الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

الأوّل : أن يكون كلّ من دليلين بينهما عموم من وجه شاملا لمورد التعارض بنحو العموم الوضعي ، كما إذا كان أحدهما «أكرم كلّ عالم» والآخر «لا تكرم أيّ فاسق».

الثاني : أن يكون شمول كلّ له بنحو الإطلاق ، مثل «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق».

الثالث : أن يكون أحدهما بنحو العموم والآخر بنحو الإطلاق.

وهذا القسم خارج عن محلّ الكلام ، وداخل فيما يكون أحدهما قرينة عرفيّة على الآخر ، كما مرّ.

ولنقدّم مقدّمتين لتوضيح الحال في القسمين الأوّلين :

الأولى : أنّ بعض الأحكام الشرعيّة حكم للدالّ وبعضها للمدلول.

فالأوّل : كحرمة الكذب ، فإذا قال أحد : «جاءني في يوم كذا ألف عالم» وفي الواقع لم يجئه أحد ، فكلامه هذا وإن كان منحلا إلى ألف إخبار في الحقيقة بدالّ واحد إلّا أنّه كذب واحد لا ألف كذب ، وهكذا إذا قال أحد : «كلّ زوج غير منقسم إلى متساويين» فهو كذب واحد وإن كان كلامه هذا منحلّا إلى الإخبارات غير المتناهية ، لأنّ العدد الزوج غير متناه ، وكلّها غير مطابق للواقع ، ومن الضروري أنّه لم يكذب بكلامه هذا بما لا يتناهى عددا ولم يعص بمعاص غير متناهية ، بل كذب واحد ومعصية واحدة.

والثاني : كحرمة الغيبة فإنّها حكم على المدلول ، فإذا فرضنا قال أحد : «كلّ واحد من أهل هذا البدل فاسق» فقد اغتاب بعدد أفراد هذا البلد ، ولكلّ أن يقول : لما ذا اغتبتني ولعلّي لم أكن فاسقا ولو كنت فاسقا لم أكن متجاهرا به؟

المقدّمة الثانية : أنّ الدليل الواحد قابل للتبعيض من حيث الحجّيّة ، وعليه بناء العقلاء أيضا ، مثلا إذا قامت بيّنة على أنّ هذه الدار لزيد وأقرّ زيد بأنّ

٣٦١

نصفها لعمرو ، فلا ريب في سقوط حجّيّة البيّنة في محاكم العرف والشرع بالنسبة إلى النصف ، فيحكم بمقتضاها بأنّه مالك لنصفها.

وبعد ذلك نقول : إنّ الحجّيّة ليست من آثار وأحكام الدالّ والكاشف حتى يقال : إنّ الدليل الواحد الدالّ على العموم إمّا حجّة أو ليس بحجّة ، بل من أحكام المنكشف والمدلول ، فإذا كانت لدليل واحد كاشفيّة في بعض مدلوله دون بعض للعلم بخلافه أو للتعارض ، يبقى على حجّيّته بالقياس إلى ما له كاشفيّة كالمثال السابق وكما في محلّ الكلام ، فإنّ سقوط كلّ من العامّين من وجه عن الكاشفيّة في مورد التعارض لا يضرّ بحجّيّته في موردي الافتراق.

ويوضّح ذلك أنّه لو صرّح بالعموم بأن ورد «أكرم العالم بقسميه العادل والفاسق» وورد أيضا «لا تكرم الفاسق بقسميه العالم والجاهل» فلا ريب في حجّيّتهما في العالم العادل والفاسق الجاهل.

وحينئذ نقول : إن كان شمول كلّ من العامّين من وجه لمورد التعارض بالعموم الوضعي ، فلا إشكال في شمول أخبار علاج التعارض لهما في مورده ، لصدق الخبرين المتعارضين حقيقة في مورد الاجتماع ، إذ الخبر ليس اسما للّفظ حتى يقال : إذا صدق يصدق في العامّين لا في خصوص مورد الاجتماع ، بل الخبر عبارة عن نقل حكم عن المعصوم عليه‌السلام ، نظير نقل فتاوى المجتهدين ، فحقيقة يصدق : جاءنا خبر على وجوب إكرام العالم الفاسق ، وخبر على حرمة إكرامه ، فيقدّم أحدهما بالترجيح أو التخيير.

وإن كان شمول كلّ له بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، فالقاعدة تقتضي التساقط والرجوع إلى العموم الفوق إن كان ، وإلّا فالرجوع إلى الأصول ، وذلك لأنّ راوي كلّ من الخبرين يخبر بأنّ الإمام عليه‌السلام علّق الحكم على الطبيعة ، وبهذا المقدار نصدّقه ، وأمّا أنّ هذا الحكم سار في جميع أفراد الطبيعة فليس ذلك

٣٦٢

بإخباره بذلك بل هو ونحن في ذلك سواء ، فكما نحن نحكم بالسريان بإجراء مقدّمات الحكمة كذلك هو يجري المقدّمات ، وبمقتضاها يحكم بالسريان ، ولذا لو اعتبر الراوي في مقدّمات الحكمة ما لا نعتبره كما إذا اعتبر عدم وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، ولم يحكم بالإطلاق لذلك ، لحكمنا نحن بالإطلاق ، وعلى هذا فكلّ من «أكرم العالم» و «لا تكرم الفاسق» له ظهور في نفسه في الإطلاق ، ويتعارض الظهوران ، للعلم بعدم إرادة أحدهما ، أو عدم مطابقته للواقع ، وحيث لا يكون هذا التعارض من تعارض الخبرين ، لما عرفت من أنّ الراوي لا يخبر بالسريان ، فلا تشمله أخبار علاج التعارض ، ويتساقط الظهوران ، ويرجع إلى العموم الفوق أو الأصل.

بقي شيء ظهر من تضاعيف كلماتنا ، وهو معارضة الخبر للكتاب ، فإن كان الخبر المعارض للكتاب مخالفا له بنحو التباين ، يضرب على الجدار ويؤخذ بالكتاب. وإن كان مخالفا له بنحو العموم والخصوص والإطلاق والتقييد ، فلو كان وحده بلا معارض ، يخصّص أو يقيّد الكتاب ، ولو كان معارضا بما يوافق الكتاب يقدّم ما يوافقه.

ولو كان مخالفا للكتاب بنحو العموم من وجه ، فإن كان عموم كلّ بالوضع ، يؤخذ بعموم الكتاب ويضرب الخبر على الجدار في خصوص مورد الاجتماع لا مطلقا ، حيث إنّه بمدلوله التضمّني يباين الكتاب في مورد الاجتماع ، وأمّا في غيره فيؤخذ به ، إذ الفرض أنّه لا معارضة له للكتاب فيه أصلا. وإن كان عموم كلّ بالإطلاق ، يتساقط الظهوران في مورد الاجتماع ، كما مرّ.

٣٦٣
٣٦٤

خاتمة :

فيما يتعلّق بالاجتهاد والتقليد.

فصل :

عرّف الاجتهاد بتعاريف :

منها : استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي.

وهذا التعريف من العامّة ، وهو ساقط عندنا ، للمنع عن العمل بالظنّ عموما وبالظنّ القياسي خصوصا.

وليعلم أنّ لفظ «الاجتهاد» بالمعنى المصطلح لم يرد في رواية موضوعا لحكم.

فالأولى تعريفه بما جعل به موضوعا للحكم الشرعي. وما تعلّق بالمجتهد في الروايات من الأحكام أحكام ثلاثة : حرمة تقليده الغير ، وجواز تقليد الغير إيّاه ، والقضاء.

أمّا حرمة تقليده الغير : فإن كان موضوعها من تكون له ملكة الاستنباط ولو لم يستنبط فعلا ـ كما نقل الشيخ دعوى الإجماع على ذلك عن صاحب الضوابط (١) ـ فنعرّف الاجتهاد ـ الّذي هو موضوع لهذا الحكم ـ ب «ملكة استنباط الأحكام عن أدلّتها التفصيليّة».

__________________

(١) قال في مصباح الأصول ٣ : ٤٣٥ : فادّعى شيخنا الأنصاري رحمه‌الله ـ في رسالته الخاصّة بمباحث الاجتهاد والتقليد ـ قيام الإجماع على عدم جواز رجوعه إلى الغير. انتهى. ولم نعثر على تلك الرسالة.

٣٦٥

وإن كان موضوعها من يكون مستنبطا للحكم فعلا وعالما بالحكم فعلا عن دليله التفصيليّ ، فلا يجوز التقليد لمثل هذا الشخص ، فإنّه يرى خطأ غيره وجهله ، فرجوعه إلى من رجوع العالم إلى الجاهل ، فنعرّفه بأنّه «العلم بالحكم عن دليله التفصيليّ».

وأمّا جواز تقليد الغير إيّاه : فموضوعه بحسب الروايات والآيات هو عنوان «الفقيه» و «أهل الذّكر» و «العالم بالأحكام» عن أخبار الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وشبهها لا عن الجفر والرمل ونحوهما ، فلا بدّ من تعريف الاجتهاد الّذي هو موضوع لهذا الحكم بما عرّف به الفقهاء الفقه ، وهو العلم بالأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة. فلو فرض أنّ أحدا لا يعرف من الأحكام إلّا حكما أو حكمين أو مقدارا لا يكون به مصداقا للفقيه وأهل الذّكر بالحمل الشائع ، لا يجوز للغير تقليده ، بل لا بدّ من معرفته بالأحكام بمقدار معتدّ به بحيث يصدق عليه عرفا أنّه فقيه وعالم ومن أهل الذّكر ، وهكذا لا يجوز تقليد من يكون عالما بالأحكام من طريق الرمل والجفر وشبههما وإن كان علمه حجّة له ، لكن هذا الشخص ليس موضوعا لهذا الحكم ـ يعني جواز تقليد الغير إيّاه ـ في الأدلّة.

وأمّا القضاء : فموضوعه في المقبولة هو «من روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» (١) فلا بدّ من صدق هذه العناوين بأن كان عارفا بالأحكام بالمقدار المعتدّ به عن الطرق الشرعيّة لا عارفا بحكم أو حكمين ، ولا عارفا عن طريق الرمل ونحوه.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ١٠ و ٧ : ٤١٢ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ ـ ٥١٤ و ٣٠٢ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣٦٦

نعم ، في بعض روايات القضاء «من عرف شيئا من قضايانا» (١).

ومن هنا ظهر أنّ من يرى انسداد باب العلم ـ كالمحقّق القمّي ـ لا يجوز له القضاء ، ولا يجوز أيضا للغير تقليده.

أمّا على الحكومة : فواضح ، فإنّ العمل بالظنّ على ذلك ليس عملا بالطريق الشرعي ، بل يكون نظير العمل بالظنّ في مورد اشتباه القبلة وضيق الوقت عن الصلاة إلى أزيد من جهة واحدة ، فاللازم هو الصلاة إلى الطرف الّذي يظنّ أنّ القبلة فيه بمعنى أنّه امتثال ظنّي في ظرف عدم التمكّن من الامتثال العلمي ، لحكم العقل بعدم وجوب أزيد من ذلك ، والعامل بالظنّ الانسدادي ليس عالما لا بالحكم الواقعي ولا بالحكم الظاهري ، وهو بنفسه يعترف بأنّه جاهل ، غاية الأمر أنّه لا يجوز له تقليد غيره ، فإنّه يرى القائل بالانفتاح جاهلا جهلا مركّبا.

وأمّا على الكشف : فهو وإن كان عالما بالحكم ، إذ الظنّ ـ على الكشف ـ طريق شرعي إلّا أنّه طريق لمن تمّت عنده مقدّمات دليل الانسداد ، التي منها بطلان تقليد الغير ، والمقلّد يجوز له تقليد الغير فكيف يصحّ له تقليد من لا يكون ظنّه حجّة إلّا لنفسه!؟ فإنّ التقليد باطل في حقّه لا المقلّد.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤١٢ ـ ٤ ، الفقيه ٣ : ٢ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢١٩ ـ ٥١٦ ، الوسائل ٢٧ : ١٣ ، الباب ١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٥.

٣٦٧
٣٦٨

فصل :

ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزّ ، فالمطلق ما لا يكون مقيّدا ببعض الأحكام دون بعض ، بل يكون ساريا في جميع الأحكام ، والتجزّي ما يكون مقيّدا بذلك. والأولى التعبير بالاجتهاد المقيّد ، والتعبير بالتجزّي مسامحة ، فإنّ الاجتهاد ـ سواء عرّف بالعلم بالأحكام أو القدرة على استنباطها عن مداركها ـ عرض غير قابل للتجزئة.

وقد مرّ الكلام في المطلق ، وأنّه يحرم على المجتهد المطلق تقليده الغير ، ويجوز له الإفتاء والقضاء على التفصيل المتقدّم ، وأمّا التجزّي ففيه مواضع من الكلام :

الأوّل : في إمكانه. واختلف في ذلك ، فقيل باستحالته ، نظرا إلى أنّ الاجتهاد عبارة عن الملكة ، وهي بسيطة غير قابلة للتجزئة. وقيل بكونه ضروريّا ـ كما في الكفاية (١) ـ بدعوى أنّ الاجتهاد المطلق لا محالة مسبوق بالتجزّي ، لاستحالة الطفرة.

والحقّ هو إمكانه وبطلان القول بالاستحالة أو الوجوب.

أمّا إذا عرّف بالعلم بالأحكام : فواضح ، ضرورة إمكان العلم ببعض المسائل دون بعض.

وأمّا إذا عرّف بملكة الاستنباط والقدرة عليه : فلأنّ النزاع ليس في لفظ التجزّي حتى يقال : إنّ الاجتهاد ملكة وهي بسيطة غير قابلة للتجزّي ، بل

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٣٣.

٣٦٩

البحث في أنّه هل يمكن أن يوجد أحد يكون قادرا على استنباط مسائل باب من أبواب الفقه ، كباب الطهارة مثلا دون مسائل سائر الأبواب ، أو لا؟ ومن الواضح إمكان ذلك ، فإنّ القدرة على الاستنباط في كلّ مسألة مغايرة لها في أخرى ، فإذا فرض شخص لا يعرف اللغة وليس له اطّلاع في النقليّات أصلا لكنّه طويل الباع وكثير الاطّلاع في العقليّات ولمهارته فيها استنبط مسائل اجتماع الأمر والنهي ومقدّمة الواجب واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضدّ والترتّب وغير ذلك من المسائل العقليّة غير المربوطة بمعرفة اللغات والروايات ، فهو مجتهد في هذه المسائل دون غيرها.

ومن ذلك ظهر الجواب عمّا في الكفاية ، فإنّ الطفرة وإن كانت مستحيلة كما قرّر في محلّه إلّا أنّها غير متصوّرة في مثل المقام الّذي لا ترتّب بين المسائل ، لتغاير كلّ قدرة مع قدرة أخرى متعلّقة باستنباط مسألة أخرى ، فمن الممكن حصول القدرة على استنباط مسألتين معا ، كما يمكن حصول القدرة على استنباط إحداهما دون أخرى أو قبل حصولها على استنباط المسألة الثانية.

وبالجملة ، حيث لا ترتّب بين المسائل فلا تتصوّر فيه الطفرة ، فإنّها مختصّة بما يكون متدرّجا في الوجود ولا يعقل وجوده دفعة واحدة ، كالمشي في المكانين.

نعم ، الاستنباط الخارجي لا محالة يكون متدرّجا في الوجود ، ولا يعقل استنباط جميع المسائل دفعة واحدة ، وهذا بخلاف الملكة والقدرة على استنباط جميع المسائل ، حيث لا محذور في حصولها دفعة واحدة أصلا.

الموضع الثاني : في أنّه هل يحرم على المتجزّي تقليده الغير فيما استنبطه من الأحكام أو لا؟ ولا ريب في حرمة ذلك ، فإنّ رجوعه إلى غير مع علمه بخطئه من رجوع العالم إلى الجاهل ورجوع البصير إلى الأعمي ، وكيف

٣٧٠

يكون قول من يرى خطأه حجّة في حقّه!؟

الموضع الثالث : في جواز رجوع الغير إليه فيما استنبطه ، وعدمه.

ولا ريب في جوازه لو كان مدرك جواز التقليد بناء العقلاء ، لجريان سيرتهم على ذلك ، كما إذا كان طبيب متخصّصا في طبابة العين دون سائر الأعضاء ، فإنّه يرجع إليه في ذلك ولو لم تكن له معرفة بحال سائر الأعضاء أصلا ، بل ربّما يجب الرجوع إليه إذا كان أعلم من غيره في ذلك.

وأمّا إذا كان المدرك هو الروايات والآيات الممضية للسيرة مع اعتبار أمور أخر ، فلا بدّ من صدق ما أخذ في الروايات موضوعا لهذا الحكم من عنوان «الفقيه» و «العالم» و «أهل الذّكر» و «العارف بالأحكام» ومن المعلوم عدم صدق ذلك على العارف بحكم أو حكمين.

نعم ، يصدق على العارف بالأحكام بالمقدار المعتدّ به ولو لم يكن عارفا بجميع الأحكام.

* * *

٣٧١
٣٧٢

فصل :

يتوقّف الاجتهاد على معرفة اللغة والصرف والنحو بمقدار يتوقّف فهم معنى الروايات وآيات الأحكام عليه ، ولا يلزم أزيد من ذلك ، كمعرفة الفرق بين الحال والتميز والبدل وعطف البيان وغير ذلك ممّا لا يوجب الجهل بها الجهل بمعنى الكلام ، وعلى معرفة علم الرّجال في الجملة لمعرفة الرّواة وتميز ثقاتهم عن غيرهم ولكنّ الاحتياج إليه قليل جدّاً ، لما قرّر في محلّه من كفاية كون الرواية موثوقا بها بأن تكون معمولا بها عند الأصحاب ، فإذا كانت كذلك ، تكون حجّة ولو كان رواتها مجهولي الحال بل معلومي القدح ، وعدم حجّيّة الرواية التي أعرض عنها الأصحاب ولو كان جميع رواتها معدّلين بعدلين ، فإذا لا ينظر إلى حال الرّواة مع عمل الأصحاب أو إعراضهم ، بل يعمل بها أو تطرح.

فالاحتياج إلى علم الرّجال إنّما يختصّ بما إذا لم يثبت أحد الأمرين لا العمل ولا الإعراض بأن كان الفرع غير معنون في كلام الأصحاب ووردت فيه رواية ، أو كان معنونا ولكنّ الرواية الواردة فيه لم تكن موجودة في المجاميع ، فحينئذ لا بدّ من إحراز وثاقة رواة الرواية بالرجوع إلى علم الرّجال ، ومن المعلوم أنّه في غاية الندرة.

نعم ، لو قلنا بمقالة صاحب المدارك من اختصاص حجّيّة الروايات بما إذا كان جميع رواتها معدّلين بعدلين ، لكان الاحتياج إلى علم الرّجال كثيرا جدّاً.

وهكذا لا بدّ من معرفة علم الأصول من مباحث الألفاظ ومباحث الحجج والأصول العمليّة والتعادل والتراجيح ، وهي العمدة في مقام الاستنباط ، ولا بدّ من معرفة ذلك بالاجتهاد لا تقليدا عن الشيخ قدس‌سره أو غيره من علماء الأصول ،

٣٧٣

فإنّ استنباط الحكم عن مدرك تقليدي حقيقته هي التقليد ، وليس من الاجتهاد في شيء ، إذ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.

وبالجملة ، لا مناص عن معرفة هذه المباحث عن دليل واجتهاد ، وبما أنّها لم تدوّن في علم من العلوم دوّنها الأصوليّون على حدة ، وسمّوها بعلم الأصول ، كما أنّ صاحب الحدائق دوّنها في مقدّمة كتابه ، وتدوينها على حدة لا يوجب كونها بدعة.

* * *

٣٧٤

فصل :

لا ريب في ثبوت التخطئة في العقليّات ، فإذا رأى أحد جواز اجتماع الأمر والنهي ، والآخر امتناعه ، فلا محالة أحدهما مخطئ ، إذ الأمر الواحد لا يمكن أن يكون ممتنعا بالذات في حقّ أحد وممكنا بالذات في حقّ آخر.

وأمّا النقليّات : فأجمعت العدليّة على التخطئة فيها أيضا ، وادّعى بعضهم تواتر الأخبار على أنّ له ـ تبارك وتعالى ـ في كلّ واقعة حكما يشترك فيه العالم به والجاهل. ولو لم يكن في المقام إجماع ولم ترد الروايات أيضا ، لكان مقتضى القاعدة الأوّليّة هو التخطئة ، لأنّ أدلّة الأحكام مطلقة غير مقيّدة بالعالمين بها ، فمقتضى إطلاقها هو ثبوتها في الشريعة المقدّسة في حقّ جميع المكلّفين : العالمين بها والجاهلين ، ولا دخل للعلم والجهل في ثبوت الأحكام وفعليّتها.

نعم ، صاحب الكفاية قدس‌سره قد تكرّر في كلماته أنّ الأحكام قبل العلم بها أحكام إنشائيّة ، وفي بعض كلماته : أحكام فعليّة من بعض الجهات ، وبالعلم يصير فعليّا أو تتمّ فعليّته (١). وقد ذكرنا ما فيه في محلّه.

وبالجملة ، لا ريب في ثبوت التخطئة ولو على القول بالسببيّة التي يقول بها بعض العدليّة فرارا عن شبهة ابن قبة ، بمعنى أنّ قيام الأمارة سبب لحدوث مصلحة في سلوك الأمارة. وقد ذكرنا في محلّه أنّها عين الطريقيّة.

نعم ، السببيّة الأشعريّة والمعتزليّة ملازمة للتصويب ، ولكنّ الأولى محال ، والثانية مجمع على بطلانها ، كما قرّر في مقرّه.

__________________

(١) انظر : كفاية الأصول : ٣٢٠.

٣٧٥
٣٧٦

فصل :

إذا تبدّل رأي المجتهد ، فلا كلام فيما انقضى إذا لم يكن له أثر فعلا ، كما إذا ذبح ذبيحة بغير الحديد وأكلها ، ثمّ رأى بعد ذلك حرمتها.

وهكذا لا إشكال في حرمة العمل على طبق الاجتهاد الأوّل إذا كان الموضوع باقيا ، كما إذا ذبحها بغير حديد ولم يأكلها بعد ، فإنّه يحرم عليه أكلها حينما تبدّل رأيه بالحرمة.

وإنّما الإشكال فيما إذا لم يكن الموضوع باقيا ولكن له أثر فعلا ، كما إذا صلّى بغير سورة ثمّ رأى في الوقت أو خارجه وجوب السورة ، فهل تجب عليه إعادة الصلاة أو قضاؤها أو لا؟ وقد مرّ الكلام في ذلك مفصّلا في بحث الإجزاء ، وقلنا هناك : إنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة هو عدم الإجزاء في جميع الموارد : العبادات والمعاملات إلّا أن يدلّ دليل في مورد خاصّ على الإجزاء ، كما في خصوص الصلاة ، فإنّ حديث «لا تعاد» (١) دلّ على عدم وجوب الصلاة من غير ناحية الإخلال بالخمس المستثناة في الحديث ، فبناء على ما اخترناه من شموله للجهل عن قصور أيضا مقتضاه هو عدم وجوب إعادة المجتهد الصلوات التي أتى بها بغير سورة بعد ما رأى وجوب السورة.

نعم ، لو صلّى مدّة عند استتار القرص ، ثمّ رأى أنّ وقت ذهاب الحمرة هو المغرب ، تجب عليه الإعادة أو القضاء ، لأنّ الوقت من الخمس المستثناة في الحديث.

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٨١ ـ ٨٥٧ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ ـ ٥٩٧ ، الوسائل ٤ : ٣١٢ ، الباب ٩ من أبواب القبلة ، الحديث ١.

٣٧٧
٣٧٨

فصل :

في التقليد. وقد عرّف بتعاريف :

منها : ما في الكفاية من أنّه أخذ قول الغير للعمل به في الفرعيّات أو للالتزام به في الاعتقاديّات تعبّدا (١).

ومنها : ما هو أوسع من الأوّل ، وهو أنّه مجرّد الالتزام بالعمل بقول الغير ـ ولو لا يعلمه تفصيلا ـ فإذا التزم بالعمل على طبق رسالة مجتهد ، فهو تقليد ولو لم يتعلّم فتوى من فتاواه.

ومنها : أنّه هو نفس العمل على طبق رأي الغير ، وجعل الغير مسئولا في هذا العمل.

والصحيح هو الأخير ، وهو المناسب لمعناه اللغوي والعرفي الدارج فعلا ، يقال : «قلّد السيف زيدا» إذا جعله قلادة عليه. ومعنى التقليد في العمل جعل العمل على رقبة من يقلّده وعلى عهدته كالقلادة ، فقد استعير لفظ القلادة للعمل كما أنّ تقليد الدعاء والزيارة ، الّذي هو مستعمل في اللسان الدارج المتعارف فعلا فيقال : «قلّدتك الدعاء والزيارة» معناه جعلت الدعاء والزيارة على عهدتك ورقبتك ، فادع لي وزر. والمستفاد من بعض الروايات أيضا هو هذا المعنى ، كما دلّ على أنّ «على المفتي وزر من عمل بفتياه» (٢) وما ورد حينما سأل من استفتى أحدا في مسألة فأفتى بفتيا ثلاث مرّات : «على رقبتك؟»

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٣٩.

(٢) الكافي ٧ : ٤٠٩ ـ ٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠ ، الباب ٤ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣٧٩

فلم يجبه المفتي ، من أنّه : «نعم على رقبته قال نعم أو لم يقل» (١).

وبالجملة ، المعنى الأخير هو الموافق للّغة والعرف والروايات.

وأمّا ما في الكفاية (٢) من أنّه لو كان التقليد عبارة عن نفس العمل ، للزم أن يكون العمل غير مسبوق بالتقليد فمن غرائب الكلام ، إذ لم ترد آية ولا رواية على وجوب التقليد قبل العمل حتى يعدّ عدم مسبوقيّته به محذورا من المحاذير.

والّذي يسهّل الخطب أنّ هذا النزاع ليس له أثر عملي أصلا ، إذ ليس التقليد بهذا اللفظ موضوعا لحكم من الأحكام في الأدلّة وإن وقع بهذا اللفظ متعلّقا للحكم في قوله عليه‌السلام في بعض الروايات : «فللعوامّ أن يقلّدوه» (٣).

ثمّ إنّ جواز التقليد ـ المساوق للوجوب التعييني في بعض الموارد كمورد لا يتمكّن فيه المكلّف من الاجتهاد ولا من العمل بالاحتياط ، لعدم معرفته بموارده ، أو لعدم كون المورد قابلا له ، والمساوق للوجوب التخييري بينه وبين أخويه أو بينه وبين أحد أخويه فيما إذا تمكّن من الاجتهاد والعمل بالاحتياط معا أو تمكّن من أحدهما فقط ـ ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، لجريان السيرة القطعيّة العمليّة عليه من زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زماننا هذا ، ضرورة أنّه لم يكن المسلمون بأجمعهم حاضرين عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة سلام الله عليهم ، ولم يكن الطريق منحصرا بالسؤال عن المعصوم وبنقل الروايات عنهم سلام الله عليهم ، بل كانت سيرتهم على السؤال عن أحكام الدين عمّن تعلّم من

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٠٩ ـ ١ ، التهذيب ٦ : ٢٢٣ ـ ٥٣٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٢٠ ، الباب ٧ من أبواب آداب القاضي ، الحديث ٢.

(٢) كفاية الأصول : ٥٣٩.

(٣) الاحتجاج ٢ : ٥١١ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٣١ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

٣٨٠