الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

قاضيا» أو «واليا» فليس من الحكم الوضعي (١).

وما أفاده قدس‌سره من الفرق إن كان مجرّد اصطلاح ، فلا مناقشة فيه ، وإن كان من جهة أنّ تحته مطلبا ، فليس الأمر كذلك ، فإنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اخرجوا مع جيش أسامة» (٢) أمر مولوي تجب بحكم العقل إطاعته مع أنّه شخصي متوجّه إلى أولئك الثلاثة دون سائر المسلمين ، وهكذا بالقياس إلى الحكم الوضعي ، فكما يمكن أن يكون الحكم تكليفيّا أو وضعيّا مجعولا بنحو القضيّة الحقيقيّة كذلك يمكن أن يكون مجعولا بنحو القضيّة الشخصيّة.

فتحصّل من جميع ما ذكر أنّ الأحكام الوضعيّة كلّها مجعولة إمّا مستقلّة أو تبعا ، ولا مانع من استصحابها.

نعم ، الحكم الوضعي المجعول تبعا ـ كالجزئيّة والشرطيّة ونحوهما ـ لا فائدة في استصحابه ، لوجود الأصل الحاكم في مورده دائما ، وهو الاستصحاب في طرف منشأ انتزاعه الّذي هو الأمر بالمركّب ، فإذا شكّ في بقاء شرطيّة الوضوء للصلاة مثلا وعدمه ، فاستصحاب بقاء الإيجاب المتعلّق بالصلاة المتقيّدة بالطهارة حاكم على استصحاب بقاء الشرطيّة ، لكونها منتزعة عن ذلك الأمر ، وقد يعبّر من جهة سهولة التعبير باستصحاب الشرطيّة.

ولا يخفى أنّ الشرطيّة أو الجزئيّة بعد هذا الاستصحاب جزئيّة ظاهريّة وشرطيّة كذلك ، كما أنّ الأمر بالمقيّد بالطهارة أو المركّب من السورة وغيرها أمر ظاهري.

ومن مطاوي ما ذكرنا ظهر أنّ شيئا من التفاصيل المذكورة التي منها التفصيل بين الحكم الوضعي وغيره لا يرجع إلى محصّل ، والتحقيق ما اخترناه

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٨٣.

(٢) انظر تاريخ الطبري ٢ : ١٨٦ ، والسيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٤ : ٣٠٠ ، نقلا بالمعنى.

٨١

من التفصيل.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأوّل : قد تقدّم الفرق بين القواعد الثلاث : قاعدة الاستصحاب ، وقاعدة اليقين ، وقاعدة المقتضي والمانع ، وأنّ قوام الاستصحاب باتّحاد زماني الشكّ واليقين بمعنى أنّه لا بدّ من زمان يكون المكلّف فيه شاكّا ومتيقّنا حتى يمكنه أن يمضي على يقينه ، ولا يرفع اليد عنه لشكّه ، فكلّما كان للمكلّف في زمان واحد يقين وشكّ متّحدان في المتعلّق ذاتا دون زمانا ، يجري الاستصحاب ، سواء كان اليقين سابقا على الشكّ حدوثا أو مقارنا أو متأخّرا ، وسواء كان اليقين متعلّقا بوجود شيء سابقا والشكّ متعلّقا ببقائه إلى الآن أو كان اليقين متعلّقا بشيء كحياة زيد ـ مثلا ـ فعلا وشكّ في أنّه باق إلى غد أم لا ، وذلك من جهة إطلاق أدلّة الاستصحاب ، ولم نر أحدا تعرّض لذلك.

نعم ، نسب شيخنا الأستاذ قدس‌سره في بحث المقدّمات المفوّتة لمناسبة إنكار هذا الاستصحاب إلى صاحب الجواهر (١).

وكيف كان فلا إشكال في شمول الروايات لذلك أيضا إذا كان للمستصحب أثر فعلا ، لا ما لا يكون له أثر ، فإنّه لا يجري الاستصحاب من جهة اللغويّة ، وتترتّب على ذلك فروع كثيرة في الفقه :

منها : مسألة جواز البدار لذوي الأعذار ، فيكون البدار على هذا على القاعدة ، فمن يكون عاجزا عن الصلاة قائما عند الزوال ، يستصحب عجزه إلى الغروب ، فيفرض نفسه متيقّنا بالعجز إلى الغروب ، ويعمل عمل المتيقّن ، ولو لا ذلك لكان البدار تشريعا ، لعدم جواز الصلاة قاعدا لمن لم يحرز عجزه

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٥٨.

٨٢

في مجموع الوقت ، لاحتمال رفع عجزه وتمكّنه من الإتيان بالصلاة قائما فيما بين الحدّين.

نعم ، استفدنا من الروايات عدم جواز البدار في خصوص التيمّم على عكس صاحب العروة ، حيث أفتى بالجواز في التيمّم وبعدمه في غيره (١).

وبالجملة ، القاعدة تقتضي ـ لو لا الدليل الخاصّ ـ جواز البدار.

التنبيه الثاني : تعتبر في الاستصحاب فعليّة موضوعه ، وهو اليقين والشكّ ، كما هو شأن كلّ قضيّة حقيقيّة ، فإنّها ترجع إلى قضيّة مشروطة مقدّمها وجود موضوعها وتاليها ثبوت المحمول له ، فما لم يصر الموضوع فعليّا ، لم يصر الحكم فعليّا ، فلو فرض انتفاء اليقين والشكّ أو انتفاء أحدهما ، لا يجري الاستصحاب ، ولا يكفي وجودهما تقديرا ، بمعنى أنّ المكلّف كان بحيث لو التفت كان يحصل له اليقين والشكّ ، كما لا يكفي وجود الشكّ التقديري للحكم بالبناء على الأكثر في الشكّ بين الثلاث والأربع ، ففي موارد الغفلة لا مورد لجريان الاستصحاب ولو كان اليقين والشكّ حاصلين على تقدير الالتفات.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره فرّع على ذلك فرعين :

أحدهما : أنّه لو تيقّن بالحدث ثمّ غفل وصلّى فشكّ بعد الفراغ أنّه هل توضّأ قبل الصلاة أو لا؟ فله شكّان : شكّ تقديري في حال قبل الفراغ عن الصلاة ، وشكّ فعلي في حال الفراغ ، والشكّ الأوّل ليس موضوعا للاستصحاب ، والثاني وإن كان موضوعا للاستصحاب إلّا أنّ قاعدة الفراغ حيث وردت في مورد الاستصحاب حاكمة عليه ، فيحكم بصحّة الصلاة من هذه

__________________

(١) العروة الوثقى : المسألة ٣ من أحكام التيمّم ، والمسألة ٢٢ من أحكام القيام.

٨٣

الجهة.

والثاني : أنّه لو تيقّن بالحدث وشكّ في بقائه وصلّى بعد ما غفل عن ذلك ، فإنّ كان يقطع بعدم وضوئه بعد ما شكّ قبل الصلاة ، يحكم ببطلان صلاته ، لعدم جريان القاعدة في مورد اقتضاء أصل آخر بطلان الصلاة قبلها أو حالها ، والاستصحاب قبل دخوله في الصلاة جرى في حقّه من حيث تحقّق موضوعه ، فكان قبل الصلاة محكوما بالحدث ، وإن كان يحتمل التوضّؤ بعد ما شكّ قبل الصلاة ، فتجري القاعدة ، فإنّه شكّ آخر غير الشكّ الأوّل الّذي قلنا بعدم جريان قاعدة الفراغ بالقياس إليه (١).

هذا ، وفي كلا التفريعين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ القاعدة وإن كانت مقدّمة ـ فيما جرت ـ على الاستصحاب إمّا حكومة ـ كما هو التحقيق ـ أو تخصيصا على وجه ضعيف إلّا أنّها لو كانت أمارة ـ كما استظهرناه من قوله عليه‌السلام : «بلى قد ركعت» (٢) وقوله عليه‌السلام : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٣) وقوله عليه‌السلام مضمونا : «هو حينما صلّى أقرب إلى الواقع أو الحقّ من حين الفراغ» (٤) وهو أيضا مقتضى طبع الفاعل الّذي بصدد الإتيان ، فإنّ الإخلال العمدي خلاف ظاهر من يكون بصدد الإتيان تامّا ، والإخلال السهوي أيضا خلاف الأصل ، وكثيرا ما ينسى الإنسان ما تعشّى أو تغدّى به قبل يومين بحيث لو سئل يبقى شاكّا مع كونه ملتفتا

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٢١ ـ ٣٢٢.

(٢) التهذيب ٢ : ١٥١ ـ ٥٩٢ ، الاستبصار ١ : ٣٥٧ ـ ١٣٥٤ ، الوسائل ٦ : ٣١٧ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

(٣) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٥ ، الوسائل ١ : ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

(٤) الفقيه ١ : ٢٣١ ـ ١٠٢٧ ، الوسائل ٨ : ٢٤٦ ، الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٨٤

إلى ذلك حال عشائه أو غدائه ـ فلا مورد لقاعدة الفراغ أصلا ، إذ هو يعلم بأنّه كان غافلا حين العمل ، ولا يحتمل كونه في مقام إتيان العمل صحيحا ، فهذا المورد مورد للاستصحاب ، للشكّ الفعلي في بقاء الحدث المتيقّن سابقا ، فيستصحب بقاؤه ويحكم ببطلان الصلاة ، ولا حكومة للقاعدة عليه بالبديهة ، لأنّ حكومتها عليه فيما جرت لا فيما لم تجر.

وإن بنينا على عدم أماريّتها ، وأنّها جارية حتى في موارد الغفلة بحيث يكفي احتمال مصادفة المأتيّ به للمأمور به اتّفاقا ، فالقاعدة حاكمة على الاستصحاب ولو فرضنا أن موضوعه هو الأعمّ من الشكّ التقديري والفعلي ، إذ القاعدة على ذلك واردة مورد الشكّ التقديري ، لأنّه موجود في جميع موارد الغفلة ، فصحّة الصلاة في هذا الفرع مبنيّة على أماريّة القاعدة وعدمها لا غير.

وأمّا الفرع الثاني : فلأنّ الحدث الاستصحابي باق ببقاء موضوع الاستصحاب ، وهو اليقين والشكّ ، ويزول بزواله ، فحيث زال الشكّ في بقاء الحدث قبل الصلاة ، فزال الحكم الاستصحابي أيضا ، وهو الحدث ، فلا يكون بطلان الصلاة مستندا إليه ، بل بطلانها من جهة أنّ قاعدة الفراغ غير جارية ، لأنّ ظاهر أدلّتها جريانها في مورد حدوث الشكّ بعد الفراغ ، والشكّ في بقاء الحدث وإن كان بالدقّة العقليّة حادثا بعد الصلاة ، وكان الحادث بعد الصلاة فردا آخر من الشكّ غير ما حدث قبل الصلاة وزال إلّا أنّ هذا الشكّ في نظر العرف هو عين الشكّ السابق لا أمر مغاير له ، فلا تشمله أدلّة القاعدة ، ولا يكون موردا لها.

نعم ، ما أفاده من جريان القاعدة في صورة احتمال الوضوء بعد الشكّ في الحدث متين جدّاً.

التنبيه الثالث : في أنّ الاستصحاب هل يجري فيما ثبت بأمارة أو أصل

٨٥

وشكّ في بقائه أو لا؟ ومنشأ الإشكال أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب ، وأنّ الأمارة أو الأصل لا يحصل اليقين بمقتضاه حتى يستصحب بقاؤه عند الشكّ فيه ، فإذا أخبرت البيّنة بطهارة شيء ، أو استصحبت طهارته ، أو حكم بطهارته بقاعدة الطهارة ، فهل يمكن استصحاب هذه الطهارة الثابتة بإخبار البيّنة ، أو الاستصحاب ، أو قاعدة الطهارة عند الشكّ في بقائها لأجل احتمال ملاقاته للبول مثلا أو لا؟

وهذا الإشكال مبنيّ على ما هو المعروف من أنّ حجّيّة الأمارات من باب الطريقيّة ، وأنّها توجب تنجّز الواقع على تقدير ثبوته ، فإنّ مؤدّى الأمارة لم يتعلّق اليقين بحدوثه حتى يشمله عند الشكّ «لا تنقض اليقين بالشكّ» بل يجري هذا الإشكال على مبنى السببيّة أيضا على وجه ، فإنّ السببيّة يمكن تصويرها على وجهين :

أحدهما : كون قيام الأمارة سببا لحدوث المصلحة في ذات الفعل بحيث يكون قيام الأمارة واسطة في الثبوت ، فيكون حدوث تلك المصلحة موجبا لجعل الحكم على طبقها ظاهرا ، وعلى هذا الوجه لا إشكال في استصحاب حكم ثبت بالأمارة في زمان وشكّ في بقائه ، فإنّ الحكم الظاهري متيقّن الثبوت مشكوك البقاء ، فأركان الاستصحاب تامّة تشملها أدلّته.

وثانيهما : أن يكون قيام الأمارة سببا لحدوث المصلحة في الفعل بعنوان أنّه مؤدّى الأمارة بحيث يكون قيام الأمارة واسطة في العروض ، فلقيام الأمارة دخل في ثبوت الحكم الظاهري على هذا ، فإذا شكّ في بقاء ما أدّى إليه الأمارة لا يمكن استصحاب ما ثبت ، فإنّه زال بزوال الأمارة ، إذ المفروض تقوّمه بعنوان قيام الأمارة الزائل حين الشكّ ، نظير الشكّ في بقاء نجاسة الغسالة ـ الثابتة في حقّ المقلّد بإفتاء مجتهده بنجاستها ـ بعد ما رجع المجتهد عن فتواه ،

٨٦

فإنّها كانت نجسة بما أنّها مفتى بها ، فلا مجال لاستصحابها بعد ما رجع المفتي عن فتواه ، لأنّه إسراء حكم من موضوع إلى موضوع آخر ، لعدم وجود حالة سابقة متيقّنة للمشكوك بعنوانه حتى يمكن استصحابه ، بل المشكوك كان محكوما بحكم النجاسة لا بعنوانه بل بعنوان أنّه مفتى به.

وبالجملة ، الإشكال جار على مبنى الطريقيّة والسببيّة على الوجه الثاني.

وقد تصدّى لدفع هذا الإشكال صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ أدلّة الاستصحاب ناظرة إلى مرحلة البقاء ، وتثبت الملازمة بين الحدوث والبقاء ، وأنّ ما ثبت يدوم. وبعبارة أخرى : دليل الاستصحاب منجّز بقاء ، كما أنّ الأمارة منجّزة للواقع على تقدير ثبوته حدوثا ، فعند قيام الأمارة على الحدوث وتنجّز الواقع حدوثا بدليل الأمارة يثبت تنجّزه بقاء أيضا بدليل الاستصحاب.

والحاصل : أنّ احتمال الثبوت احتمالا منجّزا كاف في الاستصحاب ، فكما أنّ الشارع إذا أثبت الملازمة بين وجوب القصر ووجوب الإفطار بقوله : «إذا قصّرت أفطرت وإذا أفطرت قصّرت» وقام دليل على وجوب القصر في موضع خاصّ ، نحكم بوجوب الإفطار أيضا بمقتضى تلك الملازمة التعبّديّة كذلك في المقام إذا قامت أمارة على حكم وشكّ في بقائه على تقدير ثبوته ، يحكم بالبقاء بمقتضى تلك الملازمة التعبّديّة التي أثبتها الشارع بين الحدوث والبقاء ، إذا المنجّز للملزوم أو الملازم منجّز للّازم أو الملازم أيضا إذا كانت الملازمة شرعيّة.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ اليقين أخذ في موضوع الاستصحاب ، فكيف يستصحب ما لا يكون المكلّف على يقين من حدوثه!؟

وأجاب عنه بأنّ اليقين أخذ في موضوع الاستصحاب بما أنّه طريق إلى

٨٧

الواقع ، نظير التبيّن في قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ)(١) فقوله عليه‌السلام : «اليقين لا ينقض» أو «لا يدفع بالشكّ» (٢) عبارة أخرى عن أنّ ما ثبت يدوم ، كما أنّ الآية عبارة أخرى عن «حتى يطلع الفجر» (٣). هذا حاصل ما أفاده بتوضيح منّا.

والظاهر أنّه لا يمكن تتميمه وإصلاحه ، إذ يرد عليه : أوّلا : أنّه مخالف لظواهر الأخبار ، فإنّ ظاهر «اليقين لا ينقض» أو «لا يدفع بالشكّ» أنّه لا ترفع اليد عن اليقين الّذي هو أمر مبرم من حيث الجري العملي بواسطة الشكّ الّذي هو أمر غير مبرم ، وبذلك صحّ هو قدس‌سره عناية إسناد النقض إلى اليقين ، والقول بأنّ معناه أنّ ما ثبت يدوم ، إلغاء لليقين والشكّ بالمرّة.

وثانيا : إن كان المراد جعل الملازمة الظاهريّة ـ كما هو ظاهر كلامه قدس‌سره ـ بمعنى أنّ الشارع جعل المنجّز للحدوث منجّزا للبقاء ، فلازمه جريان الاستصحاب فيما إذا تنجّزت نجاسة أحد الشيئين بالعلم الإجمالي ، وانحلّ بالعلم التفصيليّ بنجاسة أحدهما المعيّن ، إذ الطرف الآخر كان له منجّز حدوثا ، فتستصحب نجاسته المنجّزة على تقدير ثبوتها ، بل لازمه أن لا يكون إشكال بعض المحدّثين ـ من عدم جريان أصل البراءة في الشبهات الحكميّة ، للعلم الإجمالي بوجود تكاليف يحتمل أن يكون المشتبه أحدها ـ قابلا للدفع ، إذ دفع الإشكال بالانحلال بالظفر بمقدار المعلوم بالإجمال ليس له مجال بعد ما كان لها منجّز حدوثا ، بل لا بدّ من استصحاب ما كان منجّزا على تقدير ثبوته ، ويكون

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) الإرشاد ـ للمفيد ـ ١ : ٣٠٢ ، مستدرك الوسائل ١ : ٢٢٨ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٤.

(٣) كفاية الأصول : ٤٦٠ ـ ٤٦١.

٨٨

حال هذا العلم الإجمالي حال العلم الإجمالي الّذي فقد بعض أطرافه في عدم سقوطه عن المنجّزيّة ، وهكذا لازمه الالتزام بقاعدة اليقين ، فلو تيقّنّا بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شككنا في عدالته في ذلك اليوم ، فاليقين الّذي كان منجّزا للحدوث يكون منجّزا للبقاء أيضا.

وإن كان المراد الملازمة الواقعيّة ، فإمّا أن تكون تلك إخبارا عن أنّ كلّ ما ثبت يدوم ، فهو خلاف الواقع ، ولا يحتمل في نفسه ولا في كلامه قدس‌سره. وإمّا أن تكون إنشاء وجعلا للملازمة بين حدوث الحكم الواقعي وبقائه ، فلازمه كون الاستصحاب من الأمارات ، فإنّ مفاده على هذا إبقاء ما ثبت واقعا بحيث لو دلّ دليل آخر على عدم البقاء يكون معارضا بالاستصحاب.

فالتحقيق في الجواب عن الإشكال أن يقال : إنّ الكلام تارة يقع في الأصول المحرزة وغير المحرزة ، وأخرى في الأمارات.

أمّا الأصول فالحقّ فيها هو التفصيل بين ما كان متعرّضا للبقاء ، وما لم يكن كذلك.

فإن كان متعرّضا للبقاء كالطهارة أو الحلّيّة الثابتة بأصالة الطهارة ، وأصالة الحلّ للثوب أو المائع المحتملة خمريته ، فلا يجري الاستصحاب ، فإنّ مقتضى قوله عليه‌السلام : «كلّ شيء نظيف» (١) أو «كلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه قذر» أو «تعرف أنّه حرام بعينه» (٢) أنّ هذا الحكم الظاهري من الحلّيّة أو الطهارة حكم مستمرّ إلى زمان حصول العلم بخلافه ، فغاية هذا الحكم الظاهري المستمرّ هي حصول العلم بالخلاف ، كما أنّ غاية الحكم الواقعي المستمرّ المستفاد من قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(٣) هي دخول الليل ،

__________________

(١ و ٢) تقدّم تخريجهما في ص ٦٣ ، الهامش (١) و (٣).

(٣) البقرة : ١٨٧.

٨٩

فإذا حكمنا بطهارة الثوب وحلّيّة المائع بأصالتي الطهارة والحلّ ثمّ بعد ذلك شككنا في عروض النجاسة للثوب أو الحرمة للمائع بموجب آخر ، نحكم ببقاء الطهارة والحلّيّة بنفس أصالة الطهارة وقاعدة الحلّ ، لعدم حصول الغاية ، فإنّ رافع هذا الحكم الظاهري وغايته ليس إلّا العلم بالخلاف ، فيبقى الحكم ما لم تحصل غايته ـ ولو شكّ مرّات عديدة في عروض ما يوجب النجاسة أو الحرمة ـ ولا يكون بعد ذلك موضوع للاستصحاب ، لعدم الشكّ في البقاء.

ودعوى أنّ الاستصحاب حاكم على أصالتي الحلّ والطهارة ، فمع جريان الاستصحاب لا يبقى مجال للأصل المحكوم ، لا معنى لها ، إذ حكومة الاستصحاب في فرض تماميّة أركانه ، وجريانه ، لا في مثل المقام الّذي يقطع ببقاء ما كان من الطهارة والحلّيّة.

وهكذا الكلام في الحكم أو الموضوع الظاهري الّذي ثبت بالاستصحاب ، فإنّ غاية دليل الاستصحاب أيضا هي العلم ، فالمجعول هو حكم ظاهري مستمرّ لا يرتفع إلّا بالعلم ، فلا معنى لاستصحاب الطهارة المستصحبة بالشكّ في عروض ما يوجب زوالها ثانيا ، أو الحياة المستصحبة بذلك ، لتكفّل نفس الاستصحاب الأوّل للبقاء إلى حصول العلم بالخلاف ، والفرض عدمه.

وإن لم يكن الأصل متعرّضا للبقاء ، فيستصحب ما ثبت بالأصل ، كما إذا غسلنا ثوبنا بالماء الطاهر بقاعدة الطهارة أو الاستصحاب ثمّ شككنا ـ بعد طهارة الثوب بمقتضى ضمّ الوجدان إلى الأصل ـ في عروض ما يوجب نجاسته ، نستصحب بقاء تلك الطهارة ، وذلك لأنّ استصحاب طهارة الماء أو أصالة طهارته لا يكون متعرّضا إلّا لحدوث طهارة الثوب المغسول به ، لا لحدوثها وبقائها ، فنحتاج في إثبات بقائها مع الشكّ إلى الاستصحاب.

٩٠

وهذا الكلام جار في جميع آثار الأصول ، التي يشكّ في عروض موجب لزوالها ، فيستصحب بقاء ملكيّة المشتري للمبيع المنتقل إليه بمقتضى استصحاب ملكيّة البائع ، ويستصحب بقاء ملكيّة من ورث باستصحاب حياته إذا شكّ في عروض ما يوجب زوال ذلك ، وهكذا.

فاتّضح أنّ مؤدّى الأصول إمّا لا يجري فيه الاستصحاب ، أو يجري وتكون أركانه تامّة من اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء.

وأمّا الأمارات فإن بنينا على ما بنى عليه صاحب الكفاية قدس‌سره من أنّ المجعول في باب الأمارات هو التنجيز والتعذير (١) ، نبقى في الإشكال ، ولا يمكننا دفعه ، لأنّ قيام الأمارة على هذا لا يوجب اليقين بالمؤدّى ، فلا يقين بالحدوث ، ولا شكّ في البقاء أيضا ، فإنّه على تقدير لم يثبت ، وقد عرفت أنّ ما أجاب به لا يرفع غائلة الإشكال.

ولكن إن بنينا على ما هو التحقيق من كون المجعول فيها هو العلم والواسطيّة في الإثبات ، فيرتفع الإشكال من أصله ، فإنّ العلم حينئذ له فردان : تكويني ، وتشريعي ، وفي مورد الأمارة وإن لم يكن علم تكويني ويقين وجداني إلّا أنّ اليقين التشريعي موجود ، فإذا شكّ في بقاء المتيقّن ، يتمّ كلا ركني الاستصحاب.

وقد أثبتنا في مبحث القطع (٢) مفصّلا أنّ التنجيز غير قابل للجعل.

وإجماله : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة غير قابلة للتخصيص ، ولا يمكن أن يقال : إنّ العقاب بلا بيان في المورد الفلاني غير قبيح ، فلا يمكن جعل شيء منجّزا إذا لم يكن بيانا للواقع لتكون القاعدة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٩ ، حاشية فرائد الأصول : ٤١.

(٢) راجع ج ٣ ص ٥٠ ـ ٥٢.

٩١

مخصّصة به ، بل لا بدّ في ذلك من التصرّف في موضوع القاعدة ، وجعل ما لا يكون بيانا علما وبيانا تشريعا كي يكون خروجه عن القاعدة من باب التخصّص لا التخصيص ، فالأمارة علم في نظر الشارع واعتباره وإن لم يكن كذلك تكوينا ، كما أنّ العصير العنبي إذا غلى خمر في اعتبار الشارع ، كما يستفاد من قوله عليه‌السلام : «تلك الخمرة المنتنة» (١) فجميع ما يترتّب على العلم الوجداني من الآثار تترتّب على الأمارة أيضا ، ومن الآثار كونه موضوعا لحرمة النقض ، فإنّه من آثار نفس اليقين ، بل ترتّب آثار نفس اليقين على الأمارة أولى من ترتّب آثار المتيقّن ، الّذي يكون من جهة محرزيّة الأمارة وكاشفيتها عن الواقع ، فكيف لا تترتّب عليها آثار نفس الإحراز والكشف!؟

ولا يحتاج هذا إلى دليل آخر ، مضافا إلى ظهور قوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (٢) وقوله عليه‌السلام : «ما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» (٣) في ذلك ، وأنّ مثل هذه الطرق من البيّنة العادلة أو خبر الثقة علم في اعتبار العقلاء أيضا.

وبالجملة ، التنجّز من لوازم وصول التكليف وبيانه عقلا ، فما لم يتحقّق البيان وجدانا أو تعبّدا لا تنجّز ، فما لم يعط الشارع الأمارة صفة الطريقيّة والكاشفيّة والوسطيّة في الإثبات لا تكون منجّزة ، فإذا كانت الأمارة طريقا وعلما وبيانا ويقينا تعبّدا ، فلا إشكال في استصحاب ما أدّت إليه عند الشكّ في

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٥٠ ـ ٦ ، و ٦ : ٤١٦ ـ ٣ ، التهذيب ١ : ٢٢٠ ـ ٦٢٩ ، الوسائل ١ : ٢٠٣ ، الباب ٢ من أبواب الماء المضاف ، الحديث ٢.

(٢) اختيار معرفة الرّجال : ٥٣٥ ـ ٥٣٦ ـ ١٠٢٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٣) الكافي ١ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠ ـ ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

٩٢

بقائه ، ولا يلزم من ذلك اجتماع اللحاظين في استعمال واحد كما ذكره في الكفاية في مبحث القطع (١) ، فإنّه يلزم لو كان دليل الأمارة متكفّلا للتنزيل ، وقد مرّ هناك أنّه لا تنزيل أصلا ، بل دليل الأمارة يجعلها علما تعبّدا ، ويعطيها صفة الطريقيّة والوسطيّة في الإثبات ، فيتحقّق بذلك مصداق آخر للعلم وهو الأمارة ، وتترتّب عليها آثاره ، كما لا إشكال في وجوب النقض بالأمارة المؤدّية إلى خلاف الحالة السابقة ، وليس لأحد أن يقول : لا يجوز لك أن تنقض اليقين بطهارة ثوبك مثلا إلّا باليقين ، والبيّنة القائمة على نجاسته ليست من اليقين.

التنبيه الرابع : المستصحب إمّا شخصي أو كلّي. والمراد بالشخصي ما كان لخصوصيّاته دخل في ترتّب الأثر المرغوب منه شرعا ، كما أنّ المراد بالكلّي ما كان ملغاة عنه الخصوصيّات ، ولم يكن لها دخل في الأثر المطلوب منه ، سواء كان من الموجودات المتأصّلة ، كالجواهر والأعراض المسمّاة بالمقولات العشر ، أو من العناوين الانتزاعيّة ، كعنوان العالم والعادل وغير ذلك ، ولا يبتني هذا البحث على وجود الكلّي الطبيعي ، بل لو قلنا بعدم ذلك أيضا ، يجري البحث ، بل المقصود استصحاب ما كان له أثر شرعي ، ولا يكون للخصوصيّة الفرديّة دخل في هذا الأثر ، مثلا : حرمة مسّ كتابة القرآن أثر مشترك بين الحدث الأكبر والأصغر ، وخصوصيّة الأكبريّة والأصغريّة لا دخل لها في ترتّب هذا الأثر ، والغرض صدق نقض اليقين بالشكّ إذا كان هذا الأمر متيقّن الحدوث مشكوك البقاء ، كان الكلّي الطبيعي موجودا في الخارج أو لم يكن ، وليس البحث بحثا فلسفيّا مبنيّا على ذلك ، بل البحث أصولي مبنيّ على صدق نقض اليقين بالشكّ عرفا ، فلو فرض عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٠٦.

٩٣

فهو بحسب الدقّة العقليّة الفلسفيّة ، لا بالنظر العرفي الّذي هو المتّبع هنا ، وهم يحكمون بأنّ الإنسان موجود ، ولذا يقال : «رأيت إنسانا» كما يقال : «رأيت عالما» مع أنّ العالم وغيره من العناوين الاشتقاقيّة عنوان انتزاعي ليس له غير وجود منشأ انتزاعه ـ وهو وجود الجوهر والعرض ـ وجود ثالث.

وبالجملة ، ما له الأثر أو نفس الأثر إذا كان ثابتا ـ بأيّ نحو من الثبوت ـ وشكّ في بقائه يشمله «لا تنقض اليقين بالشكّ» سواء في ذلك ، الوجود المتأصّل وبالعرض.

وبعد ذلك نقول : إنّ استصحاب الكلّي يتصوّر على أقسام أربعة :

الأوّل : ما كان متحقّقا في ضمن فرد معيّن شخصي باعتبار ترتّب أثر خاصّ على نفس الكلّي من دون مدخليّة الخصوصيّة الفرديّة فيه ، كاستصحاب طبيعيّ الحدث فيما إذا تيقّن أحد بالجنابة وشكّ في اغتساله منها ، فإنّ خصوصيّة كون الحدث حدث جنابة لا دخل لها في ترتّب أثر عدم جواز مسّ كتابة القرآن أصلا ، فلا معنى لاستصحاب خصوص الجنابة لترتيب هذا الأثر ، ولا بدّ من استصحاب كلّي الحدث المتيقّن سابقا ، كما أنّ استصحاب طبيعيّ الحدث لا معنى له لترتيب أثر عدم جواز اللبث في المساجد ، فإنّه أثر لخصوص حدث الجنابة لا كلّي الحدث وطبيعيّة.

الثاني : استصحاب ما كان متحقّقا في ضمن الفرد المردّد بين كونه مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، كما إذا خرجت منه رطوبة مردّدة بين البول والمنيّ ، فإن كانت بولا ، يرتفع بالوضوء قطعا ، وإن كانت منيّا ، لا يرتفع قطعا ، ويلحق بذلك ما كان متحقّقا في ضمن الفرد المردّد بين مقطوع الارتفاع ومحتمل البقاء ، كما إذا علم بوجود إنسان في الدار ونشكّ في أنّه كان زيدا حتى لا يبقى قطعا ، لأنّا نراه خارج الدار الآن ، أو كان عمرا حتى يحتمل بقاؤه

٩٤

وخروجه. ولم يذكره الشيخ وصاحب الكفاية قدس‌سرهما ، والمحتمل بل الظاهر أنّ اقتصارهما على مقطوع البقاء من باب التمثيل ، وإلّا فالمناط هو الشكّ في البقاء ، الموجود على كلّ تقدير.

الثالث : ما كان متحقّقا في ضمن فرد قطع بارتفاعه لكن شكّ في بقاء الكلّي من جهة احتمال تحقّق فرد آخر مقارنا مع وجوده أو مقارنا لارتفاعه ، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وعلمنا أيضا بخروجه ولكن نحتمل أنّ عمرا أيضا كان موجودا فيها ، أو لم يكن ولكن دخل فيها عند خروج زيد منها بحيث لم تخل الدار زمانا من وجود إنسان فيها.

الرابع ـ وهو المتوسّط بين الثاني والثالث ـ : ما كان متحقّقا في ضمن فرد مقطوع الارتفاع ، ولكن يعلم بوجود فرد معنون بعنوان يحتمل كونه نفس ذلك الفرد حتى كان مقطوع الارتفاع أو هو فرد آخر مغاير له حتى كان مقطوع البقاء ، كما إذا علم بحدوث جنابة ليلة الخميس ثمّ بعد ذلك رأى منيّا في ثوبه وشكّ في أنّه من تلك الجنابة أو من جنابة أخرى غيرها ، وكما إذا علمنا بوجود متكلّم في الدار وشككنا في بقاء كلّي المتكلّم من جهة أنّا نرى زيدا خارجها ونحتمل أنّه هو المتكلّم فيها ، الّذي كنّا نسمع صوته قبل ذلك ، ونحتمل كون المتكلّم شخصا آخر غيره.

والفرق بينه وبين الثاني هو أنّ اليقين في القسم الثاني تعلّق بعنوان واحد مردّد ، وفي هذا القسم تعلّق بعنوانين : أحدهما بحدوث الجنابة ليلة الخميس ، والآخر بوجود سبب الجنابة في الثوب وهو المنيّ ، وإلّا فكلّ من القسمين مشترك في أنّ الكلّي مقطوع البقاء على تقدير ، ومقطوع الارتفاع على تقدير آخر.

كما أنّ الفرق بينه وبين الثالث هو أنّ احتمال فرد آخر من الكلّي في القسم

٩٥

الثالث وبقاء الكلّي بسببه مقرون بالقطع بكونه فردا آخر مغايرا لما تحقّق الكلّي في ضمنه أوّلا ، بخلاف احتمال وجود فرد آخر من الكلّي في هذا القسم ، فإنّه غير مقرون بهذا القطع ، بل يحتمل كونه عين ذلك الفرد الّذي تحقّق الكلّي في ضمنه ، والأمر المشترك بين هذين القسمين هو احتمال البقاء لاحتمال وجود فرد آخر للكلّي.

ولا يخفى أنّ هذا القسم الأخير مستدرك من كلام الشيخ قدس‌سره ، فإنّه قسّم استصحاب الكلّي إلى ثلاثة أقسام (١).

وكيف كان ، فلا إشكال في جريان استصحاب الكلّي في القسم الأوّل ، وصدق نقض اليقين بالشكّ بالنسبة إلى الكلّي المتحقّق في ضمن الفرد الخاصّ كصدقه على اليقين والشكّ المتعلّقين بنفس الخاصّ بخصوصيته ، فيجري استصحاب الكلّي المتحقّق في ضمنه إذا ترتّب أثر على نفس الكلّي من دون مدخلية للخصوصيّة.

وكذا لا إشكال في جريان الاستصحاب في القسم الثاني لترتيب آثار الكلّي ، فيستصحب بقاء الحدث وتترتّب عليه حرمة مسّ كتابة القرآن بمقتضى قوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(٢).

ولا بأس بتسمية هذا باستصحاب الفرد المردّد كما عبّر به السيّد في حاشية المكاسب (٣) ولا يرد عليه أنّ الفرد المردّد لا وجود له ذاتا لا ظاهرا ولا واقعا ، فإنّ المقصود الفرد المردّد عندنا المعلوم عند الله تعالى ، وهذا عنوان مشير إلى تلك الحصّة من الحدث ، المتخصّصة بخصوصيّة مجهولة لنا نظير

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٧١.

(٢) الواقعة : ٧٩.

(٣) حاشية صاحب العروة على المكاسب : ٧٣.

٩٦

عنوان «من يدقّ الباب».

هذا ، وقد استشكل في هذا الاستصحاب بأنّ الشكّ في بقاء الكلّي وارتفاعه ناش ومسبّب عن احتمال حدوث الحدث الأكبر وعدمه ، ضرورة أنّا لو كنّا قاطعين بعدم حدوثه ، لم يكن لنا شكّ في بقاء الحدث بعد ما توضّأنا ، فإذا ارتفع احتمال حدوث الأكبر بالأصل ، وضممنا هذا الأصل بالوجدان وهو الوضوء ، نقطع بارتفاع الحدث وعدم بقائه.

وفيه أوّلا : أنّ الشكّ في البقاء لا يكون مسبّبا عن احتمال حدوث الأكبر ، بل مسبّب عن الشكّ في صفة الحادث ، وكونه هو الأكبر أو الأصغر ، وذلك لأنّ الحدوث عبارة عن الوجود بعد العدم كما أنّ البقاء هو الوجود بعد الوجود ، ووجود الحدث متيقّن لا شكّ فيه وأنّ الشكّ في عدمه بعد وجوده في ضمن حادث ، وأيّ أصل يثبت أنّ الحادث هو الأكبر أو الأصغر ، والخارج هو البول أو المنيّ؟

وهذا الجواب مبنيّ على عدم جريان الاستصحاب في الأعدام الأزليّة ، وأمّا على القول بجريانه فيها كما بنينا عليه فلا يتمّ هذا الجواب ، إذ لنا استصحاب عدم كون الحادث بولا ، وأنّه لم يتّصف بالبوليّة حين حدوثه كما لم يكن متّصفا بها قبل حدوثه ، فلا إشكال من هذه الجهة.

ونظير ذلك ما إذا شكّ في النجس الملاقي لشيء هل هو بول حتى يحتاج ملاقيه إلى الغسل مرّتين ، أو ليس ببول حتى يدخل في الإطلاقات الدالّة على وجوب الغسل مرّة؟ فيستصحب عدم اتّصاف ذلك النجس بالبوليّة ، وتشمله الإطلاقات.

وهكذا إذا شكّ في شيء أنّه إناء حتى يجب غسله عند تنجّسه ثلاث مرّات ، أو غير إناء حتى يكفي مرّة واحدة أو مرّتين ، يستصحب عدم اتّصافه

٩٧

بهذا الوصف ، فيغسل مرّتين للبول ومرّة لغيره.

وثانيا : أنّ استصحاب عدم حدوث الحدث الأكبر معارض باستصحاب عدم حدوث الأصغر ، فيبقى استصحاب الكلّي بلا معارض.

وأجاب بهذا الجواب شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره ، وهو تامّ في مثل هذا المثال ممّا كان لكلّ من الفردين ـ كالحدث الأصغر والأكبر ، ونعبّر عنهما بالفرد الطويل والقصير ـ أثر ، كوجوب الوضوء في الأوّل ، ووجوب الغسل أو حرمة المكث في المساجد في الثاني ، ولكن لا نحتاج إلى إجراء الاستصحاب وإلقاء التعارض بينهما ، فإنّ نفس العلم الإجمالي بأحد التكليفين كاف في تنجّزه.

وأمّا فيما لا يترتّب أثر إلّا على الكلّي ، فيتمّ استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل بلا كونه معارضا ، فإنّ له أثرا ـ وهو رفع الحدث ـ بضمّه إلى الوجدان ، وهو ارتفاع الفرد القصير قطعا على تقدير وجوده بالوضوء مثلا ، وليس لاستصحاب عدم حدوث الفرد القصير أثر على الفرض حتى يعارضه.

وثالثا ـ وهو الجواب الصحيح ـ : أنّ الشكّ في بقاء الكلّي وإن كان مسبّبا عن كون الحادث هو الفرد الطويل أو عن حدوث الفرد الطويل إلّا أنّ الاستصحاب في الشكّ السببي يكون حاكما على المسبّبي على تقدير كون التسبّب شرعيّا بحيث يكون جريانه في السبب موجبا لزوال الشكّ المسبّبي ، كما إذا غسل الثوب المتنجّس ، بالماء المستصحب الطهارة ، فإنّ طهارة الثوب المغسول به من آثار طهارة الماء شرعا ، فباستصحاب طهارة الماء وضمّ هذا التعبّد بذاك الوجدان يلتئم موضوع الحكم بطهارة المتنجّس ، إذ المفروض أنّا غسلناه بالوجدان بالماء الطاهر بحكم الشارع ، فلا شكّ لنا بعد ذلك في

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٩٣.

٩٨

طهارته ، فنقض اليقين بنجاسته السابقة يكون باليقين بطهارته لا بالشكّ.

وهكذا في الشكّ في كون النجس الملاقي للثوب هو البول أو الدم بضمّ استصحاب عدم كون الحادث بولا بما تحقّق بالوجدان وهو الغسل مرّة ، فيدخل فيما يدلّ على كفاية الغسل مرّة في المتنجّس بغير البول من الإطلاقات ، ويرتفع الشكّ في نجاسته بعد ذلك ، ولا يبقى مجال لاستصحاب بقاء النجاسة. وهكذا الكلام في مسألة الشكّ في كون شيء إناء.

وأمّا إذا لم يكن التسبّب شرعيّا كما في المقام ، حيث إنّ ارتفاع الكلّي وعدم بقائه بسبب عدم حدوث الفرد الطويل أو عدم كون الحادث طويلا عقليّ ، فاستصحاب عدم كون الحادث هو الفرد الطويل وإن كان جاريا فيما إذا كان له أثر إلّا أنّه ليس حاكما على استصحاب بقاء الكلّي ، لعدم كون التسبّب شرعيّا.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره أجاب عن هذا الإشكال بأجوبة ثلاثة :

أحدها : ما ذكرنا في الجواب الأوّل.

والآخر : ما ذكرنا أخيرا من أنّ التسبّب عقليّ.

والثالث : قوله : «مع أنّ بقاء القدر المشترك إنّما هو بعين بقاء الخاصّ الّذي في ضمنه لا أنّه من لوازمه» (١). ولم يظهر لنا إلى الآن المراد من هذه العبارة ، فإنّ وجود الكلّي وإن كان عين وجود فرده ، وبقاءه ـ الّذي هو عبارة عن وجود الثاني ـ أيضا عين بقاء الفرد إلّا أنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس عين الشكّ في حدوث الفرد الباقي أو كون الحادث فردا باقيا طويلا ، بل هو ملازم له ومسبّب عنه.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٦١ ـ ٤٦٢.

٩٩

ثمّ اعلم أنّ محلّ الكلام في هذا القسم ما إذا كان الفرد من أوّل وجوده مردّدا بين الطويل والقصير ولم يكن مسبوقا بأحدهما ، فلو كان خروج الرطوبة المردّدة بين البول والمنيّ مسبوقا بناقض آخر وهو النوم مثلا ، لا يجري استصحاب الحدث الكلّي بعد الوضوء ، وذلك لوجود الاستصحاب الحاكم عليه ، وهو استصحاب بقاء الحدث الأوّل على حالته الأولى ، وعدم انقلابه إلى الحدث الأكبر لو قلنا بأنّ الحدثين من قبيل المتضادّين ، أو عدم تبدّله بمرتبة أقوى ، وآكد منه لو قلنا بأنّهما مختلفان بالشدّة والضعف ، أو عدم مقارنة الأكبر معه لو قلنا بأنّهما من قبيل المتخالفين كالحلاوة والحمرة.

وبالجملة ، على جميع التقادير والأقوال يجري الاستصحاب ، فيثبت أنّه غير جنب وغير محدث بالحدث الأكبر ، وحيث يكون محدثا بالوجدان يضمّ إليه هذا التعبّد بأنّه غير جنب ويترتّب عليه وجوب الوضوء ، فإنّ الله تعالى حكم بحكمين على موضوعين في قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(١) إلى آخره ، وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(٢) : وجوب الغسل على الجنب ، ووجوب الوضوء على غير الجنب بمقتضى المقابلة ، فالمحدث الّذي لا يكون جنبا حكمه وجوب الوضوء ، فإذا أثبتنا الموضوع بضمّ الوجدان إلى الأصل ، وتوضّأنا ، لا يبقى لنا بعد ذلك شكّ في بقاء الحدث الكلّي حتى نستصحبه ، بل يكون نقض اليقين باليقين.

فالصحيح ما في العروة في هذا الفرع ، أي الفرق بين خروج الرطوبة المردّدة من المتوضّئ ، فيستصحب بقاء الحدث الكلّي بعد أن اغتسل فقط أو توضّأ فقط ، وبين خروجها من المحدث فيكفيه الوضوء خاصّة (٣).

__________________

(١ و ٢) المائدة : ٦.

(٣) العروة الوثقى ، فصل في الاستبراء ، المسألة ٨.

١٠٠