الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

فصل :

قد ذكرنا أنّ التعارض إنّما يكون فيما إذا لم يمكن الجمع العرفي ، وهو إمّا أن يكون بنحو التباين أو العموم من وجه ، لا إشكال في عدم سقوط المتعارضين بالعموم من وجه في مادّتي الافتراق عن الحجّيّة ، ولم يقل أحد بذلك فيما نعلم ، وليس لأحد أن يقول به ، فإنّ رفع اليد عن الدليل بالمرّة بعد حجّيّته وعدم تعارضه بمجرّد عدم إمكان العمل بمقدار من مدلوله بلا وجه.

وأمّا المتباينان فعلى أقسام :

الأوّل : ما يكون كلّ منهما مقطوع الصدور ، فالتعارض يقع بين الظهورين ، مثلا : إذا علم بصدور كلّ من «أكرم العلماء» و «لا تكرم العلماء» أو «ثمن العذرة سحت» و «لا بأس ببيع العذرة» يعلم إجمالا بإرادة خلاف الظاهر من أحدهما ، فأصالة الظهور في كلّ منهما تعارض أصالة الظهور في الآخر ، لعدم إمكان التعبّد بكلا الظهورين ، فيصيران في حكم المجمل.

ولا يجوز التأويل والجمع بينهما بحمل أحدهما على شيء ، والآخر على شيء آخر على ما هو ظاهر الشيخ (١) قدس‌سره ، فإنّ المراد غير معلوم ، ولا بدّ في تعيينه من ظهور أو قرينة خارجيّة ، ولا يمكن تعيينه من عندنا ، فإنّه افتراء على الله. وهذا الكلام المعروف من أنّ «الجمع مهما أمكن أولى من الطرح» كلام شكيل لا معنى له لو كان المراد منه الجمع التبرّعي أو التورّعي ـ كما في بعض

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٣٤.

٣٤١

التعابير ـ بل الجمع بلا قرينة عرفيّة ، وحمل كلام الشارع على شيء ، وتأويله من عندنا على خلاف الورع.

نعم ، لو كان لأحد مقطوعي الصدور أو كليهما قدر متيقّن يعلم إرادته من الخارج ، يؤخذ به ، ولكن هذا من جهة القطع الخارجي ، ولا ربط له بدلالة اللفظ.

الثاني : أن يكون أحدهما مقطوع الصدور والآخر مظنون الصدور ، فيقع التعارض بين ظهور مقطوع الصدور وسند مظنون الصدور بما له من الظهور لا مجرّد السند ، فإنّ السند الساذج لا معنى للتعبّد به ، ولا يمكن الأخذ لا بظهور مقطوع الصدور ولا بسند مظنون الصدور.

لكن هذا مجرّد فرض ، فإنّا مأمورون بطرح ما خالف الكتاب والسنّة المتواترة أو القطعيّة ، وضربه على الجدار ، والقدر المتيقّن من هذه الأخبار الآمرة بالطرح هو ما كان مخالفا للكتاب والسنّة بنحو التباين.

الثالث : أن يكون كلاهما مظنون الصدور ، فالتعارض يقع بين سند كلّ منهما بما له من الظهور وسند الآخر كذلك ، والقاعدة فيه أيضا هي التساقط كما مرّ ، فالقاعدة الأوّليّة في الدليلين المتعارضين بنحو التباين هي التساقط ، لكنّه في غير الخبرين المتعارضين ، وأمّا فيهما فمضافا إلى عدم التساقط ووجوب الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا قد دلّت عليه الأخبار الكثيرة ، وهي ـ على ما في الكفاية ـ على طوائف :

منها : ما دلّ على التخيير مطلقا ، كخبر الحسن بن الجهم (١) ، وخبر

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ ـ ٢٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٢١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٣٤٢

الحارث بن المغيرة (١) ومكاتبة عبد الله بن محمّد (٢) ومكاتبة الحميري (٣) وغير ذلك.

ومنها : ما دلّ على التوقّف مطلقا (٤).

والظاهر : أنّه إن أراد بذلك ما دلّ على وجوب التوقّف في الشبهة ، فهي ـ على تقدير تسليم دلالتها ـ عامّة للخبرين وغيرهما ، فتخصّصها أخبار التخيير في الخبرين المتعارضين ، بالشبهة في مورد غيرهما. ولم يكن لنا غير أخبار التوقّف في مطلق الشبهة خبر دلّ على التوقّف في خصوص الخبرين المتعارضين.

نعم ، في مقبولة عمر بن حنظلة بعد فرض السائل تساوي الخبرين من جميع الجهات أمر الإمام عليه‌السلام بإرجاء الواقعة حتى يلقى إمامه (٥) ، ولكنّه في مورد لا بدّ من التوقّف فيه ، إذ مورده مورد المخاصمة ، ولا معنى للحكم بالتخيير في فرض التساوي بين الخبرين ، فإنّه لا يرفع النزاع ، بداهة أنّ كلّا من المتخاصمين يختار ما يوافق ميله إذا كان مخيّرا في الأخذ بأيّ الخبرين شاء.

وإن أراد بما دلّ على التوقّف ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ ـ ٢٣٤ ، الوسائل ٢٧ : ١٢٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤١.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٢٨ ـ ٥٨٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٢٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٥٦٩ ـ ٣٥٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٢١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩.

(٤) انظر : الوسائل أحاديث الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ـ ١٠ ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ٦ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣٤٣

مهران ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به ، والآخر ينهانا؟ قال عليه‌السلام : «لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل» قلت : لا بدّ أن نعمل بواحد منهما ، قال عليه‌السلام : «خذ بما خالف العامّة» (١) ، فيرد عليه أوّلا : أنّ هذا الخبر أمر أوّلا بالتوقّف ثمّ بعد ما قال الراوي : «لا بدّ أن نعمل بواحد منهما» أمر بالأخذ بما خالف العامّة ، وهو مخالف لمقبولة عمر بن حنظلة ، حيث أمر فيها بالتوقّف بقوله : «فأرجه حتى تلقى إمامك» بعد ذكر مرجّحات ، منها : مخالفة العامّة. والعمل على المقبولة ، لكونها معمولا بها عند الأصحاب.

وثانيا : أنّه مختصّ بزمان الحضور ، ولا دلالة له على وجوب التوقّف في زمان الغيبة أيضا.

ومن الغريب ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره في المقام من تقييد مطلقات التخيير بما دلّ على التوقّف في زمان الحضور (٢) ، فإنّ بعض روايات التخيير ـ كخبر الحارث بن المغيرة ـ مورده زمان الحضور ، والقدر المتيقّن من الباقي منها هو زمان الحضور ، فكيف يمكن صرفه إلى زمان إلى الغيبة ، المتأخّر عن زمان سؤال الراوي بكثير!؟

ومنها : ما دلّ على الأخذ بما هو موافق للاحتياط ، ولا يكون في أخبار الباب ما يدلّ على ذلك إلّا خبر غوالي اللئالي ، حيث أمر فيه ـ بعد ذكر مرجّحات ـ بالأخذ بما فيه الحائطة (٣).

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٥ ـ ٢٣٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٢٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٢.

(٢) فوائد الأصول ٤ : ٧٦٤ ـ ٧٦٥.

(٣) غوالي اللئالي ٤ : ١٣٣ ـ ٢٢٩ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ ، الباب ٩ من أبواب ـ

٣٤٤

وقد خدش في كتابه ومؤلّفه. وذكر الشيخ قدس‌سره أنّه خدش فيه من ليس دأبه الخدشة في الروايات (١). والظاهر أنّه أراد به صاحب الحدائق (٢).

وأمّا أخبار التوقّف في مطلق الشبهة فلا ربط لها بالمقام.

ومنها : ما دلّ على الترجيح بمزايا مخصوصة ، وهي روايات اقتصر في بعضها على مرجّح واحد ، وفي بعضها على اثنين ، وفي بعضها على أكثر. وعمدتها وأجمعها هي المقبولة (٣) والمرفوعة (٤) ، وهما مختلفتان في ترتيب بعض المرجّحات ، ففي المقبولة قدّم الترجيح بصفات الراوي على الترجيح بالشهرة ، وبالعكس في مرفوعة زرارة.

وكيف كان فلا ريب في دلالة تلك الأخبار على التخيير في الخبرين المتعارضين في الجملة ، وإنّما الكلام في ثبوت التخيير مطلقا ومن أوّل الأمر ـ ولو وجدت المرجّحات المنصوصة ـ أو ثبوته بعد فقد المرجّحات.

ذهب صاحب الكفاية إلى الأوّل ، وحمل روايات الترجيح مع وجود المرجّحات على الاستحباب ، بل جعل بعض المرجّحات ـ كمخالفة العامّة وموافقة الكتاب ـ ممّا تمتاز به الحجّة عن غير الحجّة بدعوى أنّ ما خالف الكتاب ـ بمقتضى الروايات الآمرة بطرحه وضربه على الجدار ، وما دلّ على أنّه زخرف وباطل ـ ليس بحجّة ولو لم يكن له معارض ، فإنّ هذه الروايات آبية عن التخصيص ، وأنّ أصالة عدم الصدور تقيّة في الخبر الموافق للعامّة ـ مع الوثوق

__________________

ـ صفات القاضي ، الحديث ٢.

(١) فرائد الأصول : ٦٥ ـ ٦٦.

(٢) الحدائق الناضرة ١ : ٩٩.

(٣) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ـ ١٠ ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٠١ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٤) تقدّمت الإشارة إلى مصدرها في الهامش (٣) من ص ٣٤٤.

٣٤٥

بصدوره كذلك أي تقيّة لو لا القطع به ـ غير جارية (١).

وما أفاده غريب منه قدس‌سره.

أمّا الوثوق أو القطع بصدور الموافق للعامّة تقيّة فلا أدري من أيّ سبب يحصل؟ ولو حصل فهو خارج عن محلّ الكلام ، فإنّ محلّ الكلام هو الخبران المتعارضان اللذان يحتمل صدق كلّ منهما وصدور كلّ منهما لبيان الحكم الواقعي بالطبع.

وما أفاده من أنّ «ما يخالف الكتاب أو يوافق العامّة فهو بنفسه غير حجّة» فهو خلط ، ومخالف لصريح المقبولة والمرفوعة ، حيث صرّح فيهما بالأخذ بما خالف العامّة وما وافق الكتاب بعد ذكر مرجّحات أخر ، فلو كان ما يخالف الكتاب أو يوافق العامّة بنفسه غير حجّة ، فلما ذا أمر بالأخذ به إذا كان مشهورا أو كان راويه أعدل وأفقه وأوثق؟

وأمّا إباء تلك الروايات عن التخصيص فكذلك إلّا أنّها لا ربط لها بالمقام ، فإنّها غير واردة في باب التعارض.

والمراد من المخالفة فيها هو المخالفة التباينيّة ، فعدمها من شرائط قبول الخبر ولو لم يكن معارضا.

والمراد من المخالفة التي ذكرت في روايات الباب هو المخالفة بنحو العموم والخصوص ، مثلا : إن وردت رواية «نهى النبي عن بيع الغرر» وأخرى «لا بأس ببيع الغرر» تكون الأولى مخالفة لعموم الكتاب ، والثانية موافقة له ، وهو (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فتقدّم الثانية.

وبالجملة ، تلك الأخبار ناظرة إلى شيء غير ما نظرت إليه هذه الأخبار ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٠٤ ـ ٥٠٦.

٣٤٦

والمراد من المخالفة في تلك غير المراد منها في هذه ، فلا ينبغي خلط إحداهما بالأخرى.

هذا ، مضافا إلى أنّه مخالف لصريح المقبولة أيضا ، حيث صرّح فيها بتقديم المجمع عليه والمشهور على غيرهما ، وبعد التساوي من هذه الجهة رجّح المخالف للعامّة والموافق للكتاب على غيرهما ، فلو كان ذلك ـ أي عدم كون الخبر مخالفا للكتاب ـ من شرائط حجّيّة الخبر في نفسه لكان المخالف ساقطا من الأوّل.

وبالجملة ، المقبولة دليل قطعيّ على أنّ المراد بمخالفة الكتاب ليس هو المخالفة التباينيّة ، بل المخالفة بنحو العموم المطلق وشبهه ممّا نعلم بصدوره من الأئمة عليهم‌السلام قطعا ، وحينئذ كما نحتمل كون الصادر من الخبرين ما يوافق الكتاب ويخالف العامّة دون الآخر ، كذلك نحتمل صدور المخالف له والموافق لهم.

وأمّا وروده لبيان الحكم الواقعي دون الآخر ـ بأن لم يصدر أصلا أو أريد خلاف ظاهره على تقدير صدوره ـ فليس لنا قطع ولا اطمئنان بعدم صدور المخالف للكتاب والموافق للعامّة. هذا أحد الوجوه التي ذكرها قدس‌سره لإبطال الترجيح.

ومن الوجوه التي أفادها : أنّ حمل إطلاقات التخيير على مورد فقد المرجّحات ، وتقييدها بما إذا لم يكن مرجّح في البين لا يمكن ، لكونها في مقام الجواب عمّن سأل عن حكم المتعارضين ويكون موردا لحاجته (١).

ونضيف نحن إلى ما أفاده أنّ تقييد إطلاقات التخيير بما إذا فقدت

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٠٤ ـ ٥٠٦.

٣٤٧

المرجّحات موجب لأن لا يبقى لها مورد إلّا نادرا ، إذ قلّما يتّفق تساوي الخبرين وعدم ترجيح أحدهما بمرجّح ما.

وفيه : أنّ دليل المقيّد بيان ، وقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ليس كقبح الظلم ، بل كقبح الّذي ربما يرتفع بمصلحة فيه ، وقد أفاد شيخنا الأستاذ قدس‌سره أنّا لم نجد إطلاقا أقوى من إطلاق قوله عليه‌السلام : «لا يضرّ الصائم ما صنع إذا اجتنب أربع خصال» (١) ومع ذلك نقيّده.

وأمّا عدم بقاء المورد فيلزم على القول بالتعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى مطلق ما يكون مرجّحا لا على القول المختار من الاقتصار على ما في الأخبار من المرجّحات الثلاث : الشهرة ، وموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، إذ ما يكون خاليا عن هذه الثلاث من الخبرين المتعارضين ـ ممّا لا يكونان بمشهورين وليس مضمونهما في الكتاب ويكون كلاهما موافقا أو مخالفا للعامّة ـ في غاية الكثرة.

ومن الوجوه التي أفادها : أنّ أجمع خبر للمزايا المنصوصة هو المقبولة والمرفوعة ، وهما ـ مضافا إلى أنّ المرفوعة ضعيفة سندا ـ واردتان في مورد الحكومة والتنازع والتخاصم ، والتعدّي إلى مورد الفتوى ـ الّذي هو محلّ الكلام ـ لا دليل عليه (٢).

وفيه ـ مضافا إلى كفاية غيرهما ممّا يدلّ على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، ومضافا إلى عدم ورود المرفوعة في مورد الخصومة ـ : أنّ الإمام عليه‌السلام في المقبولة ـ بعد ما سقط حكم الحكمين بالتعارض والتساوي في

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٦٧ ـ ٢٧٦ ، التهذيب ٤ : ٣١٨ ـ ٩٧١ ، الوسائل ١٠ : ٣١ ، الباب ١ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ١.

(٢) كفاية الأصول : ٥٠٤ ـ ٥٠٥.

٣٤٨

الصفات ـ أرجع المتخاصمين إلى الروايتين اللتين استند الحكمين إليهما ، وأمر بالأخذ بالمجمع عليه منهما ، ثمّ بالأخذ بما وافق الكتاب وخالف العامّة. وهذا الظهور في المقبولة ـ كما فهمه الأصحاب حتى الكليني قدس‌سره ، حيث إنّ عبارته التي نقلها الشيخ قدس‌سره في الرسائل ظاهرة في أنّه قائل بالتخيير بعد فقد المرجّحات الثلاث لا مطلقا (١) ـ ممّا لا ريب فيه.

ولا يضرّ بالمقصود أمر الإمام عليه‌السلام في ذيل الرواية بإرجاء الواقعة إلى لقاء الإمام عليه‌السلام ، لكونه في مورد لا بدّ فيه من الترجيح.

نعم ، ما أفاده ـ من أنّ المرفوعة ضعيفة ـ متين جدّاً ، فإنّها منقولة في كتاب غوالي اللئالي عن العلّامة عن زرارة ، ونقل أنّها ليست في شيء من كتب العلّامة أصلا ، لكونها رواية غير معلومة ، فلا معنى لانجبارها بعمل الأصحاب.

والحاصل : أنّها ضعيفة جدّاً ، لعدم ثبوت رواية العلّامة ، وعلى تقدير ثبوت نقله إيّاها عن زرارة لا تعلم الواسطة بينه وبين زرارة ، فلو كانت موجودة في كتبه ، لم نكن نقبلها فكيف إذا لم يثبت أصل وجودها.

وبالجملة ، الّذي نستفيده من الروايات هو وجوب الترجيح ، ولا نعرف في ذلك مخالفا إلّا صاحب الكفاية ، لما عرفت من أنّ الكليني قدس‌سره أيضا قائل بالتخيير بعد فقد المرجّحات الثلاث ، والسيّد الصدر شارح الوافية أيضا ليس من القائلين بالتخيير الّذي هو محلّ الكلام ، وهو التخيير في المسألة الأصوليّة ، بل هو ـ على ما يستفاد من كلامه ـ قائل بالتوقّف ، ومعناه الاحتياط في المسألة الأصوليّة وعدم الإفتاء لا بالترجيح ولا بالتخيير وإن كان قائلا به في مقام العمل وفي المسألة الفرعيّة. هذا كلّه في أصل وجوب الترجيح.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٤٩.

٣٤٩

بقي الكلام في جهات أخر :

الأولى : في عدد المرجّحات ، وهو منحصر بالشهرة ، ومخالفة العامّة ، وموافقة الكتاب. وأمّا صفات الراوي من الأصدقية والأفقهية فليست من المرجّحات ، لعدم كونها مذكورة في شيء من الروايات إلّا المرفوعة ، وقد عرفت أنّها في نهاية الضعف.

وأمّا ما ذكر في المقبولة فهو لترجيح حكم الحاكم الأفقه على غيره بما هو حاكم لا بما هو راو ، ولم يذكرها الكليني أيضا مع ذكره المقبولة في كتابه بل لم يذكرها أحد من المشايخ الثلاث مع أنّ المقبولة مرويّة عنهم.

واعتذار الشيخ قدس‌سره بأنّ عدم ذكرهم لها لعلّه من جهة وضوح اعتبارها (١) غريب ، ضرورة أنّ مخالفة العامّة وموافقة الكتاب تكونان أوضح من صفات الراوي بمراتب فعدم ذكرهما أولى.

وهكذا لا يسمع إلى ما نقله الشيخ عن بعض المحدّثين من أنّ عدم ذكر الكليني قدس‌سره لها من جهة أنّ روايات الكافي كلّها صحيحة عنده (٢) ، لأنّ دعوى أنّ روايات الكافي كلّها متساوية من جهة صفات رواته ـ بأن لم يكن تفاضل بينهم أصلا ـ دعوى غير معقولة.

نعم ، جميع الروايات كانت معتبرة في نظره ولو كان بعضها صحيحا وبعضها موثّقا ، بل تقسيم الخبر إلى الصحيح والموثّق والحسن وغير ذلك اصطلاح من العلّامة قدس‌سره ، ولم يكن ينظر من قبله إلى صفات الراوي ، بل كان يعمل بما في المجاميع المعتبرة مع عمل الأصحاب كائنا ما كان.

فاتّضح أنّ صفات الراوي ليست من المرجّحات ، لعدم الدليل على

__________________

(١ و ٢) فرائد الأصول : ٤٤٩.

٣٥٠

اعتبارها ، بل نفس إطلاق المقبولة ـ حيث حكم بتقديم الأفقه ولو كان راوي الرواية التي تكون مستندة لحكم الحاكم غير الأفقه أفقه من راوي الرواية التي تكون مستندة للحاكم الأفقه ـ دليل على عدم اعتبارها كما لا يخفى ، بل المرجّحات منحصرة بالثلاث المذكورة ، كلّها في المقبولة ، وغير الشهرة منها في غيرها أيضا.

الجهة الثانية : في ترتيب هذه المرجّحات.

لا إشكال في تقديم الشهرة على غيرها ، لكونها أولى المرجّحات التي ذكرت في المقبولة.

ولا معارضة للمقبولة مع المرفوعة في ذلك ، لما عرفت من أنّ الحكم بتقديم الأفقه في المقبولة راجع إلى الحاكم من حيث هو حاكم لا من حيث هو راو ، فالشهرة هي أولى المرجّحات في المقبولة والمرفوعة ، ثمّ مخالفة العامّة وموافقة الكتاب معا مرجّحة ـ بعد فقدان المرجّح الأوّل ـ بمقتضى المقبولة ، ثمّ بعد ذلك أحد الأمرين منهما مرجّح بلا ترتيب بينهما ، وذلك لأنّ الإمام عليه‌السلام وإن حكم بتقديم ما له كلتا المزيّتين بعد كون الخبرين كليهما مشهورين إلّا أنّ الراوي حيث فرض بعد ذلك أنّهما كليهما عرفا الحكم من الكتاب والسنّة ، وأمره عليه‌السلام بالأخذ بما يخالف العامّة يعلم منه أنّ موافقة الكتاب أيضا ـ كمخالفة العامّة ـ بنفسها بلا انضمامها إلى مخالفة العامّة مرجّحة ، وإلّا لكان ضمّ موافقة الكتاب ـ مع كفاية مخالفة العامّة بنفسها ـ من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان. هذا ، مضافا إلى استفادة ذلك من غير المقبولة ممّا أمر بالأخذ بما يوافق الكتاب.

بقي ما إذا كان أحد الخبرين موافقا للكتاب ، والآخر مخالفا للعامّة ، وحكمه غير مذكور لا في المقبولة ولا في غيرها من روايات الترجيح ، فيبقى

٣٥١

تحت مطلقات التخيير ، لكن مقتضى ما حكي عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح عن الصادق عليه‌السلام ـ «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فذروه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارهم فردّوه وما خالف أخبارهم فخذوه» (١) الحديث ـ أنّه يتعيّن الأخذ بما يوافق الكتاب في هذه الصورة.

الجهة الثالثة : لا يكون توثيق أحد راويا من رواة رواية ، وجرح آخر إيّاه داخلا في الخبرين المتعارضين ، وهكذا تعارض أقوال اللغويّين في معنى ألفاظ الرواية بأن قال الصحاح : إنّ معنى اللفظ الكذائي كذا ، وقال القاموس على خلافه ، لأنّ مورد أخبار علاج التعارض هو الخبران المرويّان عن المعصوم لا مطلق الخبر.

الجهة الرابعة : نقل الشيخ (٢) قدس‌سره روايات في المقام مفادها الأخذ بأحدث الخبرين ، ومقتضاها أن تكون الأحدثية أيضا من المرجّحات. ولكن بعضها أجنبيّ عن المقام ، لكونه في مورد القطع بالصدور ، مثل ما (٣) ما دلّ على وجوب الأخذ بأحدث الحديثين اللذين يسمعهما بلا واسطة من الإمام عليه‌السلام ، ومعلوم أنّ الإمام عليه‌السلام أعرف وأعلم بوظيفة كلّ وقت ، فيجب أن يعمل بما عيّن من الوظيفة في الحال ولو كان مخالفا لما عيّنه قبل ذلك ، كما في قضيّة علي بن يقطين. وهذا لا ربط له بمحلّ الكلام ، الّذي هو ورود خبرين متعارضين

__________________

(١) كما في البحار ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٠ والوسائل ٢٧ : ١١٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٩.

(٢) انظر فرائد الأصول : ٤٤٧.

(٣) الكافي ٢ : ٢١٨ ـ ٧ ، الوسائل ٢٧ : ١١٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١٧.

٣٥٢

يحتمل صدقهما وكذبهما.

نعم ، بعضها لا يأبى عن ذلك ، كرواية معلّى بن خنيس : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ (١) إلى آخره ، إلّا أنّها غير معمول بها ، ومخالفة لجميع الروايات الواردة في المقام من المقبولة وغيرها ، فهي ساقطة عن الحجّيّة.

الجهة الخامسة : هل التخيير في المقام تخيير في المسألة الأصوليّة أو الفرعية؟ بعض الأخبار لا يأبى عن الثاني ، كما عبّر بلفظ «بأيّة عملت» (٢) لكن ظاهر غيره التخيير في المسألة الأصوليّة ، حيث عبّر بلفظ «بأيّهما أخذت» (٣) ونحوه ، وظاهره أنّه مخيّر في أخذ أيّهما حجّة واختيار أحدهما دليلا له ، وأخبار الترجيح أيضا شاهدة على ذلك ، حيث لا إشكال في أنّها لترجيح أحدهما في مقام الحجّيّة وإسقاط الآخر ، وما يكون عند وجود المرجّح هو الوظيفة ـ وهو أخذ ذي المزيّة حجّة وإلغاء الآخر ـ يكون هو الوظيفة عند فقد المرجّح ، غاية الأمر أنّه يكون تخييرا.

والحاصل : أنّه بعد سقوط الخبرين عن الحجّيّة بالتعارض وخروجهما عن تحت أدلّة الحجّيّة بسقوطهما عن الطريقيّة والكاشفيّة الفعليّة تدلّ أخبار الترجيح على حجّيّة موافق الكتاب مثلا ، وكونه معيّنا طريقا وكاشفا ، وأخبار التخيير على أنّ ما يختاره المكلّف من المتساويين يكون هو طريقا وحجّة دون

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٩ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٩ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٨.

(٢) التهذيب ٣ : ٢٢٨ ـ ٥٨٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٢٢ ـ ١٢٣ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ ـ ٢٣٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٢١ ـ ١٢٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٣٥٣

الآخر ، فاختيار المكلّف يكون جزءا أخيرا لموضوع الحجّيّة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ النزاع في كون التخيير ابتدائيّا أو استمراريّا مبتن على ذلك ، فإن قلنا بأنّ التخيير تخيير في المسألة الفرعيّة ، فلا إشكال في كونه استمراريّا ، إذ معناه أنّ المكلّف مخيّر ـ مثلا ـ في القصر والإتمام في المورد الّذي جاءه حديثان مختلفان في ذلك ، وإن قلنا بأنّه تخيير في المسألة الأصوليّة ، فلا إشكال في كونه ابتدائيّا ، لأنّ معناه أنّ ما اختاره هو الحجّة ، والآخر ساقط عن الحجّيّة ، وبعد سقوطه عنها عودها يحتاج إلى دليل.

وحيث استظهرنا من الأدلّة كونه تخييرا في المسألة الأصوليّة ـ بقرينة أخبار الترجيح أوّلا وظهور نفس أخبار التخيير ثانيا من جهة أنّ الأخذ بالخبر ظهوره في العمل بمضمونه وجعله سندا ومدركا وحجّة له ـ يكون التخيير ابتدائيا.

وقد ذكرنا أنّ ما عبّر بلفظ «بأيّ منهما عملت وسعك» مثلا غير آب عن التخيير في المسألة الفرعيّة ، والآن نقول : إنّ ظاهر العمل بالخبر أيضا هو الأخذ بمضمونه والالتزام بمدلوله ، ومن الواضح أنّ معنى الأخذ بأحد الخبرين ـ اللذين مفاد أحدهما وجوب فعل ، ومفاد الآخر إباحته ـ ليس هو إلّا الالتزام بمفاد أحدهما من الوجوب أو الإباحة ، وهكذا معنى العمل بأحدهما ليس إلّا العمل بمضمونه من الالتزام بالوجوب أو الإباحة ، فعلى ذلك مفاد جميع الأخبار متّحد ، وهو جعل أحدهما دليلا وحجّة باختياره ، ولا إشكال في صحّة جعل الشارع ما يكون فيه اقتضاء الطريقيّة طريقا ولو بعد اختيار المكلّف ، فقبل اختيار المكلّف لا يكون شيء منهما حجّة ، وبعد اختياره يجعله الشارع طريقا ، نظير ما إذا جعل الشارع الاستخارة طريقا إلى حكم ، فإنّه ممّا لا محذور فيه أصلا ، ولا يعقل جعل أحدهما طريقا قبل اختيار المكلّف ، فإنّ جعل الطريق

٣٥٤

إلى المتناقضين غير معقول.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره أفاد في وجه استمراريّة التخيير ـ بعد ما اختار كون التخيير تخييرا في المسألة الأصوليّة ـ وجهين :

أحدهما : إطلاق أخبار التخيير ، لعدم التقييد فيها بالزمان الأوّل ، فمقتضاه ثبوت التخيير في جميع الأزمنة.

وثانيهما : استصحاب التخيير الثابت في الزمان الأوّل (١).

ولا يرجع شيء منهما إلى محصّل.

أمّا الاستصحاب : فلأنّه لو كان هناك استصحاب فهو استصحاب حجّيّة ما اختاره وصار باختياره حجّة فعليّة ، واستصحاب التخيير لازمه العقلي هو إلغاء حجّيّة الآخر.

وأمّا الإطلاق : فهو مفقود في المقام ، فإنّ خطاب «خذ بأيّهما شئت» مثلا خطاب بغير الآخذ بأحد الخبرين ، وبعد الأخذ بأحدهما يرتفع الموضوع.

وتوهّم أنّه بالنسبة إلى الزمان الثاني غير آخذ فاسد ، فإنّ ما دلّ أحد الخبرين على وجوبه ، والآخر على إباحته إمّا واجب في جميع الأزمنة أو مباح كذلك ، ومعنى الأخذ بأحد الخبرين هو الأخذ بالوجوب في جميع الأزمنة أو الإباحة كذلك.

هذا ، مضافا إلى أنّ ظاهر ما علّق الحكم فيه على مجيء الخبرين هو التخيير البدوي ، فإنّ مجيء الخبرين ليس له تعدّد ، بل هما جاءا مرّة واحدة ، وبعد الأخذ بأحدهما ليس للخبرين مجيء آخر حتى يحكم بالتخيير.

ثمّ إنّه فاتنا من بحث الترجيح شيء ينبغي استدراكه ، وهو أنّهم ـ أي

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٠٨.

٣٥٥

القائلين بالترجيح ـ اختلفوا في الترتيب وعدمه ، والقائلون بالترتيب أيضا اختلفوا في تقدّم المجمع عليه وغيره من المرجّحات بعضها على بعض.

فذهب صاحب الكفاية إلى أنّه على القول بالترجيح لا ترتيب بين المرجّحات (١).

والمحقّق الميرزا حبيب الله الرشتي إلى تقدّم مخالفة العامّة على باقي المرجّحات ، نظرا إلى أنّ موافق العامّة ممّا يقطع أو يطمأنّ بعدم صدوره لبيان الحكم الواقعي (٢).

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره إلى تقدّم المجمع عليه على مخالفة العامّة ، وهي على موافقة الكتاب ، نظرا إلى أنّ المرجّحات تنقسم إلى أقسام ثلاثة بعضها مترتّب على بعض : الصدوري ، والجهتي ، والمضموني ، إذ لا بدّ أوّلا من إحراز صدور الخبر ثمّ جهته وأنّه لبيان الحكم الواقعي ثمّ مضمونه وأنّ ظاهره مراد جدّي أو لا. والمجمع عليه من الأوّل ، ومخالفة العامّة من الثاني ، وموافقة الكتاب من الثالث (٣).

وكلّ ذلك انحراف عن جادّة الصواب ، إذ الترجيح لو كان بأيدينا ، لكان لما ذكر وجه ، لكن استفدنا الترجيح والترتيب من الروايات ، فجعل المجمع عليه مقدّما على غيره في المقبولة ، وجعلت موافقة الكتاب مقدّمة على مخالفة العامّة في الصحيحة المذكورة في كتاب القطب الراوندي.

والعجب من شيخنا الأستاذ حيث التفت إلى هذه الصحيحة وقال بأنّ العمل بها مشكل (٤).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥١٨.

(٢) بدائع الأفكار : ٤٥٥.

(٣) فوائد الأصول ٤ : ٧٧٩ ـ ٧٨٠.

(٤) فوائد الأصول ٤ : ٧٨٤.

٣٥٦

فصل :

على القول بالترجيح الّذي هو المختار هو يقتصر فيه على المرجّحات المنصوصة من المجمع عليه وموافقة الكتاب ومخالفة العامّة ، أو يتعدّى إلى غيرها؟ الظاهر هو عدم التعدّي ، إذ لا مقيّد لإطلاقات التخيير إلّا هذه الروايات التي اقتصر فيها على هذه المرجّحات ، فلو كان شيء آخر مرجّحا أيضا للزم ذكره وبيانه ، فلما ذا بعد فرض السائل في المقبولة تساوي الخبرين من الجهات التي رجّح بها الإمام عليه‌السلام قال عليه‌السلام : «أرجه حتّى تلقى إمامك»؟

وقد تعدّى عنها الشيخ قدس‌سره إلى مطلق ما يكون موجبا لأقربيّة أحد الخبرين من الآخر من حيث الصدور. واستند له إلى وجهين :

أحدهما : التعليل بأنّ المجمع عليه ممّا لا ريب فيه. وتقريبه أنّ المراد من عدم الريب ليس هو عدم الريب حقيقة حتى يكون مقابله بيّن الغيّ ، لوضوح أنّ مقابلة يحتمل صدوره ، وليس من بيّن الغيّ ، بل المراد هو ما لا ريب فيه بالإضافة إلى الآخر ، وإذا كان أحد الخبرين ، له مزيّة توجب أقربيّته من الآخر من حيث الصدور ، يكون ممّا لا ريب فيه بالإضافة إلى الآخر (١).

وفيه : أنّ هناك شقّا ثالثا ، وهو كون المراد ما لا ريب فيه عرفا ، والرواية المشهورة المجمع عليها لا إشكال في كونها يصدق عليها إنّها ممّا لا ريب فيها عرفا.

هذا ، مضافا إلى أنّ العامّة لا يفهمون من «لا ريب» الإضافيّ منه ، ويحتاج

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٥٠.

٣٥٧

إلى التقييد بأن يقال : فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه بالإضافة إلى الآخر.

هذا ، مضافا إلى أنّ لازم ذلك التعدّي إلى كلّ ما يكون موجبا لأقربيّة أحدهما من الآخر صدورا ولو كان من جهة أنّ راوي أحدهما اثنان والآخر واحد ، أو أحد ينقل عن الآخر ويقول : سمعته قبل ساعة ، والآخر يقول : سمعته قبل يوم ، فإنّ ما كان راويه اثنين وما سمعه قبل ساعة أقرب صدورا من الآخر ، لأنّ احتمال الخطأ .. (١). فيه أقلّ من الآخر. ولا يناسب في ذلك هذا التعبير ، بل المناسب أن يقال : .. (٢). ما كان راويه أكثر لا ريب فيه ، إذ أيّ خصوصية .. (٣). إذا كان المناط هو أقربيّة أحدهما من حيث إنّ راويه أكثر؟ ولا أظنّ أن يلتزم الشيخ قدس‌سره بتقدّم ما كان راويه أكثر من الآخر .. (٤).

ثانيهما : التعليل بأنّ الرشد في خلافهم. وتقريبه أنّ الموافق للعامّة يحتمل صدوره بالوجدان ، فليس المراد أنّ المخالف لهم حقّ ورشد على الإطلاق والموافق لهم باطل وضلال على الإطلاق ، بل المراد أنّ المخالف فيه جهة ليست في الآخر ، بها يكون أقرب من الآخر إلى الواقع ، وهو حقّ بالإضافة إلى الآخر (٥).

وفيه : أنّ هذا اللفظ لم يرد في رواية حتى يستدلّ به ، والعجب من غفلة الشيخ قدس‌سره ومن بعده ، عن ذلك!

والّذي هو موجود في مرفوعة زرارة قوله : «فإنّ الحقّ فيما خالفهم» وهو وإن كان مرادفا لما ذكروه إلّا أنّها ضعيفة السند ، وليست مدركا لهم في باب الترجيح ، وفي المقبولة قوله : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد» وهو بنفسه جواب

__________________

(١ ـ ٤) مكان النقاط مخروم في الأصل.

(٥) فرائد الأصول : ٤٥٠.

٣٥٨

عن السؤال لا أنّه علّة للجواب ـ كما في المرفوعة ـ حتى يتعدّى منه إلى غيره.

هذا ، مضافا إلى أنّ الخبرين بعد ما كانا كلاهما مشهورين كما فرضه السائل وكان أحدهما مخالفا للعامّة يطمأنّ بصدورهما وأنّ الموافق صدر تقيّة ، فيصدق عرفا أنّ المخالف لهم هو حقّ ورشد والموافق باطل وضلال ، فالمراد من كون الرشد في الخبر المخالف لهم هو الرشد العرفي لا الإضافي.

مع أنّ المناط في الترجيح لو كان أقربيّة أحدهما من الآخر إلى الصدور ، لم يبق مورد لإطلاقات التخيير إلّا نادرا ، إذ قلّما يكون الخبران المتعارضان متساويين بحيث لا يكون في أحدهما شيء يوجب ذلك ولو كان راوي أحدهما اثنين والآخر واحدا ، فإنّ الأوّل أقرب إلى الصدور من الآخر.

هذا ، ولكن ما ذكرنا من أنّ الموافق يطمأنّ بصدوره تقيّة قابل للمناقشة ، إذ الاحتمالات كثيرة ، ونحتمل إرادة خلاف الظاهر من المخالف وصدور الموافق لبيان الحكم الواقعي ، فالأولى أن يقال : إنّ حمل «الرشد» في «فإنّ الرشد في خلافهم» ـ على تقدير صدوره ـ على الرشد الإضافي ـ كما أفاده الشيخ ـ بعيد عن الأذهان ، كما أنّ حمله على الحسن ـ بأن كان المعنى : فإنّ الحسن في مخالفتهم ـ بعيد عن اللفظ ، وظاهر اللفظ أنّ المخالف لهم مطابق للواقع وحقّ ، لكن من المعلوم أنّه ليس دائما كذلك ، فيعلم أنّ هذا التعليل لأجل الغلبة وأنّ الغالب هو موافقة الخبر الموافق لهم للتقيّة ، بل الغالب مخالفته للواقع إمّا لأجل أنّه صدر تقيّة في موارد تعارض الخبرين ، أو لأجل أنّ العامّة يتعمّدون الكذب على الله غالبا ولا يبالون به ، فالخبر الموافق لهم بحسب الغالب غير مطابق للواقع ، فالتعليل من جهة غلبة المطابقة في الخبر المخالف ، ولا بأس بالتعدّي لو فرض العلم في مورد بمثل هذه الغلبة إلّا أنّه ليس لنا طريق إلى ذلك في غير ما أخبر به الإمام عليه‌السلام ، وهو المخالف للعامّة.

٣٥٩

تذييل : هل أخبار علاج التعارض شاملة للعامّين من وجه أو لا؟ فيه خلاف وإشكال.

ومنشأ الإشكال أنّ تقديم أحد العامّين من وجه تعيينا أو تخييرا موجب لإلغاء الحجّة بلا حجّة.

مثلا : تقديم «أكرم العلماء» على «لا تكرم الفسّاق» موجب لإلغاء «لا تكرم الفسّاق» في مورد الافتراق ـ يعني الفاسق غير العالم ـ بلا سبب وبلا حجّة ، إذ لا تعارض في مورد الافتراق.

وإن قدّم في بعض مدلوله ـ وهو خصوص مورد التعارض ـ لا تمام مدلوله ، فلازمه التفكيك في كلام واحد ، والالتزام بصدور بعضه دون بعض.

ومن هذه الجهة ذهب شيخنا الأستاذ قدس‌سره إلى الرجوع إلى المرجّحين الأخيرين : موافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، وألغى المجمع عليه ، نظرا إلى أنّه مرجّح صدوريّ ، والكلام الواحد إمّا صادر بتمامه أو ليس بصادر ، فإذا لم يكن كونه مرجّحا لأحد العامّين من وجه بتمام مدلوله ، يرجع إلى المرجّحين الآخرين : الجهتي والمضموني (١).

ويرد عليه ما ذكرنا من أنّ الترجيح من جهة الصدور أوّلا ثمّ بالجهة ثمّ بالمضمون اجتهاد في مقابل النصّ ، إذ هو أرجعنا في الخبرين المتعارضين إلى المجمع عليه أوّلا ثمّ موافق الكتاب ثمّ مخالف العامّة ، فإن كان النصّ شاملا للعامّين من وجه ، فلا بدّ من الترجيح بكلّ من الثلاث على الترتيب ، وإلّا فلا بدّ من إلغاء الجميع لا الترجيح ببعض دون بعض.

فالتحقيق أن يقال : لا يخلو المقام عن ثلاثة أقسام :

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٧٩٢ ـ ٧٩٣.

٣٦٠