الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

ثمّ إنّ للسيد الصدر شبهة تسمّى بالشبهة العبائيّة ، لما مثّل لها بالعباء ، وهي أنّا لو فرضنا أنّه تنجّس أحد طرفي العباء إمّا الأعلى أو الأسفل ، ثمّ غسلنا الأعلى منهما ، فلازم جريان الاستصحاب في القسم الثاني نجاسة ما يلاقي هذا العباء بكلا طرفيه ، فإنّ استصحاب بقاء كلّي النجاسة جار ، حيث إنّها مردّدة بين مقطوعة البقاء لو كانت في الطرف الأسفل ، ومقطوعة الارتفاع لو كانت في الطرف الأعلى ، وتترتّب على هذا الاستصحاب نجاسة الماء القليل الّذي ندخل هذا العباء فيه بجميعه مع أنّ الماء لم يلاق إلّا مقطوع الطهارة وهو الطرف الأعلى ، ومشكوك النجاسة ، الّذي هو الطرف الأسفل الّذي لم يكن موجبا لنجاسة الماء لو كان ملاقيا له فقط.

وبعبارة أخرى : بناء على طهارة ملاقي الشبهة المحصورة لا يمكن الحكم بنجاسة الماء الملاقي ، لأنّ المفروض أنّه لاقى أحد طرفي الشبهة ومقطوع الطهارة ، فالجمع بين القول بجريان الاستصحاب في القسم الثاني ، والقول بعدم تنجّس ملاقي الشبهة المحصورة لا يمكن.

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس‌سره عنها بجوابين :

الأوّل : ما أفاده في الدورة السابقة من أنّ المتيقّن في القسم الثاني لا بدّ أن يكون بهويّته وحقيقته مردّدا بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، وأمّا لو كان الترديد لا من هذا الحيث ، بل من حيث محلّه كما في المقام ، فهو شبيه باستصحاب الفرد المردّد ، وليس من استصحاب الكلّي ، مثلا : لو علمنا بوجود زيد في الدار إمّا في طرفها الشرقي أو الغربي ثمّ انهدم الطرف الشرقي ، لا يمكن استصحاب بقاء كلّي الإنسان.

ونظير ذلك ما لو علم بوجود درهم مخصوص ل «زيد» في جملة دراهم

١٠١

عشر ثمّ ضاع أو سرق أحدها ، فإنّه لا يمكن استصحاب درهم زيد (١).

وهذا الّذي أفاده غريب منه قدس‌سره ، إذ لا نحتاج إلى استصحاب الكلّي في هذه الأمثلة بل نستصحب استصحاب الشخص ، ونقول : كنّا على يقين من وجود زيد في الدار ، والآن نشكّ في بقائه فنستصحب بقاءه.

وهل يلتزم قدس‌سره بعدم جريان استصحاب حياة «زيد» في المثال لو كان مجتهدا ومقلّدا ويحكم بوجوب الرجوع عن تقليده على مقلّديه؟

وأمّا عدم جريان استصحاب بقاء الدرهم فهو من جهة المعارضة ، فإنّه معارض باستصحاب بقاء التسعة الأخر التي تكون لعمرو مثلا.

الثاني : ما أجاب به في الدورة الأخيرة ، وهو أنّ لاستصحاب بقاء الكلّي ـ أي كلّي النجاسة في الثوب ـ أثرين : أحدهما : عدم جواز الصلاة معه. والآخر : نجاسة ملاقي جميع أطرافه. وشيء منهما لا يترتّب في المقام.

أمّا عدم جواز الصلاة فليس من جهة الاستصحاب ، بل يكفي نفس العلم الإجمالي بنجاسة أحد طرفيه ، فمع قطع النّظر عن الاستصحاب أيضا لم تكن الصلاة فيه جائزة.

وأمّا نجاسة ملاقيه فلا تترتّب على استصحاب وجود النجاسة في العباء إلّا على القول بالأصل المثبت ، فإنّ موضوع الحكم بنجاسة الملاقي هو مركّب من جزءين : الملاقاة وكونها مع النجس ، والجزء الأوّل وإن كان محرزا في المقام بالوجدان إلّا أنّ الجزء الثاني لا يكون محرزا لا بالوجدان وهو واضح ، ولا بالأصل ، لأنّ ملاقاة الماء للطرف الأعلى ملاقاة للطاهر اليقيني ، وملاقاته للطرف الأسفل ملاقاة لما وجب عنه الاجتناب بحكم العقل بمقتضى كونه طرفا

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

١٠٢

للعلم الإجمالي ، لا ملاقاة لما حكم الشارع بنجاسته ، إذ لا أصل لنا في هذا الطرف يثبت نجاسته حتى يلتئم الموضوع المركّب ـ وهو ملاقاة الماء للنجس ـ أحد جزأيه بالوجدان والآخر بالأصل ، لأنّ استصحاب وجود النجاسة في العباء لا يثبت نجاسة الطرف الأسفل حتى تكون ملاقاة الماء ملاقاة للنجس بحكم الشارع (١).

وهذا نظير ما أفاده الشيخ قدس‌سره في الرسائل لعلّه في بحث الأصل المثبت من أنّ استصحاب وجود الكرّ في الحوض لا يثبت مغسوليّة الثوب الواقع فيه حتى يحكم بطهارته ، بخلاف استصحاب كرّيّة الماء الموجود (٢).

وهذا الوجه وإن لم يكن بمثابة الأوّل في الغرابة إلّا أنّه أيضا غير تامّ ، لأنّا نستصحب الاستصحاب الشخصي ، ونقول : موضع الملاقاة من هذا العباء ولو كان خيطا واحدا كان نجسا ، والآن نشكّ في ارتفاع نجاسته فنستصحب بقاءها ، فالماء لاقى بالوجدان ما حكم الشارع بنجاسته وهو ذلك الخيط ، فالتحقيق هو الحكم بنجاسة ملاقي جميع أطرافه ، وينبغي أن يسمّى هذا بالتحقيق العبائي لا الشبهة العبائية.

وأمّا جريان أصالة الطهارة في ملاقي الشبهة المحصورة فهو فيما لم يكن فيه أصل حاكم في البين مثبت لنجاسته كما في المقام.

ثمّ إنّ الأقوال المذكورة في استصحاب الشخص جارية في استصحاب الكلّي أيضا ، فمن فصّل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في المانع ـ كالشيخ قدس‌سره ـ لا بدّ له من التفصيل في المقامين ، فذكره استصحاب بقاء

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٤ ـ ٣٩٥.

(٢) فرائد الأصول : ٣٨٦.

١٠٣

الحيوان المردّد بين البق والفيل (١) ـ الّذي هو من الشكّ في المقتضي ـ من باب المثال للقسم الثاني لا من جهة الفرق بين استصحاب الكلّي والشخص في ذلك.

أمّا القسم الثالث ـ وهو الشكّ في بقاء الكلّي لأجل احتمال قيام فرد آخر من الكلّي مقام الفرد المقطوع ارتفاعه ـ فهو على قسمين : الأوّل : أن يكون الشكّ لاحتمال قيام فرد آخر مقارنا لوجود الفرد الأوّل. والثاني : ما يكون ذلك لاحتمال قيامه مقارنا لارتفاعه ، فهل يجري الاستصحاب مطلقا أو لا يجري مطلقا أو التفصيل بين القسم الأوّل فيجري ، والثاني فلا يجري ، كما فصّل به الشيخ (٢) قدس‌سره؟

الحقّ هو الثاني ، وذلك لأنّ الكلّي الطبيعي ـ سواء قلنا بكونه موجودا في الخارج بوجود تأصّلي أو بوجود بالعرض ، وأنّ المتأصّل في الوجود هو الفرد ـ له إضافة خاصّة إلى كلّ فرد من أفراده ، وهو شيء واحد وموجود فارد يضاف تارة إلى زيد ، وأخرى إلى عمرو ، وثالثة إلى بكر ، فالمضاف واحد والمضاف إليه وهكذا الإضافة متعدّد ، ووجود الطبيعي المضاف إلى زيد مغاير لوجوده المضاف إلى عمرو ، وإلّا لصحّ حمل زيد على عمرو بجامع الإنسان ، فالماهيّة النوعيّة المضافة إلى شخص مغايرة للماهيّة النوعيّة المضافة إلى شخص آخر ، كما أنّ الماهيّة الجنسيّة ـ كالحيوان ـ المضافة إلى نوع ـ كالبقر ـ مغايرة للماهيّة الجنسية المضافة إلى نوع آخر ، كالغنم ، وهكذا في الجنس البعيد بالقياس إلى الحيوان والشجر ، ولا بدّ في الاستصحاب من إبقاء اليقين عملا على النحو الّذي كان ثابتا ، ومن الواضح أنّ اليقين بوجود طبيعي الإنسان المضاف إلى زيد

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٧١. لم يعيّن في هذا الموضع مصداق الحيوان المردّد.

(٢) فرائد الأصول : ٣٧٢.

١٠٤

غير اليقين بوجوده المضاف إلى فرد آخر ، فإذا فرضنا القطع بارتفاع الفرد الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه ، والمضاف إليه الكلّي ـ وهو زيد ـ نقطع أيضا بارتفاع طبيعي الإنسان المضاف إليه ، فما كان متيقّنا ـ وهو الوجود الطبيعي المضاف إلى زيد ـ قد ارتفع قطعا ، وما نحتمل وجوده ـ وهو وجوده المضاف إلى فرد آخر مقارنا للأوّل وجودا أو ارتفاعا ـ فهو أمر آخر مغاير لما كنّا على يقين منه ، والاستصحاب ليس إلّا إبقاء ما كان عملا على النحو الّذي كان.

وبهذا البيان ظهر عدم تماميّة ما أفاده الشيخ قدس‌سره من أنّ وجود الفرد سبب للعلم بوجود الكلّي ، فبوجود زيد في الدار علمنا بوجود الإنسان فيها ، فإذا احتملنا وجود عمرو أيضا فيها مقارنا لوجود زيد ، فبارتفاع وجود زيد وخروجه لا نقطع بارتفاع وجود الإنسان ، وخلوّها عن الإنسان ، بل بعد نحن على شكّ من ذلك فنستصحب بقاءه (١) ، فإنّ العلم بوجود فرد من الإنسان ك «زيد» ليس سببا للعلم بوجود طبيعي الإنسان على الإطلاق ، بل هو سبب للعلم بوجوده مضافا إلى زيد ، ومن الواضح أنّ هذا العلم يرتفع بالعلم بارتفاع وجود المضاف إليه ، فالإنصاف أنّ مثل هذا لم يكن مترقّبا من مثل الشيخ قدس‌سره المؤسّس لهذه القواعد.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ وصاحب الكفاية قدس‌سرهما ذكرا أنّ الاستصحاب في القسم الثاني من القسم الثالث جار إذا كان الحادث المحتمل مرتبة أخرى من مراتب المعلوم ارتفاعه ، كما إذا احتملنا قيام السواد الضعيف مقام السواد الشديد عند ارتفاعه ، وذلك لأنّ اختلاف المراتب في الشدّة والضعف لا يوجب اختلافا في الوجود لا حقيقة ولا عرفا ، ضرورة أنّ المرتبة الضعيفة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٧٢.

١٠٥

من السواد ليست مغايرة للمرتبة الشديدة منه لا حقيقة ولا عرفا ، فلا مانع من استصحاب طبيعي السواد المشترك بين المرتبة المتيقّنة الزوال والمرتبة المشكوكة البقاء ، ونظيره في العرف كثير أيضا ، فإذا علمنا بأنّ زيدا كان متحرّكا بحركة سريعة ، وعلمنا بانتفائها بهذه المرتبة واحتملنا تبدّلها بحركة خفيفة ، نستصحب بقاء طبيعي الحركة (١).

هذا ، وفي تسمية هذا الاستصحاب باستصحاب الكلّي ، وعدّه من القسم الثالث مسامحة واضحة ، فإنّ هذا الاستصحاب استصحاب لشخص السواد المتيقّن سابقا ، ضرورة أنّ المراتب المختلفة للسواد ليست أفرادا له حتى يكون من استصحاب الكلّي ، بل تكون من حالاته وعوارضه ، فيكون من قبيل استصحاب حياة زيد مع العلم بانتفاء صحّته ، ولو جعلناها من قبيل الأفراد ، يلزم أن تكون هناك ماهيّات غير متناهية ، محصورة بين حاصرين : المبدأ والمنتهى ، فإنّ مراتبه المتنازلة والمتصاعدة غير متناهية.

وهذا من أحد أدلّة بطلان أصالة الماهيّة ، فإنّ لازم تأصّلها أيضا ذلك ، لأنّ المتحرّك بالحركة الكمّيّة كالإنسان من مبدئه إلى منتهاه أو الكيفيّة كالسواد والبياض على هذا القول ، له ماهيّات غير متناهية محصورة بين حاصرين ، إذ أيّ مرتبة من الكمّ أو الكيف يفرض فله مرتبة أخرى دونها أو فوقها ، فلا مناص عن كون هذا الاستصحاب استصحاب للفرد والشخص لا استصحابا للكلّي ذي الأفراد والأشخاص.

ثمّ إنّ للفاضل التوني قدس‌سره كلاما نقله الشيخ قدس‌سره لمناسبة في المقام في مسألة الشكّ في تذكية اللحم المطروح أو الجلد المجلوب من بلد الكفر ، وهو

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٥ ، كفاية الأصول : ٤٦٢ ـ ٤٦٣.

١٠٦

أنّه ذكر قدس‌سره أنّ اللحم المطروح الّذي شكّ في تذكيته وعدمها محكوم بالحلّيّة والطهارة دون الحرمة والنجاسة ، وأفاد في ذلك وجهين :

أحدهما ـ وهو غير مربوط بمحلّ الكلام بل يناسب بحث البراءة ـ : أنّ موضوع هذين الحكمين ـ أعني الحرمة والنجاسة ـ هو عنوان «الميتة» وهو أمر وجودي لا يمكن إحرازه باستصحاب عدم وقوع التذكية على الحيوان الخارجي إلّا على القول بالأصل المثبت ، ولو سلّم فهو معارض باستصحاب عدم كونه ميتة ، فيرجع إلى أصالتي الحلّ والطهارة.

وأجاب عنه الشيخ قدس‌سره أوّلا : بأنّ الميتة عنوان عدمي ، وهو غير المذكّى ، ولذا ما لم يسمّ عند ذبحه أو لم يتحقّق فيه شرط آخر من شرائط التذكية يحكم بنجاسته وحرمته مع أنّه لم يمت حتف الأنف ، فيكفي استصحاب عدم التذكية في ترتّب الحكمين ، ولا يعارض هذا الاستصحاب استصحاب عدم كونه ميتة ، الّذي مرجعه إلى استصحاب عدم عدم وقوع التذكية عليه ، فإنّ المتيقّن السابق هو عدم وقوع التذكية لا عدم عدم ذلك كما هو واضح.

وثانيا : بأنّا لو سلّمنا كون الميتة عنوانا وجوديّا وهو ما مات حتف أنفه ، لا نسلّم كون موضوع الحكمين هو الميتة ، بل الموضوع هو الجامع بين ما مات حتف أنفه وما لم يذكّ بتذكية شرعيّة بمقتضى قوله تعالى : (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ)(١) فكلّ ما لم يذكّ بتذكية شرعيّة ـ سواء مات حتف أنفه أو بسبب غير شرعي ـ فهو محكوم بالحرمة والنجاسة ، فلا نحتاج إلى إثبات عنوان الميتة (٢).

هذا ، وقد مرّ في بحث البراءة أنّ موضوع حكم الحرمة ـ كما أفاده الشيخ وشيخنا الأستاذ قدس‌سرهما ـ هو غير المذكّى وما لم يستند موته إلى سبب شرعي إلّا

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) فرائد الأصول : ٣٧٢.

١٠٧

أنّ موضوع حكم النجاسة في لسان الأدلّة هو عنوان الميتة ، وليس في شيء من الروايات وغيرها كون عنوان غير المذكّى موضوعا للنجاسة إلّا رواية واحدة يتوهّم منها ذلك ، ورفعنا هذا التوهّم هناك ، وعنوان الميتة ـ كما فسّره صاحب المصباح بأنّه ما استند موته إلى غير سبب شرعي (١) ـ أمر وجودي لا يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية وعدم استناد موته إلى سبب شرعي ، فإنّ لازمه العقلي هو استناده إلى سبب غير شرعي ولا أقلّ من احتمال كونه أمرا وجوديّا ، فالحقّ بالقياس إلى حكم النجاسة مع الفاضل التوني قدس‌سره.

الثاني ـ وهو الّذي يناسب المقام ـ : أنّ عدم التذكية له فردان : فرد مقترن بحياة الحيوان ، وهو لا يكون موضوعا لحكم النجاسة. وآخر مقترن بزهوق الروح عنه ، وهو الموضوع للحكمين ، والفرد الأوّل مقطوع الارتفاع غاية الأمر أنّه نحتمل وجود الفرد الآخر منه مقارنا لارتفاع الفرد الأوّل ، فاستصحاب كلّي عدم التذكية ـ ولو فرض أنّ موضوع الحرمة والنجاسة هو غير المذكّى ـ من استصحاب الكلّي في القسم الثالث الّذي لا نقول بجريانه.

وفيه : أنّه ليس العدم المقترن بالحياة فردا لعدم التذكية ، والعدم المقترن بالموت فردا آخر ، ضرورة أنّ العدم أمر واحد مستمرّ حال الحياة والممات ، كما أنّ قيام زيد وقت طلوع الشمس إلى الزوال ومنه إلى الغروب ليس إلّا قياما واحدا شخصيّا مستمرّا لا أنّه كلّي ذو فردين ، فاستصحاب عدم وقوع التذكية إلى زمان زهوق الروح استصحاب شخصي ، ويلتئم الموضوع المركّب من خروج الروح وعدم التذكية بضميمته إلى أمر وجداني وهو خروج الروح ، ولا يعتبر في الاستصحاب وجود الأثر للمتيقّن حدوثا ، بل يكفي

__________________

(١) المصباح المنير : ٥٨٤.

١٠٨

وجوده بقاء ، وفي المقام وإن لا يكون للمتيقّن ـ وهو عدم التذكية حال الحياة ـ أثر النجاسة إلّا أنّه يكفي في استصحابه وجوده بقاء حال الموت.

أمّا القسم الرابع ـ وهو ما إذا تعلّق اليقين بالكلّي بعنوانين قبالا للقسم الثالث الّذي كان الكلّي متيقّنا بعنوان واحد ، وعلم بارتفاع الفرد المعلوم تحقّقه في ضمنه قبالا للقسم الثاني الّذي لم يعلم بارتفاع الفرد الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه ، مثل ما إذا علمنا بوجود الإنسان في الدار في ضمن زيد بعنوان كونه زيدا وعلمنا بخروجه منها أيضا ثمّ علمنا بوجود متكلّم فيها قبل خروج زيد نحتمل كونه زيدا وكونه شخصا آخر غيره ـ فالظاهر جريان الاستصحاب فيه ، وذلك لأنّ لنا يقينين كلّ منهما متعلّق بعنوان ، وانتقض أحدهما قطعا وهو اليقين بوجود الإنسان في الدار بعنوان كونه زيدا ونشكّ في انتقاض الآخر وهو اليقين بوجود الإنسان فيها بعنوان كونه متكلّما ، فنستصحب بقاءه ، ولا يعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب بخصوصيته معلوما لنا ، بل كلّما تيقّنّا بشيء وشككنا في بقائه ، نستصحبه ـ إذا ترتّب عليه أثر ـ بمقتضى «لا تنقض اليقين بالشكّ» ففي المثال السابق ، الجنابة بعنوان ليلة الخميس وإن كانت مرتفعة قطعا إلّا أنّ الجنابة بعنوان آخر ـ وهي المسبّبة عن المنيّ المرئي في الثوب ، التي تعلّق بها اليقين أيضا ـ مشكوكة البقاء ، فتستصحب ، غاية الأمر هي كون هذا الاستصحاب معارضا باستصحاب بقاء الطهارة الحاصلة بالاغتسال عن الجنابة بالعنوان الأوّل ، وهو بحث آخر. والمقصود بيان جريان هذا الاستصحاب حتى يتّبع في مورد عدم المعارضة ، ويرجع إلى الأصول الأخر بعد تساقط الاستصحابين في مورد المعارضة.

ومن قبيل المقام ما إذا توضّأ ثمّ أحدث وتيقّن بوضوء ثان يحتمل كونه رافعا حتى يكون على الطهارة وأن يكون تجديديّا حتى يكون محدثا ، فإنّ

١٠٩

الطهارة بعنوان حدوثها بعد الوضوء الأوّل مقطوعة الارتفاع ، وهي بعنوان كونها ثابتة يقينا بعد الوضوء الثاني مشكوكة البقاء ، فنستصحبها وإن كان معارضا باستصحاب بقاء الحدث الحادث بعد الوضوء الأوّل ، ويتفرّع على ذلك فروع كثيرة في الفقه.

ثمّ إنّ للمحقّق الهمداني كلاما ، وهو أنّه فصّل قدس‌سره بين صورة العلم بتعدّد السبب واحتمال التعاقب ـ كما إذا علم بأنّ المنيّ المرئي في الثوب سبب آخر للجنابة لكن احتمل كونه متعاقبا للسبب الأوّل بحيث اغتسل منها ، أو حدث بعد الاغتسال عن السبب الأوّل ـ فالتزم قدس‌سره بجريان استصحاب الجنابة الحاصلة بالسبب الثاني ، للعلم بمغايرته للأوّل والشكّ في ارتفاع أثره ، وبين ما ذكرنا ـ من صورة احتمال التعدّد واحتمال كون المرئي هو عين السبب الأوّل ـ فالتزم بعدم جريان استصحاب الجنابة ، لعدم العلم بأزيد من جنابة واحدة اغتسل منها يقينا (١).

وممّا ذكرنا ظهر عدم الفرق بين الصورتين وأنّ نقض اليقين بالشكّ يصدق في الصورة الثانية أيضا ، لأنّه متيقّن بجنابته حين خروج هذا الأثر ، وهذه الجنابة بهذا العنوان مشكوكة البقاء ، فتستصحب. وقد ذكرنا أنّه لا يلزم في جريان الاستصحاب تعلّق اليقين بالمستصحب بخصوصيته.

نعم ، لو قلنا باعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين في الاستصحاب ، لا يجري في المقام ، وهو بحث آخر.

ثمّ إنّه ربما يناقش في جريان هذا الاستصحاب بأنّه يحتمل في الصورتين أن ينتقض اليقين باليقين ، إذ يحتمل تعاقب السببين في الصورة

__________________

(١) مصباح الفقيه (كتاب الطهارة) ١ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣.

١١٠

الأولى ، واتّحاد سبب الجنابة في الصورة الثانية ، ومعه يحتمل أن يكون النقض باليقين لا بالشكّ ، فالشبهة مصداقيّة ، فإنّا نشكّ في كون هذا النقض ـ بمعنى رفع اليد عن آثار الجنابة ـ مصداقا لنقض اليقين بالشكّ ، لاحتمال كونه نقضا له بيقين مثله.

ويأتي الجواب عن هذه الشبهة في أواخر الاستصحاب ، وأنّ صفة اليقين من الصفات الوجدانيّة التي لا تقبل شكّ المكلّف فيها ، فإذا علم بموت زيد واحتمل كونه مقلّده ، لا يعقل كونه محتملا لحصول اليقين له بموت مقلّده.

ثمّ إنّه ربما يورد على ما أفاده الشيخ قدس‌سره ـ من جريان الاستصحاب في القسم الثاني إذا احتمل بقاء الكلّي من جهة احتمال حدوث فرد له مقارنا لوجود الفرد الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه (١) ـ بأنّ لازمه جريان استصحاب كلّي الحدث فيما إذا نام المكلّف واحتمل الاحتلام ، فإنّه يحتمل حدوث الحدث الأكبر مقارنا لوجود الحدث الأصغر وهو النوم ، فيستصحب كلّي الحدث بعد التوضّؤ.

ويندفع هذا الإيراد بما ذكرنا آنفا من أنّ موضوع وجوب الوضوء هو المحدث بالحدث الأصغر غير المقترن بالحدث الأكبر ، وفي المقام يحرز أحد جزأي الموضوع ـ وهو عدم اقتران النوم بالجنابة ـ بالاستصحاب ، وجزؤه الآخر ـ وهو النوم ـ محرز بالوجدان ، فيلتئم الموضوع المركّب ، ويرتّب عليه وجوب الوضوء دون الغسل.

التنبيه الخامس : في استصحاب الزمان والزماني الّذي كالزمان في كونه غير قارّ بالذات ، فالكلام يقع في مقامين :

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٧١.

١١١

الأوّل : في استصحاب نفس الزمان. ولا ريب في أنّ الزمان وما يشبهه من الحركة في الأين أو الكمّ أو الكيف ، له نحو وجود طبعه وواقعه أن يتصرّم وينقضي جزء منه ويوجد جزء آخر ، والتصرّم والانقضاء شيئا فشيئا ممّا تتقوّم به ذات الزمان وشبهه بحيث لو بقي الجزء الأوّل من الزمان أو الحركة مثلا ولم يتصرّم ، يخرج عن كونه مصداقا لهذه الحقيقة ، فلا مانع من استصحاب بقاء هذا الموجود ـ كاليوم والليل والشهر والسنة والدهر ـ إذا ترتّب على بقائه أثر.

ولو أغمضنا عن ذلك وقلنا بأنّ النهار وشبهه ليس موجودا واحدا بل هو وجودات متغايرة متعاقبة وآنات غير متجزّئة ينعدم بعض ويوجد آخر ، فإنّما يكون ذلك بحسب الدقّة الفلسفيّة ، وأمّا بالنظر العرفي المتّبع في باب تشخيص المفاهيم التي منها مفهوم «النقض» فلا ريب في كونها موجودا واحدا ، فيصدق نقض اليقين بالشكّ.

هذا في استصحاب بقاء الزمان وشبهه ، أمّا استصحاب عدم حدوثه كعدم طلوع الفجر مثلا ، إذا ترتّب عليه أثر شرعي ، فالأمر فيه أوضح ، ولعلّ ما ذكرنا ـ من أنّ الزمان وشبهه ، له نحو وجود قوامه بالتصرّم والتقضّي ـ هو مراد صاحب الكفاية من الحركة التوسّطيّة حيث قسّم الحركة إليها وإلى القطعيّة (١) ، وإلّا فما أفاده خلاف الاصطلاح ، وكيف كان ، فجريان الاستصحاب غير مبنيّ على هذه الاصطلاحات ، بل هو مبنيّ على صدق النقض كما عرفت.

ولا يفرّق في ذلك بين ما إذا كان الشكّ في بقاء الزمان ونحوه ناشئا من الشكّ في انتهاء حدّه المعلوم لنا ، كما إذا علمنا بأنّ اليوم ليس بأزيد من عشرة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٦٤.

١١٢

ساعة وشككنا في بقائه من جهة الشكّ في بقاء شيء من هذا المقدار ومضيّه بتمامه ، وبين ما إذا كان الشكّ في البقاء لأجل الشكّ في مقدار استعداده ، وأنّه عشرة ساعة أو إحدى عشرة ساعة مثلا ، والأوّل من قبيل الشكّ في الرافع ، والثاني من قبيل الشكّ في المقتضي.

ثمّ إنّ استصحاب بقاء الزمان من النهار ونحوه بنحو مفاد «كان» التامّة وأنّ النهار أو شهر رمضان كان موجودا سابقا والآن كما كان لا يثبت أنّ هذا الزمان من النهار أو من رمضان ، فإذا كان الزمان قيدا للحكم فقط دون متعلّقه ، فلا إشكال في ترتّب الحكم على استصحاب بقاء الزمان.

وأمّا إذا كان الزمان قيدا للحكم ومتعلّقه ـ كما في صوم شهر رمضان والصلوات اليومية الأدائية ، فإنّ شهر رمضان كما يكون قيدا لوجوب الصوم كذلك يكون قيدا للواجب ، بمعنى أنّ الصوم لا بدّ أن يقع في نهار رمضان ، وهكذا صلاة الظهر ، الأدائيّة كما يكون الدلوك قيدا لوجوبها كذلك يكون ما بين الحدّين : الزوال والغروب قيدا للواجب ، بمعنى أنّه لا بدّ من إيقاعها في هذا الزمان ـ فيشكل الأمر في استصحابه ، فإنّ استصحابه بنحو مفاد «كان» التامّة لا يثبت كون الزمان من النهار أو رمضان ، فلا يمكن إحراز وقوع الصلاة أو الصوم في النهار أو شهر رمضان ، واستصحابه بنحو مفاد «كان» الناقصة لا يمكن ، لعدم وجود الحالة السابقة ، فإنّ المستصحب من أوّل وجوده وحدوثه يشكّ في كونه من النهار أو الليل من رمضان أو شوّال.

والشيخ قدس‌سره تمسّك في أمثال هذه الموارد بالاستصحاب الحكمي وأنّ الصوم أو الصلاة الأدائيّة قبل ذلك كان واجبا علينا ، ولم يكن الوجوب ساقطا

١١٣

فالآن كما كان (١).

وما أفاده وإن كان لا مانع منه من جهة بقاء الموضوع ، فإنّ الموضوع هو المكلّف إلّا أنّ الشكّ في بقاء الوجوب مسبّب عن الشكّ في كون هذا الزمان رمضان أو نهارا ، إذ لا يجب الصوم في الشوّال والليل ، فإن أثبت استصحاب الزمان ذلك ، فلا فائدة لاستصحاب الحكم ، نظير استصحاب كون المائع خمرا ، المغني عن استصحاب حرمته ، وإن لم يثبت ذلك ، فلا يثبت استصحاب وجوب الصوم أو الصلاة الأدائيّة أنّ الإمساك أو الصلاة واقع في رمضان أو قبل الغروب.

وبذلك ظهر عدم تماميّة ما أفاده شيخنا الأستاذ توجيها لكلام الشيخ قدس‌سره من إدراج المشكوك في المتعلّق واستصحاب بقاء وجوب الصوم في رمضان ووجوب الصلاة الأدائيّة وعدم سقوطه (٢) ، وذلك لأنّه لا يثبت كون الواقع صوم رمضان أو الصلاة أداء.

وأجاب عن هذا الإشكال في الكفاية بأنّا نستصحب اتّصاف الإمساك بكونه في النهار بنحو مفاد «كان» الناقصة ، ونقول : الإمساك قبل ذلك كان متّصفا بكونه في النهار والآن كما كان (٣).

ولا يخفى أنّ هذا لا يتمّ إلّا فيما إذا كان الاتّصاف ، له حالة سابقة كالمثال ، وأمّا إذا لم تكن له حالة سابقة كما إذا كان مفطرا قبل ذلك نسيانا أو عصيانا ، وهكذا في مثل صلاة الظهر والعصر ، فلا يتمّ ذلك إلّا بناء على الاستصحاب التعليقي بأن يقال : هذا الإمساك أو الصلاة لو كان قبل ذلك ، لكان

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٧٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٠٠ ـ ٤٠١.

(٣) كفاية الأصول : ٤٦٥.

١١٤

إمساكا في النهار أو كانت الصلاة أدائيّة فالآن كما كان ، لكنّ الاستصحاب التعليقي على تقدير صحّته لا يجري في الموضوعات ، بل يختصّ بالأحكام ، كما سيجيء إن شاء الله.

فالتحقيق في الجواب أن يقال : أوّلا : إنّ ما يستفاد من الأدلّة أنّ مثل الصوم والصلاة متقيّد بأمر عدمي ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «إذا زالت الشمس ، فقد دخل الوقتان» كما في رواية (١) أو «وقت الصلاتين ـ كما في أخرى ـ ثمّ أنت في وقت منهما حتى تغيب الشمس» (٢) يدلّ على أنّ الصلاة متقيّدة بأمر عدمي وهو عدم غيبوبة الشمس ، وأنّ المكلّف مختار في هذه المدّة ، أي من الزوال إلى غيبوبة الشمس ، وله أن يأتي بها في أيّ جزء منها ، ومن المعلوم أنّ غيبوبة الشمس أمر مسبوق بالعدم ، فإذا استصحبنا عدمها وأتينا بالصلاة ، فقد أتينا بالصلاة الأدائيّة بحكم الشارع ، إذ معنى قوله عليه‌السلام : «أنت في وقت منهما حتى تغيب الشمس» أنّ الصلاة أدائيّة ما لم تغرب الشمس ، فإذا أحرزنا أحد جزأي الموضوع ـ وهو الصلاة ـ بالوجدان وجزءه الآخر بالأصل ـ وهو عدم غروب الشمس ـ يلتئم الموضوع ، ويترتّب عليه حكمه من كونها أدائيّة. وعين هذا التعبير وارد في صلاتي المغرب والعشاء ، وهكذا في صلاة الصبح. ويدلّ على ذلك أدلّة الصوم ، كقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٣).

وبالجملة ، جميع هذه التعبيرات ـ من قوله عليه‌السلام : «حتى تغيب

__________________

(١) الفقيه ١ : ١٤٠ ـ ٦٤٨ ، التهذيب ٢ : ١٩ ـ ٥٤ ، الوسائل ٤ : ١٢٥ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الحديث ١.

(٢) الكافي ٣ : ٢٧٦ ، الحديث ٥ وذيله ، الوسائل ٤ : ١٣٠ ، الباب ٤ من أبواب المواقيت ، الحديث ٢١ و ٢٢.

(٣) البقرة : ١٨٧.

١١٥

الشمس» (١) أو «حتى ينتصف الليل» (٢) أو «حتى يطلع الفجر» (٣) أو «حتى تطلع الشمس» (٤) أو (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٥) ـ دالّة على أنّ المأخوذ في الواجب هو أمر عدمي ، وإذا كان كذلك ، يمكن إثبات نفس ما أخذ في الواجب بالأصل ، ولا يكون الأصل مثبتا ، ويلتئم الموضوع بضمّه إلى الوجدان.

وثانيا : نقول ـ لو سلّم كون المأخوذ في الواجب هو الأمر الوجوديّ ، بمعنى أنّ المأمور به هو الصلاة في النهار والصوم في النهار وأمثال ذلك ـ : إنّ الموضوع المركّب إن كان مركّبا من العرض ومحلّه ك «الماء الكرّ» و «زيد العالم» فحيث إنّ وجود العرض وجود رابطي ووجوده في نفسه عين وجوده في محلّه وموضوعه ، فلا يلتئم الموضوع المركّب في مثل ذلك بضمّ الوجدان إلى الأصل إلّا باستصحاب وجود العرض بنحو مفاد «كان» الناقصة بأن يقال : زيد كان متّصفا بالعلم في زمان ، وبعبارة أخرى : كان عرض العلم قائما به في زمان والآن كما كان ، إذ الارتباط بين العرض ومحلّه ذاتي وتقيّد الموضوع به واقعي ، ونعبّر عن هذا الارتباط بالاتّصاف ، إذ لا معنى لاتّصاف زيد بالعالميّة وتقيّده بالعلم إلّا قيام هذا العرض ـ الّذي هو العلم ـ به ، وفي مثل ذلك لا يلتئم الموضوع باستصحاب وجود العرض بنحو مفاد «كان» التامّة ، فلا فائدة في استصحاب وجود العلم في الدار أو وجود الكرّ في الحوض ، إذ لا يثبت بذلك أنّ زيدا الموجود فيها عالم أو الماء الموجود فيه كرّ ، والموضوع على الفرض

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٢٥٦ ـ ١٠١٥ ، الاستبصار ١ : ٢٦٠ ـ ٩٣٣ ، الوسائل ٤ : ١٥٩ ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، الحديث ٩.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٦٢ ـ ١٠٤٥ ، الاستبصار ١ : ٢٦٩ ـ ٩٧٣ ، الوسائل ٤ : ١٥٦ ـ ١٥٧ ، الباب ١٠ من أبواب المواقيت ، الحديث ٣.

(٣ و ٤) نفس المصادر في الهامش (١).

(٥) البقرة : ١٨٧.

١١٦

هو الماء المتّصف بالكرّيّة وزيد القائم به العلم ، لا وجود الماء وزيد ووجود الكريّة والعلم ولو في موضوع آخر.

وإن لم يكن كذلك ـ سواء كان مركّبا من جوهرين ، كما إذا قال : إذا وجد زيد وعمرو فتصدّق بكذا ، أو من عرضين في موضوعين ، كما إذا كان مركّبا من موت زيد وحياة أبيه أو ولده ، أو من عرضين في موضوع واحد ، كما إذا كان مركّبا من عدالة زيد وعلمه بأن يقال : زيد العالم العادل يجب إكرامه ـ فيلتئم الموضوع بضمّ الوجدان إلى استصحاب أحد الجزءين بنحو مفاد «كان» التامّة بأن نحرز عدالة زيد بالاستصحاب ونضمّها إلى ما أحرزناه بالوجدان وهو علمه ، وذلك لأنّ تقيّد أحد الجزءين في هذه الصور الثلاث لا معنى له بعد ما لم يكن ارتباط ذاتي بينهما إلّا اجتماعهما في الوجود في زمان واحد لا بمفهوم الاجتماع بل بواقعه بأن يكون الموضوع عبارة عن عدالة زيد في زمان يكون فيه عالما أيضا ، فإذا أحرزنا علمه في زمان بالوجدان واستصحبنا عدالته إلى ذلك الزمان ، يلتئم الموضوع.

نعم ، لو أعملت في الدليل عناية ، وجعل الموضوع عنوانا بسيطا منتزعا عن أمرين أو أكثر كعناوين : السبق واللحوق والاقتران والاجتماع ، فلا مجال لإثبات الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل ، إذ لا يثبت بالأصل تحقّق العنوان البسيط ولكنّ الموضوع في مثله ليس بمركّب ، بل هو أمر بسيط محقّقه أمران.

واحتمل الشيخ قدس‌سره أن تكون كذلك مسألة صحّة صلاة المأموم مع الشكّ في إدراكه ركوع الإمام ، لأنّ الموضوع هو عنوان إدراك المأموم لركوع الإمام ـ فتبطل صلاته ، لعدم إحراز هذا العنوان البسيط بضميمة الأصل إلى الوجدان ـ لا مجرّد كون الإمام راكعا والمأموم كذلك حتى يمكن ذلك (١).

__________________

(١) كتاب الصلاة : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

١١٧

وبما ذكرنا ظهر أنّ تقييد الصلاة بالطهارة وغيرها من القيود لا معنى له إلّا وجودها في زمان كون المصلّي متوضّئا بأن تجتمع طهارة النّفس أو بدن المصلّي مع الصلاة في زمان واحد بواقع الاجتماع لا بمفهومه ، وهكذا تقييد الصلاة بوقوعها في النهار لا معنى له إلّا أن تكون الصلاة والنهار مجتمعين في الوجود بأن يكون الزمان ـ وهو النهار مثلا ـ موجودا والصلاة أيضا موجودة في حال وجوده.

نعم ، لا يكونان موجودين في زمان واحد ، إذ ليس للزمان زمان ، فمن باب ضيق التعبير نعبّر باجتماعهما في الوجود ، فإذا استصحبنا النهار وأتينا الصلاة ، فقد تحقّق كلا جزأي الموضوع أحدهما بالوجدان والآخر بالأصل.

وبالجملة ، طبع الأمر بإيقاع فعل في زمان خاصّ لا يقتضي إلّا أنّ هذه الحصّة الخاصّة من الفعل ـ وهي المجتمعة مع هذا الزمان ـ مشتملة على المصلحة الإلزاميّة ، ولا ارتباط بينهما إلّا بهذا الاعتبار ، فتقيّد الواجب بالزمان ـ سواء كان بقيد وجودي كالنهار أو عدمي كعدم غروب الشمس ـ لا يمنع من التئام الموضوع المركّب بضميمة الوجدان إلى الأصل.

والسرّ في ذلك أنّ المقيّد بالزمان ليس من قبيل المركّب من العرض ومحلّه ، بل هما من قبيل عرضين في محلّ واحد ، فإنّ الصلاة من مقولة الفعل ، والزمان من مقولة متى ، وكلاهما قائم بالمكلّف.

المقام الثاني : في استصحاب الزمانيّات التدريجيّة ممّا هو كالزمان يوجد منه جزء بعد ما انعدم منه جزء آخر ، كالحركة والتكلّم وجريان الماء وسيلان الدم ونحو ذلك.

أمّا الحركة : فقد عرفت أنّها كالزمان في كون قوامها بالتصرّم والتقضّي ، فهي بين المبدأ والمنتهى موجودة واحدة حقيقة وعرفا ، فلا ريب في

١١٨

استصحاب بقائها فيما إذا علم بتحقّقها وشكّ في بقائها.

والشكّ في البقاء تارة لأجل الشكّ في وجود مانع وصارف عنها بعد إحراز مقدار استعداد منشأها ، كما إذا علم بانقداح داع لزيد للحركة من النجف إلى كربلاء ، وتحرّك ، وشكّ في بقائها ، وأخرى لأجل الشكّ في مقدار اقتضاء منشأها ، كما إذا علمنا بأنّه ركب السيّارة ، وتحرّك ، ولم نعلم أنّه بنى على أيّ مقدار من الحركة ، وثالثة لأجل الشكّ في قيام داع ومنشأ آخر لها بعد العلم بارتفاع المنشأ الأوّل.

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره بنى على جريانه في الأوّل وهكذا الثاني على القول بجريانه في الشكّ في المقتضي ، وأمّا الأخير فالتزم بعدم جريانه حتى على القول المذكور ، نظرا إلى أنّ الحركة لا بدّ لها من حافظ وحدة حتى يمكن استصحابها ، وإلّا فلا يكون من الاستصحاب ، بل من إسراء حكم من موضوع إلى آخر ، ووحدة الحركة وتعدّدها إنّما تكون بوحدة مبدئها وتعدّده ، ففي القسمين الأوّلين حيث يكون لها داع ومنشأ واحد ، فالحركة حركة واحدة يمكن استصحابها إذا شكّ في بقائها ، وأمّا في القسم الأخير فحيث لها داعيان على تقدير بقائها فحركتان إحداهما مقطوعة الارتفاع بارتفاع داعيها ، والأخرى مشكوكة الحدوث ، فلا يمكن استصحابها (١).

هذا ، والظاهر جريان الاستصحاب في جميع الأقسام ، لما عرفت من أنّ الحركة المتّصلة بين المبدأ والمنتهى حركة واحدة حقيقة ، إذ الاتّصال مساوق للوحدة ، واستناد موجود واحد حدوثا إلى سبب وبقاء إلى سبب آخر لا يجعله موجودين وشيئين ، ولذا لا يشمل دليل «من زاد في صلاته» إلى آخره ، من أراد

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٠٢ ـ ٤٠٣.

١١٩

أن يسجد في صلاته بمقدار ربع دقيقة مثلا ، ثمّ إذا سجد انقدح له داع آخر إلى تطويل سجدته ، وطوّلها ، ضرورة أنّه لا يقال : إنّه سجد سجدتين ، بل يقال : سجد سجدة واحدة طويلة.

وتوهّم أنّ الشكّ في بقاء الحركة مسبّب عن الشكّ في حدوث داع آخر غير الأوّل ، والأصل عدمه ، فلا يمكن الحكم بالبقاء ظاهر الجواب ، فإنّ استصحاب عدم حدوث داع آخر للحركة لا يثبت السكون وعدم الحركة كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية ذكر أنّه لا يضرّ تخلّل السكون في البين بما لا يخلّ بالاتّصال عرفا وإن انفصل حقيقة (١).

وفيه : أنّ الحركة إن كانت بطيئة كنموّ الشجر وحركة الإنسان من صغره إلى كبره ، فالاتّصال حقيقي أيضا ولا يصدق السكون على شيء منها لا حقيقة ولا عرفا.

وإن كان المراد تخلّل ما يصدق عليه السكون ، فهو يضرّ بالوحدة العرفية ، كما إذا علم بسكون المتحرّك بوقوعه على الأرض بمقدار آن ، فلا وجه للاستصحاب بعد العلم بارتفاع الحركة وانقلابها إلى ضدّها.

ومن هنا ظهر عدم تماميّة ما أفاده بعض من عاصرناه وأصرّ عليه من صحّة استصحاب الماء الجاري من التلمبات المتّصلة بمبدإ من شط أو غيره ولا يضرّ انقطاعها في البين بالاتّصال العرفي.

وذلك لأنّ عدم رؤية العرف الانقطاع من جهة سرعة حركة الدولاب لا يفيد شيئا ، فإنّهم يحكمون بالاتّصال من جهة جهلهم وعدم إدراكهم

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٦٤.

١٢٠