الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

فصل :

في مفهوم التعارض وموارده.

لا يخفى أنّ هذا البحث من أهمّ المباحث الأصوليّة ، وله فوائد كثيرة في الفقه ، لاحتياج جلّ الفروع الفقهيّة إليه. ولا إشكال في كونه من المسائل الأصوليّة ، لوقوعه في طريق الاستنباط ، بمعنى أنّه يستنتج منه الحكم الكلّي من بعد ضمّ صغراه إليه.

ثمّ إنّ التعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين بحيث لا يمكن اجتماعهما في موردهما بالذات أو بالعرض من جهة التناقض بأن يكون مدلول أحدهما وجوب شيء ، والآخر عدم وجوبه ، أو من جهة التضادّ بأن يكون مدلول الآخر استحبابه.

ونعني ب «بالذات» عدم إمكان الاجتماع بين المدلولين المطابقيّين ، كالمثالين المذكورين ، و «بالعرض» عدم اجتماع المدلول المطابقي في أحدهما مع المدلول الالتزامي في الآخر ، كما إذا كان مدلول دليل وجوب الظهر في يوم الجمعة ومدلول آخر وجوب الجمعة فيه ، فإنّ وجوب كلتا الصلاتين ممّا لا محذور فيه لكن ـ بما أنّ الإجماع قام على عدم وجوب أزيد من خمس صلوات في كلّ يوم وليلة ، ولا شكّ في الأربع الأخر غير الظهر ـ يدلّ دليل وجوب الظهر بالالتزام على عدم وجوب الجمعة وهكذا العكس ، فيقع التنافي بين المدلول المطابقي من أحدهما والالتزامي من الآخر.

وبالجملة ، لا بدّ في تحقّق التعارض من عدم إمكان الجمع بين مدلولي الدليلين ذاتا أو عرضا ، وبدونه لا تعارض.

٣٠١

فلا تعارض بين «أكرم العلماء» و «لا تكرم زيدا الجاهل» لعدم التنافي وخروج زيد عن تحت دليل العامّ بالتخصّص يعني وجدانا من غير مئونة تعبّد.

ولا تعارض أيضا بين أدلّة الأمارات والأصول العقليّة من البراءة والاشتغال والتخيير ، لورودها عليها ، بمعنى ارتفاع موضوع الأصول العقليّة وجدانا ـ وهو عدم البيان وعدم الأمن من العقاب وعدم المرجّح ـ بمجرّد تعبّد الشارع ، فإنّ نفس تعبّد الشارع بخمريّة ما شكّ في خمريّته بقيام البيّنة على خمريّته مثلا بيان من الشارع ، فبالوجدان لا موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان. وفي بعض الكلمات يطلق على هذا الحكومة ، ويطلق على بعض موارد الحكومة الورود ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.

كما لا تعارض أيضا بين دليل حرمة الرّبا و «لا ربا بين الوالد والولد» وما يشبهه ، فإنّ الثاني حاكم على الأوّل ، بمعنى أنّه رافع لموضوعه.

وللحكومة أقسام كلّها خارج عن باب التعارض :

الأوّل : ما يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحا للمراد من الآخر بلفظ «عنيت» و «أردت» وشبههما ، كما في رواية «الفقيه لا يعيد صلاته» المفسّرة بأنّه «إنّما عنيت بذلك ، الشكّ بين الثلاث والأربع» (١).

الثاني : أن يكون دليل الحاكم ناظرا إلى دليل المحكوم ، ومتصرّفا فيه إمّا في عقد وضعه أو في عقد حمله بحيث لو لم يكن دليل المحكوم واردا ولو بعد ورود دليل الحاكم ، لصار دليل الحاكم لغوا.

وما يكون ناظرا إلى عقد الوضع ورافعا لموضوع دليل المحكوم كثير في الفقه ، كما في «لا شكّ لكثير الشكّ» الرافع لموضوع أدلّة الشكوك.

__________________

(١) تقدّمت الرواية والإشارة إلى مصادرها والتعليق عليها في ج ٣ ص ٥٥٦ والهامش (١).

٣٠٢

وما يكون ناظرا إلى عقد الحمل ورافعا لمحمول دليل المحكوم ، كما في دليل «لا ضرر في الإسلام» و (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) الناظرين إلى أدلّة الأحكام ، الرافعين لقسم خاصّ منها ، وهو الحرجيّ والضرريّ منها.

الثالث : أن يكون دليل الحاكم رافعا لموضوع دليل المحكوم بلا نظر في البين ، وهذا كما في حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الأصول الشرعيّة بناء على ما اخترناه من أنّ المجعول في باب الأمارات نفس العلم والكاشفيّة والطريقيّة ، فإنّ موضوع أصالة البراءة مثلا هو الشكّ ، وبعد قيام الأمارة على وجوب السورة مثلا لا يكون المكلّف شاكّا في نظر الشارع.

والفرق بين هذا القسم من الحكومة والورود : أنّ ارتفاع الموضوع في باب الورود وجداني ، ومنشؤه أمر وجداني آخر ، وهو التعبّد بخمريّة المائع المشكوك ، فإنّ نفس التعبّد قطعي وجداني ليس بتعبّدي ، وفي باب الحكومة تعبّدي منشؤه متعلّق ذلك التعبّد الوجداني ، وهو خمريّة المشكوك.

وبالجملة ، نفس التعبّد بمنزلة العلم والصورة وأنّه وجداني ، وارتفاع الموضوع به ورود ، والمتعبّد به بمنزلة المعلوم والمتصوّر الّذي لا يكون ثابتا بالوجدان ، وإنّما هو ثابت بواسطة التعبّد وبواسطة الصورة ، وارتفاع الموضوع بمثله حكومة. وإن شئت سمّه بالورود ، لعدم اختلاف الحكم باختلاف الاسم.

والجامع بين جميع أقسام الحكومة أن يكون أحد الدليلين إمّا ناظرا إلى عقد حمل الدليل الآخر أو رافعا لموضوعه رفعا تعبّديّا.

ومن الواضح أن لا تنافي بين دليلي الحاكم والمحكوم بجميع أقسام الحكومة ، لعدم انحفاظ وحدة الموضوع في بعض والمحمول في آخر ، وهي ممّا لا بدّ منه في حصول التنافي والتعاند.

٣٠٣

وهكذا لا تعارض بين الخاصّ والعامّ ، بل بين كلّ دليلين يكون أحدهما أظهر من الآخر ، فإنّ الأظهر يكون قرينة عرفيّة على المراد من الآخر ، بل يكون الخاصّ حاكما من جهة ، كما أنّ دليل الحاكم يكون مخصّصا من جهة ، لكن فرق بين التخصيصين وبين الحكومتين.

توضيح ذلك : أنّ حجّيّة خبر الواحد بمعنى جواز العمل به متوقّفة على إحراز أمور ثلاثة : الصدور من المعصوم عليه‌السلام ، وإرادة الظهور ، وجهة الصدور من كونه غير صادر تقيّة أو سخريّة أو غير ذلك ، بل صدر لبيان الحكم الواقعي ، والمتكفّل لإثبات الأمر الأوّل هو أدلّة حجّيّة خبر الواحد ، والمتكفّل لإثبات الأمرين الآخرين بناء العقلاء على حمل كلام كلّ متكلّم عاقل على كونه مستعملا فيما هو ظاهر فيه ، وعلى أنّ مراده الجدّي مطابق لمراده الاستعمالي ، ومن المعلوم أنّ هذه السيرة جارية فيما إذا لم تقم قرينة على المراد متّصلة أو منفصلة ، ومع قيام القرينة على خلاف الظاهر لا يعملون بأصالة الظهور ، لعدم الشكّ في المراد حينئذ ، فبقيام القرينة يرتفع موضوع الأصل العقلائي ، وهو أصالة الظهور في ذي القرينة ، ومن المعلوم أنّ الخاصّ قرينة عرفيّة على ما يراد من العامّ ، فإن كان متّصلا بالكلام ، لا ينعقد للكلام ظهور إلّا في الخاصّ ، وإن كان منفصلا ، فالظهور وإن كان ينعقد له إلّا أنّ الخاصّ قرينة على عدم إرادته ، وبه يرتفع الشكّ في إرادة العموم ، الّذي هو موضوع أصالة العموم ، فيصحّ أن يقال : إنّ الخاصّ حاكم ، لكونه موجب لارتفاع موضوع أصالة العموم ، كما يصحّ أن يقال : إنّ دليل الحاكم مخصّص ، لتخصيصه الحكم في دليل المحكوم ببعض أفراد موضوعه بلسان نفي الحكم أو نفي الموضوع.

والفرق بين الحكومتين : أنّ دليل الخاصّ حاكم على دليل حجّيّة ظهور العامّ ، وهو أصالة العموم عند الشكّ في العموم ، ورافع لموضوعه ، لا على

٣٠٤

نفس دليل العامّ ، ودليل الحاكم رافع لموضوع نفس دليل المحكوم.

والفرق بين التخصيصين : أنّ دليل الحاكم في تخصيصه رافع لموضوع دليل المحكوم أو ناظر إلى عقد حمله ، بخلاف دليل الخاصّ ، فإنّه لا يكون رافعا لموضوع العامّ ولا ناظرا إلى محموله.

والحاصل : أنّه لا إشكال في خروج هذه الموارد ـ أي موارد التخصيص ـ عن باب التعارض ، لعدم التنافي بين الدليلين عرفا ، لحكومة دليل الخاصّ على ما يستكشف منه عموم العامّ ، وهو أصالة الظهور ، بل وروده عليه في بعض الموارد ، وهو ما إذا كان الخاصّ قطعيّا من بعض الجهات الثلاث سندا ودلالة وجهة ، إذ يرتفع الشكّ في العموم حينئذ وجدانا.

وهذا بلا فرق بين ما فسّرنا التعارض بما فسّره به الشيخ قدس‌سره من أنّه هو التنافي بين مدلولي الدليلين (١) ، أو فسّرناه بما فسّر به صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّه هو التنافي بينهما في مقام الدلالة والإثبات (٢) ، إذ لا دلالة للعامّ على العموم بعد قيام الخاصّ ، ضرورة أنّ الدلالة من جهة أصالة الظهور ، وقد عرفت أنّ موضوعها يرتفع بورود الخاصّ ، فلا وجه لما اختاره صاحب الحدائق ، ومال إليه صاحب الكفاية على ما أذكره من السابق من ملاحظة المرجّحات بين العامّ والخاصّ ، بل الصحيح هو خروج كلّ دليلين يكون أحدهما نصّا أو أظهر من الآخر عن باب التعارض ، لما عرفت من كونه قرينة عرفيّة على المراد من الآخر ، ومعه يرتفع التنافي والتعارض.

وهكذا لا تعارض بين المتزاحمين.

توضيح ذلك : أنّ التزاحم إمّا أن يكون في مرحلة الملاك بأن يكون لفعل

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٣١.

(٢) كفاية الأصول : ٤٩٦.

٣٠٥

واحد ملاك الوجوب والحرمة ، فلا محالة يقع الكسر والانكسار ، فإن كان الملاكان متساويين ، يتخيّر المولى بين الإيجاب والتحريم. وإن كان أحدهما أزيد بمقدار لازم التحصيل ، فلا بدّ له من الإيجاب إن كانت الزيادة في ملاك الوجوب ، والتحريم إن كانت في ملاك الحرمة ، أو أزيد بمقدار غير لازم التحصيل ، فيجعله مستحبّا أو مكروها. وهذا خارج عن محلّ الكلام. أو يكون في مرحلة الامتثال بأن يكون هناك تكليفان لا يمكن امتثال كليهما ، لعدم القدرة على ذلك. وهذا هو محلّ الكلام.

والفرق بينه وبين التعارض أوضح من أن يخفى ، فإنّ لازم التعارض هو التكاذب والعلم بكذب أحد المدلولين ، فلو كان أحدهما وجوب السورة ، والآخر عدم وجوبها ، يعلم بعدم جعل كليهما ، وهذا بخلاف التزاحم بين امتثال دليل «لا تغصب» ودليل «أنقذ الغريق» ، إذ لا علم بكذب أحدهما بل يعلم بصدق كليهما وجعلهما في الشريعة المقدّسة ، بل مورد هذا القسم من التزاحم هو ثبوت الحكمين في الشريعة ـ سواء كانا تابعين لمصلحة في أنفسهما أو متعلّقيهما أو لم يكونا تابعين لمصلحة أصلا ، كما هو مذهب الأشعري ، إذ لا يفرق فيما نحن بصدده أصلا ـ واتّفق في مورد عدم قدرة المكلّف على امتثالهما ، لكون امتثال كلّ معجزا عن امتثال الآخر ، ومن المعلوم أن لا تنافي بين هذين التكليفين أصلا.

أمّا على ما اخترناه ـ من عدم اشتراط التكاليف بالقدرة وإطلاقها من هذه الجهة ، وإنّما العقل لا يحكم بتنجيزها في حقّ العاجز ـ فواضح ، إذ المفروض عدم اشتراط التكاليف بالقدرة ، فيصير كلّ منهما فعليّا في حقّه ، غاية الأمر أنّه لا يحكم إلّا بتنجّز أحدهما.

وأمّا على المشهور من اشتراطها بها كالبلوغ : فلأنّ التنافي يتحقّق في

٣٠٦

صورة انحفاظ الموضوع في كليهما ، كما في «أكرم العلماء» و «لا تكرم فسّاق العلماء» فإنّا لو قدّمنا أحدهما في مورد الاجتماع ـ وهو العالم الفاسق ـ فقد أخرجناه عن تحت الدليل الآخر مع كونه موضوعا له ، فالتقديم في الحقيقة تخصيص ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ امتثال أحد الدليلين وصرف القدرة فيه موجب لارتفاع موضوع الآخر ، لارتفاع قيد من قيوده ، وهو القدرة ، فأيّ منافاة بينهما بعد ما كان كلّ منهما مشروطا بالقدرة؟ فإذا صرفت في أحدهما ، لا يصير الآخر فعليّا أصلا ، لعدم فعليّة موضوعه بتمامه.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ باب التزاحم مغاير لباب التعارض ولا ربط لأحدهما بالآخر ، فإنّ التعارض هو التكاذب في مدلولي الدليلين والعلم بكذب أحدهما ، والتزاحم مورده العلم بثبوت تكليفين وجدانا أو تعبّدا والعجز عن امتثالهما معا ، ولو فرضت القدرة على امتثالهما ، لوجوب امتثالهما ، فالتزاحم مختصّ بالعاجز ، بخلاف التعارض ، فإنّ استحالة التعبّد بالمتناقضين أو الضدّين لا تختصّ بشخص دون شخص.

فما في بعض الكلمات ـ من أنّ الأصل في التمانع بين التكليفين هل هو التعارض أو التزاحم؟ ـ على ما قال شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره كالقول بأنّ الأصل في الأشياء هل هو الطهارة أو صحّة الفضولي ، ضرورة أنّه لا جامع بينهما حتى يسأل عن الفرق.

ثمّ إنّ لشيخنا الأستاذ قدس‌سره كلاما ، وهو أنّ التزاحم بين التكليفين غالبا يكون في مورد عدم القدرة ، وربّما يكون في غيره من جهة العلم بعدم مطابقة أحد الخطابين للواقع ، ومثّل لذلك بما إذا ملك خمسا وعشرين إبلا في أوّل

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٠٥.

٣٠٧

المحرّم مثلا ، ومضت عليه ستّة أشهر ، ثم ملك على رأس ستّة أشهر أوّل الرجب إبلا واحدة فتمّ نصاب السادس ، فبعد مضيّ سنة على خمس وعشرين تجب خمس شياة ، وبعد ذلك بستّة أشهر أوّل الرجب الآتي يجب بنت مخاض بمقتضى مضيّ الحول على نصاب السادس ، وهو ستّ وعشرون ، وبما أنّا نعلم أنّه لا تجب الزكاة في سنة واحدة مرّتين فيقع التزاحم بين التكليفين (١).

وما أدري ما الّذي دعاه إلى ذلك؟ وأيّ فرق بينه وبين قيام دليلين أحدهما على وجوب الظهر ، والآخر على وجوب الجمعة يومها وعلم بعدم وجوب كليهما من الخارج؟ فإنّ المقام بعينه من هذا القبيل ، إذ لا مانع من التكليف بأداء الزكاة في سنة مرّتين مع القدرة عليه.

ولما ذا لا يكون المقام من باب تعارض المدلول المطابقي لأحد الخطابين مع المدلول الالتزامي من الآخر؟ للعلم بعدم وجوب زكاة مال واحد في سنة واحدة مرّتين ، حيث إنّ المدلول المطابقي لدليل وجوب خمس شياة يعارض المدلول الالتزامي من دليل وجوب بنت مخاض عند الرجب الآتي ، وهو عدم وجوب خمس شياة في أوّل المحرّم الآتي الّذي هو زمان مضيّ الحول على خمس وعشرين ، وهكذا العكس ، فنعلم بكذب أحد الدليلين ، وعدم ثبوت أحد التكليفين : إمّا التكليف بوجوب خمس شياة ، أو وجوب بنت مخاض. وبالجملة ، نحن لا نتعقّل التزاحم في غير موارد العجز عن الامتثال.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٠٤.

٣٠٨

فصل :

في مقتضى القاعدة في باب التعارض في غير مورد أخبار علاج التعارض ـ وهو مورد تعارض الخبرين ـ ومقتضى القاعدة في باب التزاحم.

أمّا مقتضى القاعدة في غير مورد تعارض الخبرين ـ كما إذا كان المتعارضان ظاهري مقطوعي الصدور أو شهرتين أو شهرة وإجماعا منقولا أو بيّنتين في موضوع من الموضوعات ـ فهو التساقط والرجوع إلى الأصل العملي ، فإنّ الكاشفيّة الفعليّة غير معقولة ، إذ المفروض هو التناقض بين المدلولين والمنكشفين أو التضادّ بينهما ، والمحال لا يمكن أن يقع موردا للتعبّد لا ابتداء ولا إمضاء ، كما هو الغالب ، فإنّ غالب الأمارات بل كلّها طرق عقلائيّة أمضاها الشارع ، ضرورة أنّه لا يعقل التعبّد بوجوب السورة وعدمه في الشريعة المقدّسة ، وشمول دليل التعبّد لأحدهما المعيّن دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، لفرض جامعيّة كلّ لشرائط الحجّيّة في نفسه.

وهل يمكن التعبّد بأحدهما لا بعينه لنفي الثالث حتى لا يصحّ التمسّك بأصالة الإباحة إذا كان مدلول أحدهما هو التحريم ومدلول الآخر هو الوجوب أو لا؟ ذهب جماعة ، منهم : الشيخ وصاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ ـ قدّست أسرارهم ـ إلى الأوّل (١). وذكر لذلك تقريبان :

أحدهما لصاحب الكفاية من أنّ محتمل الصدق منهما لا مانع من شمول دليل الحجّيّة له ولو كان غير متميّز.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٣٨ ـ ٤٣٩ ، كفاية الأصول : ٤٩٩ ، فوائد الأصول ٤ : ٧٥٥.

٣٠٩

نعم ، حيث لا يتميّز معلوم الكذب عن غيره المشمول لدليل الحجّيّة فلا أثر له إلّا نفي الثالث (١).

ثانيهما لشيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ ما يدلّ على الوجوب يدلّ بالالتزام على نفي الأحكام الأخر ، وهكذا ما يدلّ على الحرمة ، وتعارضهما ليس إلّا في مدلوليهما المطابقيّين ، وأمّا نفي الإباحة والكراهة والاستحباب فيدلّ عليه كلّ منهما بالالتزام ، ولا تعارض بينهما فيه ، فلا وجه لتساقطهما عن الحجّيّة إلّا بمقدار المعارضة (٢).

وليعلم أنّ محلّ الخلاف ما إذا لم يعلم وجدانا بصدق أحدهما ومطابقته للواقع ، وإلّا فلا إشكال ولا خلاف في نفي الثالث.

والجواب عن الأوّل : ما أفاده الشيخ قدس‌سره في بحث الاشتغال من أنّ شمول دليل الأصل النافي للتكليف في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف بتمامها لا يمكن ، لاستلزامه المخالفة القطعيّة ، وشموله لبعض منها معيّنا دون بعض ترجيح بلا مرجّح ، إذ لا قصور في مشموليّة كلّ منها في نفسه لدليل الأصل ، ولا ترجيح بينها من هذه الجهة ، وأحد الأطراف لا بعينه ليس أمرا مغايرا لها حتى يشمله الدليل (٣). وهذا الكلام جار في المقام أيضا ، فإنّ كلّا من البيّنتين المتعارضتين ـ مثلا ـ في نفسه قابل لأن يشمله الدليل بلا تفاوت بينهما من هذه الجهة ، والتعبّد بطريقيّة كلتيهما غير معقول ، وإحداهما معيّنة دون الأخرى ترجيح بلا مرجّح ، وإحداهما لا بعينها ليست فردا ثالثا من البيّنة يشمله دليل الحجّيّة بل إنّما هي عنوان ينتزع منهما.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٩٩.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٧٥٥.

(٣) فرائد الأصول : ٢٤٩.

٣١٠

نعم ، هناك شبهة عويصة هي شمول الدليل لأحدهما تخييرا ، وأجبنا عنها هناك مفصّلا ، فراجع (١).

والجواب عن الثاني : أنّ ما أفاده تامّ لو كان المدلول الالتزامي تابعا للمطابقي في مقام الدلالة والإثبات فقط دون مقام الحجّيّة لكن ليس الأمر كذلك ، والشاهد على ذلك ملاحظة بناء العقلاء والسيرة المتشرّعة على العمل بالبيّنة ، مثلا : إذا أخبرت البيّنة بإصابة البول للثوب ، فقد أخبرت بالالتزام بنجاسة الثوب ، فهل يحكم بنجاسة الثوب إذا علم بكذب البيّنة؟ وإذا كان مال في يد زيد وادّعى كلّ من عمرو وبكر أنّه له ، وأقام كلّ على دعواه بيّنة ، فهل يحكم بكون المال مجهول المالك وينتزع من يد زيد من جهة تساقط البيّنتين في المدلول المطابقي لا في المدلول الالتزامي ، وهو عدم كون المال لزيد؟

وحلّه : أنّ المدلول الالتزامي الّذي أخبرت به البيّنة التزاما ليس إلّا الحصّة الملازمة للمدلول المطابقي ، فإنّ الإخبار بطلوع الشمس إخبار بوجود الضوء الملازم لطلوع الشمس لا بمطلق الضوء ، وهكذا الإخبار بإصابة البول للثوب إخبار بالالتزام عن النجاسة الملازمة لإصابة البول لا مطلقا ، وهكذا إخبار البيّنة بكون المال لعمرو أو بكر إخبار بالالتزام بعدم ملكيّة زيد له ، الملازم لملكيّة عمرو أو بكر لا مطلقا ، فإذا فرض القطع بكذب الخبر في مدلوله المطابقي وسقوطه عن الكاشفيّة بالقياس إليه ، يقطع بكذبه في مدلوله الالتزامي أيضا ، ومن الواضح أنّ دليل الحجّيّة لا يشمل ما لا يكون مدلولا للبيّنة لا مطابقة ولا التزاما ، وهو تلك الحصّة من النجاسة غير الملازمة لإصابة البول ، التي أخبرت بها ، وأمّا شموله لهذه الحصّة الملازمة فمعلوم أنّه بتبع شموله لما يلازمها من

__________________

(١) راجع ج ٣ ص ٣٧٦ وما بعدها في مبحث أصالة الاشتغال.

٣١١

إصابة البول للثوب ، فإذا سقطت حجّيّتها من جهة التعارض في المدلول المطابقي ، تسقط فيما كان تبعا له بالضرورة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لا يمكن نفي الثالث لا بأحد المتعارضين ولا بكليهما بالقياس إلى مدلوليهما الالتزاميّين. أمّا بأحدهما لا بعينه : فلعدم كونه أمرا ثالثا مشمولا لدليل الحجّيّة. وأمّا المدلول الالتزامي فهو وإن كان نفي الإباحة ـ مثلا ـ عند تعارض دليل الوجوب والحرمة إلّا أنّه ليس مطلق عدم الإباحة بل خصوص عدم الإباحة ، الملازم للوجوب في أحد الدليلين ، وعدم الإباحة ، الملازم للحرمة ، وسقوط دليل الوجوب والحرمة عن الحجّيّة في الوجوب والحرمة ملازم لسقوطهما عن الحجّيّة في نفي الإباحة ، الملازم لكلّ منهما. وأمّا حصّة أخرى من عدم الإباحة فلم تكن مدلولة لهما حتى تنفي بهما.

هذا كلّه على مبنى الطريقيّة ، وأمّا على السببيّة : فذهب الشيخ قدس‌سره مطلقا وصاحب الكفاية وشيخنا الأستاذ قدس‌سرهما في الجملة إلى دخول الدليلين المتعارضين في باب التزاحم (١).

والحقّ هو التفصيل.

توضيحه : أنّ السببيّة تارة يراد منها السببيّة العدليّة التي التزم بعضهم بها فرارا عن شبهة «ابن قبة» ـ من كون التعبّد بالأمارة موجبا لتفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة في مورد عدم الإصابة ـ وهي الالتزام بكون قيام الأمارة موجبا لحدوث مصلحة في سلوكها بمقدار يتدارك به ما فات بسبب العمل بالأمارة لا أزيد منه ، فيختلف بحسب اختلاف الموارد شدّة وضعفا وسعة وضيقا ، فإن فاتت بسبب العمل بها مصلحة فضيلة الوقت فقط بأن انكشف

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٣٩ ، كفاية الأصول : ٤٩٩ ـ ٥٠٠ ، أجود التقريرات ١ : ٢٧١ ، فوائد الأصول ٤ : ٧٥٨.

٣١٢

الخلاف في الوقت وظهر بعد إتيان الجمعة مثلا بمقتضى دليل أنّ الواجب الواقعي في حقّه هو الظهر ، تتدارك مصلحة فضيلة الوقت فقط ، التي فاتت منه بسبب العمل بالأمارة ، فيجب عليه إتيان الظهر في الوقت. وإن انكشف بعد مضيّ الوقت ، فيتدارك ما فات من مصلحة الوقت بسببه لا أزيد ، فيجب عليه قضاء الظهر ، لعدم فوت مصلحة أصل الفعل بسببه حتى يلزم تداركها. وإن لم ينكشف الخلاف أصلا إلى آخر عمره ، فتتدارك مصلحة الظهر بتمامها وكمالها.

وأخرى يراد منها السببيّة الباطلة التي التزم بها الأشاعرة والمعتزلة ، وهي أنّ قيام الأمارة موجب لصيرورة متعلّق المؤدّى متعلّقا للغرض ، أو موجب لحدوث مصلحة فيه أو في نفس الأمر بالعمل على طبق الأمارة ، والجامع بين السببيّة المعتزليّة والسببيّة الأشعريّة أن يكون مؤدّى الأمارة هو حكما واقعيّا ناشئا عن ملاك مسبّب عن قيام الأمارة. والفارق بينهما أنّ الأشعري ليس عنده حكم واقعي إلّا ما أدّت إليه الأمارة ، والمعتزلي يقول بانقلاب الحكم الواقعي بقاء بسبب قيام الأمارة.

فإن كان المراد منها هو الأولى ، فعدم الدخول في باب التزاحم واضح ، فإنّ السببيّة بهذا المعنى عين الطريقيّة ، إذ لها كاشفيّة وطريقيّة تحدث في سلوكها مصلحة يتدارك بها ما فات ، ومن المعلوم أن لا كاشفيّة للمتعارضين ، لسقوط كاشفيّتهما بواسطة التعارض ، كما عرفت ، فلا موضوع لحدوث المصلحة حينئذ ، فيدخل في باب التعارض لا محالة.

وإن كان المراد منها هو الثانية ، فتارة يقال بأنّ قيام الأمارة نظير العناوين الثانويّة ـ كالاضطرار والسفر ـ يوجب تعنون الفعل أو الترك بعنوان يكون به متعلّقا للغرض أو ذا مصلحة ، وأخرى يقال بأنّه موجب لحدوث مصلحة في نفس أمر المولى بالعمل على طبق الأمارة بلا حدوث مصلحة في نفس

٣١٣

المتعلّق ، إذ يمكن أن لا تكون مصلحة في العمل بقول العادل مثلا أصلا لكن تكون في أمر المولى بالعمل بقوله ، فإنّه احترام له وتجليل لشأنه ، مثلا : إلزام المولى عبده بالعمل بقول ضيفه ، له مصلحة ولو أمر الضيف بما لا مصلحة له أصلا ، إذ نفس الأمر بالعمل بقول الضيف تكريم وتعظيم لشأنه وخلافه إهانة به.

وعلى كلّ تقدير إمّا تؤدّي الأمارتان إلى الإلزام بضدّين لهما ثالث ، كالقيام والقعود ، أو ضدّين ليس لهما ثالث ، كالحركة والسكون ، أو إلى حكمين متناقضين ، كإيجاب شيء وعدم إيجابه بعينه ، أو حكمين متضادّين ، كإيجاب شيء وتحريم هذا الشيء بعينه ، فهذه أربع صور.

فإن كان قيام الأمارة نظير عنوان الاضطرار موجبا لحدوث مصلحة مثلا في نفس الفعل أو الترك ، فصورة واحدة من الصور الأربع ـ وهي صورة الإلزام بضدّين لهما ثالث ـ تدخل في باب التزاحم لا محالة ، إذ المفروض حدوث المصلحة في القيام والقعود كليهما بسبب قيام الأمارة على وجوبه ، ولا مانع من جعل كلا التكليفين ، غاية الأمر أنّه لا يقدر المكلّف على امتثال كليهما ، فيقع التزاحم في مقام الامتثال (١).

وأمّا باقي الصور فلا يعقل فيه التزاحم ، إذ إيجاب ضدّين ليس لهما ثالث كليهما تكليف بما لا يطاق ، وأحدهما تخييرا طلب للحاصل ، لعدم خلوّ المأمور عن الحركة والسكون ، وهكذا جعل حكمين متناقضين أو متضادّين يرجع إلى الإلزام بالفعل والترك معا ، أو الإلزام بالفعل والرخصة في الترك ، وجعل أحدهما تخييرا طلب للحاصل ، وكلاهما محال في حقّ الحكيم تعالى ،

__________________

(١) رجع السيّد الأستاذ دام بقاؤه في هذه الدورة وذهب إلى التعارض في هذا الفرض أيضا ، وهكذا فيما سيأتي من فرض حدوث مصلحة في عقد القلب من السببيّة. (م).

٣١٤

فلا مناص في هذه الصور الثلاث عن جعل أحدهما معيّنا ، فيخرج عن باب التزاحم ، ويدخل في باب التعارض الّذي ملاكه هو التكاذب في مقام الجعل ، فلا وجه لجعلها من باب التزاحم.

وهكذا لا وجه لما أفاده صاحب الكفاية في صورة قيام الأمارتين على حكمين متناقضين ـ كالوجوب وعدم الوجوب ـ من أنّه يؤخذ بما يقتضي الإلزام (١).

وذلك لأنّ ما يدلّ على عدم الوجوب أيضا موجب لحدوث مصلحة معدمة لما يقتضي الوجوب من المصلحة حتى يصحّ جعل عدم الوجوب بسببه ، فهنا مصلحتان : إحداهما مقتضية لجعل الوجوب ، والأخرى لجعل عدم الوجوب ، فيدخل جميع الصور الأربع إلّا الأولى منها في باب التعارض.

نعم لو التزمنا بالسببيّة الباطلة وبباطل آخر ـ وهو أنّ المجعول في باب الأمارات هو وجوب عقد القلب والالتزام بمؤدّى الأمارة وتصديقه قلبا المستلزم للعمل على طبقه خارجا ـ فجميع الصور تدخل في باب التزاحم ، إذ الّذي تحدث فيه المصلحة حينئذ هو الأمر القلبي من الالتزام وتصديق مؤدّى الأمارة ، فكلّ من الالتزامين ، له مصلحة مقتضية لوجوبه ، ولا مانع من إيجاب المولى كليهما ، غاية الأمر أنّه مشروط عقلا بالقدرة ، فيقع التزاحم بينهما في مقام الامتثال ، لكن هذا الالتزام التزام بباطل في باطل.

وإن كان قيام الأمارة موجبا لحدوث مصلحة في نفس إلزام المولى ، فيكون جميع الصور خارجة عن باب التزاحم الّذي هو محلّ الكلام ، إذ على ذلك يكون التزاحم في مقام الجعل ، ففي الصورة الأولى يجعل كلّا منهما

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

٣١٥

مشروطا بترك الآخر ، فيستوفى بذلك كلتا المصلحتين ، فيخرج عن باب التعارض أيضا ، وفي الباقي حيث لا يعقل جعل كلا التكليفين لا مطلقا ولا مشروطا ، ولا يصحّ عدم جعل شيء منهما ، لاستلزامه تفويت مصلحة يمكن المكلّف استيفاؤها ، فلا بدّ أن يختار إحداهما ويجعل على طبقها ، وحيث لا يعلم أنّه اختار مصلحة الإيجاب أو مصلحة التحريم فلا محالة يدخل في باب دوران الأمر بين المحذورين.

وليعلم أنّ ما يكون داخلا في باب التزاحم من الصور يكون الحكم فيه هو التخيير ، وليس موردا للرجوع إلى مرجّحات باب التزاحم ، لتساويهما في ملاك الحجّيّة وملاك إحداث المصلحة بلا تفاوت بينهما.

ثمّ لا يخفى أنّ التفصيل بين ما كان قيام الأمارة سببا لحدوث المصلحة في فعل المكلّف وبين ما كان سببا لحدوثها في نفس فعل المولى لم يوجد في كلام القائلين بالسببيّة فيما رأيناه ، وذكرناه تتميما لأطراف الكلام ومحتملاته.

ثمّ إنّهم ذكروا لترجيح أحد المتزاحمين أمورا :

الأوّل : أن يكون أحد التكليفين موسّعا كالصلاة ، والآخر مضيّقا كالإزالة ، فإنّهم ذكروا أنّ المضيّق ـ ولو كان أقلّ الواجبات كردّ السلام ـ يقدّم على الموسّع ولو كان بمرتبة لم يكن واجب أهمّ منه.

وفيه : أنّه لا يكون من باب التزاحم أصلا ، إذ الموسّع لا يكون موردا للإلزام في خصوص وقت المضيّق حتى يقع التزاحم بينهما ، فإنّ متعلّق الأمر طبيعيّ الصلاة لا خصوص الفرد المزاحم للإزالة ، بل تقرّر في محلّه أنّه لا يكون من باب الترتّب أيضا.

الثاني : أن يكون أحدهما تعيينيّا والآخر تخييريّا ، كما إذا أفطر عامدا في شهر رمضان فوجب عليه الإطعام مخيّرا بينه وبين الصيام والعتق وكان مديونا

٣١٦

لمن يطالبه ، وما عنده من المال لا يفي إلّا بالإطعام أو أداء الدين ، فحينئذ يجب عليه أداء الدين وصرف القدرة فيه.

والجواب عنه ظهر ممّا مرّ آنفا ، فإنّ الإطعام ليس بالخصوص واجبا حتى يزاحم أداء الدين ، بل الواجب أحد أمور ثلاثة ، والمكلّف قادر على امتثال كلا التكليفين بلا تزاحم في البين ، فيصرف المال في أداء الدين ويصوم شهرين متتابعين مثلا.

الثالث : أن يكون أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا ، كالصلاة مع الوضوء ، والآخر مشروطا بالقدرة عقلا ، كغسل البدن النجس ، فيقدّم الثاني بحكم العقل لو كان عنده ماء لا يمكن إلّا صرفه في أحدهما ، فإنّ القدرة فيما يكون مشروطا بها شرعا لها دخل في الملاك بحيث لا مصلحة للفعل أصلا مع العجز ، وفيما يكون مشروطا بها عقلا لا دخل لها في الملاك أصلا ، فالفعل له مصلحة حتى في حال العجز بحيث لو عجز عنه المكلّف تفوته هذه المصلحة ، وهذا كالصوم ، فإنّه ذو مصلحة حتى في حقّ المريض على ما يستفاد من بعض أدعية شهر رمضان ، فصرف القدرة فيما هو مشروط بها شرعا دون الآخر موجب لتفويت مصلحة الواجب المطلق ، وهذا بخلاف العكس ، فإنّ صرف القدرة في المطلق معجّز مولوي عن الآخر ، وموجب لعدم صيرورة الآخر ذا مصلحة وذا ملاك ، إذ المفروض هو دخل القدرة في ملاكه.

وهذا المرجّح لا إشكال فيه إلّا أنّ المثال المذكور لا ينطبق عليه ، فإنّ غسل البدن أيضا مشروط بالقدرة شرعا ، إذ العاجز عن الصلاة مع البدن الطاهر تجب عليه الصلاة في البدن النجس ، فالأولى هو التمثيل بما إذا وجب عليه صرف الماء لحفظ نفس أو دفع ضرر واجب الدفع ، فيتعيّن صرفه فيه دون الوضوء.

٣١٧

الرابع : أن يكون أحدهما أهمّ من الآخر ، كما إذا كان أحد الغريقين نبيّا أو وصيّا والآخر مؤمنا ، فإنّ العقل مستقلّ حينئذ بصرف القدرة في الأهمّ ، ويكون أمر المهمّ ساقطا على القول بعدم إمكان الترتّب ، أو إطلاقه ساقطا ، فيكون مشروطا بعدم الاشتغال بالأهمّ على القول بمعقوليّة الترتّب.

الخامس : أن يكون أحدهما سابقا زمانا ، كما إذا دار الأمر بين إفطار أوّل الشهر وآخره ، فيجب الصوم في الأوّل والإفطار في آخره ، لأنّه أوّل الشهر لا يكون عاجزا عن الصوم ، ولا يحكم العقل بحفظ القدرة للتكليف المتأخّر في مثل المقام ، فيبقى إطلاق الدليل على حاله ، فأيّ عذر له في مخالفة التكليف الفعلي مع قدرته على امتثاله؟ ومجرّد كونه معجّزا عن امتثال تكليف آخر في المستقبل لا يسوّغ عصيان هذا التكليف.

نعم ، لو كان التكليف الآتي أهمّ منه ، وجب حفظ القدرة له بعصيان السابق في الزمان ، كما إذا أكره إمّا على قتل خادم المولى فعلا أو نفس المولى بعد ساعة ، فالعقل مستقلّ بلزوم قتل الخادم فعلا لحفظ نفس المولى ، ومن هذا القبيل التوسّط في الأرض المغصوبة لإنقاذ الغريق ، فإنّه سابق في الزمان على الإنقاذ ومع ذلك لا يحرم بل يجب ، حفظا للقدرة على الإنقاذ.

وليعلم أنّ الكلام فيما إذا كان كلا التكليفين فعليّا ، كمثال الصوم بناء على القول بوجوب صوم الشهر بأجمعه عند دخول الشهر بنحو الواجب التعليقي ، لا ما إذا كان الوجوب المتأخّر مشروطا ، فإنّه خارج عن باب التزاحم ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ جماعة ـ منهم : شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ـ ألحقوا عدم القدرة على

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ٢٧٨ و ٢٨١ ـ ٢٨٣.

٣١٨

امتثال التكليفين الغيريّين بعدم القدرة على امتثال التكليفين المستقلّين في كونه من باب التزاحم ، ففيما إذا دار أمر المكلّف بين أن يصلّي قائما فلا يقدر على الركوع والسجود إلّا إيماء وأن يصلّي جالسا مع الركوع والسجود ، أفتى بعضهم بوجوب الصلاة قائما مومئا للركوع والسجود ، نظرا إلى سبق القيام في الزمان على الركوع والسجود. وبعض بالعكس ، نظرا إلى أهمّيّة الركوع والسجود.

وصاحب العروة أفتى بالتخيير واحتاط بتكرار الصلاة. وهذا الفرع مذكور في العروة في مقامين : في مكان المصلّي وفي القيام (١).

ولشيخنا الأستاذ قدس‌سره حاشيتان متناقضتان كلّ في مقام ، ففي إحداهما أفتى بوجوب الصلاة قائما مومئا ، وفي الأخرى بوجوبها قاعدا مع الركوع والسجود.

والتحقيق : أنّ التكليفين غير المستقلّين غير ملحقين بباب التزاحم ، ولا تعمل فيهما مرجّحات باب التزاحم بل داخلان في باب التعارض.

توضيحه : أنّ القاعدة الأوّليّة عند العجز عن إتيان شيء ممّا له دخل في المركّب الارتباطي هي سقوط الأمر المتعلّق به ، لعدم القدرة على المجموع الّذي كان مأمورا به ، وعدم كون ما هو المقدور مأمورا به ، خرجنا عن هذه القاعدة في الصلاة بالإجماع والضرورة و «الصلاة لا تسقط بحال» المستفاد من بعض الروايات ، فعلمنا أنّ العجز عن بعض أجزائها مثلا لا يوجب سقوط أصل التكليف بالصلاة ، بل تجب الصلاة على العاجز أيضا ، ولكن بعد سقوط الأمر المتعلّق بالمجموع لا بدّ من التماس دليل على كون صلاته هي ما عدا غير المقدور من الأجزاء ، فإذا راجعنا الأدلّة ، نرى أنّ ما دلّ على أنّ التكبيرة جزء

__________________

(١) العروة الوثقى : الشرط السادس من شرائط مكان المصلّي. وفصل في القيام ، المسألة ١٧.

٣١٩

للصلاة مطلق ، وبإطلاقه يشمل كلّ صلاة ، وهكذا ما دلّ على جزئيّة القراءة والركوع والسجود والتشهّد إلى غير ذلك من أجزاء الصلاة وشرائطها مطلق ، ومقتضاه جزئيّة هذه الأمور وشرطيّتها لكلّ صلاة بلا تفاوت بين الصلوات ، فإذا عجز عن شيء خاصّ كالقراءة ، يعلم بتقييد إطلاق ما دلّ على جزئيّتها لكلّ صلاة ، فيعلم بأنّ القراءة ليست بجزء لصلاة العاجز عنها ، ويبقى إطلاق باقي أدلّة الأجزاء والشرائط على حاله بالنسبة إليها.

فليس لأحد أن يقول : إنّ العاجز عن القراءة بأيّ دليل تجب عليه الصلاة بلا قراءة ، مشتملة على سائر الأجزاء والشرائط مع أنّ الأمر بالقراءة ، الّذي سقط بالعجز ، بعينه هو الأمر المتعلّق بالركوع والسجود وغيرهما ، إذ الفرض وحدة الأمر وانبساط هذا الواحد على جميع الأجزاء؟

لأنّا نقول : بعد ما علم أنّ عليه صلاة في هذا الحال تكفينا إطلاقات أدلّة أجزاء الصلاة وشرائطها في إثبات جزئيّة غير القراءة لصلاته أيضا.

هذا إذا عجز عن أمر معيّن أو أمور كذلك ، أمّا إذا عجز عن أحد أمرين أو أمور كالفرع المزبور ، فحيث نعلم بأنّ كلّا من القيام والركوع والسجود لا يكون جزءا لصلاته ، إذ المفروض عجزه عن ذلك ، فيعلم بسقوط أحد الإطلاقين إمّا إطلاق دليل القيام أو إطلاق دليل الركوع والسجود ، فيتعارض الدليلان ويتكاذبان.

وبعبارة أخرى : نعلم بأنّ المجعول في حقّ هذا الشخص إمّا الصلاة جالسا مع الركوع والسجود أو الصلاة قائما مومئا لهما ، فنعلم بكذب أحد الإطلاقين ، فمقتضى القاعدة هو سقوطهما على ما يأتي إن شاء الله من عدم الرجوع إلى المرجّحات السنديّة في العامّين من وجه ، وأنّ الحكم فيهما في مورد الاجتماع هو التساقط والرجوع إلى الأصل العملي ، وهو في المقام

٣٢٠