الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

نعم ، هناك رواية واحدة ربّما يتوهّم كونها مؤيّدة لما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من كون المجعول الأوّلي هو قاعدة الفراغ ، وإنّما ألحقت بها قاعدة التجاوز بالحكومة ، وهي رواية موثّقة ابن أبي يعفور «إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» (١) بناء على رجوع الضمير في «غيره» إلى الوضوء ، فإنّه بناء على هذا يستفاد من الرواية حكم كلّي ، وهو الاعتناء بالشكّ قبل الفراغ والتجاوز عن العمل ، وعدم الاعتناء به بعد ذلك ، فإنّ ظاهرها أنّ الإمام ـ سلام الله عليه ـ في مقام إعطاء ضابط كلّي جار في جميع موارد الشكّ ، لا أنّه حكم مختصّ بالوضوء ، بل الظاهر أنّه عليه‌السلام طبّق هذا الضابط الكلّي على مورد الوضوء ، فمقتضى هذه الرواية أنّ الشكّ في أثناء العمل لا بدّ من الاعتناء به ، خرج عن هذا العموم خصوص الصلاة بدليل خاصّ.

وفيه : أنّ هذه الرواية لا بدّ من رفع اليد عنها بصحيحتي زرارة (٢) وإسماعيل بن جابر (٣) ، فإنّهما صريحتان في أنّ الشكّ في أثناء العمل بعد التجاوز عن المشكوك فيه لا يعتنى به ، فإنّ موردهما هو الشكّ في الأثناء فتقدّمان ، لأقوائيّة سندهما.

هذا ، مضافا إلى احتمال رجوع الضمير إلى الشيء المشكوك فيه في قوله عليه‌السلام : «إذا شككت في شيء من الوضوء» والعلم الخارجي بأنّ الشكّ في

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٢ ، الوسائل ١ : ٤٦٩ ـ ٤٧٠ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٥٢ ـ ١٤٥٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ٢ : ١٥٣ ـ ٦٠٢ ، الاستبصار ١ : ٣٥٨ ـ ١٣٥٩ ، الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

٢٤١

أثناء الوضوء مورد للاعتناء لا يجعل الرواية ظاهرة فيما ذكر ، فالرواية مجملة لا يمكن التمسّك بها ، فتبقى الروايات الأخر دالّة على المطلوب ، وهو مجعوليّة كبرى واحدة هي عدم الاعتناء بالشكّ في الشيء الماضي ، سواء كان المشكوك فيه هو المركّب أو أجزاءه.

إذا عرفت اتّحاد القاعدتين وأنّه لا اثنينيّة في البين ، فاعلم أنّ الروايات كما هي عامّة في مورد الشكّ بعد الفراغ لجميع العبادات وعامّة العقود والإيقاعات بل المعاملات بالمعنى الأخصّ ، كذلك عامّة في مورد قاعدة التجاوز لجميع ذلك ، غاية الأمر أنّه خرجت الطهارات الثلاث عن هذا العموم على كلام سنتكلّم فيها إن شاء الله. وهذا على ما اخترناه ـ من اتّحادهما ـ ظاهر.

وأمّا على التعدّد : فربّما يقال باختصاص قاعدة التجاوز بخصوص أجزاء الصلاة دون غيرها ، كما هو صريح كلام شيخنا الأستاذ (١) وصاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (٢) على ما ببالي من السابق ، لأنّ دليلها منحصر بالروايتين اللتين أشرنا إليهما ، وهما صحيحتا زرارة وإسماعيل بن جابر ، والأولى وإن كانت مطلقة ، لقوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكّك ليس بشيء» (٣) والثانية عامّة ، لقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء شكّ فيه وقد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (٤) إلّا أنّه لا يصحّ الأخذ بإطلاق الأولى وعموم الثانية.

أمّا الأوّل : فلوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وهو السؤال عن أجزاء خصوص الصلاة من الأذان والقراءة والركوع ، وهو مانع من الأخذ بالإطلاق.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٨.

(٢) حاشية فرائد الأصول : ٢٣٧.

(٣) تقدّم تخريجهما في ص ٢٤١.

(٤) تقدّم تخريجهما في ص ٢٤١.

٢٤٢

وأمّا الثاني : فلأنّ سعة دائرة العموم وضيقها تابعة لما يراد من أداة العموم ، فلفظة «كلّ» عامّة لكلّ ما يراد من مدخولها ، وعموم «الشيء» ـ الّذي هو المدخول للفظة «كلّ» في المقام ـ لأجزاء الصلاة وغيرها إنّما هو بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ، وهو ممنوع في المقام ، لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وهو قوله عليه‌السلام قبل ذكر هذه الكبرى : «إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شكّ في السجود بعد ما قام فليمض» (١).

هذا ، ولكن لا يخفى ما فيه ، فإنّه مبتن على مبنيين اختارهما صاحب الكفاية (٢) :

أحدهما : مانعيّة وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب عن الأخذ بالإطلاق.

وثانيهما : عدم شمول لفظة «كلّ» وأمثالها إلّا لما يراد من مدخولها.

وقد بيّنّا في مباحث الألفاظ فساد كلا المبنيين وأنّ لازم الأوّل عدم جواز الأخذ بشيء من المطلقات في الفقه إلّا ما شذّ وندر ، إذ الغالب هو وجود قدر متيقّن في البين لا أقلّ من مورد الرواية ، مثلا : إذا سئل الإمام عليه‌السلام ـ كما سئل ـ : عن الصلاة في الفنك والسنجاب والسمّور ، فأجاب : «بأنّ كلّ شيء ممّا حرّم الله أكله فالصلاة في شعره ووبره وألبانه وروثه وكلّ شيء منه فاسدة» (٣) لا يمكن التعدّي عن هذه الثلاثة إلى غيرها من أنواع ما لا يؤكل لحمه ، لتيقّنها

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٥٣ ـ ٦٠٢ ، الاستبصار ١ : ٣٥٨ ـ ١٣٥٩ ، الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

(٢) انظر : كفاية الأصول : ٢٥٤ و ٢٨٧.

(٣) الكافي ٣ : ٣٩٧ ـ ١ ، التهذيب ٢ : ٢٠٩ ـ ٨١٨ ، الوسائل ٤ : ٣٤٥ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ١.

٢٤٣

في مقام التخاطب دون غيرها ، مع أنّه لا يشكّ أحد من العرف في استفادة العموم ، وهل يتوهّم أحد ـ إذا سئل الإمام عليه‌السلام : عن إكرام زيد العالم ، فأجاب : «كلّ عالم يجب إكرامه» أو «يجب إكرام العالم» ـ اختصاص الحكم بزيد؟

وبيّنّا هناك أنّ لفظة «كلّ» بنفسها متكفّلة لتسرية الحكم لكلّ ما ينطبق عليه مدخولها ويصدق عليه ، ولا حاجة إلى إجراء مقدّمات الحكمة في نفس المدخول ، بل المدخول على ما هو عليه ـ من كونه كلّيّا طبيعيّا قابلا للصدق على كثيرين ونعبّر عنه باللابشرط المقسمي ـ بجميع أفراده القابل صدقه عليها والممكن انطباقه عليها مشمول للحكم ببركة لفظة «كلّ» لا غير ، فلا مانع من الأخذ بإطلاق الرواية الأولى وعموم الثانية ، الحاكمين بعدم الاعتناء بالشكّ في الشيء الماضي في أثناء العمل أو بعده ، ولا بدّ من الخروج عن هذا العموم من التماس دليل عليه.

نعم ، لو كان المطلق أو مدخول «كلّ» منصرفا إلى القدر المتيقّن أو غيره ، لكان الحكم مختصّا بالمنصرف إليه ، كما إذا ورد «لا تصلّ في شعر الحيوان المحرّم أكله» فإنّه منصرف عن الإنسان وإن كان بمعناه اللغوي يشمله أيضا.

المسألة الثانية : لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في مورد الشكّ في أصل وجود الشيء ، الّذي نعبّر عنه بقاعدة التجاوز ، وذلك ـ مضافا إلى اعتباره في صحيحتي زرارة وإسماعيل بن جابر (١) صريحا ـ من جهة أنّ عناوين «التجاوز» و «المضيّ» و «الخروج عن الشيء» ـ التي اعتبرت في الروايات وعلّق الحكم عليها ـ لا تتحقّق إلّا بذلك ، فإنّ المراد من المضيّ ـ كما عرفت ـ هو المضيّ عن محلّ المشكوك فيه لا نفسه ، ومن المعلوم أنّه مع عدم الدخول

__________________

(١) تقدّم تخريجهما في ص ٢٤١ ، الهامش (٢ و ٣).

٢٤٤

فيما جعله الشارع مرتّبا على المشكوك فيه ـ بحيث لو أتى به قبل الإتيان بالمشكوك فيه لم يكن آتيا بالمأمور به على ما هو عليه ـ لا يصدق «التجاوز» و «المضيّ» و «الخروج عن المشكوك» ومحلّه بعد باق ، فلا بدّ من الإتيان به.

وأمّا قاعدة الفراغ : فبعض الروايات قيّد بذلك ، كالصحيحتين المتقدّمتين (١) ، وصدر موثّقة ابن أبي يعفور (٢) ، وبعضها مطلق ، كقوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (٣) وذيل موثّقة ابن أبي يعفور «إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه» (٤).

فمنهم من أخذ بالمطلقات ، ومنهم : من ـ كشيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ حمل المطلق على المقيّد (٥) ، لا بقاعدة حمل المطلق على المقيّد ـ فإنّه مختصّ بما إذا كان الحكم ثابتا للمطلق بنحو صرف الوجود ك «أعتق رقبة» و «أعتق رقبة مؤمنة» لا بنحو الانحلال والشمول ، كما في «المسكر حرام» و «الخمر حرام» والمقام من قبيل الثاني ، ولا تنافي بين المطلق والمقيّد حتى يحمل الأوّل على الثاني ـ بل لوجوه أخر :

أحدها : ما اختاره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ الأخذ بالروايات المقيّدة وترجيحها على المطلقة منها من جهة أنّ المطلقات في نفسها غير تامّة ، لأنّ المطلق إذا كان مقولا بالتشكيك ولم يكن صدقه على بعض الأفراد في عرض صدقه على البعض الآخر كلفظ «الحيوان» ـ فإنّ مفهومه مفهوم تشكيكي

__________________

(١) تقدّمتا في ص ٢٤٢.

(٢ و ٤) تقدّم تخريجها في ص ٢٤١ ، الهامش (١).

(٣) تقدّم تخريجها في ص ٢٤١ ، الهامش (١).

(٥) أجود التقريرات ٢ : ٤٧٠.

٢٤٥

لا يكون صدقه على أفراده على السويّة ، بل يكون بالنسبة إلى بعض ظاهرا وإلى آخر خفيّا ، كصدقه على الإنسان ، فإنّه خفيّ محتاج إلى التدقيق الّذي لا يعمله العرف ، بل إذا قيل فيما إذا قدم إنسان عظيم الشأن : جاء الحيوان ، يعدّ غلطا أو ركيكا ، والمطلق في المقام يكون كذلك ، حيث يكون صدقه على مورد الدخول في الغير جليّا وعلى مورد حصول الفراغ وعدم الدخول في الغير خفيّا ـ لا يكون المطلق ظاهرا في الإطلاق بالنسبة إليه.

والحاصل : أنّه لا بدّ في الأخذ بالمطلق من أن يكون ظاهرا في الإطلاق ، ومع عدم الظهور بالقياس إلى فرد ـ ولو لم يكن منصرفا عنه ـ لا يصحّ الأخذ به (١).

وفيه : أنّ التشكيك إن كان في الخفاء والجلاء ، كان الأمر كما أفاده ، أمّا لو كان في مراتب الظهور وكان جميع المراتب ظاهرة ، غاية الأمر أنّ بعض المراتب أظهر من الآخر ـ كما في صدق الإنسان على العالم الخبير البصير ، فإنّه أظهر من صدقه على الجاهل الفاقد لجميع الصفات والكمالات المرغوبة من الإنسان مع أنّ صدقه عليه أيضا ظاهر ـ فلا مانع من الأخذ بالإطلاق ، ولا توجب أظهريّة بعض الأفراد ظهور المطلق فيه وعدم ظهور في الفرد الظاهر ، كما هو ظاهر ، إذ لو كان هذا مانعا من الأخذ بالإطلاق ، لم يمكن الأخذ بالإطلاق في غالب المطلقات ، إذ المطلق المتواطئ قليل جدّاً.

وبالجملة ، صدق المطلق في المقام على مورد الدخول في الغير وإن كان أظهر إلّا أنّ صدقه على مورد مجرّد حصول الفراغ أيضا ظاهر ، فلا وجه لعدم ظهور المطلق فيه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٧١.

٢٤٦

وثانيها : أنّ تقديم الروايات المقيّدة من جهة وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب.

وفيه أوّلا : أنّه غير مانع من الأخذ بالإطلاق ، كما حقّق في محلّه.

وثانيا : أنّه لا صغرى له في المقام ، حيث إنّ المراد أنّ اللفظ يكون له قدر متيقّن في مقام التخاطب ، وليس لقوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو» (١) قدر متيقّن في مقام التخاطب ، بل الحكم له قدر متيقّن وجميع مطلقات العالم لحكمها قدر متيقّن.

وثالثا : أنّ هذا ـ لو سلّم جار في المطلق لا في العامّ كما في المقام ، إذ قوله عليه‌السلام : «كلّ ما شككت فيه» (٢) إلى آخره ، عامّ لا مطلق.

وثالثها : أنّ التقديم من جهة كون الغالب في موارد الشكّ في قاعدة الفراغ هو الدخول في الغير ، فيحمل المطلق على الفرد الغالب.

وفيه أوّلا : أنّ مجرّد الغلبة الخارجيّة لا يوجب ذلك ما لم يكن المطلق منصرفا إلى الفرد الغالب.

وثانيا : أنّه ـ لو سلّم جار في المطلق لا في العامّ ، كما عرفت ، فإذن تكون المطلقات محكّمة.

هذا ، ولكنّ الّذي ينبغي أن يقال : إنّ من يعتبر الدخول في الغير إن أراد من «الغير» مطلق الغير ، أي مجرّد الانتقال من المشكوك فيه إلى حالة أخرى وشيء آخر ولو لم يكن مترتّبا على المشكوك فيه شرعا ، فهو معتبر في قاعدتي التجاوز والفراغ ولو لم تكن لنا رواية مقيّدة أصلا ، ضرورة توقّف تحقّق

__________________

(١ و ٢) التهذيب ٢ : ٣٤٤ ـ ١٤٢٦ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢٤٧

عناوين «المضي» و «التجاوز» و «الخروج عن الشيء» المأخوذة في الروايات على الدخول في الغير بهذا المعنى حتى في قاعدة الفراغ ، إذ كما لا يصدق الشكّ في الشيء الماضي لو شكّ في أصل وجود التكبيرة قبل الدخول في القراءة ، حيث إنّ أصل وجودها مشكوك فيه ، فلا معنى لكونه ماضيا ، ومحلّه المقرّر له شرعا أيضا باق غير ماض ، كذلك لا يصدق الشكّ في الشيء الماضي لو شكّ في صحّة التكبيرة حال اشتغاله بها من دون الانتقال إلى مطلق حالة أخرى ، الملازم للفراغ عنها ، فالدخول في الغير بهذا المعنى معتبر في كلتا القاعدتين سواء جعلناهما واحدة أو اثنتين ، غاية الأمر أنّه حيث إنّ هذا الاعتبار لمكان صدق عنواني «المضيّ» و «التجاوز» فلا محالة لا بدّ من النّظر إلى صدقهما ، ونرى أنّهما لا يصدقان في الشكّ في أصل وجود الشيء إلّا بالدخول فيما ترتّب عليه شرعا ، ويصدقان في مورد الشكّ في وصف صحّة الشيء بعد الفراغ عن أصل وجوده مع الدخول في مطلق الغير ولو لم يكن مترتّبا عليه شرعا ، والفراغ ملازم دائما للدخول في الغير بهذا المعنى ، فلا ينافي القول باتّحاد القاعدتين القول بالتفصيل ، واعتبار الدخول في «الغير» المترتّب في مورد الشكّ في أصل وجود الشيء ، واعتبار الدخول في مطلق الغير في مورد الشكّ في وصف الصحّة ، فإنّ ذلك من جهة تفاوت صدق عنواني «المضي» و «التجاوز» في الموردين.

ومن ذلك ظهر أنّ القيود في الروايات المقيّدة للتوضيح لا للاحتراز. وظهر أيضا أنّ صدر موثّقة ابن أبي يعفور ، الّذي قيّد بالدخول في الغير لا يكون معارضا لذيلها الّذي علّق الحكم فيه على عنوان «التجاوز».

وإن أراد اعتبار الدخول في «الغير» المترتّب ، فلا دليل عليه ، إذ لم يعتبر ذلك في شيء من الروايات ، وإنّما اعتبرناه في مورد قاعدة التجاوز من جهة

٢٤٨

توقّف صدق عنواني «المضي» و «التجاوز» عليه.

نعم ، ربّما يتوهّم دلالة رواية زرارة على ذلك من جهة قوله عليه‌السلام : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت عنه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله ممّا أوجب الله عليك وضوءه لا شيء عليك» (١) حيث اعتبر ـ مضافا إلى الفراغ الملازم للدخول في مطلق الغير ـ الدخول في «الغير» الخاصّ المترتّب كالصلاة وغيرها ممّا يكون الوضوء شرطا له صحّة أو كمالا.

ولكن يرد عليه أوّلا : أنّ الرواية واردة في مورد الوضوء ، والتعدّي عنه يحتاج إلى القطع بعدم الخصوصيّة ، وأنّى لنا بإثبات ذلك؟

وثانيا : أنّه لا دلالة للرواية على ذلك حتى في موردها ، إذ صدرها يدلّ مفهوما على عدم اعتبار أزيد من الفراغ ، فلو لم نقل بأنّ الذيل سيق لأجل بيان محقّق الفراغ لا اعتبار أمر آخر ، فلا أقلّ من المعارضة بين الصدر والذيل ، فتسقط عن الحجّيّة ، فتأمّل.

وثالثا : أنّها معارضة بقوله عليه‌السلام فيمن شكّ في الوضوء بعد ما فرغ : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٢) وقوله عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم فيمن شكّ بين الثلاث والأربع بعد ما صلّى وكان متيقّنا حينما سلّم بأنّه قد أتمّ : «لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» (٣) حيث إنّه يستفاد منهما أنّ الملاك في عدم الاعتناء بالشكّ هو كون الآتي بالعمل حين

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٣ ـ ٢ ، التهذيب ١ : ١٠٠ ـ ٢٦١ ، الوسائل ١ : ٤٦٩ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٥ ، الوسائل ١ : ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٣) الفقيه ١ : ٢٣١ ـ ١٠٢٧ ، الوسائل ٨ : ٢٤٦ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢٤٩

الاشتغال به أذكر ، وأقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك ، ومنه استكشفنا أماريّة القاعدة ، فمقتضى هاتين الروايتين هو عدم الاعتناء بالشكّ بعد الفراغ بمجرّد احتمال الأذكريّة والأقربيّة إلى الحقّ.

وبالجملة ، لا دليل على اعتبار الدخول في الغير المترتّب إلّا من حيث صدق عنواني «المضي» و «التجاوز» في مورد قاعدة التجاوز.

ومن ذلك ظهر أنّ ما أفتى به بعض من عدم الاعتناء بالشكّ في صحّة التكبيرة قبل الدخول في القراءة هو الصحيح.

ورابعا : أنّ الرواية معرض عنها ، حيث تدلّ على أنّ الشاكّ في صحّة الوضوء بعد مضيّ ساعة أو ساعتين ـ مثلا ـ عن وقت وضوئه وقبل الدخول في الصلاة يعتني بشكّه ، ولا يجري في حقّه قاعدة الفراغ ، وهو غير معروف من مذهب الأصحاب.

المسألة الثالثة : أنّ المراد من «الغير» ـ الّذي اعتبرنا الدخول فيه لصدق عنوان «المضي» وشبهه ـ ما هو أعمّ من الأجزاء المستقلّة بالعنوان ، كالتكبير والقراءة والركوع والسجود ، وما لا يستقلّ بعنوان مخصوص ، كأجزاء الأجزاء ، فلو شكّ في قراءة الآية الأولى من فاتحة الكتاب بعد ما شرع في الآية الثانية ، لا يعتني بشكّه. وهذا على ما اخترناه من اتّحاد القاعدتين واضح ، لأنّ الملاك في عدم الاعتناء هو تعلّق الشكّ بما قد مضى ، وهو متحقّق في المقام.

وأمّا على ما اختاره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ المجعول الأوّلي هو قاعدة الفراغ ، ومورد الشكّ في أصل الوجود المعبّر عنه بقاعدة التجاوز ملحق بموردها بالحكومة والتنزيل المولويّ (١) ، فربما يقال بكون المراد بالغير في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٦.

٢٥٠

قاعدة التجاوز هو ما يكون مستقلّا بالعنوان دون غيره.

وذهب إليه شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، وأفاد في وجه ذلك أنّ دليل التنزيل قاصر عن شموله لما لا يكون مستقلّا بالعنوان ، فإنّه منحصر بصحيحتي زرارة وإسماعيل بن جابر ، وحكم عليه‌السلام في الأولى بالمضيّ في صلاته إذا شكّ في الأذان بعد ما كبّر أو في القراءة بعد ما ركع أو في الركوع بعد ما سجد (١). وحكم بذلك في الثانية إن شكّ في الركوع بعد ما سجد وفي السجود بعد ما قام (٢) ، فنزّل ما له عنوان مستقلّ من الأجزاء منزلة المركّب دون غيره (٣).

وفيه : أنّ الأمثلة المذكورة وإن كانت كلّها من العناوين المستقلّة إلّا أنّه ـ سلام الله عليه ـ حكم بعدم الاعتناء بالشكّ فيما قد مضى وخرج عنه بنحو الإطلاق في الأولى والعموم في الثانية ، فإطلاق الأولى وعموم الثانية شاملان للشكّ فيما قد مضى مع الدخول فيما لا يستقلّ بالعنوان أيضا. وإن أراد الأخذ بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب ، فهو ـ مضافا إلى عدم صحّته في نفسه ـ يجري في المطلق دون العامّ ، ورواية محمد بن مسلم عامّة.

ثمّ إنّه لو اقتصر على موارد الأمثلة المذكورة في الروايتين ولم يتمسّك بالكبرى العامّة ، فلا وجه للحكم بعدم الاعتناء بالشكّ في الفاتحة بعد ما شرع في السورة ، فإنّه غير مذكور في الروايتين ، ولا دليل على أنّها أيضا نزّلت منزلة المركّب ، وإن كان التمسّك بالإطلاق والعامّ ، فلا وجه للتخصيص بالدخول في «الغير» المستقلّ.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٥٢ ـ ١٤٥٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

(٢) التهذيب ٢ : ١٥٣ ـ ٦٠٢ ، الاستبصار ١ : ٣٥٨ ـ ١٣٥٩ ، الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٧٣.

٢٥١

وبالجملة ، لا وجه لاعتبار كون الغير ممّا يستقلّ بالعنوان حتى على مختاره قدس‌سره أيضا.

نعم ، لو شكّ فيما له كمال ارتباط بما دخل فيه ـ كما إذا شكّ في حال الاشتغال بقراءة الكلمة الأخيرة من آية في أنّه قرأ أوّلها أو لا ـ فلا بدّ من الاعتناء به ، لأنّ المضيّ الحقيقي والدقّي وإن كان محقّقا إلّا أنّ الميزان هو صدق المضيّ عرفا ، والعرف يرى مجموع الآية المرتبط بعض كلماتها ببعض شيئا واحدا.

وأوضح من ذلك في لزوم الاعتناء به الشكّ في حال الاشتغال بقراءة آخر كلمة في أنّه قرأ حرف أوّلها أو لا.

المسألة الرابعة : لا إشكال في كون الشكّ في السجود بعد ما دخل في التشهّد من الشكّ بعد التجاوز ، وممّا لا يعتنى به حتى على القول باعتبار الدخول في «الغير» المستقلّ بالعنوان ، فإنّ التشهّد يكون كذلك.

وتوهّم لزوم الاعتناء به من جهة أنّه اعتبر في الروايتين الشكّ في السجود بعد ما قام لا بعد ما شرع في التشهّد فاسد ، فإنّ المثال فرض في الركعة الأولى ، حيث إنّ السؤال عن الشكّ في الأذان بعد ما كبّر ، والتكبير بعد ما قرأ ، إلى أن ينتهي إلى الشكّ في السجود بعد ما قام.

المسألة الخامسة : الدخول في مقدّمات الأفعال لا اعتبار به في مورد قاعدة التجاوز ، لما عرفت من أنّ المضيّ في موردها لا بدّ وأن يلاحظ بالنسبة إلى محلّ المشكوك ، ومن المعلوم أنّه لم يمض محلّ الركوع ما لم يصل إلى حدّ السجود ، وهكذا لم يمض محلّ السجود ما لم يستو قائما ، فالشكّ في الركوع حال الهويّ وفي السجود حال النهوض لا بدّ من الاعتناء به ، لعدم كونهما ممّا يترتّب على الركوع والسجود شرعا. بل قيل : إنّه لا يعقل كونهما من الأجزاء المترتّبة التي تعلّق بها التكليف ، فإنّ تعلّقه بهما ـ مع كونهما ممّا لا بدّ منهما

٢٥٢

عقلا ـ لغو ، وهذا نظير إنكار الوجوب الشرعي للمقدّمة.

ثمّ لو فرضنا شمول قاعدة التجاوز للشكّ في حال النهوض ، تخصّص بصحيحة عبد الرحمن ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل رفع رأسه عن السجود ، فشكّ قبل أن يستوي جالسا ، فلم يدر أسجد أم لم يسجد ، قال عليه‌السلام : «يسجد» قلت : فرجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائما ، فلم يدر أسجد أم لم يسجد ، قال عليه‌السلام : «يسجد» (١).

نعم ، هناك صحيحة أخرى لعبد الرحمن (٢) أيضا ادّعي ظهورها في عدم الاعتناء بالشكّ في الركوع حال الهويّ إلى السجود ، فلو دلّت على ذلك تتبّع في موردها ، إلّا أنّ الظاهر عدم دلالتها على ما ذكر ، فإنّ قوله فيها : «رجل أهوى إلى السجود فلا يدري أركع أم لم يركع» ظاهره تحقّق الهويّ لا الشروع فيه ، حيث إنّه بصيغة الماضي ، وفرق بين «أهوى» إلى السجود فشكّ وبين «يهوي» إلى السجود فشكّ ، فإنّ الأوّل ظاهر في كون الشكّ حال السجود ، والثاني ظاهر في تحقّق الشكّ حال الهويّ ، كالفرق بين «صلّى فلان» و «فعل كذا» و «يصلّي» و «يفعل كذا» والحاصل : أنّه أهوى إلى السجود معناه سقط إلى السجود ، فقوله عليه‌السلام في الجواب : «قد ركع» يكون على طبق القاعدة ، فظهر أنّ الشكّ في حال الهويّ كالشكّ في حال النهوض ، فلا بدّ من الاعتناء به على طبق القاعدة ، وأنّ تفصيل صاحب المدارك بين الفرعين والقول بعدم الاعتناء في الأوّل عملا بالرواية وبالاعتناء في الثاني (٣) ليس على ما ينبغي ، لعدم ظهور الرواية في

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٥٣ ـ ٦٠٣ ، الاستبصار ١ : ٣٦١ ـ ٣٦٢ ـ ١٣٧١ ، الوسائل ٦ : ٣٦٩ ، الباب ١٥ من أبواب السجود ، الحديث ٦.

(٢) التهذيب ٢ : ١٥١ ـ ٥٩٦ ، الاستبصار ١ : ٣٥٨ ـ ١٣٥٨ ، الوسائل ٦ : ٣١٨ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٦.

(٣) مدارك الأحكام ٤ : ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

٢٥٣

السؤال عن الشكّ حال الهويّ ، بل ظاهرها هو السؤال عن الشكّ حال السجود ، ولا أقلّ من الإجمال.

وممّا ذكرنا ظهر أيضا فساد ما أورد على صاحب المدارك قدس‌سره من أنّ هذا التفصيل من الجميع بين المتناقضين ، إذ لو اكتفي بالدخول في المقدّمات ، فلا بدّ من القول بعدم الاعتناء في كلا الفرعين ، ولو لم يكتف فلا بدّ من القول بالاعتناء في كليهما ، ولا وجه للتفصيل ، فإنّ مرجعه إلى القول باعتبار الدخول في المقدّمات وعدم الاعتبار.

وجه الفساد : أنّ الاعتبار بالدخول في المقدّمات وعدمه ليس من القواعد العقليّة غير القابلة للتخصيص ، فمن الممكن اعتباره في بعض المقدّمات بورود النصّ الخاصّ دون بعض.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره سلّم ظهور الرواية في حصول الشكّ بعد الشروع إلى الهويّ وقبل الوصول إلى السجود ، ولكن ادّعى أنّ هذا الظهور بالإطلاق ، حيث تشمل الرواية بإطلاقها مورد الشكّ بعد الشروع في الهويّ وقبل الوصول إلى السجود ، ومورد الوصول إلى حدّ السجود. وهذا الإطلاق يقيّد بصحيحة زرارة (١) ، الحاكمة ـ بمقتضى ورودها في مقام التحديد ـ بالاعتناء بالشكّ في حال الهويّ قبل الوصول إلى السجود (٢).

وقد عرفت عدم ورودها في مقام التحديد ، وأنّ ما ذكر فيها من الموارد من باب المثال ، مضافا إلى ما عرفت من عدم ظهور للرواية ـ أي صحيحة عبد الرحمن ـ حتى نحتاج إلى استعمال دليل مقيّد لإطلاقها.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٥٢ ـ ١٤٥٩ ، الوسائل ٨ : ٢٣٧ ، الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٧٣ ـ ٤٧٤.

٢٥٤

فرع : لو شكّ في حال القيام بعد انحنائه للركوع في أنّ انحناءه كان بمقدار الواجب أو لا ، وبعبارة أخرى : إذا شكّ في صحّة الركوع في حال القيام ، تجري فيه قاعدة التجاوز ، لأنّ الشكّ يكون فيما قد مضى في حال الدخول في «الغير» المترتّب على الركوع شرعا وهو القيام بعده ، حيث إنّه من واجبات الصلاة ، فيشمله جميع عناوين الروايات من «التجاوز» و «المضي» و «الخروج عن الشيء» وأمثال ذلك ، مضافا إلى ورود صحيحة فضيل (١) على ذلك.

لكن ذهب صاحب الحدائق إلى لزوم الاعتناء قاعدة ونصّا (٢).

والظاهر أنّه من اشتباه القيام المتّصل بالركوع ـ الّذي قيل بركنيّته ـ بهذا القيام ، فإنّ الشكّ في الركوع في حال القيام قبل الركوع مورد للاعتناء قاعدة ونصّا.

المسألة السادسة : لو شكّ في أنّه سلّم لصلاته أو لا ، ذهب شيخنا الأستاذ قدس‌سره إلى جريان قاعدة الفراغ في جميع صوره (٣).

والحقّ هو التفصيل ، فإنّه تارة يكون الشكّ بعد الدخول فيما هو مترتّب على الصلاة شرعا من واجب كصلاة العصر ، أو مستحبّ كالتعقيب. وأخرى يكون بعد الدخول في أمر مباح أو مستحبّ غير مربوط بالصلاة. وثالثة بعد الدخول فيما ينافي الصلاة بمطلق وجوده سهوا أو عمدا ، كالاستدبار. ورابعة بعد الدخول فيما ينافي الصلاة عمدا فقط.

فإن كان بعد الدخول فيما هو مترتّب شرعا عليها ، فلا ينبغي الشكّ في

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٥١ ـ ٥٩٢ ، الاستبصار ١ : ٣٥٧ ـ ١٣٥٤ ، الوسائل ٦ : ٣١٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

(٢) الحدائق الناضرة ٩ : ١٩١ ـ ١٩٢.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٧١ ـ ٤٧٣.

٢٥٥

جريان قاعدة التجاوز ، لصدق «المضيّ» وغير ذلك من العناوين المأخوذة في الروايات.

وإن كان بعد الدخول في أمر مباح ، كمطالعة كتاب ونحوها ، أو مستحبّ غير مربوط بها ، فلا ينبغي الشكّ في وجوب الاعتناء به ، وعدم جريان شيء من القاعدتين : لا الفراغ ولا التجاوز ، لأنّه يحتمل وجدانا أن يكون بعد في الصلاة وأن لا تكون صلاته ماضية ، فمع الشكّ في الفراغ والمضيّ كيف يجري فيه قاعدتي الفراغ والتجاوز!؟ والحاصل : أنّ الشبهة مصداقيّة لا يصحّ التمسّك بالعامّ فيها.

وإن كان بعد الدخول فيما ينافي الصلاة بمطلق وجوده ، فهو من أوضح مصاديق الشكّ في صحّة العمل الماضي ، إذ لا يحتمل أن يكون فعلا في الصلاة ، لتحقّق المخرج عنها ، فالشكّ فيما خرج عنه وفيما قد مضى وجاوزه ، فتشمله الروايات.

وإن كان بعد الدخول فيما ينافي الصلاة بوجوده العمدي فقط ، المعبّر عنه بالمنافيات العمديّة ، كالتكلّم ، فلا بدّ من الاعتناء به ، لأنّ التكلّم ـ مع العلم بأنّه لم يسلّم لا يكون بمطلق وجوده منافيا للصلاة ، والمفروض أنّه تكلّم غافلا عن كونه في الصلاة وعدمه ، فيحتمل أن يكون الآن غير فارغ عن الصلاة وأن يكون هذا الكلام من الكلام السهوي في أثناء الصلاة ، الّذي لا يكون مبطلا لها ولا موجبا لمضيّها وخروجه عنها ، والتمسّك بقاعدة التجاوز مع الشكّ في تحقّق موضوعها ـ وهو الفراغ والتجاوز ـ تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

المسألة السابعة : أنّ الشكّ في صحّة المأتيّ به يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون احتمال الصحّة لأجل تصادف أمر قهري غير مستند إلى اختيار الفاعل كما إذا علم بأنّه كان حين العمل غافلا ولكن يحتمل ـ لغلبة الماء ـ

٢٥٦

وصول الماء إلى ما تحت خاتمه عند الغسل أو الوضوء ، فإنّ غلبة الماء أمر خارجي قهري غير مستند إلى اختياره.

والظاهر عدم شمول الروايات لهذه الصورة بناء على ما اخترناه من كون حجّيّة القاعدة من باب الكاشفيّة ، وأنّ الشارع أمضى تلك الكاشفيّة النوعيّة بمقتضى قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (١) و «كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» (٢) ومن المعلوم أنّ الغافل المحض لا يكون مشمولا للرواية ، ووصول الماء قهرا وصدفة إلى ما تحت خاتمه من دون اختياره غير مستند إلى أذكريّته ، إذ الفرض أنّه كان غافلا حين العمل.

الثاني : أن يكون الشكّ في صحّة العمل من جهة الشكّ في كون المأتيّ به هل وقع في الخارج مطابقا للمأمور به ، وأنّه عمل بوظيفته أم لا؟ وبعبارة أخرى : يحتمل غفلته حال العمل عن الإتيان بما هو وظيفته.

ولا فرق في هذه الصورة بين أن يكون الشكّ لأجل الشبهة الموضوعيّة ـ كما إذا شكّ في أنّه صلّى بلا سورة أو معها ، أو صلّى بلا ركوع أو معه مع العلم بأنّ الركوع والسورة جزءان من الصلاة ـ أو لأجل الشبهة الحكميّة ، كما إذا علم بأنّه صلّى بلا سورة ويشكّ في أنّ السورة جزء أو لا ، لكن يحتمل أن يكون عمله مستندا إلى فتوى من لا يرى وجوب السورة ، فإنّ الشكّ في كلّ منهما راجع إلى الشكّ في انطباق المأمور به على المأتيّ به بذاته أو بلونه وعدمه.

وهذه الصورة بكلا قسميها هي القدر المتيقّن من روايات الباب ، فإنّ احتمال الأذكريّة والأقربيّة إلى الحقّ موجود في كلا القسمين ، غاية الأمر أنّه

__________________

(١) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٥ ، الوسائل ١ : ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٢) الفقيه ١ : ٢٣١ ـ ١٠٢٧ ، الوسائل ٨ : ٢٤٦ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٢٥٧

بالقياس إلى ذات العمل في القسم الأوّل ، وبالقياس إلى وصف العمل ولونه ـ ككونه عن تقليد صحيح ـ في القسم الثاني.

ومن ذلك ظهر أنّه لو عمل عملا بلا اجتهاد ولا تقليد لكن يحتمل مطابقته للواقع من جهة احتمال أنّه احتاط فيه ، يكون مشمولا لقاعدة الفراغ أيضا.

الثالث : أن يكون الشكّ في صحّة المأتيّ به لأجل أمر خارج عن اختياره ، بمعنى أنّه يعلم بما أتى به بجميع خصوصيّاته لكن يحتمل صحّته لاحتمال تطابق المأمور به معه قهرا. وهذا هو الّذي يعبّر عنه بما كانت صورة العمل محفوظة عند العامل ، كما إذا علم بأنّه توضّأ بمائع خارجي خاصّ وشكّ في أنّ ما توضّأ به ماء أو غير ماء ، أو صلّى إلى طرف وبعد فراغه شكّ في أنّ القبلة كانت في هذا الطرف الّذي صلّى إليه أو كانت في خلافه أو يمينه أو يساره. والظاهر عدم شمول الروايات لهذه الصورة أيضا ، فإنّ القطع حال الصلاة بأنّ هذا الطرف قبلة لا يفيد شيئا فضلا عن احتمال كونه ملتفتا حال العمل واحتمال كونه قاطعا بكون القبلة في هذا الطرف.

وبالجملة ، احتمال الأذكريّة يفيد في مقام يكون القطع بها فيه موجبا لبراءة الذمّة يقينا ، والقطع بها في المقام لا يفيد ذلك فضلا عن احتمالها.

وهذا القسم أيضا لا فرق فيه بين الشبهة الموضوعيّة ، كالمثالين المذكورين ، وبين الشبهة الحكميّة ، كما إذا توضّأ بماء الورد ـ مثلا ـ ثمّ شكّ في أنّ الوضوء معه صحيح أم لا ، فإنّ القطع بصحّة الوضوء معه حال العمل لا يفيد مع الشكّ في صحّته معه بعده فضلا عن احتمال كونه قاطعا بصحّة الوضوء معه.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ جريان قاعدة الفراغ منحصر بما إذا كان الشكّ في

٢٥٨

انطباق المأمور به الواقعي أو الظاهري على المأتيّ به من جهة الجهل بنفس المأتيّ به أو صفته مع احتمال الأذكريّة حال العمل ، وأنّه لا مورد لها في غير هذه الصورة.

وظهر أنّ ما أفاده قدس‌سره ـ من جريان القاعدة فيما إذا علم بغفلته حين العمل وكانت صورة العمل غير محفوظة مع إصراره على أماريّة القاعدة ـ من الجمع بين المتناقضين ، إذ أيّ كاشفيّة لعمل الغافل المحض عن كونه مطابقا للمأمور به؟ وقد حمل قدس‌سره قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (١) على كونه حكمة دون علّة (٢). وقد أطال الكلام في بحث اللباس المشكوك (٣) في ضابطة تميز حكمة التشريع عن علّته بما لا يمكن المساعدة عليه ، بل الميزان هو الظهور العرفي وعدمه ، ومن المعلوم أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ» إلى آخره بمقتضى الفهم العرفي هو التعليل ، وأنّ ملاك عدم الاعتناء هو الأذكريّة حال العمل ، فلا يجري في حقّ الغافل المحض.

المسألة الثامنة : لا إشكال في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا شكّ بعد الصلاة ـ مثلا ـ في أنّه صلّى مستقبلا أو متطهّرا ، وبالجملة واجدا للشرائط المعتبرة في الصلاة أم لا.

لكن هذا إذا كان الشكّ في الصحّة ناشئا من الشكّ في تحقّق شرط من شرائط المأمور به وعدمه ، كالاستقبال والطهور والموالاة وغير ذلك ، أمّا إذا كان ناشئا من الشكّ في تحقّق شرط من شرائط التكليف ، كما إذا صلّى ثمّ شكّ في أنّه أتى بها قبل طلوع الفجر أو بعده ، ففيه تفصيل ، فإنّ المصلّي إمّا يعلم

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٥٧ ، الهامش (١).

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٣) رسالة الصلاة في المشكوك : ١٧ وما بعدها.

٢٥٩

بدخول الوقت حال الشكّ أو لا.

فإن كان عالما بحصول الشرط حال شكّه في عمله الماضي ، فلا مانع من جريان القاعدة ، إذ المكلّف يعلم بأنّه صار مكلّفا بصلاة الصبح يقينا وإنّما أتى بصلاة لا يعلم بوقوعها قبل الوقت أو بعده ، فمقتضى الأذكريّة أنّه أتى بها بعد دخول الوقت ، فإنّ إيقاع الصلاة قبل الوقت وبعده فعل اختياري للمكلّف ، فإذا كان أذكر بمقتضى التعبّد ، يوقعها بعد الوقت.

وإن كان حال شكّه في عمله الماضي أيضا في شكّ بحيث لو أراد أن يحتاط بإعادة العمل لا يفيده ولا يعلم ببراءة ذمّته ، فلا معنى لجريان القاعدة ، فإنّها ناظرة إلى مقام الامتثال ومتكفّلة للتعبّد بانطباق المأمور به اليقيني على المأتيّ به لا للتعبّد بوجود الأمر ، والمفروض أنّ المكلّف بعد في شكّ من وجود الأمر ، والقاعدة أجنبيّة عن إثبات ذلك.

فما أفاده في العروة (١) من التفصيل في هذا الفرع ـ أي الشكّ في وقوع الصلاة قبل الوقت أو بعده ـ متين جدّاً وإن كان تعليله يوهم خلاف مراده لكن مراده ما ذكرنا ، فلا يرد عليه ما أورده بعض الأكابر في حاشيته.

هذا كلّه فيما إذا كان الشكّ بعد الفراغ ، وأمّا في الأثناء : ففيه تفصيل ، فإنّ الشرائط على ثلاثة أقسام :

منها : الشرائط المتقدّمة ، كشرطيّة الإقامة لصحّة الصلاة على قول. ومن هذا القبيل : الطهارات الثلاث على القول بأنّ الشرط نفس الغسلتين والمسحتين في الوضوء ، ونفس تلك الأفعال في الغسل والتيمّم ، وأمّا على ما استظهرناه ممّا ورد في أنّ كذا ينقض الوضوء ، وكذا لا ينقض الوضوء ، وهكذا من لفظ

__________________

(١) العروة الوثقى ، فصل في أحكام الأوقات ، المسألة ٧.

٢٦٠