الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

باب اجتماع الأمر والنهي (١) ، وهو أنّه إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الماءين ، وردت الرواية على أنّه يهريقهما ويتيمّم (٢). وجعله صاحب الكفاية مقتضى القاعدة ، نظرا إلى أنّ المكلّف بسبب الوضوء بأحدهما ثمّ غسل أعضاء وضوئه بالثاني والوضوء به أيضا يبتلى بنجاسة البدن بمقتضى الاستصحاب ، حيث إنّه بعد صبّ الماء الثاني لغسل العضو وقبل انفصال غسالته يعلم تفصيلا بنجاسة بدنه وبعد انفصال الغسالة يشكّ في زوالها فتستصحب ، ولا يعارض هذا الاستصحاب باستصحاب الطهارة التي علم بعد انفصال غسالة الماء الثاني بتحقّقها في زمان ، إذ ليس لهذا اليقين زمان معيّن فلا يتّصل زمان الشكّ بزمانه.

ولكنّك عرفت عدم اعتبار ذلك في الاستصحاب ، فنشير إلى الزمان الواقعي الّذي في علم الله كان العضو طاهرا فيه ونستصحب تلك الطهارة ، فإذا تعارض الاستصحابان ، يرجع إلى قاعدة الطهارة ، لكن في خصوص مورد الرواية خصوصيّة توجب ورودها على طبق القاعدة غير ما أفاده ، وهي وجود العلم الإجمالي بعد غسل أحد الأعضاء بالماء الثاني بنجاسة المغسول أو غيره ممّا لم يغسله بعد ، مثلا : إذا صبّ الماء الثاني على وجهه ، يعلم إجمالا إمّا بنجاسة وجهه إن كان النجس هو الماء الثاني ، أو بنجاسة يده إن كان النجس هو الماء الأوّل ، وبهذا ظهر عدم الفرق بين كون الثاني كرّا أو قليلا ، إذ الوضوء تدريجي يحصل شيئا فشيئا.

ثمّ إنّه ربّما نسب إلى العلّامة قدس‌سره القول بالأخذ بنفس الحالة السابقة على الحالتين.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢١٦.

(٢) الكافي ٣ : ١٠ ـ ٦ ، التهذيب ١ : ٢٢٩ ـ ٦٦٢ ، الاستبصار ١ : ٢١ ـ ٤٨ ، الوسائل ١ : ١٥١ ، الباب ٨ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٢.

١٨١

وهو بظاهره بيّن الفساد ، فلا بدّ من توجيهه.

وربّما يفصّل تفصيل آخر في هذه المسألة عكس تفصيل صاحب الكفاية ، وهو جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ ـ أي استصحاب عدمه ـ دون معلومه ، نقله الشيخ قدس‌سره عن بعض في الرسائل ، وأورد عليه بأنّ استصحاب عدم الوضوء إلى الزمان المعلوم تحقّق الحدث فيه كالظهر ـ مثلا ـ لا يثبت حدوث الوضوء بعد الحدث ، وهكذا العكس ، يعني ما إذا كان تاريخ الوضوء معلوما (١).

ثمّ إنّ ما نسبناه إلى الشيخ قدس‌سره ـ من إنكار جريان الاستصحاب في مجهول التاريخ دون معلومه اعتمادا على نقل شيخنا الأستاذ قدس‌سره (٢) ونسبته إليه ـ لا يستفاد من شيء من كلماته في طهارته ورسالته بل ظاهرها ـ لو لا صريحها ـ جريان الاستصحاب فيهما ، فالظاهر أنّ النسبة ليست بصحيحة.

نعم ، يقول الشيخ بهذا التفصيل في الحادثين اللذين يكون الأثر مترتّبا على عدم أحدهما عند وجود الآخر.

التنبيه العاشر : ربّما يقال باستصحاب الصحّة عند الشكّ في المانعيّة ، فيقال : قبل حدوث التبسّم في أثناء الصلاة كانت الصلاة متّصفة بالصحّة فالآن كما كانت.

وأورد على هذا القول الشيخ قدس‌سره بأنّ المراد إن كان صحّة الكلّ بمعنى مطابقة المأتيّ به للمأمور به ، فالشكّ فيها شكّ في الحدوث لا في البقاء ، فلا معنى لاستصحابها.

وإن كان المراد استصحاب صحّة الأجزاء السابقة بمعنى قابليّتها لانضمام

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٨٨.

(٢) نسب المحقّق النائيني إلى الشيخ قدس‌سرهما عكس التفصيل ، انظر : أجود التقريرات ٢ : ٤٢٤.

١٨٢

سائر الأجزاء بشرائطها إليها ، فهي مقطوعة ، إذ الشيء لا ينقلب عمّا هو عليه ، مضافا إلى أنّ القطع بها لا يفيد شيئا فضلا عن استصحابها ، حيث لا يثبت بها انضمام ما لحق بما سبق ، فلا مناص عن الرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال على الخلاف في الشكّ في الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

نعم ، لو قلنا بالاستصحاب التعليقي حتى في الموضوعات ، لتمّ هذا الاستصحاب ، لكن قد مرّ أنّه في الأحكام ممنوع فضلا عن الموضوعات.

ثمّ إنّه قدس‌سره فرّق بين المانع والقاطع بدعوى أنّ المانع ما اعتبر عدمه في الصلاة ـ مثلا ـ والقاطع ما يكون قاطعا عند الشارع للهيئة الاتّصاليّة الثابتة لأجزاء الصلاة ، كالقهقهة والاستدبار وخروج الحدث وغيرها ممّا عبّر عنها في لسان الروايات بالقاطع ، واستصحاب الصحّة في الأوّل غير تامّ ، لما عرفت ، ولا مانع منه في الثاني ، فعند الشكّ في قاطعيّة التبسّم نقول : قبل حدوث التبسّم كانت الهيئة الاتّصاليّة متحقّقة للصلاة فنستصحبها (١).

وفيه أوّلا : أنّ القاطع أيضا ليس إلّا ما اعتبر عدمه في الواجب ، والفرق ليس إلّا في التعبير.

وثانيا : لو سلّم الفرق ، فلا محالة يكون بزيادة خصوصيّة في القاطع ، مضافا إلى ما في المانع بحيث تكون للقاطع حيثيّتان : حيثيّة قطعه للهيئة الاتّصاليّة ، وحيثيّة اعتبار عدمه في الواجب ، فلو فرض جريان الاستصحاب بالحيثيّة الأولى ، فلا يمكن جريانه بالحيثيّة الثانية ، فلا بدّ مع ذلك من الوقف والرجوع إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال على الخلاف.

وثالثا : لو فرضنا تباينهما وعدم وجود الحيثيّة الثانية في القاطع بل كان

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

١٨٣

معناه ما يقطع الهيئة الاتّصاليّة فقط من دون اعتبار عدمه في الصلاة ، نقول : المستصحب أيّ شيء هو؟ فإنّ الهيئة الاتّصاليّة لجميع الأجزاء مشكوكة الحدوث ، والهيئة الاتّصاليّة للأجزاء السابقة مقطوعة التحقّق ، ولا يفيد القطع بها اتّصال ما لحق بما سبق فضلا عن استصحابها.

وبالجملة ، يرد عليه ما أورده في المانع حرفا بحرف ، فالصحيح عدم صحّة استصحاب الصحّة في المانع والقاطع.

نعم ، لو كانت الشبهة موضوعيّة لا حكميّة ، يصحّ الاستصحاب ويتمّ الموضوع المركّب بضمّه إلى الوجدان ، مثلا : إذا علمنا بقاطعيّة القهقهة وشككنا في كون الصادر منّا كذلك ، أو في أصل صدورها ، نستصحب عدمها ، ونحكم بمطابقة المأتيّ به للمأمور به لإحراز عدم القهقهة بالأصل ، وغيره من الأجزاء والشرائط بالوجدان.

التنبيه الحادي عشر : يعتبر في جريان الاستصحاب أمور أربعة : اليقين السابق ، والشكّ اللاحق ، ووجود أثر يمكن ترتيبه على المستصحب في زمان الشكّ ، والدليل على حجّيّة الاستصحاب ، فإذا تمّت هذه الأمور ، يجري الاستصحاب بلا إشكال ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المستصحب من الأفعال الجوارحيّة وأن يكون من الأفعال الجوانحيّة ، كالأمور الاعتقاديّة إذا لم يكن المطلوب فيها هو اليقين الوجداني ، لصدق نقض اليقين بالشكّ في جميع ذلك ، وأمّا إذا كان المطلوب فيها هو العلم واليقين الوجدانيّين ، كالنبوّة والإمامة ، فلا يمكن استصحابها ، لعدم وجود أثر للنبوّة الاستصحابيّة.

وبذلك ظهر ما في تمسّك الكتابي بالاستصحاب ، فإنّه إمّا يتمسّك به إقناعا وإظهارا لمعذوريّته في اعتقاده أو إلزاما للمسلم وعلى كلّ تقدير إمّا يستصحب نبوّة موسى ـ مثلا ـ أو يستصحب الأحكام الثابتة في شريعته عليه‌السلام.

١٨٤

فإن أراد أن يجعل الاستصحاب حجّة فيما بينه وبين الله ، فحقيق بأن يقال : إنّه أوهن من بيت العنكبوت.

أمّا استصحاب نبوّة موسى عليه‌السلام : فلما ذكر من اعتبار أمور أربعة في جريان الاستصحاب ، وليس في هذا الاستصحاب إلّا اليقين والشكّ ، حيث إنّ اعترافه بالشكّ في انتهاء أمد نبوّة موسى عليه‌السلام ـ مع كونها ممّا يطلب فيها اليقين ـ اعتراف بعدم وجود أثر للمستصحب. ثمّ على فرض وجود أثر له لا دليل على حجّيّة الاستصحاب في شريعته.

وأمّا استصحاب الأحكام : فلا أثر له أيضا ، لأنّ الشبهة حكميّة ، والاستصحاب أصل لا يجري إلّا بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل ، وبالفحص يحصل له العلم بنسخ جملة منها. هذا مضافا إلى عدم الدليل في شريعته عليه‌السلام على حجّيّة الاستصحاب.

وإن أراد إلزام المسلم فلا يوجد شيء من الأمور الأربعة في استصحاب النبوّة :

أوّلا : لعدم يقين المسلم بنبوّة موسى عليه‌السلام وسائر النبوّات إلّا من طريق الإسلام ، ولولاه لأمكنت المناقشة في جميعها ، لعدم اقترانها بمعجزة باقية كنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا مضمون ما ذكره أبو الحسن مولانا الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق (١) ، ولا يحتاج إلى تأويل.

ولا يرد على ظاهره ما أورده الشيخ قدس‌سره من أنّ موسى بن عمران شخص واحد وجزئي حقيقي اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته (٢) ، وذلك لأنّ هذا الشخص الخاصّ لا ريب في وجوده وإنّما الإشكال في نبوّته لو لا ثبوتها بطريق

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٤٠٤ ، وعنه في البحار ١٠ : ٣٠٢.

(٢) فرائد الأصول : ٣٩١.

١٨٥

الإسلام.

وثانيا : لا شكّ للمسلم على فرض يقينه بنبوّة موسى عليه‌السلام ـ في بقائها ، لأنّه قاطع بانتهاء أمدها ، وإلّا لا يكون مسلما.

وثالثا : لو فرض الشكّ ، فلا أثر لهذا الاستصحاب.

ورابعا : لا دليل على حجّيّته في مثل أمر النبوّة لا في الإسلام ولا في غيره.

نعم ، لو دلّ دليل في الشريعتين أو شريعة الإسلام فقط على حجّيّة الاستصحاب في مثل أمر النبوّة ، لكان لإلزام الكتابي مع قطع النّظر عن الإشكالات السابقة وجه إلّا أنّ الشأن في إثبات ذلك.

وإن أراد إلزام المسلم باستصحاب أحكام الشريعة السابقة ، فلا يتمّ أيضا شيء من الأركان. ووجهه ظهر من سابقه.

وممّا ذكر ظهر ما في تفصيل صاحب الكفاية بين أن تكون النبوّة من المناصب المجعولة ، فيمكن استصحابها ، وأن تكون ناشئة من كمال النّفس بمرتبة تتّصل باللوح المحو والإثبات بل اللوح المحفوظ ، فلا يمكن (١) ، وأنّه لا فرق في البين ولا يجري الاستصحاب في شيء من الصورتين ، لأنّ النبوّة ممّا يكون المطلوب فيها المعرفة واليقين الوجدانيّين ، فلا أثر لاستصحابها.

التنبيه الثاني عشر : لا إشكال في عدم جواز التمسّك بالاستصحاب وغيره من الأصول مع وجود دليل موافق أو مخالف له ولو كان عامّا أو إطلاقا ، لمكان ارتفاع موضوع الأصل ـ وهو الشكّ ـ بوجوده ، فهو حاكم عليه أو وارد ، على الكلام.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٨١ ـ ٤٨٢.

١٨٦

وإنّما وقع الكلام والإشكال فيما إذا خصّص العامّ أو المطلق المفيد للعموم من جهتين : الأفرادي والأزماني ، بمخصّص في بعض الأزمان في أنّه هل هو من موارد التمسّك بالعامّ ، والحكم بأنّ الفرد الخارج محكوم بحكم العامّ فيما بعد زمان التخصيص ، أو من موارد التمسّك باستصحاب حكم المخصّص؟

وهذا البحث بحث نفيس ، له كثير فائدة في الفقه سيّما في باب الخيارات ، فإذا شكّ في خيار الغبن أنّه فوري ينقضي بمجرّد ظهور الغبن وعدم إعمال ذي الخيار خياره مع تمكّنه منه ، أو أنّه باق حتى مع التسامح والتساهل؟ يجري هذا الكلام.

وتمسّك المحقّق الثاني قدس‌سره بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) وحكم بفورية الخيار (٢).

واستشكل عليه الشيخ قدس‌سره ، وحاصل إشكاله ـ على ما هو ظاهر كلامه في رسالته ـ هو أنّ الدليل الدالّ على حكم العامّ إن أخذ الزمان فيه ظرفا للحكم بحيث يكون الحكم حكما واحدا مستمرّا ، له إطاعة واحدة وعصيان واحد بنحو العامّ المجموعي نظير وجوب الإمساك من الفجر إلى المغرب ، فالمورد مورد للتمسّك بالاستصحاب ، ولا يجوز التمسّك بالعامّ ولو لم يكن الاستصحاب جاريا لمانع من ابتلائه بمعارض ونحوه ، لخروج العقد الغبني ـ مثلا ـ عن تحت العامّ في زمان ، وعوده بعد ذلك وشموله له يحتاج إلى دليل.

وإن أخذ قيدا للحكم ومفرّدا له بنحو العامّ الاستغراقي بحيث يكون هناك أحكام متعدّدة بحسب تعدّد الأزمان ، ويكون لكلّ منها إطاعة وعصيان

__________________

(١) المائدة : ١.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣٨.

١٨٧

مستقلّان ، نظير وجوب صوم شهر رمضان ، فالمورد مورد للتمسّك بالعموم ، ولا يجوز التمسّك بالاستصحاب ولو فرض عدم جواز التمسّك بالعموم لمانع من ابتلائه بمعارض ونحوه ، لأنّه قياس وإسراء حكم من موضوع إلى آخر ، وليس من الاستصحاب في شيء (١).

هذا ، وصاحب الكفاية (٢) أورد على إطلاق كلام الشيخ قدس‌سره نفيا وإثباتا وفصّل تفصيلا آخر ، وحاصله : أنّه لا بدّ من النّظر إلى دليل العامّ ودليل المخصّص كليهما ، فإن أخذ الزمان في كلّ منهما قيدا ومفرّدا ، فلا بدّ من التمسّك بالعامّ لا الاستصحاب ولو كان العامّ مبتلى بالمعارض.

وإن أخذ في كلّ منهما ظرفا ، فلا بدّ من التمسّك بالاستصحاب لا العامّ ولو كان الاستصحاب مبتلى بالمعارض.

وإن أخذ في العامّ قيدا وفي الخاصّ ظرفا ، فالمورد مورد التمسّك بالعامّ ، لكن إذا كان العامّ مبتلى بالمعارض ، فلا مانع من التمسّك بالاستصحاب.

وإن أخذ في العامّ ظرفا وفي الخاصّ قيدا على عكس سابقه ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ ، لانقطاع حكمه ، وعدم الدليل على عوده ثانيا ، ولا يجوز التمسّك بالاستصحاب أيضا ، لأنّه من القياس.

ثمّ استثنى قدس‌سره من القسم الثاني ما إذا كان الخاصّ غير قاطع لحكم العامّ بأن كان مخصّصا له من أوّل الأمر ، كدليل خيار المجلس ، فحكم بجواز التمسّك بالعامّ بعد ذلك الزمان.

وعمدة الفرق وسرّه أنّ القول بعدم جواز التمسّك بالعامّ في هذا الفرض

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

(٢) كفاية الأصول : ٤٨٣ ـ ٤٨٤.

١٨٨

مستلزم للتخصيص الأفرادي وخروج هذا الفرد عن تحت العامّ بالمرّة ، وهذا بخلاف ما إذا كان التخصيص من الوسط ، كخيار الغبن ، فإنّ العقد الغبني كان تحت عموم (أَوْفُوا)(١) في زمان ، فإذا تمسّك بالاستصحاب بعد ذلك الزمان ولم يتمسّك بالعامّ ، لم يلزم منه تخصيص العامّ تخصيصا أفراديّا بل كان عمومه الأفرادي باقيا ، غاية الأمر أنّه في زمان قصير.

والحاصل : أنّه إذا كان لدليل عمومان : أفراديّ وأزمانيّ ، فمقتضى أصالة العموم إبقاؤه على عمومه الأفرادي والأزماني ما لم يقطع بالتخصيص ، فإذا قطع بالتخصيص الأزماني وشكّ في تخصيصه الأفرادي ، فلا بدّ من الحكم ببقاء عمومه الأفرادي.

وما أفاده أخيرا من الاستثناء تامّ ـ مع قطع النّظر عمّا سيجيء ـ فيما إذا كان العمومان ـ الأفرادي والأزماني ـ مستفادين من دليلين بأن كان دليل دالّا على لزوم العقد في الجملة ، ودليل آخر دالّا على استمرار هذا اللزوم ، وأمّا إذا كان كلّ من اللزوم والاستمرار مستفادا من نفس دليل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) ـ كما هو كذلك ، فإنّ مادّة «الوفاء» الّذي هو بمعنى الإتمام والإنهاء إلى الآخر وعدم رفع اليد عمّا التزم به بنفسها يستفاد منها كلا الأمرين ـ فلا يتمّ هذا الكلام ، حيث إنّ العامّ إذا خرج عن تحته ـ بمقتضى دليل خيار المجلس ـ عقد في زمان وحكم بعدم وجوب إتمام العقد وإنهائه إلى آخره وجواز رفع اليد عنه وفسخه ، فبأيّ دليل بعد ذلك نحكم بوجوب الإتمام والإنهاء؟

ثمّ إنّ لشيخنا الأستاذ قدس‌سره تفصيلا آخر في المقام في مقام بيان مراد الشيخ قدس‌سره ، وادّعى أنّ ظاهر كلامه في الرسائل غير مراد ، وبه دفع جميع

__________________

(١ و ٢) المائدة : ١.

١٨٩

الإشكالات الواردة عليه قدس‌سره.

وحاصل ما أفاده : أنّ كلّ قضيّة من القضايا الشرعيّة مشتمل على موضوع ومتعلّق وحكم ، والموضوع ربّما يكون أمرا واحدا وربّما يكون أكثر ، مثلا : قضيّة (لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً)(١) مشتملة على موضوعين : المغتاب ـ بالفتح ـ والمغتاب ـ بالكسر ـ وعلى متعلّق هو الغيبة ، وحكم هو الحرمة. والموضوع دائما يكون مفروض الوجود ، وحيث يكون غالبا من الجواهر كالمكلّف والخمر ، لا يكون الزمان مفرّدا أو مكثّرا له ، ضرورة أنّ الخمر الموجود يوم السبت لا يصير يوم الأحد فردا آخر من الخمر ، وهذا بخلاف المتعلّق ، كالإكرام ، فإنّ الزمان مفرّد له ويكون الإكرام يوم السبت فردا من الإكرام ، والإكرام يوم الأحد فردا آخر منه. وبذلك ظهر أنّ العموم الأزماني لا يتصوّر في الموضوع ، وأنّه كما يتصوّر في الحكم كذلك يتصوّر في المتعلّق ، فيمكن أن يكون الزمان ظرفا أو قيدا للمتعلّق بنحو العامّ الاستغراقي أو المجموعي ، كما يمكن أن يكون ظرفا أو قيدا للحكم ، مثلا : يمكن أن يقال : الإكرام في كلّ يوم واجب ، كما يمكن أن يقال : الإكرام واجب ووجوبه مستمرّ في كلّ يوم ، فالحكم في الأوّل وارد على العموم ، والعموم في الثاني وارد على الحكم ، فيكون الحكم موضوعا للحكم بالاستمرار.

والفرق بينهما ـ مع كونهما متضايفين بمعنى أنّ استمرار الحكم ملازم لاستمرار المتعلّق وبالعكس ـ من جهتين :

الأولى : أنّ الدليل المتكفّل لبيان الحكم بنفسه متكفّل للعموم الأزماني إذا لوحظ في ناحية المتعلّق ، وأمّا إذا لوحظ في ناحية الحكم ، فلا يمكن تكفّل

__________________

(١) الحجرات : ١٢.

١٩٠

دليل الحكم بنفسه لاستمراره أيضا ، بل لا بدّ لذلك من دليل آخر ، وذلك لما ذكرنا من أنّ الحكم إذا كان مصبّا للعموم الأزماني يكون موضوعا للحكم بالاستمرار ، فلا بدّ من أخذه مفروض الوجود ثمّ الحكم باستمراره ، فكيف يمكن الحكم باستمرار حكم بنفس إنشائه!؟

الثانية : أنّ الاستمرار إذا لوحظ في جانب المتعلّق سواء كان بنحو العامّ الاستغراقي أو المجموعي فخرج ـ مثلا ـ إكرام زيد العالم في يوم السبت من عموم «العلماء في كلّ يوم يجب إكرامهم» وشككنا في خروجه بعد ذلك الزمان أيضا ، فلا بدّ من التمسّك بأصالة العموم ، إذ لا فرق بين الأفراد العرضيّة ، كإكرام زيد وعمرو وبكر ، والأفراد الطولية ، كإكرام زيد يوم السبت وإكرامه يوم الأحد ، فإذا خصّ العامّ بفرد من الأفراد الطوليّة أو العرضيّة أو جزء من الأجزاء في المجموعي منه وشكّ في تخصيص أكثر من ذلك ، فعموم العامّ ـ استغراقيّا كان أو مجموعيّا ـ محكّم بالنسبة إلى الباقي.

وأمّا إذا لوحظ في طرف الحكم ، فلا يمكن التمسّك بالعامّ المتكفّل لبيان استمرار الحكم عند الشكّ في التخصيص ، إذ الشكّ في التخصيص مساوق للشكّ في ثبوت الحكم للفرد المشكوك ، وإذا شكّ في ثبوته ، فلم يحرز وجوده حتى يحكم باستمراره ، إذ الدليل الثاني يحكم باستمرار الحلّيّة مثلا ، فلا بدّ من أن تكون الحلّيّة محرزة ومفروضة الوجود حتى يمكن إثبات استمرارها به ، فالتمسّك به ـ أي بدليل استمرار الحكم ـ لإثبات استمرار الحكم المشكوك نظير التمسّك ب «حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة» لإثبات استمرار حلّيّة شرب التتن ، المشكوكة حلّيّته (١).

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٣٩ ـ ٤٤١. والرواية في الكافي ١ : ٥٨ ـ ١٩ و ٢ : ١٧ ـ ١٨ ـ ٢.

١٩١

هذا ، وللنظر فيما أفاده مجال ، لأنّ ما أفاده من عدم إمكان تكفّل دليل الحكم لبيان استمراره إنّما يتمّ بالنسبة إلى مقام استمرار الجعل ، فإنّ نفس دليل (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ)(١) لا يمكن أن يتكفّل لاستمرار هذا الجعل ، وأنّه مستمرّ لا ينسخ ، بل لا بدّ لإثبات ذلك من التمسّك بدليل آخر لفظي ، ك «حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة» أو أصل عملي ، كاستصحاب عدم النسخ.

أمّا استمرار المجعول وسعة دائرته وضيقها ـ الّذي هو مركز البحث ومحلّ النزاع ، إذ لا نزاع في نسخ حكم خيار الغبن وعدم نسخه ـ فيمكن تكفّل دليل واحد له بلا ريب ، كما في إنشاء الزوجيّة الدائميّة ، مثلا : يمكن جعل وجوب الحجّ في كلّ سنة بإنشاء واحد ، كما يمكن جعل وجوبه مرّة واحدة في العمر. وهذا واضح جدّاً.

ثمّ لو سلّمنا الفرق المذكور ، فلا نسلّم الفرق الثاني في المقام ، أي صحّة التمسّك بالعموم إذا لوحظ الاستمرار في المتعلّق ، وعدم صحّته إذا لوحظ في الحكم ، إذ العقد الغبني كان عقدا لازما عند ظهور الغبن يقينا ، فموضوع الحكم باستمرار اللزوم ـ وهو العقد اللازم ـ قد تحقّق ، فلا بدّ من الحكم باستمرار اللزوم في جميع الأزمنة إلّا زمان خرج بالدليل.

هذا ، مضافا إلى ما تقدّم في بحث التعبّدي والتوصّلي من أنّ الزمان دائما يكون ملحوظا في المتعلّق دون الحكم إلّا في مرحلة الجعل.

وبالجملة ، هذا التفصيل الّذي أفاده لا يمكن المساعدة عليه. وكلام الشيخ يأباه أيضا ، بل صرّح بخلافه في مواضع من كلامه (٢) ، وبعد ذلك لا يبقى

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) انظر على سبيل المثال : فرائد الأصول : ٣٩٥.

١٩٢

مجال لبيان حكم مورد الشكّ في ورود الحكم على العموم أو العكس ، فإنّه بلا فائدة.

والتحقيق الحقيق بالتصديق : هو لزوم التمسّك بالعامّ في جميع الصور.

بيان ذلك : أنّ الدليل إذا كان له ظهور في العموم الأزماني ، فلا مناص عن اتّباع هذا الظهور وعدم رفع اليد عنه إلّا بمقدار عارضه دليل أقوى منه ، ولا فرق في ذلك بين العموم الاستغراقي والمجموعي ، وأن يكون خروج الخارج من أوّل الأمر أو الوسط أو الآخر ، فإذا ورد «أكرم العلماء في كلّ يوم» وورد أيضا «لا تكرم زيدا العالم يوم السبت» لم يصادم ظهور العامّ إلّا بهذا المقدار ، يعني إكرام زيد يوم السبت ، فتكشف هذه القرينة المنفصلة عن أنّ المراد الجدّي من العامّ من الأوّل غير هذا الفرد في هذا اليوم ، وهكذا في العامّ المجموعي إذا قال المولى : «أكرم هؤلاء العشرة» أو «بع جميع كتبي» ثمّ قال : «لا تكرم زيدا من هذه العشرة» أو قال : «لا تبع الكتاب الفلاني» فإنّه لا ينبغي الشكّ في لزوم إكرام التسعة الباقية ، وبيع سائر الكتب.

ومن هذا القبيل ورود دليل على وجوب السورة في الصلاة مع ورود دليل آخر على عدم وجوبها على المستعجل وهكذا ورود دليل على لزوم الجهر في الصبح والمغرب والعشاء وورود دليل آخر على كون خصوص النساء بالخيار ، وهل يتوهّم أحد عدم جواز التمسّك بالدليل العامّ الّذي عمومه مجموعي ، واعتبر مجموع تلك الأجزاء والشرائط لإثبات اعتبار باقي الأجزاء والشرائط؟

ودعوى أنّ الحكم حيث كان واحدا متعلّقا بعشرة أجزاء مثلا ، وعلم من دليل آخر عدم كون العشرة مأمورا بها ولم يدلّ الدليل الأوّل على كون التسعة مأمورا بها ، فيجوز ترك جميع الأجزاء بالمرّة واضحة الفساد ، لما عرفت من أنّ

١٩٣

الدليل الثاني قرينة منفصلة على أنّ المراد الجدّي من الدليل الأوّل هو وجوب تسعة أجزاء لا غير ، كما إذا بيّن ذلك بالاستثناء المتّصل ، ففي جميع الموارد لا بدّ من التمسّك بالعامّ فيما لم يقطع بخروجه ، أو لم يدلّ دليل أقوى على خروجه ، ولا فرق بين الأفراد العرضيّة والطوليّة ، كما عرفت.

هذا ، وفي الآية المباركة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) خصوصيّة لمادّة «الوفاء» ـ الّذي قلنا : إنّه بمعنى الإتمام والإنهاء إلى الآخر ، يقال : «الدرهم الوافي» أي : الكامل التامّ. والوفاء بالعهد والوعد : إبقاؤه وعدم نقضه ، ولازم عدم النقض العمل بما عهد ووعد ـ وهي أنّ الأمر بالوفاء إمّا مولويّ أو إرشاد إلى لزوم العقد وعدم انفساخه بالفسخ ، وعلى كلّ حال يستفاد من الآية المباركة لزوم العقد إمّا مطابقة أو التزاما ، واللزوم حكم واحد غير قابل للتعدّد بحسب الأزمنة ، فكلّ عقد ، له لزوم واحد ووفاء فارد ، فعموم الآية من جهة الأزمان مجموعيّ ، فإذا خرج عقد في زمان بدليل لم يكن له إطلاق ـ كدليل خيار الغبن ، فإنّ دليله إجماع أو «لا ضرر» ـ يتمسّك بعموم الآية ، ويحكم بفوريّته.

التنبيه الثالث عشر : الشكّ المأخوذ في أخبار الاستصحاب هو بحسب اللغة والعرف خلاف اليقين ، وإطلاقه على الاحتمال المتساوي الطرفين اصطلاح من المنطقيّين أو غيرهم ، فمع الظنّ بالخلاف أيضا يجري الاستصحاب.

ولو فرض كون معناه الاحتمال المتساوي الطرفين بحسب اللغة والعرف ، ففي نفس أخبار الباب قرائن على كون المراد منه خلاف اليقين ، فإنّ قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة بعد السؤال عنه : عمّا إذا حرّك في جنبه شيء وهو

__________________

(١) المائدة : ١.

١٩٤

لا يعلم : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام» (١) يدلّ على أنّ الوضوء لا ينقض ما لم يستيقن بالناقض.

وجعله عليه‌السلام هذه صغرى لقوله عليه‌السلام : «ولا تنقض اليقين بالشكّ» (٢) ـ مع أنّ هذا ، أي تحريك شيء في جنب الشخص أمارة غالبيّة بل دائميّة مفيدة للظنّ بالناقض ـ دليل على أنّ نقض اليقين بالظنّ بالخلاف مصداق لنقض اليقين ، فيدلّ على عدم اختصاص ذلك بالوضوء. وهذا مراد صاحب الكفاية (٣) وإن كان في عبارته تشويش واضطراب.

وقد استدلّ الشيخ قدس‌سره على ذلك بوجهين آخرين :

الأوّل : الإجماع.

وفيه ـ مع تسليمه وعدم وهنه بمخالفة الشيخ البهائي وغيره ـ : أنّ المجمعين لعلّهم استندوا إلى ظواهر الأخبار.

الثاني : أنّ الظنّ غير المعتبر وجوده كعدمه إن كان كالقياس ممّا علم بعدم اعتباره ، وإن شكّ في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين السابق به إلى نقض اليقين بالشكّ (٤).

ويرد عليه : ما أورده صاحب الكفاية (٥) من أنّ هناك أمرين قد خلط أحدهما بالآخر ، إذ عدم اعتبار الظنّ أمر ، وترتيب آثار الشكّ عليه أمر آخر ، فإذا فرضنا أخذ الشكّ في موضوع الاستصحاب ، فمع الظنّ غير المعتبر لا يجوز العمل بالظنّ ، ولا يجري الاستصحاب أيضا ، لعدم تحقّق موضوعه ، فلا بدّ من

__________________

(١ و ٢) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٣) انظر : كفاية الأصول : ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

(٤) فرائد الأصول : ٣٩٨.

(٥) كفاية الأصول : ٤٨٥ ـ ٤٨٦.

١٩٥

الرجوع إلى أصل آخر من الأصول.

تتمّة : يعتبر في جريان الاستصحاب بقاء الموضوع ، وعدم قيام أمارة ولو على وفاقه ، فهاهنا مقامان :

الأوّل : في اعتبار بقاء الموضوع بمعنى اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة بموضوعها ومحمولها ونسبتها ـ والتعبير عنه ببقاء الموضوع من باب أنّ الموضوع بوصف موضوعيته يستلزم ذلك ، أو باعتبار أنّ الموضوع أكبر أجزاء القضيّة ـ وفي أنّ هذا الاتّحاد هل هو بنظر العرف ، أو بحسب دليل الحكم ، أو بنظر العقل؟

أمّا اعتبار بقاء الموضوع فيدلّ عليه ـ كما أفاده صاحب الكفاية (١) ـ أخذ نقض اليقين بالشكّ في أدلّة الاستصحاب ، ولا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان.

وما علّله به شيخنا الأنصاري قدس‌سره ـ من أنّه لولاه يلزم انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر وهو محال (٢) ، كما أفاده شيخنا الأستاذ (٣) قدس‌سره ـ تبعيد للمسافة ، مع عدم تماميته في نفسه ، إذ المستصحب لا يكون دائما من الأعراض ، فإنّه ربّما يكون من الجواهر ، وربّما يكون من الأمور الاعتباريّة ، كالملكيّة والرقّيّة والزوجيّة وغير ذلك.

مع أنّ استحالته خارجا لا تستلزم استحالته تعبّدا باعتبار آثاره الشرعيّة ، ضرورة أنّه لا مانع ولا محذور في تعبّد الشارع بعدالة ابن زيد عند الشكّ فيها إذا كان على يقين من عدالة أبيه ، فيحكم بلزوم ترتيب آثارها عند ذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٨٦.

(٢) فرائد الأصول : ٤٠٠.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٦.

١٩٦

وبالجملة ، تفصيل الكلام : أنّ المستصحب إمّا أن يكون حكما أو موضوعا ، وعلى الثاني إمّا أن يكون المحمول الثابت للموضوع من المحمولات الأوّليّة ، أي ما كان ثبوته له بنحو مفاد «كان» التامّة أو «ليس» التامّة ، وإمّا أن يكون من المحمولات الثانويّة ، أي ما كان ثبوته له بنحو مفاد «كان» الناقصة ، والأوّل كاستصحاب نفس وجود زيد وحياته والثاني كاستصحاب عدالته وقيامه وغير ذلك من أوصافه.

ولا فرق في الثاني بين أن يكون ثبوت المحمول للموضوع بلا واسطة أو بواسطة ثبوت محمول آخر له ـ كقيام زيد ، فإنّه يتوقّف على أن يكون زيد مستوي الخلقة ، قادرا على القيام حال الشكّ ـ لأنّه لا دخل له فيما نحن بصدده.

ثمّ إنّه لا إشكال في استصحاب الموضوع بنحو مفاد «كان» التامّة أو «ليس» التامّة في عدم لزوم إحراز وجود الموضوع أو عدمه ، ضرورة أنّه بعد إحرازه لا يبقى مجال للاستصحاب ، فيكفي في هذا الاستصحاب نفس تصوّر الماهيّة ، فيحكم بوجودها أو عدمها إذا كان ذلك متيقّنا في زمان وشكّ في بقائه.

وأمّا استصحابه بمفاد «كان» الناقصة فعلى أقسام ، إذ الشكّ تارة يكون في المحمول المترتّب الثانوي فقط ، كما إذا شكّ في عدالة زيد مع إحراز حياته ، ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم.

وأخرى يكون الشكّ في المحمول الثانوي والأوّلي كليهما ، كالشكّ في حياة زيد وعدالته ، وهو على قسمين : ما إذا كان الشكّ في العدالة ـ مثلا ـ مسبّبا عن الشكّ في وجود زيد وحياته بحيث لو قطع بحياته لقطع بعدالته أيضا ، وما إذا لم يكن كذلك بحيث لو فرض القطع بحياته أيضا يشكّ في عدالته.

وربّما يستشكل في جريان الاستصحاب في هذين القسمين ، نظرا إلى أنّ العدالة لا يمكن استصحابها ، لعدم إحراز وجود موضوعها وهو زيد ،

١٩٧

واستصحاب حياة زيد وإن كان ممكنا إلّا أنّه لا تترتّب عليه آثار عدالته ، ولا تثبت به عدالته.

ولكن لنا أن نستصحب الوجود الخاصّ ، وهو وجود زيد المتّصف بالعدالة ، الّذي كنّا على يقين منه ونكون الآن شاكّين فيه ، بل في القسم الأخير يمكننا استصحاب كلّ من حياة زيد وعدالته مستقلّا ، كما نستصحب كلّا من وصفي الإطلاق والكرّيّة فيما إذا شككنا في بقاء الماء ـ الّذي كنّا على يقين من إطلاقه وكرّيّته ـ على إطلاقه وكرّيّته وعدم بقائه على ذلك ، إذ الاستصحاب كما يجري في أصل الموضوع البسيط كذلك يجري في جزء الموضوع المركّب إذا كان جزؤه الآخر محرزا بالوجدان أو بالأصل ، فيجري الاستصحاب فيما إذا كان كلا جزأي الموضوع المركّب مشكوك البقاء ، فيحرز بقاء كلّ منهما بالاستصحاب ، ويلتئم الموضوع المركّب بذلك ، وكلّ ذلك من جهة صدق نقض اليقين بالشكّ ، فلا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب في جميع أقسام الاستصحاب الموضوعي.

نعم ، لا يجري الاستصحاب لترتيب الآثار التي لا تترتّب إلّا بعد وجود الموضوع خارجا لا استصحابا ، كجواز القصاص ، وجواز الاقتداء ، ووجوب الحدّ وأمثال ذلك ، فلا يترتّب على استصحاب حياة زيد مثل هذه الآثار ، فإنّه لغو لا معنى له كما لا يخفى.

وعلى الأوّل ـ أي ما كان المستصحب حكما ـ فهو أيضا إمّا أن يكون من قبيل المحمول الأوّلي أو من قبيل المحمول المترتّب والثانوي.

فإن كان من قبيل الأوّل بأن كان الشكّ في بقاء الحكم راجعا إلى مرتبة الجعل وأنّه نسخ أو لا ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه على ما ذكروه من الضرورة على جريانه فيه.

١٩٨

وإن كان من قبيل الثاني ، فإن كان الشكّ راجعا إلى مرتبة المجعول ، فلا محالة يكون منشأ الشكّ هو الأمور الخارجيّة ، كالشكّ في بقاء وجوب الصوم على من احتمل حدوث مرض فيه بالصوم مضرّ ، وكالشكّ في بقاء الطهارة ، لاحتمال حدوث ناقض من النواقض ، كالبول أو المنيّ ، والاستصحاب في منشأ الشكّ في هذا القسم ـ كاستصحاب عدم حدوث المرض أو عدم حدوث البول ـ مغن عن استصحاب الحكم.

وإن كان الشكّ راجعا إلى مرتبة الجعل لكن من غير جهة النسخ ، بل لأجل الشكّ في سعة دائرة الموضوع وضيقها ، فلا بدّ من النّظر في أنّ العبرة في بقاء الموضوع هل هو بنظر العقل أو لسان الدليل أو العرف؟

فإذا قطع بارتفاع الموضوع على جميع التقادير من جهة انقلاب قيد وجودي يحتمل دخله في موضوع الحكم ، إلى العدم ، أو عدميّ كذلك إلى الوجود ـ كما إذا قطع بارتفاع الموضوع كالكلب الّذي وقع في المملحة فصار ملحا فاحتملنا نجاسته من جهة احتمال أنّ الموضوع الواقعي هو المادّة المشتركة بين الصورتين لا المادّة المتصوّرة بخصوص الصورة الكلبية ، إذ الملح الّذي يكون بصورة الكلب مغاير للكلب عقلا وعرفا ودليلا ـ فواضح أنّه لا يجري استصحاب الحكم ، ولا معنى لاستصحاب الموضوع ، إذ ما كان متيقّن النجاسة ـ وهو الكلب ـ قد ارتفع قطعا ، وما يكون باقيا يقينا ـ وهو المادّة المشتركة بين الصورتين ـ لم يكن متيقّن النجاسة ، فأي شيء نستصحبه؟ واستصحاب بقاء معروض النجاسة ، وبعبارة أخرى : استصحاب الموضوع بوصف الموضوعيّة عبارة أخرى عن استصحاب الحكم. وهذا الكلام سار في جميع الشبهات المفهوميّة.

وأمّا إذا شكّ في ارتفاعه وبقائه على بعض التقادير ، فيختلف الحال

١٩٩

باختلاف المباني ، وهذا كما إذا ورد «إنّ الماء إذا تغيّر ينفعل» أو ورد «إنّ الماء المتغيّر ينفعل» ، فإنّ الموضوع في الأوّل عند زوال التغيّر بنفسه مرتفع عقلا ـ بداهة أنّ تغاير «الماء بشرط التغيّر» و «بشرط عدم التغيّر» عقلا هو تغاير «بشرط شيء» و «بشرط لا» ـ وباق عرفا ودليلا ، أمّا دليلا : فواضح ، وأمّا عرفا : فلأنّ العرف يرى التغيّر من حالات الماء وأنّ الماء هو الموضوع ، والموضوع في الثاني عند زوال التغيّر مرتفع عقلا ودليلا ، وباق عرفا ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره خصّ جريان الاستصحاب بموارد الشكّ في الرافع بناء على كون العبرة بنظر العقل (١).

وأورد عليه بأنّه على مبناه ـ من إنكار جريان الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ـ لا وجه لهذا البناء ، إذ الاختصاص ثابت بيننا على كون العبرة بنظر العقل أو العرف أو لسان الدليل.

وصاحب الكفاية (٢) أفاد أنّ الالتزام بكون العبرة بنظر العقل مساوق لإنكار جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة بالمرّة ولو كان من جهة الشكّ في الرافع ، إذ الشكّ في بقاء الحكم من غير جهة النسخ لا يعقل بعد استحالة البداء إلّا لأجل صيرورة الموضوع عادما لما كان واجدا له أو واجدا لما كان عادما له من الخصوصيّة التي يحتمل دخلها في موضوع الحكم.

ولشيخنا الأستاذ قدس‌سره كلام وجّه به كلام الشيخ قدس‌سره. وحاصله : أنّ الرافع ، له إطلاقان :

أحدهما : ما يكون مقابلا للمقتضي ، وهو بهذا المعنى ما يكون عدمه دخيلا في الموضوع ، ويكون الحكم بدونه باقيا إلى الأبد. وبالجملة ، ما يكون

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٠١.

(٢) كفاية الأصول : ٤٨٧.

٢٠٠