الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

بالاستصحاب ، فإنّ المدّعى أنّ هذه الكبرى ـ وهي عدم رفع اليد عن الأمر المبرم بواسطة أمر غير مبرم ـ ارتكازيّة لكلّ عاقل ، وأمّا تطبيقها على اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء مع تعدّد المتعلّق ، فهو تعبّد محض بحيث لو طبّقها غير الشارع على مورد الاستصحاب ، لأنكرناه غاية الإنكار ، وكثيرا ما طبّق في الروايات كبرى كلّيّة على مورد نأخذ فيه بالكبرى ونترك المورد ، كما في قول الصادق عليه‌السلام ـ على ما روي ـ للسفّاح حين سأله عن اليوم المشكوك في أنّه من رمضان أو شوّال : «ذلك إلى إمام المسلمين إن صمت صمنا ، وإن أفطرت أفطرنا» (١).

وهكذا قول الإمام عليه‌السلام في جواب من سأله عن حلفه بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك مكرها : «رفع ما استكرهوا عليه» (٢).

بقي الكلام في أمور :

الأوّل : أنّ الشيخ قدس‌سره فصّل بين الشكّ في المقتضي ، فالتزم بعدم جريان الاستصحاب فيه ، وبين الشكّ في الرافع ، فذهب إلى الجريان (٣) ، وفي جملة من عباراته في المكاسب تمسّك بالاستصحاب ، وأشكل عليه بأنّه من الشكّ في المقتضي ، الّذي لا يقول بجريان الاستصحاب فيه. ومن جملتها تمسّكه بالاستصحاب في باب بيع المعاطاة (٤) ، ولا بدّ من بيان أنّ مراده قدس‌سره من المقتضي أيّ شيء يكون حتى نرى أنّ الإشكالات في محلّها أو لا؟

__________________

(١) الكافي ٤ : ٨٣ ـ ٧ ، الوسائل ١٠ : ١٣٢ ، الباب ٥٧ من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، الحديث ٥.

(٢) المحاسن : ٣٣٩ ـ ١٢٤ ، الوسائل ٢٣ : ٢٢٦ ، الباب ١٢ من أبواب كتاب الأيمان ، الحديث ١٢.

(٣) فرائد الأصول : ٣٢٨.

(٤) المكاسب : ٨٥.

٢١

فنقول : إنّ مراده قدس‌سره من المقتضي ليس هو المقتضي التكويني ، لما ذكرنا في بحث الواجب التعليقي والواجب المشروط من أنّ مقتضي الحكم ، وعلّة الجعل ليس إلّا إرادة الشارع واختياره ، وأمّا الأمور التكوينيّة الخارجيّة ـ كالدلوك ـ فهي أجنبيّة عن التأثير في جعل الشارع.

ولا المقتضي التشريعي ، بمعنى موضوع الحكم ، إذ اعتبار إحراز المقتضي بهذا المعنى ليس إلّا اعتبار اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ، الّذي التزم به في آخر الاستصحاب (١) ، ولا ريب في اعتباره ، إذ الحكم بثبوت حكم المتيقّن للمشكوك مع عدم إحراز الموضوع ليس من الاستصحاب في شيء ، بل إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، الّذي هو داخل في القياس.

ولا المقتضي الملاكي بمعنى أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من إحراز ملاك الحكم في زمان الشكّ ، ضرورة أنّ ذلك يحتاج إلى علم الغيب ، إذ لا طريق لنا إلى استكشاف ملاكات الأحكام غير نفس الأحكام.

هذا ، مضافا إلى أنّا إن أحرزنا ملاك الحكم ، لا يبقى لنا الشكّ في الحكم حتى نحتاج إلى الاستصحاب ، مع أنّ الشيخ يجري الاستصحاب في الأمور العدميّة (٢) ، والأمر العدمي ليس له ملاك حتى يلزم إحرازه.

وأنّ (٣) البحث عن حجّيّة الاستصحاب لا يبتنى على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد ، بل يجري حتى على قول الأشعري بعدم تبعيّتها لها.

فاتّضح أنّ شيئا من المعاني الثلاثة للمقتضي لا يراد منه ، بل مراده منه

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٩٩ ـ ٤٠٠.

(٢) فرائد الأصول : ٣٦١.

(٣) عطف على قوله : أنّ ذلك ...

٢٢

ـ على ما يظهر من بعض عبائره في باب الخيارات من المكاسب (١) ، ومن كلام المحقّق الخوانساري (٢) ـ هو مقتضى الجري والاستصحاب لا مقتضي المستصحب والمتيقّن.

والظاهر أنّ أوّل من أبدى هذا التفصيل ـ فيما نعلم ـ هو المحقّق الخوانساري ، والشيخ قدس‌سره تبعه على ذلك.

وتوضيح ذلك أنّ المستصحب إمّا حكم أو موضوع ، ونفرض الكلام أوّلا في الحكم ، ثمّ نتكلّم في الموضوع ، فنقول : إنّ الحكم إمّا غير مغيا بغاية مخصوصة زمانيّة ، كطهارة الثوب ونجاسته ، فإنّ الثوب إذا تنجّس لا يرتفع حكمه بنفسه ، وليست له غاية زمانيّة بحيث يرتفع بواسطة حصولها. وبعبارة أخرى : يكون الحكم بحيث لو بقي جميع ما في العالم على حاله ، ولم تصر الموجودات معدومة ، والمعدومات موجودة ، ليبقى على حاله ، ولا يرتفع إلى الأبد ، ومثاله الظاهر العقد الدائمي.

وإمّا مغيا بغاية مخصوصة زمانيّة ، كما في (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٣) ، فإنّ وجوب الصوم ليس مرسلا بحيث يبقى إلى الأبد لو لا وجود شيء ، أو عدم شيء رافع له ، بل هو مغيا بوجود الليل ، فنفس الزمان رافع له ، ولا يحتاج إلى رافع آخر ، ومثاله الظاهر العقد المنقطع.

وإمّا مهمل بحسب الظاهر ، بمعنى أنّه لا يعلم أنّه في الواقع هل جعل مغيا بغاية أو مرسلا كما في خيار الغبن؟

والشيخ قدس‌سره يجري الاستصحاب في القسم الأوّل ، مثلا : إذا قال الزوج :

__________________

(١) المكاسب : ٢٤٣.

(٢) مشارق الشموس : ٧٥ ـ ٧٧.

(٣) البقرة : ١٨٧.

٢٣

«أنت خلية» أو «بريّة» فشكّ في ارتفاع الزوجيّة بهذين اللفظين وعدمه ، فهو عند الشيخ من الشكّ في الرافع ، ويجري استصحاب بقاء الزوجيّة.

والأخير عند الشيخ قدس‌سره من الشكّ في المقتضي ، فلا يجري استصحاب بقاء خيار الغبن عند مضيّ زمان التمكّن من الفسخ ، وعدمه ، إذ لا يعلم أنّ الخيار هل جعله الشارع مرسلا وغير مغيا بغاية أو جعله مغيا بزمان خاصّ؟.

وأمّا القسم الثاني : فإن كانت الغاية معلومة ، فالحكم معلوم وجوده قبل حصول الغاية ، ومعلوم عدمه وارتفاعه بعده ، وإن شكّ في حصول الغاية ، فهو على ثلاثة أقسام ، فإنّ الشبهة إمّا مفهوميّة ، أو حكميّة ، أو موضوعيّة.

فالأوّل : كما في الغروب الّذي هو غاية لوجوب الظهرين بحسب الروايات ، فإنّ مفهومه لا يعلم أنّه هو استتار القرص عن الأنظار ، أو وصول الشمس إلى الأفق الحقيقي ، الملازم لذهاب الحمرة؟ وهذا القسم أيضا ملحق بما يكون الحكم فيه مهملا في عدم جريان الاستصحاب ، لأنّ أمد الحكم غير معلوم ، واستمراره إلى ذهاب الحمرة مشكوك.

والثاني : كما في غاية وجوب العشاءين ، فإنّه قيل : إنّها نصف الليل. وقيل : طلوع الفجر ، فلا يعلم أنّ الشارع جعل أيّا منهما غاية له ، وهذا أيضا ملحق بسابقه ومن الشكّ في المقتضي.

والثالث : كما إذا شكّ في طلوع الشمس ـ الّذي هو غاية لوجوب صلاة الصبح ـ بواسطة أمور خارجيّة ، وهذا ممّا يجري فيه الاستصحاب بناء على جريان الاستصحاب في الزمانيّات ، فإنّه ليس من الشكّ في المقتضي ، ضرورة أنّ المقتضي معلوم ، وهو وجوب الصلاة بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ، وإنّما الشكّ في تحقّق الغاية وهي طلوع الشمس.

فتلخّص أنّ الشيخ قدس‌سره يدّعي جريان الاستصحاب فيما يكون الحكم

٢٤

مرسلا ، وما يكون مغيا بغاية شكّ في حصولها بشبهة موضوعيّة ، وعدم جريانه فيما يكون مهملا وما يكون مغيا بغاية شكّ في حصولها من جهة الشبهة المفهوميّة أو الحكميّة. ويتّضح لمن تتبّع موارد تمسّك الشيخ قدس‌سره بالاستصحاب في المكاسب أنّ جميعها من موارد الشكّ في الرافع ، وأنّ شيئا من الإشكالات غير وارد عليه.

ومن ذلك حكمه بعدم فسخ العقد ، واستصحاب بقاء العوضين على ملك مالكيهما بمجرّد قول أحد المتبايعين : «فسخت» في البيع المعاطاتي بعد تلف إحدى العينين (١) ، فإنّ الملكيّة الحاصلة بالمعاطاة ممّا لا يرتفع بنفسه ، ويحتاج رفعه إلى رافع غير الزمان ، فلا يكون الشكّ فيها من الشكّ في المقتضي ، وهكذا حكمه باستصحاب طهارة المتيمّم الواجد للماء في أثناء صلاته (٢) ، فإنّ الطهارة أيضا ممّا لا يرتفع إلّا برافع ، وغير ذلك ممّا يظفر عليه المتتبّع.

وبالجملة ، يظهر من ملاحظة كلماته قدس‌سره في موارد يجري الاستصحاب فيها وفيما لا يجريه فيه أنّ مراده قدس‌سره من الشكّ في المقتضي هو الشكّ في مقتضي الجري العملي ، والعمل على وفق المتيقّن. هذا ما يظهر لنا من دعوى الشيخ قدس‌سره في المقام.

وأمّا الوجه فيما أفاده من التفصيل فهو أنّ المراد من اليقين ليس هو المتيقّن ـ وإن كان يظهر من جملة عبائره ـ فإنّه لا علاقة بينهما مصحّحة لاستعماله فيه ، فإرادة المتيقّن من اليقين تعدّ من الأغلاط ، لكنّ الاستدلال لا يتوقّف على عدم إرادة المتيقّن من اليقين ، وليس المراد منه هو تلك الصفة

__________________

(١) انظر على سبيل المثال : المكاسب : ٩١.

(٢) لم نعثر عليه.

٢٥

الخاصّة القائمة بالنفس ، ضرورة أنّ اليقين بعدالة زيد إذا لوحظ نفسه مع قطع النّظر عن الزمان فهو منتقض قطعا ، فلا معنى لحرمة نقضه ، وإذا لوحظ مع ظرفه ، فبالنسبة إلى ظرف الحدوث باق قطعا ، فإنّ اليقين بعدالة زيد في يوم الجمعة الآن أيضا موجود ، إذ الكلام ليس في الشكّ الساري ، وبالنسبة إلى ظرف البقاء مرتفع جزما ، فما معنى حرمة نقضه؟ بل المراد منه هو اليقين بما هو مقتض للجري العملي ، والحركة على طبق المتيقّن به ، فإنّ الإنسان ـ بمقتضى جبلّته وطبيعته الأوّليّة ـ جالب لما ينفعه ، ومتحرّك نحو ما تيقّن أنّه نافع له ، ودافع لما هو مضرّ له.

ثمّ إنّ اليقين له مزيّة على العلم والقطع ، فإنّه ـ على ما يظهر من موارد استعمالاته ـ يطلق على ما له ثبوت واستمساك وإبرام في النّفس ، فإنّه من «يقن الأمر» من باب «تعب» : إذا ثبت ، ولا يطلق إلّا على ما حصل العلم به بمقدّمات وتعب ، ولذا لا يطلق (١) على الله تبارك وتعالى أنّه متيقّن ، وهذا بخلاف القطع ، فإنّه في مقابل الترديد ، ومعناه الوقوف ، فكأنّ القاطع انقطع ووقف على

__________________

(١) أقول : إن كانت لهذه العناوين : العلم ، والقطع ، واليقين خصوصيّة اعتباريّة ، لا توجب عدم صحّة إطلاق بعضها على البارئ تعالى ، بل إطلاقها عليه تعالى صحيح. نعم إطلاق «القاطع» و «المتيقّن» على نحو العلم عليه تعالى غير صحيح لكن ذلك من حيث توقيفيّة أسماء الله تعالى لا أن يكون غير صحيح واقعا ، فإطلاق «القاطع» و «المتيقّن» كإطلاق «العالم» بلا فرق إلّا أنّ هذا ورد في القرآن والأدعية وأنّهما لم يردا ، ولا يكون هذا فارقا في صحّة الإطلاق واقعا ، ولذا لا يوجب إطلاق «القاطع» و «المتيقّن» عليه تعالى كفرا ، ولا فرق بينها فيما نحن فيه أيضا. هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ لازمه أنّه لو كان المستصحب مقطوعا أو معلوما ، لما كان يجري الاستصحاب ، وليس كذلك.

وثالثا : كثيرا ما يستعمل الأعاظم كلمة العلم والقطع مكان اليقين ، وهذا كاشف عن أنّ كلّها بمعنى واحد. (م).

٢٦

المقطوع ، وبخلاف العلم ، فإنّه الانكشاف في مقابل الجهل والظلمة ، وليس لمقابل اليقين لفظ خاصّ يعبّر عنه ، بل مقابله مطلق الأمر الّذي لا ثبوت ولا استمساك له من الشكّ أو الظنّ اللذين يزولان بأدنى شيء.

ولفظ «النقض» (١) لا يسند إلّا إلى ما له ثبوت واستمساك ، كالعهد والبيعة ، ولذا لا يصحّ إسناده إلى العلم والقطع بأن يقال : لا تنقض العلم أو القطع ، فالعناية المصحّحة لإسناد النقض إلى اليقين ما ذكرنا من أنّه أخذ في معنى اليقين الإبرام والاستمساك.

فحينئذ نقول : إذا كان اليقين مقتضيا للجري والعمل على طبقه لو لا الشكّ كاليقين بالطهارة واليقين بالزوجيّة الدائميّة ـ فإنّا لو فرضنا عدم الشكّ في البقاء ، لكانت الطهارة والزوجيّة باقيتين في عمود الزمان إلى الأبد ، فإنّ شيئا منهما غير محدود بحدّ زماني ، وهكذا الشكّ في تحقّق الغاية في الشبهة الموضوعيّة كالشكّ في تحقّق غاية وجوب الصبح ـ وهي طلوع الشمس ـ من جهة الأمور الخارجيّة ـ فنقض مثل هذا اليقين منحصر بالشكّ ، إذ لولاه لكان المتيقّن عاملا بيقينه بحسب جبلّته.

وأمّا إذا لم يكن اليقين كذلك ، بل كان بحيث لو فرض محالا عدم وجود الشكّ أيضا ، لما كان باقيا إلى الأبد ، بل كان من أوّل الأمر مقتضيا للجري في أمد خاصّ ، وهذا كخيار الغبن ممّا لا يعلم أنّه مرسل أو محدود في عمود الزمان ، أو

__________________

(١) أقول : لزوم تعلّق النقض على شيء خاصّ كأن يكون له ثبوت واستمساك غير صحيح. نعم ، كثيرا ما يكون الأمر كذلك لكن كثرة الاستعمال غير كون مفهومه كذلك ، بل استعماله في بعض الموارد غير صحيح ولو كان ما أسند إليه مستمسكا كالحديد ، فإنّه لا يصحّ أن يقال : انقض الحديد ، فليس كلّ ما كان مستمسكا كان استعمال النقض بالنسبة إليه صحيحا ، وكذا ليس كلّ ما ليس له استمساك أن يكون استعماله فيه غير صحيح ، بل تختلف الموارد. (م).

٢٧

وجوب العشاءين المردّدة غايته بين نصف الليل وطلوع الفجر ، ووجوب الظهرين ، المردّدة غايته من حيث المفهوم بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، فنقض مثل هذا اليقين ليس نقضا لليقين بالشكّ ، إذ لو فرض محالا عدم وجود الشكّ في البقاء أيضا ، لما كان اليقين مقتضيا للجري وموجبا لبقاء الخيار بعد ساعة مثلا في الأوّل ، أو بقاء الوجوب ـ أي وجوب العشاءين ـ إلى طلوع الفجر في الثاني ، وبقاء وجوب الظهرين إلى ذهاب الحمرة في الثالث ، فالشكّ في هذه الموارد ليس موجبا لعدم الجري على طبق اليقين في زمان الشكّ ، بل اليقين من أوّل الأمر لم يكن مقتضيا للجري أزيد من المقدار المتيقّن.

والحاصل : أنّ أخبار الباب لا تشمل موارد لا يكون للمستصحب فيها بقاء واستمرار في عمود الزمان لو لا وجود شيء أو عدم شيء ، إذ النقض في هذه الموارد ليس نقضا لليقين بالشكّ ، بل هي شاملة لموارد يكون للمستصحب فيها اقتضاء للجري لو لا الشكّ ، كالشكّ في وجود الرافع أو رافعيّته ، أو تحقّق الغاية موضوعا ، إذ النقض في هذه الموارد نقض لليقين بالشكّ.

بقي شيء ، وهو : أنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره بعد ما بنى على ما بنى عليه الشيخ قدس‌سره من التفصيل ، أورد على نفسه سؤالا ، وهو : أنّ الروايات التي ذكر فيها لفظ «النقض» أو ما يلحق به ـ مثل قوله عليه‌السلام : «اليقين لا يدخله الشكّ» كما في رواية (١) ، أو «لا يدفع بالشكّ» كما في أخرى (٢) ، فإنّ (٣) الدخول أو الدفع فرع

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ـ ٣ ، التهذيب ٢ : ١٨٦ ـ ٧٤٠ ، الاستبصار ١ : ٣٧٣ ـ ١٤١٦ ، الوسائل ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

(٢) الإرشاد ـ للمفيد ـ ١ : ٣٠٢ ، مستدرك الوسائل ١ : ٢٢٨ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٤.

(٣) وجه الإلحاق. (م).

٢٨

اقتضاء اليقين للجري في نفسه ، وإلّا فإن كان اليقين غير مقتض لذلك من أوّل الأمر ، بل يزول بنفسه في عمود الزمان ، فلا يقين حتى لا يدخل أو لا يدفع بالشكّ ـ غير شاملة لمورد الشكّ في المقتضي ، لا أنّها تكون مانعة عن جريان الاستصحاب ، فتبقى الروايات التي ليس فيها لفظ «النقض» ـ مثل قوله عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه» (١) إلى آخره ، وغير ذلك ممّا أمر بالمضيّ على طبق اليقين السابق ـ على عمومها من شمولها للشكّ في المقتضي أيضا.

وأجاب عن ذلك : بأنّ التعدّي عن موارد هذه الروايات من الشكّ في الطهارة وغير ذلك إنّما يقتصر عليه بمقدار نقطع بعدم الخصوصيّة له ، وأمّا الشكّ في المقتضي فنحتمل ـ احتمالا قويّا ـ أن تكون له خصوصيّة لا يجري معها فيه الاستصحاب ، ولا نقطع بعدم الفرق بينه وبين الشكّ في الرافع ، فلا يمكن التمسّك بها على ذلك (٢). هذا ملخّص مرام الشيخ وشيخنا الأستاذ قدس‌سرهما ، وما يمكن أن يقال في توجيه ما أفاداه في المقام.

لكنّ التحقيق عدم اختصاص الحجّيّة بموارد الشكّ في الرافع وموارد الشكّ في الغاية فيما كانت الشبهة فيه مصداقيّة ، بل مقتضى القاعدة هو التعميم ، وذلك لأنّ لازم هذا التقريب أن لا يجري الاستصحاب في موارد الشكّ في الغاية في الشبهة المصداقيّة أيضا ، فإنّ اليقين بوجوب صلاة الصبح من الأوّل لم يكن مقتضيا للجري العملي بالنسبة إلى زمان الشكّ سيّما إذا كان الشكّ بين الأقلّ والأكثر ، مثلا : لو شككنا أنّ ما بين الطلوعين في هذا الفصل

__________________

(١) الخصال : ٦١٩ ، الوسائل ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٧٨ ـ ٣٨١.

٢٩

مقدار ساعتين إلّا الربع ، أو ساعة ونصف ، فاليقين بوجوب صلاة الصبح من الأوّل محدود بساعة ونصف ، فالمقتضي قاصر عن زمان الشكّ من الأوّل.

وهكذا لازمه أن لا يجري الاستصحاب في موارد الشكّ في النسخ بناء على ما هو الحقّ من أنّ حقيقة النسخ هي الدفع ، وأنّ الحكم من الأوّل غير مرسل ، وله أمد خاصّ لم يبيّن إلّا زمان ورود دليل الناسخ ، فإنّ مقتضي الجري العملي فيه أيضا قاصر من الأوّل ، مع أنّه نقل الاتّفاق على جريان الاستصحاب فيه ، بل ادّعى المحدّث الأسترآبادي ثبوت الضرورة على ذلك (١).

هذا ، مضافا إلى أنّ ما ذكر من التقريب جار في جميع موارد الشكّ في الرافع ، بداهة أنّه في الزوجيّة أو الملكيّة في المعاطاة وغير ذلك ـ ممّا يكون مرسلا في عمود الزمان ـ أيضا لم يكن اليقين مرسلا ، بل الزوجيّة بعد قول الزوج : «أنت خلية» أو «بريّة» أو الملكيّة بعد قول أحد المتبايعين : «فسخت» لم تكن متيقّنة من أوّل الأمر حتى يحرم نقض اليقين المتعلّق بها بالشكّ.

وبالجملة ، اليقين في جميع الموارد محدود ، غاية الأمر أنّ حدّه هو الزمان في موارد ـ وسمّيناه بالشكّ في المقتضي ـ والزماني في غيرها ، فلازم هذا التقريب إنكار الاستصحاب مطلقا حتى في الشكّ في الغاية فيما كانت الشبهة فيه مصداقيّة ، مع أنّ مورد بعض روايات الاستصحاب ذلك على ما سيجيء ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» (٢) مورده الشكّ في حصول الغاية مع أنّ وجوب الصوم لا يعلم تعلّقه من الأوّل بأزيد من تسعة وعشرين يوما ، فالمقتضي بالقياس إلى اليوم الثلاثين قاصر من أوّل الأمر.

__________________

(١) كما في فرائد الأصول : ٣٤٧.

(٢) التهذيب ٤ : ١٥٩ ـ ٤٤٥ ، الاستبصار ٢ : ٦٤ ـ ٢١٠ ، الوسائل ١٠ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

٣٠

وحلّ المطلب : أنّ الأمر في الاستصحاب وصدق نقض اليقين بالشكّ لو كان مبنيّا على الدقّة ، لكان الأمر كما أفاده ، وقد عرفت أنّ لازمه إنكار حجّيّة الاستصحاب بالمرّة.

وأمّا لو كان الأمر مبنيّا على المسامحة العرفيّة ، وأنّ نقض اليقين بالشكّ عرفا هو رفع اليد عملا عن اليقين بشيء في زمان ـ كعدالة زيد في يوم الجمعة ـ بواسطة الشكّ في بقاء ذلك الشيء بعينه بعد ذلك الزمان ولا يعتبر أزيد من ذلك في اعتبار الاستصحاب ، فلا بدّ من التعميم بالنسبة إلى جميع الموارد ، ولا وجه للتفصيل ، وحيث لا يمكن إنكار الاستصحاب على الإطلاق ، فلا مناص عن عدم الفرق بين الشكّ في المقتضي والمانع ، والعناية المصحّحة لاستعمال النقض وإسناده إلى اليقين في جميع الموارد هي أنّ اليقين أمر مبرم مستحكم في قبال الظنّ والشكّ اللذين لا يكونان كذلك.

ثمّ لو أغمضنا عن جميع ذلك ، فما ذكر إنّما يتمّ في استصحاب الأحكام التي اعتبار إرسالها وتقييدها بيد الشارع ، وأمّا في الموضوعات التي ليست كذلك فيرد عليه ما أورده الشيخ نفسه على المحقّق القمّي (١) من أنّه يلزم الهرج والمرج في الفقه ، إذ في غالب الموارد لا يعلم مقدار الاستعداد ، ولا يدخل تحت ضابطة ، ويتفاوت الحال بالنسبة إلى الصحيح والمريض ، والضعيف والقويّ ، والشابّ والشائب ، وغير ذلك من الحالات التي يختلف مقدار الاستعداد باختلافها.

بقي الكلام فيما أفاده من التفصيل بين ما كان دليل المستصحب هو الكتاب أو السنّة أو الإجماع ، فيجري الاستصحاب ، وبين ما كان دليله هو العقل

__________________

(١) لم نعثر عليه في مظانّه.

٣١

فلا يجري (١).

فنقول : إنّ الشبهة في هذه الموارد تارة موضوعيّة وأخرى حكميّة.

أمّا الموضوعيّة : فعبارة الشيخ قدس‌سره فيها مشوّشة ، وقد استظهر من كلامه أنّه يجري الاستصحاب ـ بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ـ فيما إذا كان المستصحب هو إضرار السمّ ـ مثلا ـ الّذي حكم العقل بقبح شربه ، فيجري الاستصحاب ، لأنّه يحصل منه الظنّ بالضرر ، فيترتّب عليه حكم العقل بقبح الشرب ، ولا يجري بناء على اعتباره من باب التعبّد (٢).

وفيه : أنّ الاستصحاب على تقدير إفادته للظنّ لا يفيد إلّا الظنّ النوعيّ ، وموضوع الحكم بالقبح هو الظنّ الشخصي بالضرر لا غير.

هذا ، مضافا إلى أنّ موضوع حكم العقل بالقبح هو خوف الضرر ، المجتمع مع احتماله أيضا ، لا خصوص الظنّ بالضرر.

والتحقيق : أنّ الاستصحاب في الشبهة الموضوعيّة جار بلا إشكال ، فإنّ موضوع حكم العقل ـ بعد ما أحرز له بالوجدان أو بالتعبّد الاستصحابي ـ يترتّب عليه حكمه لا محالة ، مثلا : لو فرضنا أنّ العقل استقلّ بأنّ من كان مستقيما في دينه وعادلا ، يحسن إكرامه ، فإذا كان زيد ـ مثلا ـ عادلا مستقيما في دينه في زمان ثمّ شككنا في بقائه على استقامته وعدالته ، فلا مانع من استصحاب عدالته ، وبعد حكم الشارع بعدالته يحكم العقل بحسن إكرامه.

وأمّا الشبهة الحكميّة : فوجه عدم جريان الاستصحاب فيها أنّ المناط في الجريان وعدمه في جميع الموارد هو صدق نقض اليقين بالشكّ عرفا ، لا من باب أنّ العرف نبيّ مشرّع ، بل من جهة أنّه المقصود بالخطابات الإلهية

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٢٥.

(٢) فرائد الأصول : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

٣٢

الشرعيّة ، ففهمه هو المتّبع في استفادة الأحكام ، ومن المعلوم أنّه لا يصدق نقض اليقين بالشكّ إلّا إذا كان المتيقّن بنظر العرف عين المشكوك.

وحينئذ إن أخذت في موضوع الحكم قيود وخصوصيّات ، فتارة تكون هذه القيود ـ كلّا أو بعضا ـ بنظر العرف ممّا له دخل في الحكم ، وممّا يكون قوام الحكم به ، وهذا كما في قيد «المجتهد» المأخوذ في موضوع وجوب التقليد ، فإنّ العرف يرى أنّه من مقوّمات الموضوع بحيث ينتفي بانتفائه ، ولذا لا يتأمّل ـ فيما إذا زال اجتهاد شخص بسبب النسيان أو الجنون أو غير ذلك ـ في عدم شمول الحكم له ، ولو حكم الشارع بوجوب تقليده في هذا الحال أيضا ، يرى هذا حكما جديدا في موضوع جديد ، لإبقاء للحكم السابق ، ففي مثل ذلك لا يجري الاستصحاب قطعا ، لعدم صدق النقض عرفا يقينا.

وأخرى لا تكون كذلك ، وليس القيد ممّا يكون قوام الموضوع به عرفا ، وهذا كما في قيد «التغيّر» المأخوذ في موضوع نجاسة الماء المتغيّر ، فإنّ العرف لا يرى التغيّر إلّا علّة لحدوث النجاسة ، والموضوع في نظره هو الماء لا غير ، ولذا لو حكم الشارع بنجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره ، يرى هذا الحكم بقاء للحكم السابق ، لا حكما جديدا في موضوع جديد ، وفي مثله لا ريب في جريان الاستصحاب ، لصدق النقض عرفا.

وثالثة يشكّ العرف في صدق النقض من جهة الشكّ في أنّ القيد ممّا له دخل في الموضوع كالاجتهاد ، أو ممّا يكون علّة لحدوث الحكم كالتغيّر ، وفي مثله لا يجري الاستصحاب من جهة الشكّ في صدق النقض ، فالتمسّك ب «لا تنقض» تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة ، ففي كلّ مورد لم يصدق فيه نقض اليقين بالشكّ ، أو شكّ في ذلك لا يجري الاستصحاب ، وهذا لا يصدق فيما إذا شكّ في بقاء الحكم الّذي مدركه العقل بمقدّمتين :

٣٣

الأولى : أنّ العقل الحاكم ، بل كلّ حاكم ومقنّن لا يعقل أن لا يدري موضوع حكمه وقانونه ، وأنّ أيّ شيء له دخل في حكمه ، وأيّ شيء ليس كذلك ، فالعقل إذا حكم بحكم على موضوع ، يكون جميع ما أخذ في الموضوع من القيود والخصوصيّات ممّا له دخل في حكمه ، وممّا له قوام موضوع حكمه ، فإذا انتفى قيد من القيود ، يرتفع موضوع حكمه ، ويقطع بأنّه لا حكم له.

الثانية : أنّ الحكم الشرعي الثابت لهذا الموضوع بتبع حكم العقل بقاعدة الملازمة أيضا يرتفع بارتفاع موضوع الّذي هو عين موضوع حكم العقل بسبب انتفاء قيد من قيوده ، فالموضوع إن كان باقيا بجميع قيوده ، فلا شكّ في بقاء الحكم أيضا ، وإن لم يكن باقيا كذلك ، يقطع بارتفاع الحكم ، فنقض اليقين باليقين لا بالشكّ (١).

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس‌سره عن مقدّمته الأولى بأنّ حكم العقل ليس مركّبا من قضيّة إيجابيّة وقضيّة أخرى سلبيّة ، بمعنى أنّه يحكم بوجود ملاك الحكم الشرعي في هذا الموضوع مع هذه الخصوصيّات العشر ، ويحكم أيضا بعدم الملاك فيما إذا انتفت واحدة منها حتى يكون حكمه إمّا مقطوع الوجود أو مقطوع العدم ، بل العقل يدرك أنّ هذا الموضوع مع هذه الخصوصيّات العشر ، فيه ملاك الحكم الشرعي ، وفي صورة انتفاء إحداها لا يدرك وجود الملاك ، لا أنّه يدرك عدمه ، فإذا كان الموضوع باقيا بنظر العرف ، ويحتمل أنّ مناط حكم الشارع أعمّ من مناط حكم العقل ، فلا مانع من استصحاب الحكم الشرعي (٢).

وهذا الجواب غير تامّ ، إذ مراد الشيخ من الحكم العقلي في المقام ـ على

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٧٨ ـ ٣٧٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥١ ـ ٣٥٢.

٣٤

ما هو صريح عبارته (١) وتمثيله بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان وقبح الظلم ـ هو ما استقلّ العقل به ولو لم يكن في العالم شرع ودين ، لا ما يدركه من ملاكات الأحكام ، ضرورة أنّ العقل إذا أدرك ملاك الحكم وعلّته التامّة ، فلا محالة يقطع بالحكم الشرعي ، ولا مجال للبحث عن ثبوت الملازمة بين الحكمين ، إذ لم يستشكل عاقل في منتجيّة الشكل الأوّل حتى الأشعري ، وإدراك العلّة إدراك للمعلوم ، والقطع بالملزوم قطع بلازمه لا محالة.

وبالجملة ، ما أفاده الشيخ في المقدّمة الأولى تامّ لا إشكال فيه.

نعم ، يرد على مقدّمته الثانية ما أورده شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره من أنّه لو كان الأمر في الاستصحاب مبنيّا على المسامحة العرفية لا على الدقّة العقليّة ، يجري استصحاب الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي ولو انتفى بعض القيود التي لها دخل في مناط حكم العقل ، إذ يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعمّ من الواجد والفاقد ، فإذا كان الموضوع باقيا عرفا وكان محكوما بحكم شرعي في زمان وشكّ فيه بعد ، يصدق نقض اليقين بالشكّ ، فيجري الاستصحاب بلا إشكال.

وبالجملة ، في كلّ مورد صدق فيه نقض اليقين بالشكّ عرفا ، يجري الاستصحاب ، فلا وجه للتفصيلات المذكورة في المقام.

نعم ، هناك تفصيل ـ أشرنا إليه سابقا وأنّه المختار وفاقا للفاضل النراقي (٣) وقاطبة المحدّثين ـ وهو جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعيّة ، والأحكام الكلّيّة التي نشأ الشكّ فيها من الشكّ في النسخ وعدمه ، والأحكام

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٧٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

(٣) مناهج الأصول : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

٣٥

الجزئية كطهارة الثوب ونجاسته ، وعدم جريانه في الأحكام الكلّيّة التي نشأ الشكّ فيها من الشكّ في سعة دائرة الجعل وضيقها كنجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره من قبل نفسه.

وتوضيح ذلك : أنّه قد مرّ غير مرّة أنّ للحكم مرحلتين :

الأولى : مرحلة الجعل. وفي هذه المرحلة يوجد الحكم بعد ما لم يكن موجودا ، ويجعل ـ مثلا ـ وجوب الحجّ على المكلّف المستطيع الّذي لوحظ مفروض الوجود ، فيقال : إنّه جعل وجوب الحجّ في الشريعة المقدّسة.

والثانية : مرحلة المجعول. وهذه المرحلة مرحلة انقلاب موضوع الحكم ـ وهو المكلّف المستطيع في المثال ـ من عالم الفرض والتقدير إلى عالم الواقع والتحقيق ، فإذا وجد في الخارج مستطيع جامع لجميع شرائط الوجوب ، يقال : إنّ الحجّ وجب عليه ، وجعل على عهدته ، فهو مجعول في حقّه ، ونحن نسمّيهما بالاعتبار والمعتبر ـ وقد ذكرنا هناك أنّه ليس من باب الإيجاد والوجود ، وأنّه نظير الإيصاء بملكيّة زيد لشيء بعد الموت ، فلا مانع من تأخّر المعتبر عن الاعتبار ـ وإن شئت ، فسمّهما بالجعل والمجعول ، والإنشاء والفعليّة ، ولا مناقشة في الاصطلاح.

وبعد ذلك نقول : إذا شككنا في بقاء اعتبار الشارع لحلّيّة البيع مثلا بعد ما اعتبرها يقينا ، يصدق نقض اليقين بالشكّ ، فيجري الاستصحاب ، ونحكم ببقاء اعتبار حلّيّة البيع ، وليس منشأ الشكّ في بقاء الجعل والاعتبار على ما هو عليه من سعته وضيقه إلّا الشكّ في النسخ وعدمه ، فهذا الاستصحاب عبارة أخرى عن استصحاب عدم النسخ.

وإذا تحقّق في الخارج بيع ، وانتقل العوضان من كلّ من المتبايعين إلى الآخر ، ثمّ شككنا في بقاء هذا المعتبر ـ وهو الملكيّة التي اعتبرها الشارع لهما

٣٦

بسبب البيع ـ وعدمه ، نستصحب بقاءه ، وهذا هو استصحاب المجعول والمعتبر ، ونحن نسمّيه باستصحاب الحكم الفعلي ، وهكذا استصحاب بقاء نجاسة الثوب ، وبقاء الوضوء ، ومنشأ الشكّ في هذه الأحكام ليس إلّا الأمور الخارجيّة ، وإلّا فالحكم من الحلّيّة أو الطهارة ـ أي الوضوء ـ أو نجاسة ملاقي النجس لا شكّ في جعله في الشريعة ، والشكّ في هذين القسمين ليس في سعة الحكم وضيقه ، بل الحكم على ما هو عليه من السعة والضيق معلوم الحدوث ، وإنّما الشكّ في بقائه من جهة النسخ أو من جهة أمور خارجيّة.

وإذا شككنا في بقاء الحكم الشرعي من جهة الشكّ في سعة دائرة الجعل وضيقها كما إذا شكّ في بقاء نجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره ، فإنّ منشأ الشكّ هو أنّ حكم النجاسة هل هو حكم وسيع يشمل حال ثبوت التغيّر للماء وحال زواله أو أنّه حكم ضيق متعلّق بالماء المتغيّر ما دام متغيّرا دون ما إذا زال تغيّره؟ وفي هذا القسم ـ كما أفاده الفاضل النراقي (١) ـ لا يجري الاستصحاب ، لا من جهة عدم شمول دليله له ، بل من جهة المعارضة بين استصحاب عدم الجعل ، واستصحاب المجعول ، فإنّ عندنا يقينين وشكّين : يقينا متعلّقا بنجاسة هذا الماء الشخصي حال تغيّره ، ونشكّ في بقائه ، فيشمله «لا تنقض اليقين بالشكّ» ويقينا آخر متعلّقا بعدم جعل هذا الحكم في زمان ، إذ نقطع بأنّ الماء المتغيّر لم يكن محكوما بحكم النجاسة في زمان لا حال تغيّره ولا حال زوال تغيّره ، فصار محكوما بالنجاسة حال تغيّره ، وجعلت له النجاسة في هذا الحال قطعا ، ونشكّ في أنّه هل حكم بالنجاسة وجعل له هذا الحكم بعد زوال تغيّره أيضا أم لا؟ مقتضى «لا تنقض اليقين بالشكّ» أنّه لم تجعل له النجاسة في

__________________

(١) مناهج الأصول : ٢٤١ ـ ٢٤٢.

٣٧

حال الزوال ، ولم يعتبر له هذا الحكم.

ونظير ذلك ما مثّل به الفاضل النراقي (١) قدس‌سره من أنّه إذا علم بوجوب الجلوس إلى زوال يوم الجمعة ، وشكّ في وجوبه بعد الزوال ، يعارض استصحاب الحكم المجعول ـ أي وجوب الجلوس ، المتيقّن قبل الزوال ـ باستصحاب عدم جعل الوجوب أزيد من هذه المدّة المعلومة.

وعلى هذا التقريب لا يرد عليه ما أورده صاحب الكفاية من أنّه لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقّة ونظر العقل ، لا يجري إلّا استصحاب عدم وجوب الجلوس ، وأمّا إذا كانت العبرة بنظر العرف ، فلا مجال إلّا لاستصحاب الوجوب (٢).

وهكذا لا يرد عليه ما أورده الشيخ قدس‌سره من أنّ الزمان إن أخذ قيدا ، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدم الوجوب ، وإن أخذ ظرفا ، فلا مجال إلّا لاستصحاب وجوب الجلوس ، فالجمع بينهما يشبه الجمع بين النقيضين (٣).

وذلك لأنّ ظاهر كلامه قدس‌سره ما ذكرنا من أنّ استصحاب عدم الجعل أزيد من وجوب هذه المدّة المعلومة يعارض استصحاب المجعول والحكم الفعلي الّذي هو الوجوب قبل الزوال ، ولكلّ من الاستصحابين يقين وشكّ مستقلّ ، لا أنّ استصحاب ثبوت المجعول يعارض استصحاب عدمه الأزلي حتى يرد عليه ما ذكر.

ولا مورد أيضا للإيراد الّذي أورده النراقي (٤) على نفسه ـ وأجاب عنه ـ من

__________________

(١) مناهج الأصول : ٢٤٢.

(٢) كفاية الأصول : ٤٦٦.

(٣) فرائد الأصول : ٣٧٧.

(٤) مناهج الأصول : ٢٤٢.

٣٨

أنّ الشكّ في استصحاب عدم الوجوب غير متّصل باليقين ، ضرورة أنّه لا يعتبر اتّصال الشكّ باليقين في الاستصحاب ، ولذا نستصحب العدالة المتيقّنة بعد أن نمنا ، بل المعتبر اتّصال المشكوك بالمتيقّن.

فالصحيح هو ما أفاده النراقي قدس‌سره من ثبوت التعارض بين الاستصحابين في أمثال المقام.

وأوضح من ذلك : ما إذا كان الحكم المشكوك في سعة دائرته وضيقها انحلاليّا ، كحرمة الوطء ، فإنّ كلّ فرد من أفراد الوطء في الخارج له إطاعة وعصيان ، فإذا علمنا بحرمة أفراد الوطء ، التي تتحقّق في زمان الحيض ، وشككنا في حرمة الأفراد المتحقّقة بعد النقاء قبل الاغتسال من جهة تردّد (يَطْهُرْنَ) بين قراءته بالتشديد وقراءته بالتخفيف ، فتعارض استصحاب عدم جعل الحرمة لهذه الأفراد المشكوكة من الوطء مع استصحاب حرمة الوطء ، المتيقّنة قبل النقاء واضح ، إذ ليس التكليف هنا تكليفا واحدا حتى يتوهّم أنّه لا مجال لاستصحاب عدم الجعل.

هذا ، وقد ذكر وتوهّم عدم معارضة الاستصحابين لأمور :

الأوّل : أنّ استصحاب عدم جعل النجاسة لهذا الماء مثلا في مرتبته معارض باستصحاب عدم جعل الطهارة له أيضا ، فيبقى استصحاب الحكم الفعلي الّذي هو النجاسة الثابتة قبل زوال التغيّر بلا معارض.

وفيه أوّلا : أنّ استصحاب عدم جعل الطهارة لا يجري حتى يعارض استصحاب عدم جعل النجاسة ، فإنّ مقتضى أدلّة البراءة ـ من قوله : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) وقوله : «لا يكلّف الله نفسا إلّا ما

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٤ ـ ٣ ، التوحيد : ٤١٣ ـ ٩ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٣ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٣.

٣٩

آتاها» (١) وما يظهر من رواية عكاشة (٢) ـ المذكورة في قاعدة الميسور ـ عند السؤال عن تكرار الحجّ من أنّ الهلاك بكثرة السؤال ، وأنّ المكلّف لا بدّ أن يأتمر بأمر الشارع وينتهي عن نهيه دون أن يسأل عمّا لم يأمر به ولم ينه عنه ـ هو : أنّ الأشياء في أوّل الشريعة كانت مباحة ومرخّصا فيها وإنّما جعلت الأحكام الإلزاميّة تدريجا وشيئا فشيئا ، فكلّ حكم إلزامي كان مسبوقا بالإباحة فالنجاسة أيضا كانت مسبوقة بالطهارة ، فاستصحاب عدم جعل النجاسة ليس له معارض في مرتبته.

وثانيا : أنّ استصحاب عدم جعل الطهارة لو سلّم جريانه ، فلا مانع من استصحاب عدم جعل النجاسة أيضا ، إذ لا تلزم من إجراء الاستصحابين مخالفة عمليّة ، ولا من التعبّد بهما التعبّد بالمتناقضين أو الضدّين ، وسيجيء ـ إن شاء الله في آخر الاستصحاب ـ أنّ التمانع بين الاستصحابين ليس إلّا من جهة المخالفة العمليّة أو التعبّد بالضدّين أو المتناقضين ، كما في استصحاب طهارة كلا المائعين اللذين يعلم بنجاسة أحدهما لملاقاته البول مثلا ، فإنّه تلزم منه مخالفة عمليّة ، وكاستصحاب النجاسة والطهارة فيما إذا عرضت له الحالتان واشتبهت المتقدّمة منهما بالمتأخّرة ، فإنّ التعبّد بهما تعبّد بالضدّين ، وأمّا إذا لم يلزم شيء من ذلك ، كاستصحاب نجاسة المائعين النجسين اللذين علم بإصابة المطر لأحدهما إجمالا ، فلا محذور في إجراء استصحاب النجاسة في كليهما ، والمقام من هذا القبيل.

وثالثا : لو سلّمنا التعارض ، فاستصحاب عدم جعل النجاسة إنّما يعارض كلا الاستصحابين ، وهما : استصحاب عدم جعل الطهارة ،

__________________

(١) الكافي ٤ : ٥٦ ـ ٨ ، الوسائل ٢١ : ٥٥٦ ، الباب ٢٨ من أبواب النفقات ، الحديث ٣.

(٢) انظر مجمع البيان ٣ ـ ٤ : ٣٨٦ ، والدرّ المنثور ـ للسيوطي ـ ٣ : ٢٠٦.

٤٠