الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

واستصحاب بقاء النجاسة المجعولة له قبل زوال تغيّره ، وذلك لأنّ الشبهة ـ على الفرض ـ حكميّة ، والميزان فيها ـ كما ذكرنا ـ إنّما هو يقين المجتهد وشكّه ، وفي المقام تحصل للمجتهد آن الالتفات إلى هذا الحكم ثلاثة يقينات وثلاثة شكوك في عرض واحد وفي مرتبة واحدة ، فتتعارض الاستصحابات الثلاثة بأجمعها في عرض واحد.

الثاني : دعوى أنّ استصحاب النجاسة ليس في مرتبة استصحاب عدم جعل النجاسة ، فإنّ الشكّ فيها مسبّب عن الشكّ في سعة دائرة الجعل وضيقها ، فهو محكوم لا يجري مع وجود الأصل الحاكم ، وهو استصحاب عدم جعل النجاسة.

وبالجملة ، لا تعارض في البين ، أي بين استصحاب عدم الجعل واستصحاب بقاء النجاسة المجعولة ، بل إمّا يجري استصحاب النجاسة المجعولة فقط على تقدير تعارض الاستصحابين في مرتبة الجعل ، أو استصحاب عدم جعل النجاسة فقط على تقدير عدم تعارضه مع استصحاب عدم جعل الطهارة ، لكونه حاكما على استصحاب النجاسة المجعولة.

وهذه الدعوى ساقطة ، فإنّ الاستصحاب المسبّبي وإن كان في طول الاستصحاب السببي ومتأخّرا عنه في الرتبة إلّا أنّ كلّ ما يكون الشكّ فيه سببا للشكّ في غيره لا يكون استصحابه مقدّما على استصحاب الغير المسبّب شكّه عنه ما لم تكن السببيّة شرعيّة ، والسببيّة في المقام ليست بشرعيّة ، ضرورة أنّ رفع الشكّ في نجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره لا يكون أثرا شرعيّا لاستصحاب عدم جعل النجاسة له ، بل ممّا يترتّب عليه عقلا ومن لوازمه القهرية ، وليس كالحكم بطهارة الثوب المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، التي هي من الآثار الشرعيّة للطهارة الاستصحابيّة.

٤١

الثالث : ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ استصحاب عدم جعل النجاسة أو عدم جعل الوجوب فيما بعد الزوال ليس له أثر ، فإنّ عدم الجعل كالجعل لا يترتّب عليه أثر ما لم يصر المجعول فعليّا في حقّ المكلّف ، مثلا : جعل الحجّ على المستطيع أو عدم جعله عليه لا يترتّب عليه أثر ـ وهو لزوم التحرّك عن هذا التحريك عقلا ، أو جواز ترك الحجّ ـ ما لم يصر هذا التكليف فعليّا بأن وجد جميع شرائطه التي منها الاستطاعة ، فاستصحاب عدم الجعل بنفسه ليس له أثر ، وإجراؤه لإثبات عدم المجعول الّذي له أثر يكون من الأصل المثبت الّذي لا نقول به (١).

وهذا الّذي أفاده غير تامّ ، لما ذكرنا في بحث البراءة من أنّ نسبة استصحاب عدم المجعول إلى استصحاب عدم الجعل ليست من نسبة اللوازم العقليّة إلى ملزوماتها ، إذ ليس هناك وجودان حتى يكون أحدهما لازما للآخر ، بل هناك وجود واحد ، وهو استصحاب عدم اعتبار الشارع ، وعدم جعله للنجاسة ، والأثر العقلي ـ الّذي هو الترخيص في الاستعمال وعدم لزوم الاجتناب ـ إنّما يترتّب على نفس عدم الجعل ، بمعنى عدم اعتبار الشارع نجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره.

بيان ذلك أنّ الاعتبار نظير التصوّر ، فكما يمكن أن نتصوّر الموجود بالفعل ونحكم عليه بشيء ، ونتصوّر أيضا أمرا متأخّرا ، ونحكم عليه بشيء ، فنقول : قيام زيد غدا حسن ، كذلك يمكن اعتبار أمر بالفعل بحيث يكون زمان واحد ظرفا للاعتبار والمعتبر معا ، واعتبار أمر متأخّر ، فعلا بحيث يكون ظرف الاعتبار متقدّما على ظرف المعتبر ، والأوّل نظير اعتبار ملكيّة عين من الأعيان

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٠٤ ـ ٤٠٦.

٤٢

لشخص ببيع ونحوه ، والثاني نظير الإيصاء ، فإنّه اعتبار للملكيّة بعد الموت ، والواجب المشروط أيضا حقيقته ترجع إلى هذا ، فإنّه يعتبر قبل الزوال وجوب الصلاة عند الدلوك ، أو يعتبر ـ حين يعتبر ـ وجوب الحجّ عند حصول الاستطاعة ، وفرقه مع الواجب التعليقي على هذا ظاهر ، فإنّ الواجب التعليقي نظير إجارة العين المستأجرة سنة ، فإنّ الموجر بالفعل يعتبر ملكيّة المنفعة للمستأجر ، لكن زمان متعلّق معتبره ـ وهو المنفعة بعد انقضاء سنة ـ متأخّر.

والحاصل : أنّ زمان الاعتبار والمعتبر في الواجب التعليقي واحد ، وإنّما يكون متعلّق المعتبر متأخّرا ، وزمان الاعتبار في الواجب المشروط فعليّ ، وأنّ المعتبر مقيّد بالزمان المتأخّر أو زمانيّ كذلك.

وبالجملة ، إذا اعتبر الشارع كون فعل على ذمّة المكلّف ، وجعله على عهدته في أيّ وعاء من الأوعية ، فما دام هذا الاعتبار باقيا ، يترتّب عليه حكم العقل بوجوب الانبعاث عن بعث المولى ولزوم إطاعته في ظرفه ، وإذا ثبت عدم الاعتبار ولو بالأصل ، فلا بعث حتى يحكم العقل بلزوم الانبعاث عنه ، فإذا استصحبنا عدم جعل وجوب الجلوس بعد الزوال ، فالعقل يحكم بعدم استحقاق العقاب على ترك الجلوس في ظرفه ، وهذا عين استصحاب عدم المجعول لا أمر ملازم له.

وممّا يوضّح ذلك : أنّه لم يستشكل أحد في استصحاب عدم النسخ عند الشكّ في النسخ ، مع أنّ استصحاب بقاء الجعل وعدم نسخه لو لم يترتّب عليه أثر فإثباته لبقاء المجعول الّذي يترتّب عليه الأثر من الأصل المثبت.

هذا ، ولكن مع ذلك لا نوافق النراقي قدس‌سره على الإطلاق ، بل نفصل بين ما كان المستصحب حكما إلزاميّا أو مستتبعا له كالنجاسة ، وما لم يكن كذلك ، بل كان حكما غير إلزامي أو ما يستتبع ذلك ، كما في الطهارة عن الحدث ،

٤٣

المستصحبة عند خروج المذي ، فنلتزم بعدم الجريان في الأوّل ، للتعارض ، وبالجريان في الثاني ، لعدم تعارض استصحاب عدم الجعل مع استصحاب المجعول في هذا القسم ، بل هو ممّا يعاضده ويؤكّده ، فإنّ المستصحب في استصحاب الحكم الفعلي إذا كان الإباحة ـ مثلا ـ فالاستصحاب في مقام الجعل يقتضي ذلك ، إذ الأصل عدم جعل حكم إلزامي على هذا المشكوك وبقاؤه على حالته الأولى التي هي الإباحة ، وهكذا استصحاب بقاء الوضوء ، وعدم ارتفاع الطهارة الحاصلة منه لا يعارضه الاستصحاب في مقام الجعل ، بل الاستصحاب في هذا المقام يعاضده ، فإنّا نعلم بناقضيّة أمور ستّة : البول ، والغائط ، إلى آخرها ، ونشكّ في أنّ الشارع هل جعل المذي أيضا ناقضا للوضوء ، أو لا؟ فنستصحب عدم جعل الناقضيّة له.

ومن ذلك ظهر ما في جعله قدس‌سره هذا المثال مثالا لتعارض الاستصحابين ، نظرا إلى تعارض استصحاب بقاء الطهارة وعدم ارتفاعها بخروج المذي مع استصحاب عدم جعل الوضوء المتعقّب بالمذي موجبا للطهارة وسببا لها ، إذ لا ريب في سببيّة الوضوء للطهارة ، وأنّ الشارع جعله موجبا لها ، وأنّه لو لا وجود رافع ، ليبقى قطعا ، وإنّما الشكّ في بقائه من جهة احتمال جعل الناقضيّة للمذي كجعلها للبول ، فالأصل الجاري في مقام الجعل هو أصالة عدم جعل الناقضيّة للمذي ، لا أصالة عدم جعل الوضوء المتعقّب بالمذي موجبا للطهارة ، فالأصلان متعاضدان.

وبالجملة ، في كلّ مورد يكون فيه الحكم الفعلي المشكوك بقاؤه لأجل الشكّ في سعة دائرة الجعل وعدمها حكما غير إلزامي أو مستتبعا لحكم كذلك ، فالاستصحاب في مقام الجعل معاضد له ، فيجريان معا بلا محذور ، وكلّما يكون الحكم المذكور حكما إلزاميّا يكون الاستصحاب في مقام الجعل منافيا

٤٤

له ، فيقع التعارض بينهما ، فلا يجري شيء منهما. وهذا واضح لا سترة عليه.

بقي في المقام توهّم بارد نتعرّض له تبعا لشيخنا الأستاذ ـ وإن لم يقبله لذلك ـ وهو : أنّ غاية ما يدلّ عليه «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو سلب العموم وأنّ مجموع أفراد اليقين لا ينقض بالشكّ ، لا عموم السلب وأنّ شيئا من أفراد اليقين لا يجوز نقضه بالشكّ كما هو المدّعى (١).

وفيه ـ مضافا إلى ظهور كلّ عامّ في العموم الاستغراقي لا المجموعي كما مرّ في بحث العامّ والخاصّ ـ أنّه إنّما يتمّ لو ورد السلب على العموم ، كما في «ليس كلّ رجل بعادل» لا فيما يستفاد العموم من السلب ، كما في المقام ، فإنّ العموم يستفاد من وقوع الجنس في سياق النفي أو النهي ، وليس «اليقين» عامّا ورد عليه النفي أو النهي حتى يكون سلبا للعموم.

هذا ، مع أنّه لا ينطبق على مورد الرواية ، إذ لا يصحّ الجواب عن قول زرارة : «فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم» بقوله عليه‌السلام : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» (٢) ضرورة أنّ المنهي حينئذ هو نقض مجموع أفراد اليقين بالشكّ ، فلزرارة أن يقول : أنا أنقض هذا اليقين ولا أنقض يقينا آخر إن شاء الله. هذا كلّه في الصحيحة الأولى لزرارة.

أمّا صحيحته الثانية : فهي أنّه قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني (٣) ، إلى آخرها.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(٢) التهذيب ١ : ٨ ـ ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢١ ـ ١٣٣٥ ، الاستبصار ١ : ١٨٣ ـ ٦٤١ ، الوسائل ٣ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، الباب ٤٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٤٥

وتستفاد من هذه الرواية الشريفة جملة من الفروع :

منها : وجوب إعادة الصلاة الواقعة في الثوب النجس ـ المعلوم تفصيلا ـ نسيانا ، ويستفاد من بعض الروايات أنّ الإعادة عقوبة لما توانى في الغسل حتى نسي وصلّى (١).

ومنها : عدم وجوب إعادة الصلاة فيما إذا ظنّ المصلّي بالنجاسة فصلّى ثمّ انكشف وقوعها في النجس.

ومنها : وجوب الإعادة فيما إذا علم إجمالا بنجاسة موضع من ثوبه أو بدنه ، وأنّه يجب الاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال ، وتجب إزالة جميع أطرافه للصلاة.

ومنها : عدم وجوب الفحص والنّظر فيما إذا شكّ في النجاسة.

ومنها : حكم من رأي النجاسة في أثناء الصلاة بأقسامه الثلاثة :

١ ـ مع العلم بحدوث النجاسة قبل الصلاة ونسيانها حتى تذكّر في أثنائها.

٢ ـ وعدم العلم بها قبل الصلاة والعلم في الأثناء بحدوثها قبل الصلاة.

٣ ـ وهذه الصورة مع احتمال حدوثها في أثنائها.

ففي الأوّل : حكم بوجوب النقض ، وإعادة الصلاة ، وهكذا في الثاني ، ولكنّ المشهور على الظاهر أفتوا بالصحّة من جهة وجود المعارض.

وأمّا دعوى الأولويّة ، وأنّ الحكم بالصحّة بعد الفراغ يوجب الحكم بها في الأثناء بطريق أولى ، فممنوعة بعد ورود النصّ الصحيح على الإعادة لو لا كونه معارضا.

وفي الثالث : حكم بعدم وجوب النقض ووجوب الإزالة أو النزع أو

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٥٤ ـ ٢٥٥ ـ ٧٣٨ ، الاستبصار ١ : ١٨٢ ـ ٦٣٨ ، الوسائل ٣ : ٤٨٠ ـ ٤٨١ ، الباب ٤٢ من أبواب النجاسات ، الحديث ٥.

٤٦

التبديل في الأثناء إذا لم يكن ذلك موجبا لبطلان الصلاة من جهة الاستدبار أو الفعل الكثير أو غير ذلك ، والبناء على الصلاة من غير إعادة. وهذا القسم يستفاد من الرواية صريحا كالقسم الأوّل.

وأمّا القسم الثاني فيستفاد من قوله عليه‌السلام : «لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك» (١) فيفهم من هذا التعليل أنّه لو لم يحتمل وقوعها في الأثناء بل علم وقوعها قبل الصلاة ، يجب نقض الصلاة واستئنافها بعد الإزالة.

ومحلّ الاستشهاد من هذه الرواية موردان :

أحدهما : قوله عليه‌السلام في ذيل هذه الفقرة : «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا».

والآخر : قوله عليه‌السلام عند قول زرارة : «لم ذلك؟» وسؤاله عن وجه حكم الإمام عليه‌السلام بغسل ما صلّى فيه بظنّ الإصابة ونظره وعدم رؤيته وعدم وجوب إعادة الصلاة : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا».

وتقريب الاستدلال بها هو عين التقريب المتقدّم في صحيحته الأولى ، فلا إشكال في دلالتها على حجّيّة الاستصحاب ، بل دلالتها أوضح من الأولى ، لمكان لفظ «ليس ينبغي لك» الظاهر في أنّ العاقل ليس من شأنه ذلك ، فتكون أظهر في عدم الاختصاص بباب دون باب ، وإنّما الإشكال في تطبيق هذه الكبرى المذكورة في الصدر على موردها ، وهو عدم إعادة الصلاة مع العلم بوقوعها في النجس ، مع أنّ الإعادة مع ذلك ليست من نقض اليقين بالشكّ ، بل من نقض اليقين باليقين.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ ـ ٤٢٢ ـ ١٣٣٥ ، الاستبصار ١ : ١٨٣ ـ ٦٤١ ، الوسائل ٣ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، الباب ٤٤ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

٤٧

نعم ، لو كان التعليل تعليلا لجواز الدخول في الصلاة ، لكان منطبقا على المورد ، لكنّه ليس كذلك.

وتوهّم انطباقه على قاعدة اليقين بحمل اليقين على اليقين الحاصل بعد النّظر والرؤية ، لا اليقين بالطهارة قبل ظن الإصابة ، واضح الدفع ، إذ فيه ـ مضافا إلى أنّه خلاف الظاهر في نفسه ـ أنّ عدم الرؤية أعمّ من حصول اليقين بالعدم ولم يفرض في الرواية أنّه بعد النّظر وعدم الرؤية حصل اليقين بالعدم ، مع أنّه لو سلّم ذلك ، لا ينطبق على قاعدة اليقين أيضا ، فإنّها متقوّمة بأمرين : اليقين المنقلب إلى الشكّ بقاء ، والشكّ المتعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين ، وليس شيء منهما في المقام ، فإنّ المفروض حصول العلم بالنجاسة ، فلا شكّ حتى يكون ساريا وموجبا لانقلاب اليقين السابق.

والحاصل : أنّه لا يمكن انطباق التعليل على قاعدة اليقين بوجه من الوجوه ، وأمّا انطباقه على قاعدة الاستصحاب فممّا لا شبهة فيه ، فلا بدّ من بيان وجه تطبيق التعليل على المورد وإن لا يضرّ عدم إمكان توجيهه بصحّة الاستدلال بها على الاستصحاب.

وقبل ذلك ينبغي أن نرى أنّ الطهارة شرط لصحّة الصلاة أو النجاسة مانعة؟ وعلى تقدير كون الطهارة شرطا هل هو الطهارة بوجودها الواقعي ، أو الإحرازي؟ ولا يخفى أنّه لا يمكن أن تكون الطهارة شرطا والنجاسة أيضا مانعة ، لما مرّ في بعض المباحث السابقة من أنّ الضدّين ـ سيّما مع عدم الثالث لهما ـ لا يمكن اعتبار أحدهما شرطا والآخر مانعا ، لأنّ اعتبار أحدهما مغن عن الآخر ، فجعل الآخر لغو محض لا فائدة فيه أصلا.

والظاهر أنّه لا تترتّب على هذا البحث ثمرة عمليّة أصلا ، فإنّ الغافل عن حكم الصلاة في الثوب النجس لا ينبغي الشكّ في صحّة صلاته الواقعة في

٤٨

النجس ، ولا تكون الطهارة شرطا في حقّه ، ولا النجاسة مانعة ، والملتفت إن كان ناسيا ، فلا ريب في وجوب إعادة صلاته ، وإن كان شاكّا ، فلا شبهة في أنّه لا يجوز له الدخول في الصلاة ما لم يحرز الطهارة بمحرز ولو كان أصلا سواء كانت الطهارة شرطا أو النجاسة مانعة.

وتوهّم أنّ الثمرة تظهر فيما إذا صلّى صلاتين في ثوبين ـ أي كلّ صلاة في ثوب ـ يعلم إجمالا بنجاسة أحدهما ، ثمّ انكشفت نجاسة كليهما ، فعلى القول بمانعيّة النجاسة تصحّ إحدى الصلاتين ، وعلى الشرطيّة تبطل كلتاهما ، لأنّ المصلّي لم يكن محرزا للطهارة في شيء منهما ، والمفروض أنّ الثوبين في الواقع كانا نجسين ، فلم يقع شيء من الصلاتين مع الطهارة لا الطهارة الواقعيّة ، فإنّه المفروض ، ولا الطهارة المحرزة ، لمكان العلم الإجمالي بنجاسة أحد الثوبين ، الموجب لتساقط الأصول في أطرافه.

ويدفع هذا التوهّم ما مرّ في بعض المباحث السابقة من أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي تكون بمقدار المعلوم بالإجمال ، فإذا علمنا بحرمة أحد مائعين أو نجاسته ، وشككنا في حرمة الآخر أو نجاسته ، فالعلم بالنسبة إلى واحد منهما منجّز ، وأمّا الآخر المشكوك فلا مانع من إجراء الأصل فيه والحكم بأنّ أحد هذين حرام أو نجس بالقطع ، والآخر حلال أو طاهر بحكم الشارع ، غاية الأمر أنّه لا يميّز الحرام من الحلال والنجس من الطاهر.

ولذا يحكم بفراغ ذمّة من صلّى فريضته ـ كالظهر ـ في كلّ من الثوبين ـ بناء على عدم تقديم الامتثال التفصيليّ على الإجمالي مع التمكّن ـ لأنّه يعلم بوقوع طبيعيّ صلاة الظهر في طبيعيّ الثوب الطاهر وإن لا يميّز أنّه هو الأوّل أو الثاني.

وبالجملة ، هذه الثمرة ليست بمثمرة ، بل إحدى الصلاتين وقعت

٤٩

صحيحة سواء قلنا بمانعيّة النجاسة أو شرطيّة الطهارة.

وكيف كان فمقتضى ظواهر بعض الأخبار وإن كان مانعيّة النجاسة إلّا أنّ المستفاد من جميعها هو شرطية الطهارة ، فإنّه ورد «لا صلاة إلّا بطهور» في رواية مذيّلة بذيل يكون قرينة على أنّ الطهور المراد منه هو ما يتطهّر به ، وهو الماء مثلا ، كالوضوء لما يتوضّأ به ، والوقود لما يتوقّد به ، وإن كان هذا اللفظ يستعمل في الطهارات الثلاث أيضا لكن في هذه الرواية مستعمل في الطهارة الخبثيّة ، فالمراد أنّه لا صلاة إلّا باستعمال الماء وغيره في إزالة الخبث بقرينة ذيلها الّذي مضمونه أو لفظه أنّه «يجزئك في الاستنجاء ثلاثة أحجار وبذلك جرت السنّة» (١).

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره ـ على ما كتبناه ـ ذهب إلى أنّ الشرط هو الأعمّ من الطهارة المحرزة بمحرز ـ ولو كان أصلا ـ والطهارة الواقعيّة (٢). والأمر كذلك ، إذ لا يصحّ جعل الشرط خصوص الطهارة المحرزة ، فإنّ لازمه بطلان صلاة من صلّى في الثوب النجس وكان مضطرّا إلى الصلاة فيه ، أو قلنا بتقدّم الصلاة في الثوب النجس على الصلاة عاريا في ظرف الانحصار مع تمشّي قصد القربة منه بأن اعتقد انحصاره ثمّ انكشف وجود ثوب آخر طاهر له لم يعلم به حال الصلاة مع أنّه لا شبهة في الصحّة بمقتضى الروايات.

فلنرجع إلى وجه تطبيق التعليل على المورد ، فنقول : إن كان التعليل ناظرا إلى حال الفراغ من الصلاة ، والعلم بوقوعها في النجس ، فلا يمكن تصحيحها أصلا ، فإنّه على هذا يكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، إذ لا شكّ

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٩ ـ ٥٠ ـ ١٤٤ و ٢٠٩ ـ ٦٠٥ ، الاستبصار ١ : ٥٥ ـ ١٦٠ ، الوسائل ١ : ٣١٥ ، الباب ٩ من أبواب أحكام الخلوة ، الحديث ١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

٥٠

في هذا الحال في النجاسة حتى يحرم نقض اليقين بالطهارة به ، بل الموجود هو العلم بالنجاسة ، فلا مناص عن أن يكون التعليل بملاحظة ما قبل الصلاة ، وبالنسبة إلى جواز الدخول فيها ، ودالّا على أنّ من كان على يقين من طهارته لا ينبغي أن ينقض يقينه بالشكّ في الطهارة بعد ذلك ، بل يجوز له الدخول في الصلاة.

نعم ، عدم وجوب الإعادة من جهة كبرى مستفادة من الخارج ، وهي : أنّ من جاز له الدخول في الصلاة بمجوّز شرعي ، لا تجب عليه الإعادة ، فتكون إعادة الصلاة مع معلوميّة هذه الكبرى من نقض اليقين بالشكّ ، إذ لا وجه لها حينئذ إلّا عدم حجّيّة الاستصحاب ، وجواز نقض اليقين بالشكّ كما هو واضح.

بقي الكلام في أنّ توسعة الشرط في المقام هل هي أمر مغاير لإجزاء الأمر الظاهري ، أو أنّهما أمر واحد وإنّما الاختلاف في التعبير فقط؟

فنقول : لا بدّ للمكلّف في جميع حالاته وأوقاته أن يستند إلى حجّة من قبل الشارع.

فتارة تكون له الحجّة حدوثا وبقاء ، كما إذا أخبرت البيّنة بكون القبلة في طرف فصلّى إليه ، فإنّه لو سئل عنه وقيل له : لما ذا صلّيت إلى هذا الطرف مع أنّك كنت شاكّا في أنّه القبلة؟ يجيب بأنّي اعتمدت على ما جعله الشارع حجّة لي ، وهو إخبار البيّنة بأنّ هذا الطرف قبلة. ولو سئل عنه : إنّك لما ذا لا تعيد صلاتك مع أنّ الوقت بعد باق وأنت لم تكن متيقّنا بإتيان الصلاة إلى القبلة؟ يجيب بعين هذا الجواب أيضا.

وأخرى تكون له الحجّة بقاء فقط ، كما إذا صلّى إلى طرف معتقدا بكونه قبلة ، ثمّ شكّ في ذلك ، فأخبرت البيّنة بكونه قبلة ، فإنّه يستند في عدم إعادته للصلاة إلى هذه الحجّة ، وجميع موارد قاعدتي الفراغ والتجاوز من هذا القبيل.

٥١

وثالثة تكون له الحجّة حدوثا لا بقاء ، كما إذا ظهر فسق البيّنة التي أخبرته بشيء ، أو قطع بعدم مطابقة المخبر به للواقع ، فإنّه لا حجّة له في ظرف البقاء ، فما دامت الحجّة باقية يجزئ ما أتى به عن الواقع. وهذا القسم من الإجزاء نسمّيه بالإجزاء الظاهري بمعنى حكم الشارع بمطابقة عمله للواقع وصحّته في مقام الظاهر ، وفي ظرف الشكّ والجهل بكونه صحيحا ومطابقا للواقع ، فهو متقوّم بالشكّ.

وأمّا الإجزاء الواقعي بمعنى حكم الشارع بصحّة المأتيّ به ومطابقته للواقع واقعا ولو انكشف الخلاف فهو ملازم لسقوط الواقع في حقّ الآتي بالعمل ، إذ لا معنى لبقاء الواقع وفساد عمله مع عدم لزوم الإتيان بالواقع ، ضرورة أنّ الحكم بأنّ المأتيّ به فاسد وأنّ الأمر المتعلّق به باق ومع ذلك لا يجب امتثاله ويكتفى بهذا الفاسد عن المأمور به ، مناقضة ظاهرة ، فلا محالة يكون الإجزاء الواقعي في الشبهات الحكميّة ملازما للتصويب ، وكون الحكم الواقعي من الأوّل مقيّدا بعدم ذلك ، وثابتا في حقّ غير الآتي بهذا العمل ، وفي الشبهات الموضوعيّة مساوقا للتوسعة والتعميم ، وأنّ الطهارة ـ مثلا ـ ليس وجودها الواقعي شرطا لا غير ، بل الشرط هو الأعمّ من وجودها الواقعي والإحرازي.

وحيث دلّت الأدلّة على صحّة صلاة من صلّى ـ باستصحاب الطهارة أو بشيء آخر من البيّنة وغيرها ـ في الثوب النجس ، وأنّه لا تجب عليه الإعادة حتى بعد انكشاف مخالفة الاستصحاب للواقع ، فلا مناص عن الالتزام بتوسعة الشرط وتعميمه للواقعي والإحرازي منه ، وإلّا لا يعقل الحكم بالإجزاء واقعا وعدم وجوب الإعادة حتى مع انكشاف الخلاف ، كما عرفت.

فاتّضح أنّ التعميم وتوسعة الشرط ليس إلّا اقتضاء الأمر الظاهري

٥٢

للإجزاء ، غاية الأمر أنّه في خصوص هذا المقام ، أي باب الطهارة عن الخبث.

وظهر أنّه لا وجه لإيراد صاحب الكفاية والشيخ قدس‌سرهما على القائل بأنّ التعليل بلحاظ اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء : بأنّه لو كان كذلك ، لكان الأنسب بل المتعيّن هو التعليل بذلك ، لا بنقض اليقين بالشكّ (١). ولا لإيراد شيخنا الأستاذ عليهما بأنّ حسن التعليل وانطباقه على المورد كما يتمّ بتوسعة الشرط ، كذلك يتمّ باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء (٢).

وأمّا الصحيحة الثالثة لزرارة : فهي قوله عليه‌السلام : «إذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ، ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ» (٣) إلى آخره.

وقد استدلّ بهذه الرواية على حجّيّة الاستصحاب في كلّ باب ، وأنّ «لا ينقض» وإن كان ضميره راجعا إلى الشاكّ بين الثلاث والأربع إلّا أنّ ذيل الرواية ـ سيّما قوله عليه‌السلام : «ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» ـ قرينة على عدم اختصاص الحكم بباب دون باب ، وأنّ مثل اليقين لا ينبغي نقضه بالشكّ في حال من الحالات.

والشيخ قدس‌سره أسقط هذه الرواية عن دلالتها على حجّيّة الاستصحاب وادّعى أنّ مفادها هو قاعدة البناء على الأكثر ، نظير قوله عليه‌السلام : «إذا شككت فابن على اليقين» قلت : هذا أصل؟ قال : «نعم» (٤) ، نظرا إلى أنّ مقتضى حملها على الاستصحاب هو إتيان الركعة المشكوكة متّصلة ، وهو ينافي مذهب العدليّة ،

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٤٨ ، فرائد الأصول : ٣٣١.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٣٦٦.

(٣) الكافي ٣ : ٣٥١ ـ ٣٥٢ ـ ٣ ، التهذيب ٢ : ١٨٦ ـ ٧٤٠ ، الاستبصار ١ : ٣٧٣ ـ ١٤١٦ ، الوسائل ٨ : ٢١٦ ـ ٢١٧ ، الباب ١٠ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

(٤) الفقيه ١ : ٢٣١ ـ ١٠٢٥ ، الوسائل ٨ : ٢١٢ ، الباب ٨ من أبواب الخلل ، الحديث ٢.

٥٣

ويوافق مذهب العامّة ، وحمل كبرى «لا تنقض» إلى آخره ، على بيان الحكم الواقعي وتطبيقها على مورد الاستصحاب أيضا ينافي صدر الرواية ، الحاكم بأنّ الركعة المشكوكة لا بدّ أن تؤتى بفاتحة الكتاب ، وظاهره هو وجوب ذلك تعيينا لأن تحسب المشكوكة ـ على تقدير زيادتها وتماميّة الصلاة في الواقع ـ صلاة مستقلّة ، إذ لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب.

هذا ، مضافا إلى أنّ أصل التقيّة خلاف الظاهر. مع أنّ حمل المورد وتطبيق الكبرى عليه على التقيّة وحمل أصل الكبرى على بيان الحكم الواقعي أيضا خلاف الظاهر ، ففي الحمل على التقيّة خلاف الظاهر من جهات (١).

وأشكل عليه صاحب الكفاية بأنّ لزوم إتيان الركعة المشكوكة مفصولة لا ينافي الاستصحاب ، فإنّ مقتضى الاستصحاب عدم إتيان الركعة الرابعة ، ولزوم الإتيان بها مطلقا مفصولة أو موصولة ، غاية الأمر أنّ الأدلّة الأخر الدالّة على لزوم الإتيان بها مفصولة تنافي إطلاق هذه الرواية فتقيّد بها (٢).

وأيّد بعض الأساطين كلام الشيخ قدس‌سره بما حاصله : أنّ الاستصحاب ملغى في باب الصلاة ولو لم يكن دليل على لزوم الفصل ، فإنّ غاية ما يترتّب على الاستصحاب هو عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، وهو لا يثبت أنّ ما يأتي به بعد ذلك هي الركعة الرابعة ، ولا بدّ أن يقع التشهّد والتسليم في الركعة الرابعة ، فما لم يحرز كون ما يأتي به هو الركعة الرابعة ـ إمّا بالوجدان أو بالتعبّد ـ لإحراز وقوع التشهّد والتسليم في محلّهما لا يقطع بفراغ الذمّة. ومن ذلك نحكم في جميع موارد الشكوك ـ غير ما هو منصوص بالخصوص ـ بالبطلان (٣).

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٣١ ـ ٣٣٢.

(٢) كفاية الأصول : ٤٥٠.

(٣) نهاية الدراية ٥ : ٨٢.

٥٤

وفي أصل الكلام والإشكال والتأييد نظر.

أمّا التأييد : فلأنّ الظاهر أنّه ليس لنا دليل على لزوم إتيان التشهّد والتسليم في الركعة الرابعة بهذا العنوان ، والمعتبر هو إتيان جميع أجزاء الصلاة مرتّبة من غير زيادة ولا نقيصة ، ولزوم إتيان التشهّد والتسليم في الركعة الرابعة من جهة أنّ إتيانهما في الركعة الثالثة موجب للنقيصة ، وفي الخامسة موجب للزيادة ، لا من جهة أنّه مدلول لدليل بهذا العنوان.

هذا ، مضافا إلى أنّ هذا الشاكّ إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة التي أتى بها بمقتضى الاستصحاب يعلم إجمالا بأنّه مضى عليه زمان رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الرابعة ، ويشكّ في أنّه هل انتقل من هذه الحالة إلى حالة الدخول في الركعة الخامسة أو لم ينتقل إلى ذلك؟ فيستصحب بقاءه على تلك الحالة ، وهي حالة رفع الرّأس من سجدة الركعة الرابعة ، فيجب عليه التشهّد والتسليم ، ويقعان في محلّهما بمقتضى الاستصحاب ، وهذا نظير ما إذا علم بأنّه كان محدثا بالحدث الأكبر أو الأصغر ثمّ تطهّر قبل ربع ساعة أو ساعة ، وشكّ في ارتفاع حدثه ، ولا محذور في هذا الاستصحاب على ما يأتي ـ إن شاء الله ـ في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، كما إذا علم بدخول أحد مردّد بين زيد وعمرو في الدار وشكّ في بقاء الداخل ، ونبيّن ـ إن شاء الله ـ أنّ الاستصحاب جار ، والمستصحب هو الفرد الداخل المعلوم عند الله ، وتسميته باستصحاب الكلّي مع كون المستصحب هو الفرد باعتبار أنّ الأثر للجامع بإلغاء خصوصيّة الزيديّة والعمريّة ، والجهل بالخصوصيّة غير مانع عن استصحاب الخاصّ.

ولا يفرّق بين أن تكون الخصوصيّة المجهولة هي خصوصيّة نفس المستصحب كما ذكر ، أو تكون خصوصيّة زمان حدوثه ، كما إذا علم بوقوع

٥٥

عقد متعة بمدّة شهر ، وتردّد أمره بين وقوعه قبل شهر حتى يكون منقضيا قطعا ، أو قبل عشرة أيّام حتى يكون باقيا يقينا ، فيستصحب بقاؤه وإن كان منشأ الشكّ هو الشكّ في زمان الحدوث ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ زمان حدوث المستصحب ـ وهو الفراغ عن الركعة الرابعة يعني رفع الرّأس عن سجدتها ـ مشكوك ، والشكّ في البقاء ـ أي بقاء حالة عدم الانتقال إلى الخامسة ـ ناش من هذا الشكّ.

ومن ذلك موارد تبادل الحالتين على المكلّف ، مثل ما إذا علم بالطهارة والحدث ، وشكّ في المتقدّم منهما ، فإنّ الشكّ في بقاء كلّ منهما ناش من الشكّ في زمان حدوثه.

وبالجملة ، لا إشكال في استصحاب بقاء الحادث اليقيني الحدوث إذا شكّ في بقائه من جهة الشكّ في زمان حدوثه.

نعم ، على مسلك صاحب الكفاية ـ من اعتبار اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، وأنّه لا بدّ من زمان معيّن يشار إليه تفصيلا ، ويقال : إنّه كان على يقين منه في ذلك الزمان ، فشكّ ـ لا يجري الاستصحاب في هذه الموارد ، لكن يأتي ـ إن شاء الله ـ أنّه لا يعتبر ذلك في الاستصحاب ، ففي موارد تبادل الحالتين لو فرض وجود الأثر لأحد المستصحبين دون الآخر ، يجري الاستصحاب فيما له الأثر دون الآخر على مسلكنا دون مسلك صاحب الكفاية.

ويترتّب على هذا البحث ثمر مهمّ في باب الإرث ، فإذا شككنا في موت الغائب الّذي له أخ يرثه مثلا من جهة الشكّ في زمان تولّده ، وأنّه هل تولّد قبل مائة وخمسين حتى لا يبقى قطعا ، أو خمسين حتى يمكن بقاؤه إلى الآن؟ نستصحب بقاءه ، ويترتّب عليه أنّه يرث من أخيه الميّت بالفعل ، وعلى مسلك صاحب الكفاية لا يجري الاستصحاب.

٥٦

وهكذا في موارد تبادل الحالتين لو كان لأحد الاستصحابين أثر دون الآخر ، يجري فيما له الأثر على مسلكنا ، ولا يجري على مسلكه ، كما أنّه فيما إذا كان لكلّ منهما أثر ، يجري في كليهما ، ويتساقط الأصلان بالتعارض على مسلكنا ، ولا يجري في شيء منهما على مسلكه قدس‌سره ، وكيف كان فلا إشكال في هذا الاستصحاب على ما نبيّنه إن شاء الله.

وبذلك ظهر أن مقتضى القاعدة في موارد الشكوك في باب الصلاة مع قطع النّظر عن الأدلّة الخاصّة هو الحكم بالصحّة بمقتضى الاستصحاب.

وأمّا إشكال صاحب الكفاية : فيدفعه أنّه لا إطلاق للرواية من حيث الفصل والوصل ، بل ظاهرها أنّ الشاكّ بين الثلاث والأربع يبني على يقينه عملا ، وعلى أنّه لم يأت بالرابعة ، ويعمل عمل من لم يأت بالرابعة ، ومن المعلوم أنّ من لم يأت بالرابعة يأت بها متّصلة لا منفصلة.

وأمّا أصل كلام الشيخ قدس‌سره ففيه : أنّه لا منافاة بينها وبين الأدلّة الأخر الدالّة على لزوم الإتيان بالركعة المشكوكة مفصولة بفاتحة الكتاب ، لما ذكرنا آنفا من أنّ الإجزاء لو كان واقعيّا فلازمه تبدّل الواقع ، والإجزاء في المقام واقعي ، حيث لا تجب إعادة الصلاة بمقتضى الروايات لو انكشف ـ بعد العمل بالوظيفة الظاهرية من البناء على الأكثر وركعة الاحتياط ـ أنّه أتى بثلاث ركعات ، فمن ذلك يعلم أنّ الحكم الواقعي في حقّ من نقص من صلاته ركعة وكان حين العمل شاكّا هو الإتيان بركعة منفصلة بعد الصلاة ، فإذا انكشفت تماميّة صلاته ، فما أتى به يحسب نافلة ، وإذا انكشف نقصانها ، فقد أتى بوظيفته الواقعيّة ، فإنّ المستفاد من الروايات أنّه ليس عليه شيء ، وأنّ الشارع ألغى زيادة التكبيرة والتشهّد والتسليم ، وحسب الركعة المفصولة رابعة لصلاته ، فموضوع هذا

٥٧

الحكم الواقعي ـ وهو لزوم الإتيان بركعة مفصولة ـ متقوّم بأمرين : أحدهما : كون المصلّي شاكّا ، والآخر : كونه غير آت بالرابعة ، والأوّل موجود ومحرز بالوجدان ، إذ المفروض أنّه شاكّ ، والثاني يحرزه بالاستصحاب ، فبه يتمّ موضوع هذا الحكم الواقعي ، فأيّ منافاة بين الاستصحاب وما استقرّ عليه المذهب من لزوم الإتيان مفصولة؟

هذا ، مضافا إلى أنّ في الرواية أيضا إشعارا بذلك ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «قام فأضاف إليها أخرى» بقرينة صدره ـ وهو قوله : قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد» (١) إلى آخره ـ الآمر بإتيان الركعتين بفاتحة الكتاب مشعر بأنّ الركعة المضافة إليها هي من سنخ هاتين الركعتين اللتين أمر بإتيانهما بفاتحة الكتاب.

وهكذا قوله عليه‌السلام في ذيل الرواية : «ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر» (٢) له ظهور قويّ في أنّ المراد من عدم إدخال الشكّ في اليقين وعدم خلط أحدهما بالآخر هو عدم وصل الركعة المشكوكة بالركعات المتيقّنة.

فاتّضح أنّه لا تقصر هذه الصحيحة عن الصحيحتين المتقدّمتين في الدلالة على حجّيّة الاستصحاب.

وممّا استدلّ به لحجّيّة الاستصحاب قوله عليه‌السلام : في رواية موثّقة عمّار : «إذا شككت فابن علي اليقين» قلت : هذا أصل؟ قال : «نعم» (٣).

__________________

(١ و ٢) تقدّم تخريجه في ص ٥٣ ، الهامش (٣).

(٣) تقدّم تخريجه في ص ٥٣ ، الهامش (٣).

٥٨

وذهب الشيخ قدس‌سره إلى أنّها أجنبيّة عن محلّ الكلام ، وإنّما مفادها هو قاعدة البناء على الأكثر والعمل بما علّمه عليه‌السلام من ركعة الاحتياط تحصيلا لليقين بالبراءة (١).

وفيه : أنّه لم ترد الرواية في باب الصلاة ، وذكر الفقهاء إيّاها في ذلك الباب لا يدلّ على ذلك مع كونها مطلقة ، فلا يتوهّم التنافي بينها وبين الروايات الأخر الواردة في باب الشكوك ، فإنّها قاعدة كلّيّة يمكن تخصيصها وإخراج باب الصلاة عنها بمقتضى ما دلّ في باب الصلاة على لزوم البناء على الأكثر.

مضافا إلى ما عرفت من أنّه لا ينافي الاستصحاب ، مع أنّه لا معنى لحمل الرواية على قاعدة البناء على الأكثر ، ولزوم تحصيل اليقين بالبراءة ، ضرورة أنّه ليس معنى «ابن علي اليقين» أنّه حصل اليقين ، بل ظاهره أنّه ابن علي يقينك من حيث الجري العملي.

وتوهّم انطباقها على قاعدة اليقين مدفوع بأنّ ظاهرها هو أنّه ابن علي اليقين الموجود حال البناء ، كما في «لا تشرب الخمر» الظاهر في الخمر الموجود حال الشرب ، لا ما كان خمرا في زمان وصار خلّا حال الشرب ، وهكذا «أكرم العالم» ظاهر في وجوب إكرام العالم حال الإكرام.

ومن الواضح أنّ اليقين في قاعدة اليقين لا يكون موجودا حال الشكّ وحال البناء ، ولا يصحّ إطلاق اليقين على اليقين المتبدّل بالشكّ في زمان الشكّ ولو قلنا بأنّ المشتقّ حقيقة في الأعمّ ، إذ «اليقين» من الجوامد كالبياض ، ولا يصحّ إطلاق البياض على السواد المتبدّل عن البياض.

والحاصل : أنّ هذه الرواية أيضا لا إشكال في دلالتها على المطلوب.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٣٢.

٥٩

وممّا استدلّ به أيضا : روايتان مرويّتان عن أمير المؤمنين عليه‌السلام :

إحداهما : قوله عليه‌السلام : «من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه» (١) إلى آخره.

والأخرى : قوله عليه‌السلام : «من كان على يقين فأصابه شكّ» (٢) إلى آخره.

وأورد على الاستدلال بهما بأنّهما ظاهرتان في اختلاف زماني الشكّ واليقين بقرينة «من كان» و «فأصابه شكّ» و «فشكّ» ولا يعتبر ذلك في الاستصحاب ، فهما ـ بهذه القرينة وقرينة حذف المتعلّق ، الظاهر في اتّحاد متعلّقي اليقين والشكّ ـ منطبقتان على قاعدة اليقين لا الاستصحاب (٣).

وفيه : أنّ الغالب في موارد الاستصحاب هو : اختلاف زماني اليقين والشكّ حدوثا ، وسبق حدوث اليقين على الشكّ ـ وإن كان يمكن سبق حدوث الشكّ أيضا ـ وإن كان زماناهما متّحدين بقاء ، فهذه الغلبة الخارجيّة صارت سببا للتعبير عن قاعدة الاستصحاب بما يكون ظاهرا في سبق زمان اليقين على زمان الشكّ ، ولذا قال عليه‌السلام في الرواية السابقة : «لأنّك كنت على يقين ، فشككت».

هذا ، مع أنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : «فليمض على يقينه» أنّ اليقين محفوظ حال المضيّ ، وهو في القاعدة غير محفوظ ، بل يزول وينعدم بمجرّد الشكّ ، فلا تنطبق الروايتان إلّا على الاستصحاب.

وذكر الشيخ قدس‌سره في هامش الرسالة ـ ونسبه بعض إلى سيّد مشايخنا

__________________

(١) الخصال : ٦١٩ ، الوسائل ١ : ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٢) الإرشاد ـ للمفيد ـ ١ : ٣٠٢ ، مستدرك الوسائل ١ : ٢٢٨ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٤.

(٣) المورد هو الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره في فرائد الأصول : ٣٣٣.

٦٠