الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

المعصوم عليه‌السلام ، ولم يكن بناء أصحاب الأئمّة ـ الذين تعلّموا منهم عليهم‌السلام أحكام الدين ـ الاقتصار ـ عند سؤال العوام عنهم عن الأحكام ـ على نقل الروايات في مقام جوابهم ، بل كان يسأل السائل مثلا عن السورة في الصلاة ، فيجاب بأنّها واجبة.

وهذا مضافا إلى دلالة آية النفر على ذلك بالتقريب الّذي تقدّم في بحث حجّيّة الخبر ، وإجماله أنّ المستفاد من الآية الشريفة وجوب قبول قول المنذر المتفقّه في الدين عند إنذاره بما تفقّه من الأحكام ، وتقييد وجوب القبول بصورة حصول العلم بالصدق بعيد وعلى خلاف الظاهر ، ودلالة بعض الروايات ، كما دلّ على وجوب اتّباع العلماء ، وما دلّ على أنّ للعوامّ تقليد الفقهاء ، ومفهوم ما دلّ على المنع عن الفتوى بغير علم ، وما دلّ على إظهاره عليه‌السلام المحبّة لأن يرى في أصحابه من يفتي الناس ، فإنّه بالمطابقة يدلّ على جواز الإفتاء ، وبالملازمة العرفيّة بين الحكمين ـ : جواز الإفتاء وجواز التقليد ـ يدلّ على جواز اتّباع المفتي والأخذ بفتواه.

فهذه الأدلّة مخصّصة لما دلّ على حرمة اتّباع غير العلم ، والذّم على التقليد من الآيات والروايات لو لا المناقشة في دلالة بعضها ، كقوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ)(١) ، فإنّ ذمّهم إنّما كان على تقليدهم من كان مثلهم في الجهل والضلالة كما تكون لذلك قرينة في نفس الآية الشريفة.

ثمّ إنّ قياس الأحكام الفرعيّة بالأصول الاعتقاديّة في عدم جواز التقليد ـ مع كونه قياسا باطلا ليس من مذهبنا ـ مع الفارق ، ضرورة كفاية معرفة الأصول

__________________

(١) الزخرف : ٢٣.

٣٨١

الاعتقاديّة عن دليل كلّ بحسب فهمه ولو كان مثل الدليل المعروف من العجوزة ، وهذا في غاية السهولة ، بخلاف المسائل الفرعيّة التي يكون الاجتهاد فيها في غاية الصعوبة وأشدّ من طول الجهاد.

* * *

٣٨٢

فصل :

في وجوب تقليد الأفضل وعدمه. والكلام يقع في مقامين :

الأوّل : في وظيفة المقلّد.

والثاني : فيما يستفاد من الأدلّة.

أمّا المقام الأوّل : فلا شكّ في وجوب الرجوع إلى الأفضل ، لكونه متعيّن الحجّيّة ، بخلاف غير الأفضل ، حيث إنّه مشكوك الحجّيّة ، والشكّ في الحجّيّة مساوق لعدم الحجّيّة.

نعم ، لو استقلّ عقله بتساوي الأفضل وغيره في ذلك ، أو قلّد الأعلم في هذه المسألة وكانت فتواه جواز تقليد غير الأفضل ، لصحّ الرجوع إلى غير الأفضل في سائر المسائل.

وقد استشكل في العروة (١) في الرجوع إلى غير الأفضل حتى فيما إذا أفتى الأفضل بجوازه إلّا إذا استقلّ عقله بالتساوي.

ولا وجه للإشكال ، فإنّه في الحقيقة تقليد عن الأفضل.

وأمّا إذا أفتى الأفضل بعدم جواز تقليد المفضول وأفتى المفضول بجواز ذلك ، فلا يصحّ الرجوع إلى المفضول في ذلك ، فإنّ حجّيّة قوله هذا متوقّفة على جواز تقليده وعدم وجوب تقليد الأعلم ، وهو متوقّف على حجّيّة قوله وعدم وجوب تقليد الأفضل ، وهو دور واضح.

وأمّا المقام الثاني : ففيه موضعان :

__________________

(١) العروة الوثقى ، المسألة ٤٦ من أحكام التقليد والاجتهاد.

٣٨٣

الأوّل : فيما إذا علم تفصيلا أو إجمالا بمخالفتهما وعلم أيضا بعدم موافقة فتوى المفضول للاحتياط. ولا إشكال في وجوب تقليد الأعلم في هذه الصورة ، لعدم شمول أدلّة جواز التقليد من السيرة وغيرها لهذه الصورة.

أمّا السيرة : فعلى الخلاف قطعا.

وأمّا الآيات والروايات : فلا يعقل شمولها لكليهما ، ولا لأحدهما ، كما مرّ في الخبرين المتعارضين ، فيتساقطان ، وبعد التساقط لا دليل على جواز تقليد المفضول ، ولا على التخيير ، وينحصر الدليل حينئذ ببناء العقلاء على اتّباع قول الأفضل.

الموضع الثاني : فيما إذا احتمل المخالفة احتمالا بدويّا. والظاهر جواز تقليد المفضول في هذه الصورة ، لشمول الأدلّة لها أيضا حتى السيرة ، فإنّ بناء العقلاء ليس على الرجوع إلى الأفضل من أرباب الصنائع بحيث يبقى غير الأفضل منهم قاعدين في دارهم لا يرجع إليهم أحد.

وأمّا توهّم كون الشبهة مصداقيّة ، لأنّ الأدلّة اللفظيّة لا تشمل صورة المخالفة فمع الاحتمال يحتمل عدم الشمول ، فمدفوع : بأنّ هذا الاحتمال مدفوع بالأصل ، فإنّ الأصل عدم حصول المخالفة بينهما.

هذا ، وقد استدلّ على وجوب الرجوع إلى الأعلم في هذه الصورة أيضا بوجوه كلّها ضعيفة :

منها : المقبولة (١).

وفيه أوّلا : أنّ موردها الحكومة ، فالحكم على طبقها في مورد الفتوى قياس.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ـ ١٠ ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣٨٤

وثانيا : أنّه قدّم في المقبولة قول من لا يكون قوله مقدّما في باب الفتوى قطعا كالأورع ، فإنّ مقتضاها هو وجوب الرجوع إليه ولو كان غيره أعلم منه.

وثالثا : أنّ مقتضاها هو وجوب الرجوع إلى الأفضل من الاثنين ، والمدّعى لزوم الرجوع إلى أفضل الناس جميعا.

ومن ذلك ظهر الجواب عمّا يدلّ على ذمّ من يفتي وفي المصر من هو أفضل منه. وهكذا ظهر الجواب عن المنقول عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك» (١) فإنّ الكلام في وجوب الرجوع إلى الأفضل من جميع الناس لا الأفضل من علماء مصر من الأمصار.

هذا ، مضافا إلى أنّ موردهما كمورد المقبولة مورد الحكومة ، والتعدّي قياس مع الفارق.

ومنها : أنّ قول الأفضل أقرب من غيره ، فيلزم الأخذ به عقلا.

وفيه أوّلا : منع الصغرى على إطلاقها ، إذ كثيرا ما يكون غير الأفضل قوله أقرب منه ، لاعتضاد بعضهم ببعض ، وهل يكون قول فقيه واحد يكون أعلم من مائة فقيه أقرب إلى الحقّ من قول هذا الجمّ الغفير الذين يفتون على خلاف الأعلم ويرون خلاف ما يراه!؟

وثانيا : أنّه لم يعلم أنّ تمام مناط حجّيّة قول الأعلم هو أقربيّته إلى الواقع.

نعم ، لو كان المدرك لوجوب التقليد بناء العقلاء أو السيرة من دون تصرّف من الشارع ، لكانت هذه الكبرى تامّة.

بقي شيء ، وهو أنّهم ذكروا ـ فيما إذا علم إجمالا بأعلميّة أحد الشخصين ـ أنّه يتعيّن الأخذ بأحوط القولين. وهذا كما ذكروه. وفيما إذا لم يعلم

__________________

(١) نهج البلاغة ـ بشرح محمد عبده ـ : ٥٢٠.

٣٨٥

إجمالا بذلك ذكروا أنّه يتعيّن تقليد مظنون الأعلميّة أو محتملها ، ويتخيّر إذا احتمل أعلميّة كلّ منهما.

ولنا في جميع ذلك إشكال ، لما عرفت من عدم شمول الأدلّة لمورد التعارض بين الفتويين ، وعرفت أنّ مقتضى القاعدة حينئذ هو التساقط والرجوع إلى الأعلم ببناء العقلاء إن كان متعيّنا ، وأمّا عند الاشتباه كمورد الكلام فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل ، ولا دليل على ما ذكروه ، فإنّ الظنّ بالأعلميّة لا يغني من الحق شيئا فضلا عن احتماله ، فالرجوع إلى مظنون الأعلميّة أو محتملها بلا وجه. وهكذا التخيير في صورة احتمال أعلميّة كلّ منهما ، فإنّه بلا دليل.

نعم ، لو ثبت إجماع على عدم وجوب الاحتياط على المقلّد مطلقا حتى في مورد الكلام ، لتمّ جميع ما ذكروه ، لكن دون إثباته خرط القتاد ، فإنّ الثابت به عدم وجوب الاحتياط في الأحكام لا مطلقا حتى في هذه الموارد ، فالمتعيّن هو الرجوع إلى الاحتياط ، أي الأخذ بأحوط القولين بعد قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط الكلّي وإدراك الواقعيّات.

* * *

٣٨٦

فصل :

اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي على أقوال عمدتها ثلاث : الاشتراط مطلقا ، وعدم الاشتراط مطلقا ، والتفصيل بين التقليد الابتدائي فيشترط والاستمراري فلا يشترط.

واستدلّ القائل بعدم الاشتراط بالاستصحاب بتقريب أنّه كان في زمان حياته جائز التقليد قطعا وكان رأيه حجّة ، وبموته يشكّ في جواز بقائه ، لاحتمال اشتراط الحياة في ذلك فالآن كما كان.

وهذا الاستصحاب لا إشكال فيه من حيث اليقين السابق ، لأنّ الحجّيّة بأيّ معنى كانت ـ سواء كانت بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ، كما بنى عليه صاحب الكفاية (١) ، أو بمعنى العلم والطريقيّة ، كما ذهب إليه شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره ، أو كان أمرا انتزاعيّا مجعولا بتبع جعل منشأ انتزاعه كإيجاب العمل على طبق المؤدّى ، كما يستفاد من بعض كلمات الشيخ قدس‌سره ـ حكم شرعي مجعول بنفسه أو بتبع جعل منشأ انتزاعه كان ثابتا قبل الموت يقينا.

وتوهّم أن لا يقين بثبوته سابقا إلّا بالنسبة إلى الموجودين في زمانه فاسد ، فإنّ فيه ـ مضافا إلى عدم تماميّته في التقليد الاستمراري ، وفي الابتدائي في حقّ من بلغ في زمان حياته ولم يقلّده فيه ـ : أنّ هذا الإشكال ليس إلّا إشكال استصحاب الأحكام الكلّيّة. والجواب هو الجواب. والكلام متمحّض فعلا في الإشكال من حيث احتمال اشتراط الحياة في المفتي مع الفراغ عن سائر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣١٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٧٥.

٣٨٧

الجهات ، ولا ريب في حجّيّة رأي الميّت على الموجودين بالفعل لو كانوا في زمان حياته ، وأزيد من هذا المقدار ليس في استصحاب الأحكام الكلّيّة.

وهكذا لا إشكال من حيث الشكّ اللاحق ، لأنّ موضوع الحجّيّة في الأدلّة ليس هو الفقيه والعالم حتى يرتفع بالموت عند العرف بنحو يعدّ عوده يوم القيامة عندهم من إعادة المعدوم وإن لم يكن كذلك في الحقيقة ، بل الموضوع هو الرّأي ، كما أنّ موضوع حجّيّة الخبر والشهادة هو الرواية والشهادة ، وليست الحجّيّة دائرة مدار الرّأي حدوثا وبقاء ، بل الحجّيّة ثابتة إلى الأبد بمجرّد حدوث الرّأي لو لا احتمال اشتراط الحياة.

والحاصل : أنّ بعض موضوعات الأحكام يكون الحكم تابعا له وجودا وعدما ، كالخمر ، فإنّ زوال عنوان الخمريّة مساوق لزوال حرمته ، ولو كان بعد ذلك حراما ، لكان بحسب الفهم العرفي حكما جديدا لموضوع جديد ، وبعضها تكون الأحكام تابعة لحدوثه ، وبمجرّد الحدوث يبقى الحكم إلى الأبد ، كما في الرواية والشهادة عند بعض ، فإنّ مجرّد حدوثهما موضوع لوجوب القبول إلى الأبد فيبقى ولو مات الراوي والشاهد ، فلو كان موضوع الحجّيّة هو الفقيه والعالم مثلا ، لكان الحكم مرتفعا بالموت قطعا ولم يكن شكّ في البقاء ، لكنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّ الموضوع هو الرّأي ، ونشكّ في حجّيّته بحدوثه ما دام الحياة أو إلى الأبد.

وأمّا ما في الكفاية من أنّ بقاء الرّأي ممّا لا بدّ منه في جواز التقليد ، ولذا لو زال أو تبدّل لارتفعت الحجّيّة قطعا (١) ، ففيه : أنّه لا فرق بين رأي المجتهد ورواية الراوي في موضوعيتهما للحكم في لسان الدليل ، فكما أنّ الرواية

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥٤٥.

٣٨٨

بحدوثها تكون موضوعا كذلك رأي المجتهد.

وأمّا زوال الحكم بتبدّل الرّأي فمن جهة أنّه حكم ظاهريّ يزول بانكشاف الخلاف ، والرواية والشهادة أيضا كذلك ، فإذا رجع الراوي عن روايته وقال : «اشتبهت في النقل» لارتفع حكمها. وهكذا الشاهد إذا رجع عن شهادته أو انكشف خطؤه.

وأمّا زوال الحكم بزوال الرّأي بجنون ونحوه فأوّلا بالإجماع كما ادّعي. وثانيا بالفرق بين الموت وغيره ، فإنّ الموت يكون كمالا للإنسان ، فالعرف وإن كان يرى الرّأي زائلا بالموت إلّا أنّه لا يرى صاحبه جاهلا عاميّا ، بل يزور قبره ويقبّل ضريحه مثلا ، وهذا بخلاف ما إذا زال رأيه بالجنون ، فإنّ تقليده عندهم تقليد للعاميّ بل لمن يلحق بالحيوانات.

والحاصل : أنّ مقتضى الاستصحاب هو حجّيّة الرّأي إلّا أن يدلّ دليل على خلافه من إجماع ونحوه ، ولولاه لكان اللازم هو القول بحجّيّة رأي من صار مجنونا أيضا.

فظهر أنّ الاستصحاب من حيث اليقين السابق والشكّ اللاحق لا إشكال فيه ، ولكن مع ذلك لا يجري ، لأمرين :

أحدهما : ما بنينا عليه سابقا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة إذا نشأ الشكّ من سعة دائرة الجعل وضيقها.

ثانيهما : أنّ جريان الاستصحاب في مورد لم يكن فيه دليل في البين ، والدليل موجود في المقام ، وهو إطلاقات الأدلّة من الآيات والروايات ، فإنّ المنع عن كونها في مقام البيان من هذه الجهة بلا وجه ـ وليعلم أنّ المدّعى وجود الإطلاق فيما لم تعلم المخالفة بين الميّت والحيّ في الفتوى ، وسيجيء الكلام في مورد العلم بالمخالفة ـ فإنّها في مقام بيان المقلّد وما يعتبر فيه ،

٣٨٩

والمستفاد منها حجّيّة قول «المقلّد» و «الفقيه» و «أهل الذّكر» و «المنذر» و «راوي الحديث» على اختلاف التعابير ، سواء كان المقلّد حيّا بعد الرجوع إليه أو لم يكن.

والسيرة المتشرّعة أيضا على ذلك ، إذ لم يكن التوقّف بعد ممات المرجوع إليه معهودا ممّن رجع إلى أصحاب الأئمّة وأخذ منهم حكما.

ولو لم تكن السيرة المتشرّعة على ذلك ، لكان في بناء العقلاء غنى وكفاية ، ومنكره منكر للأمر الضروري ، ضرورة عدم توقّفهم في أمورهم إذا راجعوا أهل الخبرة بمجرّد موت من رجعوا إليه ، فإذا راجعوا طبيبا فكتب نسخة وعيّن دواء ثمّ مات ، لم يراجعوا طبيبا آخر.

هذا ، لكنّ الإطلاقات غير شاملة لتقليد الميّت ابتداء ، بل ظاهرها بحسب عناوينها وما اعتبر فيها من القيود هو فعليّة هذه العناوين والقيود عند الرجوع إليه والسؤال عنه ، فلا بدّ من صدق عنوان «السؤال عن أهل الذّكر» و «الرجوع إلى رواة الحديث» و «النّظر إلى من عرف الأحكام» و «تقليد من يكون من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه» وأمثال هذه التعابير ، ومن المعلوم أن لا تصدق عرفا هذه العناوين بعد الموت.

نعم ، السيرة العقلائيّة جارية على الرجوع إلى رأي العالم مطلقا حتى ابتداء ، فإنّهم كما لا يتوقّفون فيما رجعوا إلى الحيّ بعد موته كذلك يرجعون إلى الميّت ابتداء إذا كان من أهل الخبرة ، فنرى أنّهم يرجعون إلى قانون «أبو علي سينا» فإذا رأوا أنّه عيّن فيه دواء لمرض خاصّ ، يعالجون به مع تشخيصه.

لكن هذه السيرة مردوعة إمّا بالإجماع ـ والظاهر كفاية هذا الإجماع ، إذ لم ينسب إلى أحد من الطبقة الأولى والطبقة الوسطى جواز تقليد الميّت ابتداء ، والقول بالجواز إنّما نشأ من بعض المتأخّرين بعد الشهيدين ،

٣٩٠

والمحقّقين من الأصوليّين المحقّق القمّي في القوانين ، ومن الأخباريّين المحدّث الأسترآبادي والكاشاني ، ولا يضرّ خلافهم مع أنّ خلاف الأخباريّين من جهة أنّهم لا يرون أصل التقليد جائزا ، ويرون العمل بقول المفتي هو العمل بالرواية لا الفتوى.

وممّا يؤكّد هذا الإجماع أنّه بناء على ما ذكرنا من أنّه مع العلم بالمخالفة لا تشمل الأدلّة شيئا من الفتاوى المختلف .. (١). والدليل حينئذ منحصر بالسيرة ، وهي قائمة على تقليد الأعلم من غير فرق بين كونه حيّا أو ميّتا ، ولازم ذلك هو الرجوع في كلّ عصر إلى من يكون أعلم من الجميع كان حيّا أو ميّتا ، ففي عصر الشيخ الطوسي مثلا ، لا بدّ من الرجوع إليه في زمانه وبعده حتى يأتي زمان يوجد فيه أحد أعلم منه ، وهكذا إلى زماننا هذا ، فينحصر مرجع التقليد بأشخاص مخصوصة ، وهذا بعينه مذهب العامّة الذين حصروا مراجع تقليدهم بالأربع ، وبذلك تأخّروا في الفقه والأصول عن الشيعة تأخّرا فاحشا ، وهو ممّا يقطع بأنّ الخاصّة على خلافه ، بل ادّعي ـ وليس ببعيد ـ أنّ بقاء العلم في الشيعة إنّما هو من جهة عدم تجويز تقليد الميّت وتجديد نظرهم يوما فيوما في مدارك الأحكام ـ الّذي ادّعاه الأكابر على عدم جواز تقليد الميّت ، أو بالأدلّة اللفظيّة التي حصر جواز التقليد فيها بالعناوين التي قلنا : إنّ صدقها يتوقّف على حياة المفتي عند الرجوع إليه.

وبالجملة ، من ضمّ بعضها ـ وهو ما له مفهوم ، كقوله عليه‌السلام : «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه» (٢) إلى آخره ـ إلى بعض يستفاد عدم جواز تقليد غير

__________________

(١) مكان النقاط مخروم في الأصل.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٥١١ ـ ٣٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ١٣١ ، الباب ١٠ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

٣٩١

المتّصف بالصفات المذكورة فيها.

هذا كلّه فيما إذا لم تعلّم مخالفة فتوى الميّت مع فتوى الحيّ ، أمّا فيما إذا علم بالمخالفة ، فلا ينبغي الشكّ في وجوب الرجوع إلى الحيّ إذا كان أعلم وكان قوله موافقا للاحتياط ، إذ أمر الميّت لا يزيد عن الحيّ ، والرجوع من غير الأعلم إلى الأعلم واجب حتى في الحيّ.

وأمّا إذا كان الميّت أعلم وكان قول الحيّ مخالفا للاحتياط بأن أفتى الميّت بوجوب السورة ، والحيّ بعدم وجوبها ، فالظاهر وجوب البقاء ، لما مرّ من سقوط دليل حجّيّة قول كلّ منهما بالمعارضة ، ولا دليل على جواز التقليد إلّا بناء العقلاء ، وهو على اتّباع قول الأعلم من غير فرق بين الحيّ والميّت.

نعم ، إذا كان قول الحيّ موافقا للاحتياط ، لا يجب البقاء بل يتخيّر.

وأمّا إذا لم تحرز أعلميّة أحدهما ، فلو كان إجماع على عدم وجوب الاحتياط ، يجوز البقاء ، كما يجوز الرجوع إلى الحيّ ، وإلّا ـ كما هو كذلك ـ يجب الاحتياط.

والحاصل : أنّه لا بدّ من فرض الميّت حيّا ، فيجري جميع ما جرى في المجتهدين المخالفين في الفتوى ، إذ لا خصوصيّة للميّت بعد شمول إطلاق الدليل له ، فتقع المعارضة بين فتواه وفتوى الحيّ ، ويجري فيه ما ذكرنا هناك.

بقي أمران :

الأوّل : أنّ التقليد وإن كان عبارة عن نفس العمل كما ذكرنا إلّا أنّ جواز البقاء لا يحتاج إلى العمل ، بل يكفي فيه التعلّم والسؤال والأخذ للعمل ، لشمول الأدلّة وجريان السيرة العقلائيّة ، فإنّ السيرة قائمة على العمل بمجرّد الأخذ والتعلّم.

وبالجملة ، العقلاء بعد الرجوع إلى من هو من أهل الخبرة فيما هو خبرة

٣٩٢

فيه يعملون بقوله ولو مات ولم يعملوا به في زمان حياته.

والموضوع في الأدلّة هو «الرجوع إلى رواة الحديث» و «السؤال من أهل الذّكر» و «النّظر إلى من عرف الأحكام» وأمثال ذلك ، فإذا راجعه أو سأله ، يجوز له العمل بقوله ، ويكون حجّة عليه ـ ولو مات بعد ذلك ـ بمقتضى الإطلاق.

الثاني : أنّ معنى الأعلميّة والأفقهيّة بحسب لفظ «أعلم» و «أفقه» هو أكثر علما وفقها ، فإذا كان أحد عالما بألف مسألة من الفقه أو غيره ، وآخر بألفين ، يكون الثاني أعلم وأفقه ، والمراد من لفظ «أفقههما» في مقبولة عمر بن حنظلة (١) أيضا هذا المعنى ، فإنّه هو معناه العرفي.

لكن هذا المعنى غير مراد في المقام قطعا ، لما ذكرنا من أنّ الرجوع إلى الأعلم لا دليل له إلّا السيرة ، ومن المعلوم أنّ السيرة غير قائمة على الرجوع إلى الأعلم بهذا المعنى ، مثلا : إذا كان هناك طبيبان أحدهما طبيب العين فقط ، والآخر طبيب البدن بأجمعه ، لا يرجع العقلاء في مرض العين إلى خصوص من يكون طبيبا للعين ولغيرها من أجزاء البدن دون من يكون طبيبا للعين فقط ، بل يرجعون إليه أيضا إذا كان مساويا مع غيره في الحذاقة ، بل المراد منه في المقام هو من يكون أدقّ نظرا وأعرف بمزايا الكلام وقرائنه الداخليّة والخارجيّة ، كما هو كذلك في جميع الصناعات ، فنرى أنّ أحد الخيّاطين يخيط ثوبا كأنّه قالب البدن ، والآخر أيضا يخيط لكنّه ليس بهذه الجودة ، وهو الّذي جرت السيرة على الرجوع إليه مع الاختلاف ، فإذا كان هناك مجتهدان أحدهما عارف بجميع الأحكام عن اجتهاد ونظر ، والآخر عارف بمقدار أقلّ منه بكثير لكنّه أدقّ نظرا منه ـ والمراد بالدقّة هي الدقّة التي إذا اطّلع عليها العرف

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ـ ٦٨ ـ ١٠ ، الفقيه ٣ : ٥ ـ ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٠١ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

٣٩٣

يعدّونها في محلّها لا الدقّة الفلسفيّة ، فإنّها ربّما تنافي الاجتهاد ـ وأعرف منه بمزايا الكلام ، يكون الثاني أعلم منه ، ولا بدّ من الرجوع إليه مع الاختلاف ولو كان الأوّل أكثر علما منه.

هذا تمام الكلام في الاجتهاد والتقليد. والحمد لله خير ختام ، والصلاة على محمّد خير الأنام ، وعلى آله البررة الكرام.

وقد تمّ في ليلة الاثنين ، السادس والعشرين من شهر ذي الحجّة الحرام سنة ١٣٦٩ من الهجرة.

* * *

٣٩٤

الفهارس العامّة

١ ـ فهرس الآيات القرآنية

٢ ـ فهرس الأحاديث

٣ ـ فهرس أسماء المعصومين عليهم السّلام

٤ ـ فهرس الأعلام

٥ ـ فهرس مصادر التحقيق

٦ ـ فهرس الموضوعات

٣٩٥
٣٩٦

١ ـ فهرس الآيات القرآنيّة

سورة البقرة «٢»

الآية

الرقم

الجزء

الصفحة

مثلهم كمثل الَّذي ...

١٧

١

٧٥

أقيموا الصلاة ...

٤٣

١

٢٨٧ ، ٢٩٧

٣

٤٦

أتأمرون الناس بالبرّ ...

٤٤

١

٢٦٠

وما ظلمونا

٥٧

٣

٣٤

لا ينال عهدي الظالمين

١٢٤

١

١٣٤ ، ١٥٣

إنّ الذين يكتمون ...

١٥٩

٣

٢١٨

كتب عليكم الصيام

١٨٣

١

٢٨٧

٣

٢٦٩ ، ٢٧٠

فمن شهد منكم الشهر ...

١٨٥

٢

٥٤ ، ٣٨٦

٣

١٨ ، ٤٣

كلوا واشربوا حتى ...

١٨٧

٣

٤٢

حتى يتبيّن لكم الخيط ...

١٨٧

٣

١٩٩

٤

٨٨

٣٩٧

الآية

الرقم

الجزء

الصفحة

ثمّ أتمّوا الصيام ...

١٨٧

٢

٢٨٥

٤

٢٣ ، ٦٨ ، ٨٩ ، ١١٥ ، ١١٦

لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

١٩٥

٣

٣٠٧ ، ٥٦٥

لا رفث ولا فسوق ولا جدال ...

١٩٧

٣

٥٣٧ ، ٥٤١

المطلَّقات يتربّصن بأنفسهن ...

٢٢٨

٢

٣٥٩

ولا يحلّ لهنّ أن يكتمن ...

٢٢٨

٣

٢١٨

والوالدات يرضعن أولادهنّ ...

٢٣٣

٢

٢٤٨

أحلّ اللَّه البيع ...

٢٧٥

١

١٠٣ ، ١٠٦ ـ ١٠٩ ، ١١١ ـ ١١٣

٢

٢١٣ ، ٢٢٠ ، ٣٧٣ ، ٤٠٤ ، ٤١٩

٣

١٧٢ ، ١٨٠ ، ٢٢٨ ، ٣٨٧

٤

٢٣٣ ، ٢٧٤ ، ٣٤٦

حرّم الرّبا

٢٧٥

٢

٣٧٣

٣

١٧٢ ، ٥٥٧

لا يكلَّف اللَّه نفسا ...

٢٨٦

٣

٤٨٨

سورة آل عمران «٣»

ولله على الناس حجّ البيت ...

٩٧

١

٢٣٩ ، ٢٧٨

٢

١٥٦ ، ٢٧٢ ، ٣٥٥

٤

١٩٢

ومن كفر فإنّ الله غني ...

٩٧

٤

١٧

فإن كذّبوك فقد كذّب ...

١٨٤

٤

١٧

٣٩٨

سورة النساء «٤»

الآية

الرقم

الجزء

الصفحة

واللاتي يأتين الفاحشة ...

١٥

٣

٤٨٧

وأمّهات نسائكم

٢٣

١

١٣٥

وربائبكم اللاتي في حجوركم ...

٢٣

١

١٣٤

وأن تجمعوا بين الأختين

٢٣

١

١٣٣

تجارة عن تراض

٢٩

١

١٠٨

٤

٢٧٠

فلم تجدوا

٤٣

٣

٥٦٨

أطيعوا الله وأطيعوا ...

٥٩

١

٢٩٧

٣

٣٢٦

سورة المائدة «٥»

أوفوا بالعقود

١

١

١٠٨ ، ١١٣ ، ١١٤

٢

٢١٣ ، ٢٢١ ، ٢٣٩

٣

٣٨٧

٤

١٣٠ ، ١٨٧ ، ١٨٩ ، ١٩٤ ، ٢٧٠

وإذا حللتم فاصطادوا

٢

١

٢٨٤

إلَّا ما ذكَّيتم

٣

٣

٣٢٠

٤

١٠٧

كلوا ممّا أمسكن

٤

٢

١٤٨

إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ...

٦

٢

٨٤ ، ٩٠

٤

١٠٠ ، ٢٦٢

فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ...

٦

٤

٦٨

٣٩٩

الآية

الرقم

الجزء

الصفحة

وإن كنتم جُنباً فاطَّهّروا

٦

٣

٤٤٤

٤

١٠٠

فلم تجدوا ماء فتيمّموا ...

٦

٢

١٤٧ ، ١٦٨

السارق والسارقة فاقطعوا ...

٣٨

١

١٥٢

يد الله مغلولة غلَّت ...

٦٤

٢

٣٨٨

سورة الأنعام «٦»

كلوا ممّا ذكر اسم الله ...

١١٨

٣

٣٢٤

سورة الأنفال «٨»

الآن خفّف الله عنكم ...

٦٦

٢

٣٨٩

وأولوا الأرحام بعضهم ...

٧٥

٤

٨٠

سورة التوبة «٩»

ومنهم الذين يؤذون ...

٦١

٣

٢٢١

وما على المحسنين من ...

٩١

٣

٥٧٨

وما كان الله ليضلّ ...

١١٥

٣

٢٦٣

فلو لا نفر من كلّ فرقة ...

١٢٢

٢

٣٥

٣

٢١٢

سورة يونس «١٠»

إنّ الظنّ لا يغني ...

٣٦

٣

٢٢٨

٤٠٠