الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

مانعا عن تأثير المقتضي.

والثاني : ما يكون معدما للشيء بعد وجوده ، كخروج البول الّذي يكون ناقضا للوضوء ، وحصول النقاء أو الاغتسال الموجب لارتفاع حرمة الوطء ، والأوّل يعبّر عنه بالرافع والثاني بالغاية.

والشكّ في الرافع بالإطلاق الأوّل ملازم للشكّ في بقاء الموضوع عقلا ، لاحتمال أخذ عدمه في الموضوع ، فلا يجري الاستصحاب على القول بكون العبرة في البقاء بنظر العقل ، فلا يمكن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره ، ويجري إن كانت العبرة بنظر العرف ، ولا يكون الشكّ في الرافع بالإطلاق الثاني ملازما للشكّ في بقاء الموضوع ، إذ معدم الشيء لا يعقل أن يكون عدمه دخيلا فيه ، فيجري استصحاب الحكم إذا كان الشكّ في بقائه ناشئا من الشكّ في الرافع بهذا المعنى.

ثمّ أفاد قدس‌سره أنّ كلام الشيخ قدس‌سره ناظر إلى الرافع بالإطلاق الثاني ، وبه يندفع كلا الإشكالين عن الشيخ (١) قدس‌سره.

هذا ، ولكنّ الحقّ مع صاحب الكفاية ، فإنّ باب موضوعات الأحكام ليس باب التأثير والتأثّر ، والتعبير بالمقتضي والشرط والمانع والرافع لا يكون إلّا من باب التقريب والتشبيه ، ضرورة أنّ جميع ذلك تنتهي إلى جعل الشارع ، فما لم يجعل الشارع البول ناقضا للوضوء ورافعا ، لا يكون رافعا ، وهكذا ما لم يجعل الشارع الطلاق رافعا ، لا معنى لرافعيّته ، فلا معنى للرافع إلّا ما يكون عدمه دخيلا في الموضوع ، مثلا : الموضوع للزوجيّة هو المرأة المتزوّجة التي لم يطلّقها زوجها ، فبناء على كون العبرة بنظر العقل في بقاء الموضوع لا بدّ

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩.

٢٠١

ـ كما أفاده صاحب الكفاية ـ من اختصاص جريان الاستصحاب بالشبهات الموضوعيّة بأجمعها إلّا في بعض الموارد ، كاستصحاب كرّيّة ماء نقص منه مقدار قليل.

وقد يقال : إنّ القول باعتبار نظر العرف أو العقل في مقابل لسان الدليل ممّا لا وجه له ، فإنّ العقل لا يكون نبيّا مشرّعا ، ولا طريق له في فهم ما له دخل في الحكم. ونظر العرف إن كان المراد نظره فيما يفهمه من الدليل ، فليس شيئا غير الدليل حتى يجعل مقابلا له ، وإن كان المراد نظره المسامحي ـ بعد أخذ المفهوم بالنظر الدقّي العرفي ـ في التطبيقات الخارجيّة كمسامحته في باب الأوزان ، فيقول من عنده منّ من الحنطة إلّا مثاقيل : «عندي منّ من الحنطة» فواضح أنّ العرف ليس نبيّا مشرّعا ، ولا يعتنى بمسامحاته في تطبيق ما جعله الشارع موضوعا للحكم ، على الخارجيّات.

وهذا الإشكال نشأ من عدم التفرقة بين الحدوث والبقاء ، وهو تامّ في مرحلة الحدوث ، لما ذكر ، أمّا في مرحلة البقاء ـ التي هي محلّ الكلام ـ فالمقابلة واضحة.

توضيح ذلك : أنّا تارة نتكلّم فيما جعله الشارع موضوعا للحكم ابتداء ونرجع إلى العرف في تشخيص ذلك. وأخرى نتكلّم ـ بعد أخذ الموضوع بجميع قيوده وخصوصيّاته من الدليل وتعيين مفهومه من العرف بنظره الدقّي ـ في بقاء هذا الموضوع إذا انقلب بعض قيوده الوجوديّة إلى العدم أو بعض قيوده العدميّة إلى الوجود ، واختلاف الموضوع الدليلي والعرفي وتقابلهما يكون في هذه المرحلة ، مثلا : إذا ورد «الماء إذا تغيّر ينجس» فإذا زال تغيّره بنفسه ، يكون الموضوع ـ الّذي هو الماء ـ باقيا دليلا وعرفا. وإذا ورد «الماء المتغيّر ينجس» فالموضوع الدليلي عند زوال التغيّر غير باق ، بخلاف الموضوع

٢٠٢

العرفي بمعنى أنّ العرف حيث لا يرى التغيّر من مقوّمات الموضوع يرى أنّ الموضوع الأوّل لم يرتفع بعد ، وإذا علم بأنّ الشارع حكم بنجاسة هذا الماء الزائل تغيّره ، يرى هذا الحكم بقاء للحكم الأوّل لا حكما حادثا في موضوع جديد ، وهذا بخلاف ما إذا حكم الشارع بنجاسة الكلب ـ الّذي صار في المملحة ملحا ـ بعد صيرورته كذلك ، فإنّه يرى هذا الحكم حكما جديدا مغايرا للحكم الأوّل على موضوع غير الموضوع الأوّل ، ويقول : الشارع حكم بنجاسة شيئين : الكلب والملح المنقلب من الكلب. وهكذا في حكم جواز التقليد أو جواز الاقتداء بالقياس إلى المجتهد أو العادل بعد ما صار عاميّا أو فاسقا ، فإنّه يرى العامي أو الفاسق موضوعا آخر مغايرا للمجتهد أو العادل ولو أخذ في الدليل بنحو الشرطيّة بأن قال : «المكلّف إذا كان مجتهدا أو عادلا يجوز تقليده أو الاقتداء به».

نعم ، يفرّق بين الأخذ بنحو الشرطيّة وغيره في أخذ المفهوم وعدمه ، مثلا : إذا ورد «إذا سافرت فقصّر» يحكم بانتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، بخلاف ما إذا ورد «المسافر يقصّر» فلا يحكم بذلك إلّا بناء على مفهوم الوصف ، فمن سافر أوّل الوقت وحضر في آخره يصلّي على الأوّل قصرا في آخره ، وعلى الثاني تماما.

وبالجملة ، الخصوصيّات والقيود المأخوذة في موضوع ربّما تكون عند العرف من مقوّمات الموضوع ، وربّما لا تكون منها ، فما يكون من قبيل الأوّل ـ سواء أخذ شرطا أو عنوانا ـ لا يكون الموضوع المتحصّص به عند انتفائه باقيا عرفا. وما يكون من قبيل الثاني يكون الموضوع المتحصّص به عند زواله باقيا عرفا من دون فرق أيضا بين أخذه شرطا أو عنوانا في لسان الدليل.

ومن هذا الباب الحكم ببطلان البيع فيما إذا باع أمة فبانت عبدا ، أو باع

٢٠٣

ذهبا فبان نحاسا ، أو باع جلدين من شرح اللمعة فبأنا جلدين من كتاب اللغة ، من دون فرق بين أن يجعل ذلك عنوانا في مقام إنشاء البيع أو شرطا بأن يقول : «بعتك هذا على أن يكون ذهبا» فإنّ متعلّق البيع في جميع ذلك أمر ظهر أنّه مغاير له في الحقيقة والماهيّة عند العرف ، وهذا بخلاف ما إذا باع عبدا كاتبا أو على أنّه كاتب فبان أمّيّا ، فإنّه يحكم بصحّة البيع ، لعدم كون الكتابة من مقوّمات العبد عرفا.

إذا عرفت اختلاف الحال في كون الاعتبار في بقاء الموضوع بنظر العقل أو العرف أو لسان الدليل ، فاعلم أنّ موضوع الاستصحاب هو نقض اليقين بالشكّ بمقتضى قوله عليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١) ومعلوم أنّ المخاطب بهذا الخطاب هو العرف لا الفلاسفة ، فلا اعتبار بالتدقيقات الفلسفيّة في صدق موضوعه ، فكما تؤخذ موضوعات سائر الأحكام من العرف كذلك هذا الموضوع.

وبالجملة ، عدم جواز نقض اليقين بالشكّ وظيفة ظاهريّة جعلها الشارع لعامّة المكلّفين ، فالمتّبع فهمهم فيما وظّفوا به ، ولا فرق بين الوظيفة الظاهريّة والواقعيّة في ذلك ، فالميزان في بقاء الموضوع ـ الّذي لا يصدق بدونه نقض اليقين بالشكّ ـ هو نظر العرف ، فإذا قطع بالبقاء عرفا ، يشمله دليل الاستصحاب ، أمّا إذا قطع بالارتفاع أو شكّ فيه كما في التراب الّذي صار آجرا أو الخشب الّذي صار فحما ، فلا يشمله دليل الاستصحاب.

هذا كلّه مع قطع النّظر عمّا بنينا عليه سابقا من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة مطلقا إلّا استصحاب عدم النسخ ، وإلّا فنظر العرف ملغى في

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٢٠٤

الحكم بالبقاء في الأحكام ، بل لا بدّ من اتّباع نظر العقل ولسان الدليل في الحكم بالبقاء.

ثمّ إنّ أخبار الباب لا ريب في شمولها للاستصحاب ، لورودها في مورده.

وهل تشمل قاعدة اليقين أيضا ، أو تكون شاملة للاستصحاب ولقاعدة المقتضي والمانع ، أو تعمّ الاستصحاب وكلتا القاعدتين؟

ذهب الشيخ قدس‌سره إلى عدم شمولها لشيء من القاعدتين واختصاصها بمورد الاستصحاب (١).

ووافقه شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، وأفاد في وجه عدم شمولها لقاعدة اليقين وجوها :

أحدها : أنّ التعبّد تعلّق بالحدوث في قاعدة اليقين ، وبالبقاء بعد مفروغيّة الحدوث في الاستصحاب. وبعبارة أخرى : أخذ الحدوث في قاعدة الاستصحاب مفروض الوجود ، فإنّ الاستصحاب تعبّد بالبقاء ، ولا نظر له إلى الحدوث ، وفي قاعدة اليقين هو المتعبّد به ، فكيف يمكن أن يؤخذ الحدوث في استعمال واحد مفروض الوجود وغير مفروضة!؟ (٢).

ويندفع بأنّ ظاهر أخبار الباب أنّ طبيعيّ اليقين أينما سرى وبأيّ شيء تعلّق لا ينقض بطبيعيّ الشكّ أينما تحقّق وبأيّ شيء تعلّق ، وهذا يختلف باختلاف الموارد ، ففي مورد الاستصحاب ـ حيث إنّ الشكّ في البقاء ـ فالتعبّد فيه يكون تعبّدا بالبقاء ، وهو في مورد القاعدة متعلّق بعين ما تعلّق به اليقين ، فمعنى حرمة نقض اليقين بالشكّ فيه هو التعبّد بالحدوث وإلغاء الشكّ المتعلّق

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٥١.

٢٠٥

به ، كما أنّه ربّما يكون اليقين في باب الاستصحاب متعلّقا بعدالة زيد مثلا ، وربّما يتعلّق بعدمها ، فكما تشمل الأخبار اليقين بالوجود واليقين بالعدم في باب الاستصحاب ـ والتعبّد بالقياس إلى أحدهما تعبّد بالوجود ، وبالإضافة إلى الآخر تعبّد بالعدم ، ولا يضرّ تناقض الوجود والعدم ، لشمول الدليل لهما ـ كذلك تشمل الشكّ في الحدوث والشكّ في البقاء ، وليس أمره أعظم من اليقين المتعلّق بالوجود تارة وبالعدم أخرى.

ثانيها : أنّ اليقين في أخبار الباب وإن كان يشمل جميع أفراده المتعدّدة إلّا أنّ تعدّد اليقين حيث يكون بتعدّد متعلّقاته من عدالة زيد وفسق عمرو وكرّيّة ماء ـ ومن المعلوم أنّ اليقين في باب الاستصحاب وفي قاعدة اليقين فرد واحد ، حيث يكون متعلّقه شيئا واحدا ، مثلا : اليقين في كلّ منهما متعلّق بعدالة زيد في يوم الجمعة ، غاية الأمر أنّ الشكّ في أحدهما متعلّق ببقائها ، وفي الآخر بأصل وجودها يوم الجمعة ـ لا يكون معنى لشمول الأخبار لهما ، إذ لا تعدّد في اليقين فيهما حتى يكون الشمول بهذا الاعتبار.

وتوهّم أنّ الشمول يمكن باعتبار إطلاقه الأحوالي ، فإنّ اليقين تارة يتعلّق الشكّ بنفسه وأنّه كان يقينا أو جهلا مركّبا. وأخرى ببقاء متعلّقه مدفوع بأنّ اليقين في ظرف الحكم بحرمة النقض والتعبّد بالبقاء في باب الاستصحاب ـ وهو زمان الشكّ ـ باق ، وفي قاعدة اليقين زائل ، فهو في أحدهما كائن فعلا وفي الآخر كان سابقا ، زائل فعلا ، ولا يمكن شمول «اليقين» لما كان يقينا ، فإنّه من الجوامد كالإنسان ، واستعمالها في غير المتلبّس غلط محض ، والقول بصحّة الاستعمال فيمن قضى ـ لو سلّم مختصّ بالأعراض ولا يعمّ الجوامد.

نعم ، يمكن استعماله في اليقين في قاعدته بلحاظ حال التلبّس إذا لوحظ على وجه الموضوعيّة ، لكنّ الأمر ليس كذلك ، بل اليقين أخذ في كلّ من

٢٠٦

الاستصحاب والقاعدة على وجه الطريقيّة (١).

وهذا الوجه أيضا كسابقه ، فإنّ معنى «لا تنقض اليقين بالشكّ» أنّه افرض نفسك متيقّنة ، وهذا يختلف باختلاف الموارد ، ففي مورد الاستصحاب حيث يكون الشكّ في البقاء ، فلا بدّ من فرض النّفس متيقّنة بالبقاء ، وفي قاعدة اليقين لا بدّ من فرضها متيقّنة بالحدوث ، لتعلّق الشكّ به.

وما ذكره أخيرا ـ من إمكان الاستعمال بلحاظ حال التلبّس إذا أخذ اليقين موضوعا ـ وإن كان تامّا إلّا أنّه غير محتاج إليه في المقام ، والاستعمال بهذا اللحاظ يصحّ ولو أخذ اليقين على وجه الطريقيّة.

ثالثها : أنّ الزمان في باب الاستصحاب أخذ ظرفا ، وفي قاعدة اليقين أخذ موضوعا ، ولا يمكن الجميع بين لحاظ الشيء ظرفا وعدمه كذلك في استعمال واحد (٢).

وجوابه أيضا ظهر ممّا ذكرنا ، فإنّه إذا كانت الوظيفة عدم نقض طبيعيّ اليقين بطبيعيّ الشكّ ، فموضوع الحكم هو اليقين والشكّ المرتبط به من دون نظر إلى متعلّقه ، وأنّه مقيّد بالزمان أو غير مقيّد ، بل اليقين ـ كان متعلّقه مقيّدا بالزمان أو غير مقيّد به ـ لا بدّ وأن لا ينقض بالشكّ.

فظهر أنّ المانع الثبوتي مفقود في المقام ولا محذور في شمول دليل واحد لكلتا القاعدتين ، إلّا أنّ ظاهر أخبار الباب بقرينة موردها هو الاختصاص بالاستصحاب ، فإنّ اليقين والشكّ أخذا موضوعين للحكم بحرمة النقض ، ومن المعلوم أنّ موضوع كلّ حكم لا بدّ من تحقّقه خارجا في كونه محكوما بالحكم ، ولا يكفي تحقّقه في زمان للحكم به في أيّ زمان ، مثلا : لا يكفي كون

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٢.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٥٢.

٢٠٧

زيد عالما يوم الجمعة في وجوب إكرامه يوم السبت بمقتضى «أكرم كلّ عالم» مع صيرورته عاميّا فيه ، فلا بدّ من تحقّق اليقين والشكّ في زمان حتى يحكم بحرمة نقضه به في هذا الزمان ، واليقين في باب الاستصحاب موجود في ظرف الشكّ أيضا ، بخلاف قاعدة اليقين ، فإنّه زائل لا يكون في البين إلّا الشكّ.

ثمّ إنّ شمول أخبار الباب لقاعدة المقتضي والمانع أيضا لا مانع منه ثبوتا لكنّ ظاهر الروايات أنّ متعلّق اليقين والشكّ أمر واحد ، فلا تعمّ ما إذا كان اليقين متعلّقا بوجود المقتضي ، والشكّ متعلّقا بوجود شيء آخر هو المانع ، بل لو فرضنا ظهورها في التعميم ، لا يمكن القول بحجّيّة قاعدة المقتضي والمانع ، إذ استصحاب عدم وجود المقتضى دائما موجود في موردها ، فهي معارضة بالاستصحاب دائما ، فتسقط عن الحجّيّة بالمعارضة ، فيلزم من شمولها وحجّيّتها عدمهما ، ومن ذلك نستكشف عدم الشمول. وعين هذا البيان جار في قاعدة اليقين أيضا ، إذ استصحاب عدم اليقين وعدم تحقّق حدوث ما شكّ في حدوثه جار دائما في موردها ويعارضها.

المقام الثاني : أنّه لا إشكال في جريان الاستصحاب فيما إذا لم تكن الحالة السابقة متيقّنة باليقين الوجداني ، بل كانت متيقّنة باليقين التعبّدي ، كالأمارة والبيّنة ، فإنّه فرد من اليقين في نظر الشارع ، فيشمله «لا تنقض اليقين بالشكّ» كما لا إشكال ولا خلاف في تقدم الأمارات على الاستصحاب وغيره من الأصول موافقة كانت لمؤدّاها أو مخالفة.

وإنّما الإشكال في وجه ذلك ، وأنّه بالتخصيص ، أو التخصّص ، أو الحكومة ، كما أفاده الشيخ (١) قدس‌سره ، أو الورود ، كما أفاده في الكفاية (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٠٧.

(٢) كفاية الأصول : ٤٨٨.

٢٠٨

وعبارة الكفاية يحتمل أن يراد منها أحد وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ المراد باليقين ـ الّذي جعل غاية للاستصحاب ـ هو مطلق الحجّة شرعيّة كانت ، كالأمارة ، أو عقليّة ، كالعلم الوجداني ، فإذا كانت الحجّة غاية للاستصحاب ، فالعمل بالأمارة عند قيامها على الخلاف نقض لليقين بالحجّة لا بالشكّ ، فموضوع الاستصحاب مرتفع وجدانا بقيام الأمارة ، فإنّ موضوعه اليقين والشكّ وعدم وجود حجّة في البين.

الثاني : أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو حرمة رفع اليد عن اليقين السابق بالشكّ ، ومن المعلوم أنّ العمل بالأمارة في مورد الاستصحاب ليس من نقض اليقين بالشكّ بل بالأمارة.

الثالث : أنّ الأمارة حيث نعلم بحجّيّتها فالعمل بها في مورد الاستصحاب نقض لليقين باليقين ، لا بالشكّ.

هذا ، وكلّ ذلك خلاف ظاهر أدلّة الاستصحاب ، حيث إنّ اليقين ظاهره اليقين الوجداني ، وإرادة مطلق الحجّة عنه وإن كانت ممكنة إلّا أنّها تحتاج إلى عناية وقرينة مفقودة في المقام ، فلا وجه للوجه الأوّل.

وأمّا الثاني : فإنّه لو جعلت «الباء» في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» للسببيّة ـ بأن يكون مفاده أنّ النقض المسبّب عن الشكّ والمستند إليه حرام ، أمّا لو كان النقض مسبّبا عن أمر آخر ومستندا إلى شيء آخر غير الشكّ من أمارة أو استدعاء مؤمن أو غير ذلك ، فلا بأس به ـ لكان لتوهّم الورود وجه إلّا أنّه لا يمكن الالتزام بذلك.

أمّا لو كان المستفاد من مقابلة «ولكنّه تنقضه بيقين آخر مثله» أنّ المراد من الشكّ في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» خلاف اليقين ـ كما هو الظاهر ـ فالعمل بالأمارة أيضا من مصاديق العمل بخلاف اليقين.

٢٠٩

وأمّا الوجه الثالث : فأمره أفحش ، حيث إنّ ظاهر الدليل أنّ الغاية هي اليقين بخلاف ما تيقّن به سابقا ، لا اليقين بأمر آخر ، ومن المعلوم أنّ قيام البيّنة على الطهارة ـ في استصحاب النجاسة ـ لا يوجب اليقين بها ، واليقين بالحجّيّة ـ أي حجّيّة بيّنة الطهارة ـ ليس يقينا بالطهارة.

وبالجملة ، هذه الوجوه كلّها خلاف ظاهر الدليل ، مضافا إلى أنّ لازمها هو التخصّص لا الورود ، فإنّ الورود اصطلاحا هو ارتفاع موضوع دليل المورود بنفس جعل المولى وتعبّده ، أمّا لو كان ارتفاع الموضوع وجدانا غير مسبّب عن ثبوت التعبّد ولا ثبوت المتعبّد به ، فهو تخصّص لا غير ، كخروج زيد الجاهل عن موضوع «أكرم العلماء» والأمر في جميع هذه الوجوه كذلك ، فإنّ ارتفاع موضوع الاستصحاب لا يكون في شيء من هذه الوجوه مستندا إلى نفس التعبّد بالأمارة ـ وإن كان متيقّنا ـ حتى يكون ورودا ، إذ التعبّد تعلّق بكلّ من الاستصحاب والأمارة في عرض واحد ، فإذا لم يكن ارتفاع الموضوع على وجه الحكومة أيضا على ما بنى عليه ، فلا محالة يتعيّن التخصّص ، كما لا يخفى على المتأمّل.

والتحقيق هو ما أفاده شيخنا الأستاذ وفاقا للشيخ (١) قدس‌سرهما من كون التقدّم على وجه الحكومة لا الورود ولا التخصيص ولا التخصّص.

توضيحه : أنّ الدليلين المتنافيين إن كان أحدهما بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الآخر ، كما في قوله عليه‌السلام : «الفقيه لا يعيد صلاته» مع قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «إنّما عنيت بذلك الشكّ بين الثلاث والأربع» (٢) فهو من أوضح موارد الحكومة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ، فرائد الأصول : ٤٠٧.

(٢) تقدّم الحديث وذكر مصادره والتعليق عليه في ج ٣ ص ٥٥٦ والهامش (١).

٢١٠

وإن لم يكن بمدلوله اللفظي ناظرا إلى الآخر ، فإن لم يكن أحدهما رافعا لموضوع الآخر ، فإن كان أحدهما فقط رافعا لحكم الآخر عن موضوعه ك «أكرم العلماء» و «لا تكرم الفسّاق منهم» فهو مورد التخصيص. وإن كان كلّ منهما رافعا للحكم عن موضوع الآخر ، كالعامّين من وجه ، فتقديم أحدهما أيضا لمرجّح على الآخر من باب التخصيص.

وإن كان أحدهما رافعا لموضوع الآخر ، فإن كان الرفع مستندا إلى نفس التعبّد والجعل دون متعلّق التعبّد وإن لا ينفكّ التعبّد عن متعلّق وعمّا يتعبّد به ، فهو مورد الورود ، كما في تقدّم الأمارات على الأصول العقليّة من البراءة والاحتياط والتخيير على القول بالتخيير العقلي ، فإنّ موضوع البراءة العقليّة ـ مثلا ـ هو عدم البيان ، فبنفس التعبّد بالأمارة ـ الّذي هو بيان من الشارع وثابت لنا وجدانا ، ضرورة أنّه نظير الفرض والتنزيل الّذي يكون متعلّقه من المفروض أو المنزّل عليه فرضيّا وتنزيليّا لا نفس الفرض والتنزيل ، فإنّه وجداني ـ يرتفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان وينقلب عدم البيان إلى البيان الوجداني.

وإن كان الرفع مستندا إلى ثبوت المتعبّد به لا ثبوت التعبّد ، فهو مورد الحكومة ، أي قسم منها غير ما ذكرنا أوّلا ، وهذا كما في تقدّم أدلّة الأمارات على جميع الأصول الشرعيّة ، فإنّ الشكّ أخذ في موضوع الأصول دون الأمارات ، ولا يرتفع الشكّ عند قيام الأمارة في مورد أصل إلّا بثبوت المشكوك بالتعبّد بالأمارة وأنّها علم تشريعا ، وأمّا بمجرّد نفس التعبّد بالأمارة ـ مع قطع النّظر عن متعلّقه وما يتعبّد به وهو كون الأمارة فردا من العلم ـ لا يرتفع الشكّ كما هو واضح.

فاتّضح من جميع ما ذكرنا أنّ تقدّم الأمارات على الأصول بعينه من قبيل تقدّم «لا شكّ لكثير الشكّ» ـ مثلا ـ على أدلّة الشكوك.

٢١١

ونزيد ـ توضيحا ـ أنّه لا يمكن أن يكون حكم متكفّلا لإثبات موضوعه أو نفيه بل لا بدّ من أن يثبت وينفى من الخارج أو بدليل آخر غير الدليل المتكفّل لنفس هذا الحكم ، فدليل «من شكّ بين الثلاث والأربع فكذا» لا يتعرّض إلّا لحكم الشاكّ ، بين الثلاث والأربع ، كما أنّ أدلّة الأصول أيضا لا تتعرّض إلّا لبيان وظيفة الشاكّ ، فإن دلّ دليل آخر على أن لا شكّ لكثير الشكّ ، أو أنّ خبر العادل علم ، فقد خرج عن تحت أدلّة الشكوك كثير الشكّ ، وعن تحت أدلّة الأصول من أخبره العادل على طبق مقتضى الأصل أو خلافه بالتعبّد الشرعي ، يعني بما تعبّد به الشارع من عدم كون كثير الشكّ شاكّا ، وعدم كون من أخبره العادل شاكّا ، وهذا معنى الحكومة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ تقدّم الأدلّة القطعيّة على جميع الأصول ـ عقليّة أو شرعيّة ـ بالتخصّص ، وتقدّم الأمارات التعبّديّة على الأصول العقليّة بالورود ، وعلى الأصول الشرعيّة بالحكومة لا بالورود ولا غيره من التخصيص أو التخصّص ، وهذا واضح لمن تصوّر حقائق هذه الأمور وأماز بعضها عن بعض.

ومن هنا ظهر وجه تقدّم الاستصحاب على قاعدتي الطهارة والحلّ ، والبراءة وغير ذلك ممّا أخذ الشكّ في موضوعه ، فإنّ الاستصحاب وإن كان الشكّ مأخوذا في موضوعه أيضا إلّا أنّ دليله ـ حيث يفرض الشاكّ متيقّنا في ظرف البقاء ، وأنّه بقاء متيقّن في نظر الشارع ـ يرفع الشكّ الّذي هو موضوع لسائر الأصول بقاء ، فهو ناف لموضوع سائر الأصول ، وأدلّة الأصول مثبتة للحكم على تقدير وجود موضوعها ، فالأوّل ينفي شيئا لا يثبته الآخر ، والآخر يثبت شيئا لا ينفيه الأوّل ، فلا تعارض بينهما ، فلا تلاحظ النسبة بين دليليهما ولو كانت عموما من وجه ، فيقدّم دليل الاستصحاب على سائر الأصول الشرعيّة بالحكومة ، وكذلك يقدّم على جميع الأصول العقليّة بالورود ، فإنّ

٢١٢

نفس التعبّد بالمستصحب يكون بيانا ومؤمّنا وصالحا للترجيح ، فلا يبقى موضوع للبراءة والاحتياط والتخيير العقلي.

خاتمة : في تعارض الاستصحابين.

التعاند والتنافي بين الاستصحابين إمّا أن يكون من جهة التكاذب والعلم بمخالفة أحدهما للواقع ، أو من جهة عدم قدرة المكلّف على العمل بكلا الاستصحابين ، وإلّا فيحتمل صدق كليهما وموافقتهما معا للواقع.

فإن لم يكن التعاند من جهة التكاذب بل كان من جهة المزاحمة ـ كما إذا كان المكلّف على يقين من نجاسة المجسد وأيضا على يقين من اشتغال ذمّته بصلاة مع سعة الوقت وشكّ بعد ذلك في بقاء نجاسة المسجد واشتغال ذمّته بالصلاة ، فاستصحاب كلّ من نجاسة المسجد واشتغال الذمّة يحتمل موافقته للواقع ولا علم بكذب أحدهما إلّا أنّ بين التكليف بوجوب الإزالة والتكليف بالصلاة مزاحمة في مقام الامتثال ـ يجري كلا الاستصحابين ، وبعد الجريان يدخل في صغرى باب التزاحم ، ويعمل بمرجّحات بابه ، التي منها الأهمّيّة ، فيجب الأخذ بالأهمّ مثلا ، وعلى تقدير عصيان الأهمّ والاشتغال بالمهمّ يدخل في باب الترتّب.

لا يقال : الرجوع إلى المرجّحات لا يتمّ فيما كان ذو المرجّح وغيره مشمولين لدليل واحد ، كدليل «لا تنقض اليقين بالشكّ» فإنّ نسبته إلى كلّ من الاستصحابين على السواء.

فإنّه يقال : دليل الاستصحاب يشمل كلا الاستصحابين في عرض واحد ، وبعد ثبوت المستصحبين بالتعبّد تقع المزاحمة بينهما ، كما في الثبوت الوجداني.

وإن كان التعاند من جهة التكاذب ، فهو على أقسام :

٢١٣

الأوّل : ما كان المشكوك في أحد الاستصحابين ممّا يترتّب على المستصحب الآخر ، وكان الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، ولا إشكال في تقدّم الأصل السببي على المسبّبي ، كما سيجيء وجهه.

والمراد بالسببيّة السببيّة الشرعيّة لا التكوينيّة ، إذ لا مانع من شمول الدليل للعلّة والمعلول معا في عرض واحد ، وهكذا المراد بالتسبّب الشرعي ما كان جريان الأصل في السبب موجبا لارتفاع موضوع الأصل المسبّبي ، كما في المثال المعروف ، وهو غسل الثوب النجس بالماء المستصحب الطهارة ، فإنّ الشكّ في طهارة الثوب مسبّب شرعا عن الشكّ في طهارة الماء ، واستصحاب الطهارة في الماء موجب لارتفاع موضوع استصحاب نجاسة الثوب ، فإنّ الثوب ـ بعد حكم الشارع بطهارة الماء المغسول به ـ غسل بالماء الطاهر بحكم الشارع ، فلا يبقى لنا شكّ بعد ذلك في طهارته ، وأمّا مجرّد كون التسبّب شرعيّا من دون أن يكون جريان الأصل في السبب رافعا لموضوع الأصل المسبّبي فلا يفيد في حكومة الأصل السببي على المسبّبي ، كما إذا صلّينا في وبر حيوان لا نعلم أنّه محلّل الأكل أو محرّمه ، فإنّ الشكّ في صحّة الصلاة وإن كان مسبّبا عن الشكّ في كون الوبر ممّا لا يؤكل أو غيره إلّا أنّ استصحاب عدم التذكية لا يثبت أنّ الوبر من ذلك القسم الخاصّ الّذي هو محرّم الأكل ومانع عن صحّة الصلاة ، فإنّ النهي تعلّق بواقع غير المأكول وقسم خاصّ من الحيوان ، كالأرنب وغيره ، لا بالأعمّ من الوجود الواقعي والظاهري ، فلا يكون الأصل السببي ـ وهو استصحاب عدم التذكية ـ رافعا للشكّ في صحّة الصلاة وموجبا للعلم ببطلانها من جهة وقوعها فيما لا يؤكل ، وهذا بخلاف طهارة الثوب ، فإنّها من آثار طهارة الماء المغسول به ، الأعمّ من الظاهريّة والواقعيّة.

وبالجملة ، الميزان في تقدّم أحد الاستصحابين على الآخر بالحكومة هو

٢١٤

كون أحدهما رافعا لموضوع الآخر.

وأحسن ما قيل في وجه التقدّم هو ما أفاده صاحب الكفاية (١) من أنّ الاستصحاب في الشكّ السببي ، وشمول دليله له ، لتماميّة أركانه بلا محذور ، وهذا بخلاف شموله للشكّ المسبّبي ، فإنّ شموله له مستلزم لعدم شموله للشكّ السببي ، إذ معه لا يبقى للأصل المسبّبي موضوع ، ويخرج عن بحث دليل الاستصحاب تخصيصا.

وعدم شمول دليل الاستصحاب للشكّ السببي مع تحقّق اليقين والشكّ وجدانا إمّا بلا وجه أو على وجه دوري ، إذ عدم الشمول جزافا بلا وجه ، ومن جهة الشمول للشكّ المسبّبي دور واضح.

وتوهّم أنّ الحكومة لا بدّ وأن تكون بين الدليلين حتى يكون أحدهما ناظرا إلى الآخر وشارحا لمدلوله ، وهذا المعنى لا يعقل في دليل الاستصحابين ، مثل «لا تنقض» فإنّه دليل واحد ينحلّ إلى أحكام عديدة لا إلى أدلّة متعدّدة ، مدفوع بأنّ الحكومة لا تنحصر فيما ذكر ، بل منها ما يكون أحد الدليلين رافعا لموضوع الآخر ، والمقام من هذا القبيل ، وهو لا يتوقّف على التعدّد ، كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما إذا كان الأصل السببي أصلا تنزيليّا ، كالاستصحاب ، وأمّا إن كان مثل قاعدة الطهارة ـ كما إذا غسلنا ثوبنا بالماء المشكوك الطهارة والنجاسة ولم تكن له حالة سابقة ، فإنّ الأصل السببي هنا هو أصالة الطهارة لا استصحابها ـ فهو حاكم على الأصل المسبّبي بالمعنى الآخر من الحكومة غير كونه رافعا لموضوع الآخر ، وهو أنّ دليل طهارة الماء ظاهرا بمدلوله المطابقي

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٩٠ ـ ٤٩١.

٢١٥

دالّ على طهارة ما يغسل به ، إذ جعل الطهارة للماء ظاهرا مع عدم ترتّب شيء من آثار الطهارة الواقعيّة عليه من رافعيته للحدث والخبث لغو محض ، فدليل الأصل السببي في مثل هذا الفرض بمدلوله اللفظي ناظر إلى دليل الأصل المسبّبي وأنّ معلوم النجاسة يطهر بغسله بالماء المشكوك الطهارة.

فتلخّص : أنّ الأصل السببي ولو كان أضعف الأصول يتقدّم على الأصل المسبّبي ولو كان من أقواها ، وهذا نظير ما مرّ مرارا من أنّ ظهور القرينة ـ ولو كان أضعف الظهورات ـ مقدّم على ظهور ذيها ، وتقدّم أصالة الطهارة في الماء ـ المقتضية لطهارة الثوب الّذي غسل به ـ على استصحاب نجاسة الثوب بعينه من قبيل تقدّم ظهور «يرمي» على ظهور «أسد».

وتوهّم أنّ استصحاب نجاسة الثوب أيضا من آثاره نجاسة الماء قبل الغسل ، فأصالة الطهارة في الماء تقتضي طهارة الثوب ، واستصحاب النجاسة في الثوب أيضا يقتضي نجاسة الماء قبل الغسل ، فما وجه تقديم الأوّل على الثاني؟ واضح الدفع ، إذ نجاسة الماء من اللوازم العقليّة للتعبّد بنجاسة الثوب بخلاف العكس.

هذا ، مضافا إلى أنّه لا يلتفت إلى مثل ذلك بعد كون دليل أصالة الطهارة ناظرا إلى دليل الاستصحاب ، كما لا ينظر إلى ظهور «أسد» في الحيوان المفترس ، الملازم لكون المراد من «يرمي» هو رمي التراب لا رمي النبل ، لأنّ قرينة «يرمي» ـ الظاهر في رمي النبل ـ ناظرة ومبيّنة لما هو المراد من لفظ «أسد».

هذا ، وقد ذكر شيخنا الأستاذ (١) قدس‌سره وغيره وجوها أخر لتقدّم الأصل

__________________

(١) انظر : أجود التقريرات ٢ : ٤٩٥ ـ ٤٩٨.

٢١٦

السببي على المسبّبي ، كلّها قابل للمناقشة.

القسم الثاني : ما كان التعاند من جهة التكاذب ، ولم يكن أحد الشكّين مسبّبا عن الآخر ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد كأسين ، وهذا على قسمين :

الأوّل : ما إذا لزمت من جريان الأصلين مخالفة قطعيّة عمليّة ، كما إذا كانت الحالة السابقة في المثال هي الطهارة في كلا الطرفين ، فإنّ استصحاب الطهارة في كلّ منهما تلزم منه معاملة الطهارة مع معلوم النجاسة ، ففي هذا القسم يتساقط الأصلان كلاهما ، لما عرفت في بحث الاشتغال من أنّ شمول دليل الأصل لكلا الطرفين مستلزم للترخيص في المعصية ، ولأحدهما معيّنا دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، ولأحدهما لا بعينه لا دليل عليه ، وهكذا الكلام فيما كان الأصل الجاري في الطرفين أو أحدهما أصالة الطهارة بأن لم تكن حالة سابقة معلومة في البين أو كانت في أحدهما.

الثاني : ما لم تلزم منه مخالفة قطعيّة عمليّة ، كما إذا كانت الحالة السابقة في المثال هي النجاسة في كلا الطرفين.

وذهب الشيخ قدس‌سره إلى عدم جريان شيء من الأصلين ، لمانع في مقام الإثبات ، وهو أنّ أدلّة الاستصحاب وإن كانت بصدرها ـ وهو «لا تنقض اليقين بالشكّ» وما يشبهه في المضمون ـ عامّة لكلّ شكّ لا حق حتى ما كان مقرونا بالعلم الإجمالي إلّا أنّها لمّا كانت مذيّلة بذيل «ولكن تنقضه بيقين آخر» واليقين مطلق شامل لليقين التفصيليّ والإجمالي ، كان مقتضاه لزوم نقض اليقين باليقين بالخلاف ولو كان إجماليّا.

وأورد عليه بإيرادين واردين :

أحدهما : أنّ المتيقّن والمشكوك هو كلّ واحد من الكأسين بخصوصه ، ومن الواضح أنّه لم تعلم طهارة هذا بخصوصه وذاك بخصوصه ، وإنّما المعلوم

٢١٧

هو طهارة أحدهما ، وهو لا يكون ناقضا لليقين السابق ، إذ الناقض ـ بمقتضى المقابلة بين الصدر والذيل ـ هو اليقين بخلاف ما تعلّق به اليقين السابق ، مثلا : إذا تعلّق اليقين السابق بنجاسة الكأس الأبيض ، فناقضه هو طهارة هذا الكأس بعينه ، لا طهارة أحد الكأسين ، المحتمل انطباقه على هذا الكأس.

نعم ، لو أردنا استصحاب نجاسة أحدهما لا بعينه بمعنى غير المعيّن عندنا المعيّن في الواقع ، لكان العلم بطهارة ذلك المعيّن الواقعي غير المتميّز والمجمل عندنا ناقضا له.

ثانيهما : سلّمنا إجمال ما كان مذيّلا بهذا الذيل من أدلّة الاستصحاب فأيّ مانع من شمول ما ليس فيه هذا الذيل للمقام؟ إذ إجمال دليل لا يسري إلى دليل آخر منفصل عنه.

ووافق الشيخ قدس‌سره شيخنا الأستاذ ـ قدّس الله نفسه ـ في ذلك ، لا لما ذكره ، بل لمانع ثبوتي ، وهو أنّ الاستصحاب حيث إنّه من الأصول المحرزة فمعنى استصحاب النجاسة في كلا الكأسين هو التعبّد ببقاء نجاسة كلّ منهما ، وهذا ممّا نعلم بخلافه ، ولا يعقل التعبّد بما يعلم بخلافه (١).

ويرد عليه أوّلا : النقض بجريان قاعدة الفراغ ـ التي هي من الأصول المحرزة ، بل قوّى هو قدس‌سره أماريّته (٢) ـ واستصحاب الحدث فيما إذا صلّى من يعلم بكونه محدثا قبل الصلاة ويحتمل أنّه توضّأ قبلها وصلّى مع الوضوء ، فإنّ قاعدة الفراغ حاكمة بصحّة صلاته الماضية ، واستصحاب الحدث حاكم بوجوب الوضوء لصلاته الآتية ، ولم يستشكل هو قدس‌سره ولا غيره ظاهرا في جريان كلا الأصلين مع العلم الوجداني بخلاف ما أدّيا إليه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٩٩.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤٦٣.

٢١٨

وثانيا : أنّه كم فرق بين التعبّد بنجاسة مجموع الكأسين ، والتعبّد بنجاسة هذا بخصوصه وذاك بخصوصه ، فإنّ الأوّل غير معقول ، لأنّا نقطع بعدم نجاسة المجموع فكيف نتعبّد بنجاسته!؟ وهذا بخلاف الثاني ، فإنّ هذا الإناء بخصوصه لا نعلم بطهارته ، فالتعبّد بنجاسته لا محذور فيه ، وذاك الإناء بالخصوص أيضا لا نعلم بطهارته ، فالتعبّد بنجاسته أيضا لا محذور فيه ، غاية الأمر أنّه يلزم العلم بأنّ الشارع تعبّدنا بمعاملة النجاسة مع الطاهر الواقعي ، وهذا ليس بمحذور ، كما تعبّدنا بوجوب الاحتياط عن مالين نعلم إجمالا بكون أحدهما مال الغير والآخر لنا ، وبحرمة النّظر إلى المرأتين اللتين نعلم إجمالا بكون إحداهما فقط أجنبيّة ، وبحرمة قتل شخصين نعلم بمحقونيّة دم أحدهما ومهدوريّة دم الآخر.

والعجب أنّه قدس‌سره بنى على جريان استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث عند الوضوء بمائع مردّد بين البول والماء ، مع أنّا نعلم وجدانا بخلاف مؤدّاهما.

ومجرّد اختلاف مؤدّى الأصلين لا يوجب الفرق ، بل لو كان العلم الوجداني بخلاف مؤدّى الأصلين مانعا عن الجريان ، لكان مانعا مطلقا ، اختلف مؤدّاهما أو اتّفقا ، لزمت مخالفة عمليّة أو لم تلزم ، كان الأصل من الأصول المحرزة أو غيرها ، وإن لم يكن مانعا ، فلا بدّ من الالتزام بالجريان مطلقا إلّا فيما لزمت منه مخالفة عمليّة.

فالتحقيق : ما أفاده صاحب الكفاية من أنّ الملاك في الجريان وعدمه هو لزوم المخالفة القطعيّة ، وعدمه (١).

نعم ، لو علمنا من إجماع أو غيره التلازم بين أمرين واقعا وظاهرا ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٩٢.

٢١٩

يتساقط الأصلان مطلقا ، ومثاله المعروف ـ الّذي هو منحصر ظاهرا ـ هو الماء الطاهر المتمّم كرّا بماء نجس أو العكس ، فإنّ استصحاب طهارة الطاهر ونجاسة النجس مخالف لما ادّعوا من الإجماع على أنّ الماء الواحد لا يختلف حكمه.

هذا كلّه في تعارض الاستصحابين ، وتعارض الاستصحاب مع غيره من الأصول من أصالة الطهارة وأصالة الحلّ وأصالة الإباحة وأمثالها ، وأمّا تعارضه مع أصالة الصحّة في عمل الغير ، وأصالة الصحّة في عمل نفس المكلّف المعبّر عنها بقاعدتي الفراغ والتجاوز : فمنهم من بنى على تقدّمها على الاستصحاب تقدّم الأمارة على الأصل ، نظرا إلى كونها أمارات ، كما يستفاد ذلك من قوله عليه‌السلام : «بلى قد ركعت» (١) وقوله عليه‌السلام فيمن شكّ في الوضوء بعد ما فرغ : «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» (٢) وغير ذلك ، وأنّ ظاهر حال المريد لإتيان مركّب تامّا أنّه في مقام العمل يأتي بتمامه وإن كان غافلا حينه على طبق إرادته الارتكازيّة الإجماليّة ، لأنّها تابعة للإرادة التفصيليّة. واحتمال الإخلال العمدي على خلاف الظاهر والسهوي بعيد لا يعتنى به ، فاعتبر الشارع هذا الظاهر واعتنى به.

وهذا الوجه تامّ على تقدير كون الاستصحاب أصلا ، وأمّا على ما بنينا عليه من كونه أيضا أمارة أو على القول بكون كلّ من قاعدة الفراغ والاستصحاب أصلا فلا.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٥١ ـ ٥٩٢ ، الاستبصار ١ : ٣٥٧ ـ ١٣٥٤ ، الوسائل ٦ : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ٣.

(٢) التهذيب ١ : ١٠١ ـ ٢٦٥ ، الوسائل ١ : ٤٧١ ، الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٢٢٠