الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين

٥
٦

فصل :

في الاستصحاب

وقبل الورود في البحث عنه ينبغي التكلّم في جهات :

الأولى : في تعريفه ، وقد عرّف بتعاريف عديدة :

قال الشيخ قدس‌سره : أسدّها وأخصرها هو : إبقاء ما كان (١).

وعرّفه صاحب الكفاية بأنّه هو : الحكم ببقاء حكم أو موضوع متيقّن الحدوث في السابق ، مشكوك البقاء في اللاحق. وادّعى أنّ كلّ التعاريف يشير إلى هذا المعنى الواحد والمفهوم الفارد (٢).

والتحقيق : أنّه لا يمكن أن يعرّف الاستصحاب بتعريف ينطبق على جميع الأقوال ، فإنّه لو كان من الأمارات ـ كما ذهب إليه المتقدّمون من الأصوليّين ـ لا يصحّ تعريفه بأنّه الحكم بالبقاء ، ضرورة أنّه على ذلك كاشف عن الحكم الشرعي من حيث إفادته للظنّ نوعا أو شخصا ، وحكم الشارع ببقاء ما كان مدلول للاستصحاب ، ومنكشف بهذا الكاشف ، لا أنّه نفس الاستصحاب ، فعلى هذا القول لا بدّ من تعريفه بما عرّفه بعض (٣) ـ على ما حكى الشيخ (٤) قدس‌سره ـ من أنّه كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السابق ، مشكوك البقاء في الآن اللاحق.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣١٨.

(٢) كفاية الأصول : ٤٣٥.

(٣) هو المحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٥٣.

(٤) فرائد الأصول : ٣١٨.

٧

ولا يرد عليه ما أورده الشيخ قدس‌سره من أنّ هذا محقّق مورد الاستصحاب لا نفسه (١) ، وذلك لأنّ ما هو أمارة ومفيد للظنّ هو نفس هذه الحالة ، وأركان الأمارة شاملة لنفس الظنّ أيضا ، فإنّ أماريّة الخبر ـ مثلا ـ من حيث إفادته الظنّ ، فكون نفس الظنّ أمارة أولى ، فلا بدّ من تعريفه بنحو يشمله أيضا.

ولو كان من الأصول ـ كما هو الصحيح ـ فتعريفه بأنّه الحكم ببقاء اليقين السابق عملا حين الشكّ تعبّدا هو الصحيح على ما يستفاد من روايات الباب ، وأمّا الحكم ببقاء المتيقّن فليس منه أثر في الروايات ، فكما أنّ الشارع تعبّد كثير الشكّ بعدم كونه شاكّا مع كونه شاكّا وجدانا ، فيجب عليه أن يعمل عمل المتيقّن ، كذلك تعبّد في المقام ببقاء اليقين ، وعدم انتقاضه بالشكّ ، فمع كونه شاكّا وجدانا حكم الشارع ببقاء يقينه تعبّدا ، فيجب عليه أن يعمل على يقينه.

الجهة الثانية : في أنّ البحث عن حجّيّته مسألة أصوليّة أم لا (١)؟

والميزان في المسألة الأصوليّة ـ كما مرّ غير مرّة ـ هو أن يستنبط منها حكم

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣١٨.

(٢) ظاهر هذا الكلام والمستفاد من كلمات الأعاظم هو كون البحث عن حجّيّة الاستصحاب مسألة أصوليّة إن ثبتت حجّيّته مطلقا ، أي سواء كان في الأحكام أم في الموضوعات ، وكونه مسألة فقهيّة إن ثبتت حجّيّته في الأخير فقط ، هذا هو المستفاد من الكلمات.

ولكنّه غير صحيح ، لأنّ نتيجة البحث لا تؤثّر في حقيقته وتصييره أصوليّة أو فقهيّة ، كما أنّ البحث عن حجّيّة خبر الواحد مسألة أصوليّة ولو كانت النتيجة هي عدم حجّيّته. وكذا سائر المسائل.

فالبحث عن حجّيّة الاستصحاب مسألة أصوليّة ولو كانت النتيجة هي حجّيّته في الموضوعات فقط ، وكون قاعدة واحدة أصوليّة وفقهيّة باعتبارين لا يوجب كون البحث كذلك ، فإنّ البحث عامّ ومسألة أصوليّة مطلقا ولو كانت الحجّيّة مختصّة بقسم خاصّ من الاستصحاب ، فلا مجال للقول بأنّ «البحث عن حجّيّته» أيّ شيء؟

وبعبارة أخرى : إنّ البحث عن كون الاستصحاب باعتبارين مسألة أصوليّة أو قاعدة فقهيّة أو مسألة أصوليّة وفقهيّة معا نفسه مسألة أصوليّة. (م).

٨

فرعي كلّي إلهي بلا مدخليّة شيء آخر ، مثلا : حجّيّة خبر الواحد مسألة أصوليّة ، حيث إنّه بعد تعبّد الشارع بطريقيّته إذا قام خبر على وجوب الجمعة ، فالمجتهد يجب أن يعمل به ، وعمله به هو فتياه بوجوب الجمعة ، والمقلّد ـ بمقتضى أدلّة وجوب التقليد ـ يجب أن يعمل على طبق فتوى مجتهده ، فوجوب الجمعة ـ الّذي هو حكم كلّي ـ استنبط من مجرّد تحقّق موضوع مسألة حجّيّة خبر عند المجتهد بلا مدخليّة شيء آخر.

والاستصحاب في الأحكام الكلّيّة أيضا كذلك ، فإنّ الميزان هو يقين المجتهد وشكّه ، فإذا تيقّن المجتهد بوجوب الجمعة في زمان ، وشكّ بعد ذلك في نسخه وعدمه ، يتحقّق له موضوع «لا تنقض اليقين بالشكّ» فيجب عليه إبقاء يقينه عملا ، بمعنى العمل بيقينه السابق فعلا ، وعمله به هو فتياه بوجوب الجمعة كما كان يفتي به حال كونه متيقّنا به ، والمقلّد ـ سواء كان له يقين وشكّ أو كان غافلا محضا ـ يجب أن يعمل بفتيا مجتهده بوجوب الجمعة ، بمقتضى أدلّة وجوب التقليد ، ولا اعتبار بيقينه وشكّه أصلا ، فالمجتهد يفتي بمجرّد تحقّق موضوع الاستصحاب كما يفتي بمجرّد تحقّق موضوع مسألة حجّيّة خبر الواحد.

وأمّا الاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة ـ كاستصحاب بقاء نجاسة الثوب ـ فهو مسألة فقهيّة ، حيث إنّ الميزان هو يقين كلّ شخص ، وشكّه ، فإذا تحقّق موضوعه عند المجتهد ، وجب العمل بيقينه ، وعمله ليس هو الفتوى بنجاسة الثوب ، بل هو ترتيب آثار النجاسة عليه ، وإذا تحقّق عند المقلّد ـ سواء كان للمجتهد يقين وشكّ أم لا ـ يجب أن يعمل بمقتضى الحالة السابقة.

ولا مانع من كون قاعدة واحدة أصوليّة وفقهيّة باعتبارين ، كما أنّ دليل حجّيّة خبر الواحد لو كان شاملا للموضوعات الخارجيّة ـ كما هو كذلك إلّا في

٩

موارد دلّ الدليل الخاصّ على اعتبار التعدّد فيها ـ تصير مسألة حجّيّة خبر الواحد أصوليّة وفقهيّة باعتبارين.

الجهة الثالثة : في الفرق بين قاعدة الاستصحاب وقاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع.

فنقول : إذا كان متعلّق اليقين مباينا لمتعلّق الشكّ ذاتا وصفة مع ارتباط بينهما ـ بأن يكونا جزءين من أجزاء علّة واحدة أو غير ذلك ، لا أن يكون اليقين متعلّقا بوجود النار ، والشكّ متعلّقا بطلوع الفجر ـ وكان زمان الشكّ واليقين واحدا ، فهو مورد قاعدة المقتضي والمانع.

وإن كان المتعلّقان أمرا واحدا ذاتا ، فإن كانا مغايرين صفة وخصوصيّة ـ بأن تعلّق اليقين بعدالة زيد من حيث الحدوث في يوم الجمعة ، وتعلّق الشكّ أيضا بعدالة زيد لكن من حيث بقائها إلى زمان الشكّ ـ فهو مورد الاستصحاب.

ولازم اتّحاد المتعلّقين ذاتا والتغاير صفة هو اختلاف زماني المتعلّقين واجتماع زماني اليقين والشكّ ، بمعنى أن المستصحب ـ بالكسر ـ حين إجراء الاستصحاب يكون متيقّنا وشاكّا معا سواء حدث الشكّ واليقين في زمان واحد ، أو حدث اليقين بعد الشكّ ، أو العكس ، فقوام الاستصحاب هو اجتماع الشكّ واليقين في زمان واحد وهو زمان الإجراء.

وإن كانا متّحدين صفة أيضا ، كما يكونان متّحدين ذاتا ـ ولازمه تغاير زماني الشكّ واليقين ، فإنّهما ضدّان لا يمكن اجتماعهما مع اتّحاد متعلّقيهما ذاتا وصفة في زمان واحد ـ فهو على قسمين :

قسم يكون اليقين فيه سابقا على الشكّ ، وهو مورد قاعدة اليقين ، كما إذا تيقّن بعدالة زيد يوم الجمعة ، وشكّ يوم السبت في أنّه هل كان عادلا يوم الجمعة أم لا؟ وفي الحقيقة يشكّ في أنّ يقينه بعدالة زيد هل كان يقينا أو جهلا

١٠

مركّبا؟ فالشكّ قهرا يسري إلى اليقين ، ولذا يسمّى هذا القسم بالشكّ الساري أيضا.

وقسم آخر يكون الشكّ فيه سابقا على اليقين ، وهو يسمّى بالاستصحاب القهقرى ، ولا دليل على حجّيّته في شيء من أدلّة الاستصحاب ، فإنّ الأخبار ـ على ما سيجيء ـ دالّة على حرمة نقض اليقين بالشكّ ، لا نقض الشكّ باليقين ، وبناء العقلاء وسيرتهم أيضا لم يثبت في مثله.

نعم ، بناء العقلاء مستقرّ في مورد واحد ، وهو استصحاب عدم نقل الألفاظ الظاهرة فيما نفهمه فعلا من المعاني ، ونحتمل أن تكون في الأزمنة السابقة ظاهرة في غير ما نفهمها الآن ، ضرورة أنّ العقلاء يبنون على بقاء الألفاظ على ما هي ظاهرة فيه فعلا في الأزمنة السابقة ، ويحكمون بأنّ مراد المتكلّم بها ليس إلّا ما يفهم منها فعلا ، ولا يصغون إلى احتمال إرادة خلاف ذلك في ذلك الزمان.

ثمّ إنّ المراد من المقتضي والمانع إمّا التكويني منهما كاقتضاء النار للإحراق ومانعيّة الرطوبة عنه تكوينا.

ومثاله في الفقه هو ما إذا شكّ في وصول الماء إلى البشرة في الوضوء أو الغسل من جهة الشكّ في وجود مانع عن الوصول كالقير ونحوه ، فالقائل بحجّيّة هذه القاعدة يحكم بصحّة الغسل أو الوضوء لو أراد هذا المعنى من المقتضي والمانع ، فإنّ المقتضي التكويني ـ وهو إجراء الماء على الأعضاء ـ محرز ، والمانع التكويني ـ وهو وجود القير ونحوه ـ مشكوك ، فيحكم بوجود المقتضى بالفتح.

وهكذا الشكّ في طهارة مخرج البول من جهة الشكّ في خروج الوذي بعد البول حتى يحتاج إلى الاختبار ولا يطهر بصبّ الماء ، وعدم خروجه حتى

١١

لا يحتاج إلى ذلك ويطهر به ، فإنّ الوذي مانع تكويني عن المقتضي التكويني لوصول الماء إلى مخرج البول وهو الصبّ.

أو التشريعي منهما ، بمعنى موضوع الحكم وما اعتبر عدمه في ترتّب الحكم عليه ، ومثاله في الفقه ملاقاة النجاسة ، التي يستفاد من أدلّتها أنّها مقتضية للنجاسة وموضوعة لها ، وأنّ الكرّيّة أو الاتّصال بالمادّة مانع وعاصم عن الانفعال ، وكم له في الفقه من نظير.

أو المراد من المقتضي ما هو ملاك الحكم ، ومن المانع ما يزاحم ملاك الحكم ، مثلا : لو فرضنا أنّ ملاك الحكم بوجوب إكرام زيد العالم هو علمه ، وأنّ ظهور الفسق يزاحم هذا الملاك.

وبالجملة ، المراد من المقتضي والمانع لا بدّ وأن يكون أحد هذه الأمور ، ولا نعلم أنّ مراد القائل بحجّيّة القاعدة أيّ منها؟ هل الأوّل أو الثاني أو الثالث أو ما يعمّ الجميع ، أو الاثنين منها؟ ونتكلّم على جميع التقادير بعد ذكر أدلّة الاستصحاب إن شاء الله.

ولا يخفى أنّ مراد الشيخ قدس‌سره من المقتضي والمانع في تفصيله جريان الاستصحاب بين الشكّ في المقتضي والمانع ليس شيئا من هذه الأمور ، وسيجيء المراد منهما.

إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ الشيخ قدس‌سره قسّم الاستصحاب ـ من حيث المستصحب باعتبار كونه حكما ـ كلّيّا أو جزئيّا ، تكليفيّا أو وضعيّا ـ أو موضوعا ، ومن حيث دليل المستصحب ـ على تقدير كونه حكما ـ باعتبار كونه الكتاب ، أو السنّة ، أو الإجماع ، أو العقل ، ومن حيث الشكّ باعتبار أنّه في المقتضي ، أو وجود المانع ، أو مانعيّة الموجود ـ بتقسيمات ، ونقل عن القوم تفصيلات ، واختار هو قدس‌سره التفصيل بين الشكّ في المقتضي ، فحكم بعدم

١٢

جريان الاستصحاب فيه ، وبين الشكّ في المانع ، فحكم بالجريان فيما كان المستصحب موضوعا أو كان حكما مستفادا من غير العقل ، وأمّا المستفاد من العقل فلا يجري فيه (١).

والمختار عندنا هو جريان الاستصحاب في الموضوعات والأحكام الجزئيّة مطلقا دون الأحكام الكلّيّة ، كنجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره ، إلّا استصحاب عدم النسخ ، فعلى هذا يكون الاستصحاب هو قاعدة فقهيّة لا يستنبط منها الحكم الكلّي ، فالأولى ذكر أدلّة الباب ، وبيان ما يستفاد منها.

فنقول : قد استدلّ على حجّيّة الاستصحاب بوجوه :

الأوّل : استقرار بناء العقلاء وسيرتهم على العمل على طبق الحالة السابقة ، ولم يثبت الردع ، وهو دليل على الإمضاء.

وفيه : أنّ بناءهم على ذلك ليس لمحض التعبّد بأن عمل واحد منهم بذلك جزافا ، فتبعه الباقي ، بل لأجل الاطمئنان بالبقاء ، أو الغفلة ، أو الرجاء ، ولم تستقرّ سيرتهم على ذلك لأجل غير هذه الأمور من الظنّ بالبقاء نوعا أو شخصا ، ضرورة أنّ الاستصحاب دائما لا يفيد الظنّ ولو نوعا.

ودعوى شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من أنّه لو لا العمل بالاستصحاب ، لاختلّ النظام (٢) ـ لا وجه لها ، ضرورة أنّ المنكرين لحجّيّة الاستصحاب مطلقا جماعة كثيرة ، ولم تختلّ أمور معاشهم ومعادهم.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية أشكل في المقام على التمسّك بالسيرة بأنّها مردوعة بما دلّ من الكتاب والسنّة على النهي عن اتّباع غير العلم (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٢٢ ـ ٣٢٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٧.

(٣) كفاية الأصول : ٤٣٩.

١٣

وهذا الكلام يناقض ما سبق منه قدس‌سره في بحث حجّيّة خبر الواحد ، فإنّه جعل عمدة أدلّة حجّيّة الخبر هي السيرة.

وأورد على نفسه بأنّ السيرة مردوعة بالآيات الناهية عن اتّباع غير العلم.

وأجاب بأنّ رادعيّتها للسيرة دوريّة ، مع «إن قلت» و «قلت» (١) إلى آخر ما أفاده في المتن.

وذكر في هامش الكتاب ما حاصله : أنّه لو سلّمت دوريّة كلّ من مخصّصيّة السيرة للآيات ورادعيّتها للسيرة ، يكفينا استصحاب حجّيّة السيرة الممضاة قبل نزول الآيات بزمان (٢).

وقد ذكرنا هناك أنّ الآيات لا تصلح للرادعيّة لا من جهة الدور ، بل من جهة أنّ العقلاء حيث لا يرون العمل بخبر الثقة مصداقا للعمل بغير العلم ، لأنّه علم في نظرهم ، لا يمكن ردعهم عن سيرتهم بمثل هذه العمومات ، بل يحتاج الردع إلى دليل خاصّ ، كما أنّ القياس معمول به عند العقلاء في الجملة لا بمثابة خبر الثقة ، وقد وردت خمسمائة رواية ـ على ما أفاده بعض أساتيذنا ـ على النهي عن العمل به ، وأنّه موجب لمحق الدين.

وذكرنا أيضا أنّ الاستصحاب أيضا يكون دليلا على حجّيّة السيرة على العمل بخبر الثقة دون السيرة على العمل بالاستصحاب ، إذ لا يمكن إثبات حجّيّة الاستصحاب بنفس الاستصحاب.

الوجه الثاني : هو دعوى الإجماع عليه من جماعة.

ولا يخفى ما فيه ، مع الغضّ عن أنّ نقل الإجماع لا دليل على حجّيّته ، ولا يكون مشمولا لأدلّة حجّيّة خبر الواحد ، فإنّها لا تشمل الإخبار عن حدس ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

(٢) كفاية الأصول : ٤٣٩ الهامش (١).

١٤

إذ من المحتمل بل المظنون أنّ مدرك المجمعين ليس إلّا هذه الأدلّة.

الوجه الثالث : الأخبار ، وهي العمدة في الباب :

منها : صحاح ثلاث لزرارة ، ولا ينبغي الإشكال في سندها من حيث الإضمار ، فان الشيخ (١) قدس‌سره ومن تأخّر عنه تلقّوها بالقبول وجعلوها صحيحة من جهة أنّ راويها مثل زرارة الّذي هو من الفقهاء ، ومن أجلّة أصحاب الصادق والباقر سلام الله عليهما ، ولا يحتمل في حقّه أن ينقل عن غير الإمام عليه‌السلام ، بل الإضمار نشأ من تقطيع المقطّعين وتقسيمهم فقرات رواية واحدة مشتملة على أسئلة متعدّدة ـ عبّرت بمثل «سئل الصادق عليه‌السلام عن كذا» و «سأله عن كذا» و «سألته عن كذا» وذكر اسم الإمام عليه‌السلام في الأولى منها ـ على الأبواب من دون ذكر قرينة على مرجع الضمير بأن يذكر المقطّع بعد «سأله» بين القوسين (أي الباقر عليه‌السلام) مثلا.

هذا ، مضافا إلى أنّ الشيخ قدس‌سره نقلها في تنبيهات الاستصحاب ـ عن النراقي أو التوني (٢) ـ مسندة وإن نقلها في أوّل الاستصحاب مضمرة. وهذا غريب منه.

ونقل بحر العلوم أيضا في فوائده ، الأولى والثانية عن الباقر عليه‌السلام ، والثالثة عن أحدهما (٣) سلام الله عليهما.

وبالجملة ، لا إشكال في سندها ، فينبغي التكلّم في دلالتها.

فالصحيحة الأولى : قال : قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : «يا زرارة! قد تنام العين ،

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٢٩ ـ ٣٣١.

(٢) لم نعثر على النقل المذكور ، في فرائد الأصول.

(٣) الفوائد الأصولية : ١١٠.

١٥

ولا ينام القلب والاذن ، وإذا نامت العين والاذن ، فقد وجب الوضوء» قلت : فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟ قال : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ أبدا ، ولكنّه ينقضه بيقين آخر» (١).

ولا يخفى أنّ صدر هذه الرواية سؤال عن الشبهة الحكميّة ، فإنّ قوله : أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ سؤال عن حكم الخفقة والخفقتين إمّا لعدم معلوميّة مفهوم النوم واحتمال شموله لهما ، أو لمعلوميّة مفهوم النوم واحتمال أن تكون الخفقة والخفقتان أيضا موجبتين للوضوء ، وجواب الإمام عليه‌السلام بقوله : «قد تنام العين» إلى آخره ، جواب عن الحكم الواقعي ، وبيان لأنّ النوم الّذي هو موجب للوضوء هو النوم الغالب على الحاسّتين : الاذن والعين ، لا غير.

ثمّ السؤال بعد ذلك عن الشبهة الموضوعيّة ، فإنّه بعد ما عرف أنّ النوم الموجب للوضوء هو الغالب على العين والاذن ، قال : «فإنّ حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم؟» ، فإنّ عدم إدراكه لذلك يحتمل أن يكون لأجل تحقّق النوم ، ويحتمل أن يكون لأجل مشغوليّة القلب حين النوم بالأفكار المناسبة له ، والجواب عن هذا السؤال بقوله عليه‌السلام : «لا» إلى آخره ، حكم ظاهري.

وبالجملة ، مورد الاستدلال هو السؤال الثاني وجوابه ، ولا شبهة في دلالته على حجّيّة الاستصحاب في باب الوضوء ، كما عنونه الأصحاب بالخصوص في باب الطهارة ، وإنّما الإشكال في أنّه هل تستفاد منها كبرى كلّيّة تدلّ على حجّيّة الاستصحاب في جميع الأبواب أو لا؟

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

١٦

والحقّ هو الأوّل ، فإنّ ظاهر قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» بعد قوله : «وإلّا» أنه علّة للجزاء ـ كما أفاده الشيخ (١) قدس‌سره ـ لا نفس الجزاء ـ كما أفاده شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره ـ والجزاء محذوف معلوم من قوله عليه‌السلام : «لا» بعد قول زرارة : «فإن حرّك في جنبه شيء».

ونظائره كثيرة ، كقوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ)(٣) ، وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٤) فإنّ الجزاء في الأوّل : «فلا تحزن» وفي الثاني : «فلا يضرّ الله» مثلا ، والمذكور علّة للجزاء لا نفسه.

ولا يمكن جعله جزاء ، فإنّه إمّا إخبار عن أنّ غير المستيقن على يقين من وضوئه ، أو إنشاء ، بمعنى أنّه يمضي على يقينه ، ولا يمكن الالتزام بشيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المتيقّن وغيره مشتركان في أنّهما على يقين من الوضوء ، فإنّ المفروض حدوث اليقين بالوضوء ، والاستيقان بالنوم رافع للشكّ في البقاء ، فأيّ خصوصيّة لذكر غير المستيقن فقط؟

وأمّا الثاني : فلأنّ الجملة الخبريّة تستعمل في مقام الإنشاء إن كانت من قبيل «هي طالق» كما ورد النصّ (٥) على ذلك ، و «هذا ملك لك» إن لم نعتبر الماضويّة في العقود ، أو كانت جملة فعليّة ، مثل : «يعيد صلاته» وغيره ممّا أخبر فيه عن وقوع المادّة خارجا كناية عن شدّة محبوبيته وتأكّد طلبه.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٢٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٩.

(٣) آل عمران : ١٨٤.

(٤) آل عمران : ٩٧.

(٥) انظر : الوسائل ٢٢ : ٤١ أحاديث الباب ١٦ من أبواب مقدّمات الطلاق.

١٧

وأمّا الجملة الاسميّة مثل «زيد قائم» : فلم نظفر على مورد واحد استعملت في مقام الطلب بحيث يكون معنى «زيد قائم» أنّه يجب القيام على زيد.

ثمّ لو سلّمت صحّة الاستعمال ، فلا يصحّ في المقام ، إذ لازمه طلب الكون على اليقين من الوضوء ، وأين هذا من طلب المضيّ على اليقين ، الّذي هو المدّعى؟

ثمّ إنّ جعل جملة «فإنّه على يقين من وضوئه» توطئة للجزاء ، وجعل قوله : «ولا ينقض اليقين» إلى آخره ، نفس الجزاء أيضا لا يصحّ ، لعدم صلاحية جملة «لا ينقض» ـ مع اقترانها بالواو ـ لذلك.

نعم ، لو لم تكن الواو في البين ، لكان ذلك ممكنا ، وكان المعنى أنّه لأجل كونه على يقين من وضوئه لا ينقض اليقين بالشكّ.

فظهر أنّ الصحيح ما أفاده شيخنا الأنصاري من أنّ الجزاء محذوف ، والمذكور علّة للجزاء. وعلى ذلك تستفاد من الرواية قاعدة كلّيّة لا تختصّ بباب دون باب ، إذ لازم الاختصاص بخصوص باب الوضوء أن يكون التعليل لغوا محضا ، فإنّه على ذلك إعادة لما ذكر أوّلا من وجوب إبقاء اليقين بالوضوء عملا ، من غير زيادة.

وما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ من أنّه تستفاد منه قاعدة كلّيّة في خصوص باب الوضوء شاملة لمورد الرواية ـ وهو الشكّ في ناقضيّة النوم ـ ولغيره أيضا من ناقضيّة شيء آخر (١) ـ غير تامّ ، إذ أيّ خصوصيّة لليقين بالوضوء حتى يعلّل بأنّه لا ينقض بالشكّ؟ والمناسب للتعليل أن يكون بأمر ارتكازي لا تعبّدي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٩.

١٨

محض.

فظهر أنّه لا ريب في أنّه جملة «فإنّه على يقين» إلى آخرها ، علّة الجزاء ، ونفس الجزاء محذوف.

ولا يرد عليه ما أفاده شيخنا الأستاذ من أنّه يلزم على هذا ، التكرار في الجواب ، وبيان الحكم مرّتين بلا فائدة في البين (١) ، وذلك لأنّ جواب قوله : «وإلّا» محذوف ، ومعه كيف يلزم التكرار!؟ نعم ، لو كان مذكورا لكان لهذا الكلام مجال.

وبالجملة ، تستفاد من الرواية قاعدة كلّيّة غير مختصّة بباب دون باب بلا شبهة وارتياب ، ولا يتوقّف ذلك على كون جملة «فإنّه على يقين من وضوئه» علّة الجزاء ، بل لو تنزّلنا وقلنا بأنّها نفس الجزاء أيضا ، يتمّ ما ذكرنا بمقتضى قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ».

وتوهّم إرادة اليقين بالوضوء بالخصوص من «لا ينقض اليقين» بقرينة ما فرضنا أنّه جزاء ، وهو قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» مدفوع أوّلا (١) : بأنّ اليقين ـ كالظنّ والإرادة والقدرة والشوق ـ من الصفات الحقيقيّة ذات الإضافة التي لكلّ منها طرفان : موضوع تقوم فيه ، فإنّها أعراض يحتاج وجودها إلى موضوع كسائر الأعراض ، ومتعلّق تتعلّق به ، فلا يتحقّق يقين في الخارج إلّا ويتعلّق بشيء ، وذكر مثل هذا المتعلّق لا يدلّ على تقييد الحكم.

نعم ، لو كان القيد مثل «في الدار» في قولنا : «إذا ضربت في الدار فكذا»

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٢) لا إشكال في كون اليقين من الصفات الحقيقيّة وكونه تعلّقيّ الوجود وله موضوع ومتعلّق لكن يكفي في تحقّقه متعلّق ما ، فإذا أخذ أو أريد أمر خاصّ كالوضوء ، فالحكم يختصّ به ، ولا يصحّ التعدّي منه إلى غيره كما فيما نحن فيه ، فإنّ الظاهر بقرينة المقام وتقدّم الوضوء هو تعلّق اليقين بالوضوء لا شيء عامّ. (م).

١٩

لكان موجبا لتقييد الحكم.

وثانيا (١) : بأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقتضي تعلّق النقض بمطلق اليقين ، فإنّ النقض ـ كما سيجيء ـ لا يتعلّق إلّا بالأمر المبرم المحكم ، كالعهد ، فيقال : نقضت العهد ، وأيّ مناسبة لليقين بالوضوء بالخصوص مع النقض؟ بل يناسب تعلّق النقض بمطلق اليقين.

وثالثا (٢) : بأنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ أبدا» سيّما مع لفظ «أبدا» وتطبيقه على غير الوضوء أيضا في روايات أخر قضيّة ارتكازية للعقلاء ، وتقرير لما هو المرتكز في أذهانهم من عدم رفع اليد عن الأمر المبرم بواسطة أمر غير مبرم ، ضرورة أنّ كلّ عاقل يأخذ بالمبرم ولا يتركه إذا دار الأمر بينه وبين الأخذ بغير المبرم.

ولا ينافي هذا إنكار استقرار بناء العقلاء ، وجريان سيرتهم على العمل

__________________

(١) لا بأس في هذا في مقام تأييد التعميم ، أمّا كونه قرينة لصرف الظهور فغير صحيح ، لأنّ القرينة ما يصرف اللفظ عن الظهور الّذي لولاها لكان ظاهرا فيه ، نحو «يرمي» في «رأيت أسدا يرمي» وليس الأمر هكذا فيما نحن فيه ، فإنّ اليقين ظاهر في اليقين بالوضوء ، ولا يوجب هذا صرف ظهوره فيه عنه إلى غيره عند العرف. (م).

(٢) الحقّ أنّ تطبيق هذه الكبرى في روايات أخر على غير الوضوء لا يوجب ظهورها هنا في غيره ، فإنّ المنفصل من القرائن لا يصرف ظهور «اليقين» الظاهر في اليقين بالوضوء عنه إلى غيره حتى يكون المراد من اليقين هو الأعمّ فيثبت حجّيّة الاستصحاب في غير الوضوء أيضا.

وبعبارة أخرى : لا تكون تلك الروايات بمنزلة «يرمي» في «رأيت أسدا يرمي» الّذي يصرف ظهور «أسد» في الحيوان المفترس.

وأمّا قوله : «أبدا» فظهوره في الدوام ممّا لا إشكال فيه ، لكن ليس فيه دلالة على المدّعى ، فإنّ صحّة استعماله في الخاصّ أيضا لا تنكر ، فإنّه يصحّ أن يقال : اليقين بالوضوء لا ينقض بالشكّ أبدا. وإذا قال : لا أتوضّأ من ماء غير الأنبوب أبدا ، ليس معناه أنّي لا أغتسل منه أيضا ولا أشرب وهكذا. (م).

٢٠