين انصرف ـ أي حين سلّم أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» إذ يعلم منه أنّ المناط هو كونه أقرب إلى الحقّ حين الاشتغال بالعمل ، حيث هو حينئذ ملتفت إلى عمله ، فلو لم يأت بالرابعة لم يسلّم. ومن قوله فيما قبل الأخيرة : «هو حين يتوضّأ» إلى آخره ، فإنّه يعلم منه أنّ المناط هو أذكريّة العامل حين العمل منه بعد الفراغ منه.

الثالث : في أنّ هذه القاعدة هل هي من الأمارات أو الأصول؟ يستفاد من

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٤٤ ـ ١٤٢٦ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٢ ، الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٣) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٥ ، الوسائل ١ : ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٤) الفقيه ١ : ٢٣١ ـ ١٠٢٧ ، الوسائل ٨ : ٢٤٦ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢٢٩

الروايتين الأخيرتين السابقتين أنّها من الأمارات ، وأنّ عدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ من جهة كاشفيّته بالنسبة إلى القاصد لإتيان المركّب تامّ الأجزاء والشرائط ، عن الإتيان على طبق إرادته الأوّليّة كشفا نوعيّا ، إذ الغالب أنّ الإنسان حين فعله ملتفت إلى جميع خصوصيّاته ومزاياه وبعد ذلك ينسى ، مثلا : إذا كتب مكتوبا إلى صديقه ، فمعلوم أنّه حين الكتابة ملتفت إلى جميع ما يكتب من الخصوصيّات ولكن بعد يوم إذا سئل عن بعض الخصوصيّات و «أنّك كتبت قضيّة كذا أو لا؟» يقول : «نسيت». وهذا واضح حتى أنّ الإنسان غالبا لا يعلم أنّ غداه قبل يومين ما ذا؟ إذا لم يكن معتادا بأكل شيء خاصّ.

وبالجملة ، ظاهر حال المريد لإتيان فعل هو أنّه ملتفت حين إتيانه ويأتي به على طبق إرادته ، واحتمال الإخلال سهوا أو غفلة خلاف الظاهر ، والشارع اعتنى بهذا الظهور ، وجعله حجّة ، على ما يظهر من قوله : «أذكر منه حين يشكّ» وقوله : «أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» وإن كانت الروايات الأخر ساكتة عن ذلك ، بمعنى أنّه لا يستفاد منها شيء لا أماريّة القاعدة ولا كونها أصلا ، فإنّها في مقام بيان التعبّد بعدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ ، ولا يستفاد أنّه لمجرّد التعبّد أو من جهة الكاشفيّة النوعيّة ، لكن فيهما غنى وكفاية ، فلا إشكال في كونها أمارة.

إلّا أنّ هنا إشكالا وهو أنّ لازم أماريّتها حجّيّة لوازمها العقليّة ، فلازم جريان قاعدة الفراغ في صلاة لأجل الشكّ في كونها مع الطهور أو لا هو صحّة الإتيان بصلاة أخرى بلا تحصيل طهور مع أنّه لا يمكن الالتزام به ، ولم يفتوا به أيضا ، لأنّ الصلاة الثانية غير ماضية ، والمكلّف لم يفرغ ولم يخرج منها ، فكيف يشملها ما أخذت فيه عناوين «المضيّ» و «الفراغ» و «الخروج من العمل والدخول في غيره» من الروايات!؟.

٢٣٠

ودفع هذا الإشكال منحصر بما ذكرنا في بحث الاستصحاب من أنّ هذا الكلام المشهور «مثبتات الأمارات حجّة دون الأصول» ممّا لا أصل له ، بل الحجّيّة تابعة لمقدار دلالة الدليل بلا فرق بين كون الدليل دليل حجّيّة الأصل أو الأمارة ، والمقدار المستفاد من دليل حجّيّة الأمارات هو حجّيّتها في مدلولاتها المطابقيّة ، وأمّا مدلولاتها الالتزاميّة فلا تثبت بنفس دليل حجّيّتها ، بل لا بدّ له من دليل آخر ، وهو موجود في البيّنات والأقارير والإخبارات ، ولذا جعل الظنّ حجّة في باب القبلة بمقتضى قوله عليه‌السلام مضمونا : «يجزئ التحرّي أبدا إذا لم يعلم أين وجه القبلة» (١) مع أنّ لازمه ـ وهو دخول الوقت ـ لا يثبت.

وبالجملة ، أماريّة قاعدة الفراغ كأماريّة الاستصحاب ، التي قلنا بها ، فكما لا تكون في لوازمه حجّة مع كونه أمارة على المختار ، كذلك لا تكون في لوازمها حجّة ، لعدم استفادتها من دليل حجّيّتها.

وبعد ذلك يقع الكلام في مسائل :

الأولى : في عموم الأخبار وخصوصها.

لا إشكال في عموم قاعدة الفراغ لجميع العبادات والمعاملات : العقود والإيقاعات ، وعدم اختصاصها بخصوص الصلاة والطهارات الثلاث ، لعموم رواياتها.

وأمّا قاعدة التجاوز : فصريح كلام شيخنا الأنصاري قدس‌سره هو عمومها أيضا غاية الأمر أنّه خرجت منها الطهارات الثلاث ، الوضوء بالنصّ وغيره بعدم القول بالفصل (٢).

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢٨٥ ـ ٧ ، التهذيب ٢ : ٤٥ ـ ١٤٦ ، الاستبصار ١ : ٢٩٥ ـ ١٠٨٧ ، الوسائل ٤ : ٣٠٧ ، الباب ٦ من أبواب القبلة ، الحديث ١.

(٢) فرائد الأصول : ٤١٢.

٢٣١

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره بنى على أنّه ليس لها عموم ، وأنّ خروج الطهارات الثلاث بالتخصّص لا التخصيص (١).

والمناسب صرف عنان الكلام إلى أنّ قاعدتي التجاوز والفراغ هل هما قاعدة واحدة نحن سمّيناها باسمين ، أو أنّهما قاعدتان؟ حتى يتّضح المرام ، لشدّة ارتباطه بالمقام حتى قيل : إنّ النزاع في العموم والخصوص مبنيّ على الاتّحاد وعدمه ، فعلى الاتّحاد عامّة وعلى العدم خاصّة بخصوص الصلاة دون غيرها.

فنقول : قد استشكل على الاتّحاد بوجوه :

الأوّل : أنّ مفاد قاعدة الفراغ هو التعبّد بصحّة العمل مع كون أصل الوجود مفروضا ، ومفاد قاعدة التجاوز هو التعبّد بأصل الوجود ، فالجمع بينهما في دليل واحد مستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى بل أفحش ، إذ كيف يمكن في دليل واحد فرض شيء موردا للتعبّد ، وخارجا عن دائرته وأخذه مفروض الوجود!؟

وأجيب : بأنّ الشكّ في صحّة الشيء مرجعه إلى الشكّ في وجود الصحيح ، فالتعبّد تعلّق بأصل الوجود وبمفاد «كان» التامّة في كلتا القاعدتين ، ولم يؤخذ الوجود مفروضا في إحداهما وموردا للتعبّد في الأخرى. هذا ما أجاب به الشيخ (٢) قدس‌سره عن هذا الإشكال.

وقد أورد عليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره بوجهين :

الأوّل : أنّه خلاف ظواهر الأدلّة ، فإنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «فأمضه كما هو» هو الحكم بصحّة الماضي لا بوجود الصحيح ، فإرجاعه إلى ذلك يشبه الأكل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٨.

(٢) فرائد الأصول : ٤١٤.

٢٣٢

من القفا.

الثاني : ما أفاده تبعا لصاحب الكفاية من أنّ ما ذكر إنّما يتمّ في العبادات ، حيث إنّ همّ العقل فيها ليس إلّا العلم بتحقّق المأمور به في الخارج ووجود الصلاة الصحيحة مثلا ، وأمّا كون الصلاة الخارجيّة صحيحة فلا همّ للعقل في ذلك. وبعبارة أخرى : لا غرض للعقل إلّا الخروج عن عهدة تكليف المولى ، وهو يحصل بالتعبّد بوجود الصلاة الصحيحة ، ولا حاجة في ذلك إلى إثبات كون المأتيّ بها صحيحة.

نعم ، ربّما يتعلّق غرضه بذلك من جهة نذر وشبهه.

وأمّا في المعاملات فالغرض متعلّق بصحّة الموجود لا بوجود الصحيح ، والتعبّد بوجود الصحيح لا يثبت صحّة الموجود (١).

وما أفاده أوّلا تامّ ، بخلاف الإيراد الثاني ، إذ الغرض في المعاملات أيضا متعلّق بوجود الصحيح ، ضرورة أنّ التعبّد بوجود عقد نكاح صحيح متعلّق بامرأة معيّنة يكفي لترتيب آثار الزوجيّة من وجوب الإنفاق وغيره ، ولا حاجة إلى إثبات صحّة العقد الواقع ، وهكذا في البيع وغيره من المعاملات ، فالآثار نوعا تترتّب على وجود الصحيح لا صحّة الموجود بلا فرق بين العبادات والمعاملات.

والتحقيق : أنّ هذا الإشكال ساقط من أصله ، لما مرّ مرارا من أنّ الإطلاق ـ سواء كان شموليّا كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) أو بدليّا كما في «أعتق رقبة» حيث يكون المطلوب صرف وجود الرقبة ـ معناه رفض القيود وإلغاؤها لا أخذها والجمع فيها ، بمعنى أنّ المتكلّم يلاحظ طبيعة البيع ، ويلاحظ أيضا

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٤ ـ ٤٦٥.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٢٣٣

جميع خصوصيّاتها المتخصّصة بها ويلغيها ، فيحكم بحلّيّة طبيعة البيع أينما سرت ، وهكذا في المطلق البدلي ، غاية الأمر أنّه يحكم بمطلوبيّة عتق صرف وجود الرقبة. وبالجملة ، القيود ملحوظة في المطلق مطلقا لحاظ الإلغاء لا لحاظ الدخل.

فحينئذ نقول : قوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (١) دالّ على أنّ طبيعيّ الشكّ ـ المتعلّق بالشيء الماضي ملغى عنه جميع الخصوصيّات : خصوصية كون المشكوك وجود الشيء أو صحّته أو غير ذلك من الخصوصيّات ـ لا يعتنى به ، فموضوع الحكم بعدم الاعتناء مطلق ، غير ملحوظ فيه شيء من الخصوصيّتين ، لعدم دخلهما في الحكم ، فلم يؤخذ فيه شيء منهما حتى يقال : لا يمكن الجمع بينهما في اللحاظ في استعمال واحد.

وممّا يشهد على ذلك : أنّه لم يتوهّم أحد جريان هذا الإشكال في شمول دليل البيّنة للبيّنة المخبرة بوجود الركوع مثلا ، والبيّنة المخبرة بصحّة الركوع المأتيّ به مع أنّهما من باب واحد ، وسرّه ما ذكرنا من أنّ الموضوع مطلق ، وإنّما الاختلاف في خصوصيّاته التي لا دخل لها في الحكم ، وتكون ملغاة غير ملحوظة ، فإخبار البيّنة بشيء موضوع للحكم بالحجّيّة من دون نظر إلى أنّ المحاجّ به أيّ شيء : وجود شيء أو صحّته أو فساده؟

نعم ، هناك شبهة أخرى غير قابلة للدفع ، ومن جهتها لا بدّ من الالتزام بتعدّد القاعدتين ، وهي ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّ ظاهر الشكّ في الشيء هو الشكّ في أصل وجوده لا في صحّته بعد الفراغ عن أصل وجوده ، فظاهر «إذا شككت في شيء ممّا قد مضى» هو الشكّ في وجود الشيء ، وجعل قاعدة

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٤٤ ـ ١٤٢٦ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢٣٤

التجاوز ودلالته على الشكّ في صحّة الموجود تحتاج إلى عناية ، والجمع بين ما يحتاج إلى العناية وما لا يحتاج إليها في دليل واحد لا يمكن (١).

هذا ، مضافا إلى أنّ وصف الصحّة لا معنى لمضيّه ، فلا يشمله قوله : «إذا شككت في شيء ممّا قد مضى» وحيث إنّ بعض الروايات ورد في مورد الشكّ في الصحّة ، فلا بدّ من ارتكاب (٢) فيه ، وجعله دليلا لقاعدة الفراغ ، وجعل غيره ممّا لم يرد في مورد الشكّ في الصحّة دليلا لقاعدة التجاوز ، فلا محيص عن الالتزام بقاعدتين.

هذا ، ولكنّ التحقيق الحقيق بالتصديق : أنّ هذه الشبهة أيضا مندفعة ، وأنّ الشكّ في الصحّة أيضا راجع إلى الشكّ في الوجود ، وذلك لأنّ وصف الصحّة أمر منتزع عن كون العمل تامّ الأجزاء والشرائط ، فالشكّ في الصحّة في الحقيقة شكّ في تحقّق جزء أو شرط ، وعدمه ، فإنّ الشكّ في صحّة الصلاة إمّا من جهة الشكّ في إتيان ركوعها أو سجودها أو تحقّق الاستقبال أو الموالاة أو غير ذلك من الأجزاء والشرائط ، ولا منشأ له غير ذلك ، وبعد الفراغ حقيقة يكون مصداقا للشكّ في الشيء بعد التجاوز ، فيشمله قوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» وغير ذلك من أخبار الباب.

لا يقال : لازم ذلك جريان قاعدة الفراغ عند الشكّ في صحّة الصلاة من جهة كونها مع الطهارة ، وعدمه في منشأ الانتزاع وهو الطهور ، فالتعبّد يتعلّق بوجود الطهور ، فيصحّ إتيان صلاة أخرى بلا استئناف طهور ، وهو خلاف فتاوى الأصحاب.

فإنّه يقال : في جوابه تقريبان راجعان إلى شيء واحد :

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤١٠.

(٢) كذا في الأصل.

٢٣٥

الأوّل : أنّ شرط كلّ صلاة هو اقترانها بالطهور لا اقتران صلاة أخرى به ، فإذا شكّ في صحّة صلاة الظهر من جهة اقترانها بالطهور ، والشارع تعبّدنا بتحقّق الشرط ، فقد تعلّق التعبّد باقتران صلاة الظهر بالطهور ، وبقاء الطهارة واقتران صلاة العصر أيضا بها لازم عقلي لاقتران صلاة الظهر بها ، وقاعدة الفراغ لا تثبت لوازمها.

الثاني : أنّ الطهارة وإن كانت أمرا بسيطا إلّا أنّها من حيث كونها زمانيّة تتجزّأ وتتكثّر بحصص كثيرة حسب تكثّر أجزاء الزمان ، ومن المعلوم أنّ شرط صلاة الصبح مثلا ، ليس هو وجود الطهور من أوّل طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ـ وإن كان الطهور أمرا وحدانيّا يبقى ويستمرّ في الزمان ما لم يتحقّق الناقض ـ بل حصّة خاصّة من تلك الحصص الموجودة فيما بين الطلوعين مثلا ، وهي الحصّة المقترنة بصلاة الصبح ، فإذا شكّ في صلاة الصبح من جهة كونها مع الطهور ، فقاعدة الفراغ تقتضي وجود تلك الحصّة الخاصّة من الطهارة المقترنة بصلاة الصبح ، ولا تثبت وجود الحصص الأخر وإن كانت متلازمة في الوجود.

فالحقّ الحقيق بالقبول هو اتّحاد القاعدتين ورجوع الشكّ في الصحّة إلى الشكّ في الوجود ، كما أفاده الشيخ (١) قدس‌سره ، وأنّ الأخبار العامّة شاملة للموردين : موردي قاعدتي التجاوز والفراغ. وخروج الطهارات الثلاث بالتخصيص ، كما أفاده الشيخ قدس‌سره (٢) ، لا بالتخصّص ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (٣) قدس‌سره.

الإشكال الثاني على اتّحاد القاعدتين : ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤١٤.

(٢) فرائد الأصول : ٤١٢.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٨.

٢٣٦

الأجزاء في قاعدة الفراغ لوحظت لحاظ الاندكاك في الكلّ ، فإنّ الملحوظ الاستقلالي في مقام التعبّد بصحّة المركّب هو نفس المركّب بما هو مركّب وأمر وحداني ، وفي قاعدة التجاوز لوحظت استقلالا ، ولا يمكن الجمع بين اللحاظ الاستقلالي والاندكاكي في استعمال واحد (١).

وفيه أوّلا : أنّ قاعدة الفراغ كما تجري في المركّب عند الشكّ في صحّته ، كذلك تجري في أجزائه من الركوع والسجود وغير ذلك إذا أتى بالجزء وشكّ في صحّته ، فالإشكال مشترك الورود ، فلا بدّ من الجواب عنه حتى لو قلنا بتعدّد القاعدتين ، فإنّ شمول قاعدة الفراغ للمركّب والأجزاء مستلزم للجمع بين اللحاظين.

وثانيا : أنّ سبق الأجزاء على المركّب وتقدّمها عليه بالطبع وكونها بمنزلة المادّة والمركّب بمنزلة الصورة لا يوجب شيء من ذلك عدم شمول الدليل لهما ، وهل يتوهّم عدم شمول قولنا : «كلّ فعل اختياري مسبوق بالتصوّر» للمركّب والأجزاء بدعوى أنّ الشمول مستلزم للجمع بين اللحاظين؟

وحلّه : ما ذكرنا من أنّ الإطلاق معناه رفض القيود لا أخذها ، فأيّ مانع لشمول قوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (٢) للمركّب والأجزاء بعد كون كلّ من خصوصيّة الكلّيّة والجزئيّة ملغى وغير ملحوظ؟ فمع عدم اللحاظ أصلا أيّ معنى للجمع بين اللحاظين؟

وثالثا : أنّ ما ذكر لو سلّم إنّما يجري لو قلنا باختلاف موردي القاعدتين ، وأمّا على ما اخترناه ـ من اتّحاد موردهما ، لرجوع الشكّ في الصحّة إلى الشكّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٥.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٤٤ ـ ١٤٢٦ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢٣٧

في وجود الجزء أو الشرط ـ فهذا الإشكال ساقط من أصله ، إذ الشكّ في صحّة المركّب أيضا شكّ في تحقّق جزء من أجزائه أو شرط من شرائطه ، فالملحوظ هو الجزء أو الشرط لا المركّب.

الوجه الثالث من وجوه الإشكال : ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، ومذكور في كلام الشيخ قدس‌سره أيضا من أنّ التعابير المذكورة في الروايات من «التجاوز» و «المضيّ» و «الخروج من الشيء» في مورد قاعدة الفراغ على نحو الحقيقة ، وفي مورد قاعدة التجاوز باعتبار التجاوز عن المحلّ ، فإسناد المضيّ وأمثاله إلى المشكوك فيه إسناد مجازي وإلى غير ما هو له ، فالقول بشمول دليل واحد لكلا الموردين مستلزم للجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي في استعمال واحد ، وكون إسناد المضيّ وشبهه إلى المشكوك فيه حقيقيّا إذا كان المشكوك فيه وصف الصحّة ومجازيّا إن كان نفس العمل ، وكيف يمكن الجمع بينهما في دليل واحد (١)

وفيه : أنّ الإسناد مجازي على كلّ حال ، لما ذكرنا من أنّ الصحّة أمر انتزاعي ، والشكّ فيها ناش من الشكّ في منشأ انتزاعها من وجود شيء ممّا اعتبر في المأمور به مثلا ، جزءا أو شرطا ، فالتجاوز باعتبار المحلّ لا محالة.

وممّا يوضّح ما ذكرنا ظهور الروايات في كون المضيّ متعلّقا بنفس المشكوك فيه ، ضرورة رجوع الضمير في قوله عليه‌السلام : «امضه كما هو» إلى المشكوك فيه ، وكما أنّ المشكوك فيه في مورد قاعدة التجاوز غير ماض حقيقة وإنّما الماضي هو محلّه كذلك المشكوك فيه في مورد قاعدة الفراغ ـ وهو وصف الصحّة ـ غير ماض ، وإنّما الماضي هو ذات العمل الّذي هو معلوم أنّه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٧ ، فرائد الأصول : ٤١٠.

٢٣٨

لم يتعلّق به شكّ أصلا.

وأيضا الشاهد على ذلك قوله عليه‌السلام : «كلّ ما مضى من صلاتك وطهورك فأمضه كما هو» (١) حيث أضيف لفظ الصلاة إلى ضمير الخطاب ، ولم يعبّر بلفظ «من الصلاة» و «من الطهور» فالمراد بالصلاة والطهور في هذه الرواية ـ ولو قلنا بأنّ ألفاظ العبادات أسام للأعمّ من الصحيح والفاسد ـ هو الصلاة المأمور بها والطهور المأمور به ، الّذي يكون تامّ الأجزاء والشرائط ، فإنّه هو طهوره وصلاته لا الفاسد منهما ، ومن الضروري أنّه في مورد قاعدة الفراغ لم تمض صلاته وطهوره حقيقة ، إذ لا يعلم أنّ المأتيّ بها هي صلاته المأمور بها أم لا حتى يصدق إسناد المضيّ إليها على نحو الحقيقة ، فلا مناص عن إسناد المضيّ إلى محلّها حقيقة وإليها مجازا. وبالجملة ، الإسناد مجازي على كلّ تقدير ولو قلنا بتعدّد القاعدتين.

الرابع من وجوه الإشكال : ما أفاده شيخنا الأستاذ ، ومذكور في كلام الشيخ قدس‌سره أيضا ، وهو : أنّ لازم اتّحاد القاعدتين التنافي والتناقض بين المفهوم والمنطوق فيما إذا شكّ في الركوع بعد ما سجد مثلا ، فإنّه مورد لقاعدة التجاوز ومحكوم بعدم الاعتناء به بمقتضى مفهوم قوله عليه‌السلام : «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» (٢) ومورد للاعتناء بمقتضى منطوقه ، حيث إنّ الصلاة ـ لكونها بجميع أجزائها وشرائطها ذات مصلحة واحدة ، ولها امتثال واحد وعصيان واحد ـ عمل واحد ، فالشكّ في الركوع بعد ما سجد شكّ قبل تماميّة العمل

__________________

(١) التهذيب ١ : ٣٦٤ ـ ١١٠٤ ، الوسائل ١ : ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٦.

(٢) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٢ ، الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٢٣٩

وقبل التجاوز عن المحلّ.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا بتعدّدهما ، فإنّه لا محذور فيه ، حيث إنّ المجعول الأوّلي هو قاعدة الفراغ ، والتعبّد تعلّق بعدم الاعتناء بالشكّ بعد التجاوز عن العمل والمضيّ عنه ، غاية الأمر أنّ الشكّ في الجزء بعد الدخول في جزء آخر وقبل تماميّة العمل ـ مع أنّه شكّ قبل التجاوز ـ جعل بالحكومة والتنزيل المولوي من الشكّ بعد التجاوز ، فدليل قاعدة التجاوز مخصّص لبّا لمفهوم دليل قاعدة الفراغ ومخرج لهذا الفرد عن عموم مفهومه بلسان الحكومة وجعل الشكّ قبل التجاوز تعبّدا شكّا بعد التجاوز ، فلا تنافي بينهما ، ولا يمكن الالتزام بمثل هذه الحكومة في دليل واحد وقاعدة واحدة ، ولا محذور فيه في الدليلين المتكفّلين لبيان قاعدتين (١).

وفيه : أنّه لو كان لنا شكّ واحد ذو وجهين من جهة كان موردا للمفهوم ومن جهة أخرى موردا للمنطوق ، لكان لما ذكر وجه ، لكنّ النّظر الدّقيق يقضي بأنّ هناك شكّين أحدهما مسبّب عن الآخر ، إذ لنا شكّ في الركوع بعد الإتيان بالسجود ، وهذا شكّ بعد التجاوز ومحكوم بعدم الاعتناء ، وشكّ آخر في صحّة الأجزاء اللاحقة ، وهو مسبّب عن الشكّ الأوّل ، حيث لا منشأ له إلّا احتمال عدم الإتيان بالركوع وإلّا فلو علمنا بإتيانه لعلمنا بصحّة الأجزاء اللاحقة ووقوعها في موقعها ، فبعد التعبّد بإتيان الركوع يرتفع الشكّ في صحّة السجود والتشهّد وغير ذلك من الأجزاء اللاحقة ، فلا يكون بعد ذلك موردا لمفهوم قاعدة الفراغ حتى يتحقّق التنافي بين المنطوق والمفهوم ، فاتّضح من جميع ما ذكرنا اتّحاد القاعدتين وعدم ما يصلح للالتزام بتعدّدهما.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٥ ـ ٤٦٦ ، فرائد الأصول : ٤١١ ـ ٤١٢.

٢٤٠