الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

والتحقيق : أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو نفس اليقين ، وأنّ الشارع تعبّدنا بإبقاء نفس اليقين بقوله : «لا تنقض اليقين» والجري العملي إنّما هو من آثار التعبّد ببقاء اليقين ، لا أنّه نفس المتعبّد به ، فيرد على شيخنا الأستاذ قدس‌سره نظير ما أورده هو قدس‌سره على صاحب الكفاية في باب حجّيّة الأمارات من أنّ المجعول فيها ليس صفة المنجّزيّة ، بل المجعول هو صفة المحرزيّة ، والمنجّزيّة من آثارها (١).

وما أفاده صاحب الكفاية من جعل الحكم المماثل وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلّا أنّه مشكل في مقام الإثبات ودلالة الدليل ، حيث إنّ ظاهر «لا تنقض اليقين» هو الحكم بإبقاء اليقين لترتيب آثاره لا غير.

وأنّ (٢) الجهل مأخوذ في موضوع أدلّة اعتبار الأمارات والأصول ، وذلك لما تقدّم من أوّل بحث التعبّدي والتوصّلي إلى هنا مرارا من أنّ الجاعل للحكم ـ ولو كان غير حكيم ـ لا يعقل أن لا يدري موضوع حكمه ، ويستحيل مع التفاته إلى انقسام موضوع حكمه إلى قسمين أو الأقسام أن يحكم على موضوع مهمل بل إمّا يعمّم حكمه لجميع الأقسام أو يخصّصه بقسم دون قسم ، ولا يبتنى هذا على إمكان تقييد متعلّق الحكم بالانقسامات اللاحقة بالحكم وإن أثبتنا إمكانه في محلّه ، فإنّ تقييد موضوع دليل الأمارة بالجاهل بالواقع من الانقسامات السابقة على الحكم بحجّيّة الأمارة ، فدليل الأمارة لا بدّ وأن يكون إمّا عامّا للعالم بالواقع والجاهل به أو يكون مختصّا بالجاهل ، وحيث لا يمكن شموله للعالم ، لاستلزامه التصويب فلا محالة يختصّ بالجاهل ، فالجهل كما أخذ في موضوع الأصول كذلك أخذ في موضوع الأمارات ، فهذا الفرق غير فارق ، بل الفرق

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٧٦.

(٢) عطف على قوله : أنّ المجعول ...

١٤١

بينهما أنّ دليل الأمارة أخذ الشكّ والجهل في موضوعه حدوثا فقط ، بخلاف دليل الاستصحاب وغيره من الأصول ، فإنّ الشكّ أخذ في موضوعه حدوثا وبقاء.

بيان ذلك : أنّ الأمارة بإعانة دليل اعتبارها مزيلة للجهل ، وعلم تعبّدي ، فالمكلّف قبل قيام الأمارة جاهل بالحكم الواقعي ، وبقيامها يصير عالما به تعبّدا. ويستفاد ذلك من قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١) بناء على دلالته على حجّيّة الفتوى أو مطلق خبر الواحد ، حيث أخذ في موضوعه عدم العلم ، كما أنّه يستفاد عدم كون من قامت عنده الأمارة جاهلا من إطلاق «العارف» و «الفقيه» و «العالم» عليه في قوله عليه‌السلام : «انظروا إلى من روى حديثنا» إلى أن قال : «وعرف أحكامنا» (٢) فإنّ معرفة الأحكام ليست بالعلم إلّا نادرا بل تكون بهذه الطرق المنصوبة. وقوله عليه‌السلام : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا» (٣) حيث إنّ معرفة معاني كلامهم عليهم‌السلام ليست على وجه العلم الوجداني ، ويمكن استفادة ذلك من قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) بناء على أنّ المراد : فاسألوهم كي تعلموا بالسؤال ، ومن المعلوم أنّ قول المفتي أو المخبر الواحد لا يوجب العلم الوجداني.

وبالجملة ، الأمارة أخذ الجهل في موضوع دليل اعتبارها حدوثا ولكنّها مزيلة له بقاء ، وهذا بخلاف دليل الاستصحاب ، فإنّ الجهل والشكّ أخذ في موضوعه حدوثا وبقاء ، حيث إنّ الشارع يعترف بمقتضى قوله : «من كان على

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

(٢) الكافي ١ : ٤٧ ـ ١٠ و ٧ : ٤١٢ ـ ٥ ، التهذيب ٦ : ٢١٨ ـ ٥١٤ و ٣٠١ ـ ٨٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٣٦ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٣) معاني الأخبار : ١ ـ ١ ، الوسائل ٢٧ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٧.

١٤٢

يقين فشكّ» أنّ المستصحب ـ بالكسر ـ شاكّ ، ففي عين اعتبار كونه متيقّنا بمقتضى قوله : «لا تنقض اليقين» اعتبر كونه شاكّا أيضا بمقتضى قوله : «فشكّ» ولا تنافي بين الاعتبارين وإن كان اليقين والشكّ لا يجتمعان بوجودهما الخارجي إلّا أنّه لا مانع من اجتماعهما بوجودهما الاعتباري.

وبذلك ظهر وجه تقدّم الأمارة على الاستصحاب وسائر الأصول ، فإنّ دليل الاستصحاب يعيّن حكم من كان جاهلا ، ومن قامت عنده الأمارة لا يكون جاهلا.

وبعبارة أخرى : الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة ، نظير ما ذكروه في الغلبة من أنّها أمارة حيث لا أمارة.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عدم تماميّة ما ذكرنا من أنّ الشارع اعتبر الشاكّ متيقّنا في البقاء في عين اعتباره شاكّا ، فإنّه ممنوع ثبوتا وإثباتا.

والّذي يقتضيه النّظر الدّقيق هو أنّ الاستصحاب مشترك مع الأمارة في الأماريّة والكاشفيّة ، وعدم كون المستصحب شاكّا في نظر الشارع بقاء ، ومع ملاحظة دليل «لا تنقض» ـ وإن كان شاكّا مع قطع النّظر عنه ـ فهو متيقّن في نظر الشارع بنفس دليل «لا تنقض» كما هو شأن كلّ متعلّق حكم أو موضوعه بالنسبة إليه ، مثلا : الصلاة غير واجبة مع قطع النّظر عن (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)(١) وواجبة مع ملاحظته ، فدليل الاستصحاب كدليل الأمارة مزيل للشكّ بقاء ، كما أنّ الجهل والشكّ مأخوذ في موضوع دليل كلّ منهما ، والشارع تمّم كاشفيّة ما له كشف ناقص في الاستصحاب ، حيث جعل اليقين ـ الّذي كان كاشفا حدوثا فقط ـ كاشفا بقاء أيضا ، كما تمّم نقض كاشفيّة الأمارة ، فكلّ منهما أمارة كاشفة

__________________

(١) الروم : ٣١.

١٤٣

عن الواقع ، ومع ذلك تقدّم الأمارات على الاستصحاب كما يقدّم الاستصحاب على الأصول.

أمّا وجه تقديم الاستصحاب على الأصول الثلاثة فهو عين وجه تقديم غيره من الأمارات عليها ، وهو أنّ المأخوذ في موضوع الأصول هو الشكّ والجهل ، والاستصحاب رافع للشكّ ومحرز للواقع كغيره من الأمارات ، فبعد جريانه يرتفع موضوع الأصول ، فيتقدّم عليها تقدّم الحاكم على المحكوم.

وأمّا وجه تقديم الأمارات على الاستصحاب ـ مع كونه أيضا أمارة ـ فهو أنّ كلّا من الدليلين وإن كان أخذ الجهل في موضوعه إلّا أنّ دليل الأمارة مطلق من حيث اللفظ ، وإطلاقه شامل لموارد ثلاثة : مورد العلم الوجداني على الخلاف ، والعلم التعبّدي عليه ، والجهل بالواقع ـ وهذا بخلاف دليل الاستصحاب ، حيث إنّه مختصّ بمورد الجهل والشكّ ، الظاهر في مورد عدم العلم بجميع مراتبه حتى التعبّدي منه ـ ولا مقيّد لفظي لإطلاق دليل الأمارة ، بل هو مقيّد بالدليل العقلي بغير مورد العلم بالواقع ، للزوم التصويب ، والقدر المتيقّن من التقييد هو التقييد بغير مورد العلم الوجداني بالواقع ، أمّا مورد الجهل بالواقع ومورد العلم التعبّدي الحاصل بدليل الاستصحاب فهما باقيان تحت إطلاق دليل الأمارة ، فتقدّم الأمارة على الاستصحاب مع كونه أيضا أمارة من جهة أنّ موضوعه هو الجهل والشكّ ، ودليل الأمارة مثل قوله عليه‌السلام : «لا عذر لأحد في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا» (١) رافع لموضوعه ، حيث إنّ ظاهر أخذ الشكّ في لسان دليل الاستصحاب هو أخذه من كلّ جهة بحيث لم يكن للشاكّ وجدانا علم بالواقع أصلا ولو تعبّدا ، وقد عرفت أنّ موضوع دليل الأمارة

__________________

(١) اختيار معرفة الرّجال : ٥٣٥ ـ ٥٣٦ ـ ١٠٢٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٤٩ ـ ١٥٠ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

١٤٤

لا يرتفع بالعلم التعبّدي الاستصحابي ، بل يشمل دليلها العالم بالعلم الوجداني والتعبّدي ، والجاهل ، غاية الأمر أنّه خرج عن تحته العالم بالعلم الوجداني بالدليل العقلي. هذا أوّلا.

وثانيا : نقول : سيجيء إن شاء الله في بحث التعارض أنّ تقديم أحد العامّين أو المطلقين المتعارضين على الآخر إذا استلزم إخراج أكثر الأفراد عن تحته وإبقاء الفرد النادر المستهجن ، دون العكس ، يتعيّن العكس في مقام التقديم ، وهذا نظير تقديم دليل الاستصحاب على قاعدة الفراغ ، حيث إنّه ما من مورد من مواردها ـ إلّا نادرا ـ إلّا ويجري فيه الاستصحاب ، فتقديم دليل الاستصحاب يوجب تخصيص دليلها بالفرد النادر المستهجن ، والمقام من هذا القبيل ، فإنّ البيّنة أو الثقة مثلا لا محالة يخبر عن أمر حادث مسبوق بالعدم ، والأصل عدم حدوث ما أخبر بحدوثه ، فلو قدّمنا دليل الاستصحاب على دليل الأمارة ، يلزم تخصيص دليلها بموارد لا يجري فيها الاستصحاب ، وهي نادرة جدّاً ، فالتخصيص مستهجن لا يصار إليه.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية أفاد في وجه ما هو المعروف من حجّيّة مثبتات الأمارات دون الأصول أنّ الأمارات حيث إنّها مخبرة عن الواقع ، والإخبار بالشيء إخبار بلوازمه أيضا ، والدلالات الالتزاميّة للكلام كالدلالات المطابقيّة ، فإذا أخبرت البيّنة بأنّ زيدا أكل السمّ ، يدلّ بالمطابقة على أكله السمّ وبالالتزام على موته بذلك ، فحجّيّة إخبارها شرعا تستدعي ثبوت موته أيضا. وهذا بخلاف الأصول ، فإنّه لا حكاية فيها ، فلا بدّ من الاقتصار على مقدار ما ثبت التعبّد به (١).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٣.

١٤٥

وفيه : أنّ هذا إنّما يتمّ فيما يكون الإخبار عن الملزوم إخبارا عن لازمه بأن يكون اللزوم لزوما بيّنا بالمعنى الأخص بحيث يلزم من تصوّر الملزوم تصوّر اللازم ، كالإخبار عن طلوع الشمس ، الملازم للإخبار عن وجود النهار ، وأمّا فيما لا يكون كذلك ممّا لا يكون المخبر ملتفتا إليه من اللوازم ، فليس الإخبار عن الملزوم إخبارا عنه وحكاية عنه حتى يشمله دليل حجّيّة الخبر ، فإنّ الإخبار والحكاية متقوّم بالقصد ، ولذا لا يكفر من تكلّم بكلام لازمه تكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عدم التفاته إلى الملازمة.

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره أفاد في المقام أنّ دليل الأمارة يثبت علما تعبّديّا بالملزوم ، ومن المعلوم أنّ العلم بالملزوم مع العلم بالملازمة وجدانا ينتج العلم باللازم وجدانا ، مثلا : العلم بالتغيّر والعلم بملازمته للحدوث ينتج العلم بحدوث ما علم بتغيّره ، فإذا كانت الأمارة علما بالملزوم تعبّدا ، فبضميمة علمنا الوجداني بالملازمة نعلم باللازم أيضا وجدانا ، وأمّا الاستصحاب ـ فحيث لا يكون المجعول فيه هو العلم ، بل تعلّق التعبّد بالجري العملي على طبق اليقين السابق ـ لا يقتضي إلّا ترتيب آثار ما هو متيقّن ، واللازم لم يكن متيقّنا في السابق حتى يجب الجري على طبقه ، وإلّا لما احتجنا إلى استصحاب الملزوم في ترتيب آثار اللازم ، بل استصحبنا نفس اللازم. وبهذا ظهر أنّ التعبّد لم يقع بإبقاء المستصحب بلوازمه ، حيث لم تكن متيقّنة في السابق.

والكلمة المعروفة ـ من أنّ أثر الأثر أثر ـ مختصّة بما إذا كانت جميع الآثار عقليّة أو شرعيّة بأن كان الأثر الأخير معلولا لسابقه تكوينا وهو أيضا كان معلولا تكوينا أيضا لما قبله وهكذا حتى ينتهي إلى الأوّل ، كما في الموت المعلول لأكل السمّ ، المسبّب عن تقديم الطعام المسموم إلى الآكل ، أو تشريعا ، كنجاسة الثوب الملاقي للماء الملاقي للبول ، وأمّا إذا كان أحد الأثرين مثلا شرعيّا

١٤٦

والآخر عقليّا ، فهذا الكلام ساقط من أصله ، ضرورة أنّ جواز القصاص ـ الّذي هو أثر شرعي للقتل الّذي هو أثر عقلي لبقاء حياة زيد النائم تحت اللحاف إلى زمان قدّه نصفين ـ ليس أثرا لبقاء الحياة (١).

وهذا الّذي أفاده قدس‌سره لا يمكن المساعدة عليه ، إذ العلم الوجداني بالملزوم وإن كان بعد العلم بالملازمة يوجب العلم باللازم إلّا أنّ العلم بالملزوم تعبّدا مع العلم الوجداني بالملازمة لا يستلزم العلم باللازم لا وجدانا ، ضرورة أنّا نحتمل موت زيد في المثال ـ إذا أخبرت البيّنة بحياته حال قدّه نصفين بالسيف ـ قبل وقوع السيف عليه ، ولا تعبّدا ، بداهة أنّ التعبّد بوجود الملزوم لا يستلزم التعبّد بوجود لازمه بل هو تابع لدلالة الدليل.

وأيضا ما أفاده من أنّ المجعول في باب الاستصحاب هو الجري العملي على طبق اليقين السابق قد عرفت أنّه خلاف ظاهر الأخبار. وقد اختار قدس‌سره في مبحث القطع أنّ المجعول في الاستصحاب هو صفة المحرزيّة والوسطيّة في الإثبات والعلم من حيث الجري العملي (٢) ، فإذا كان المجعول في البابين أمرا واحدا ، فما الفارق في المقام؟

فالتحقيق : أنّ ما اشتهر من حجّيّة مثبتات الأمارات دون الأصول ممّا لا أصل له ولا يبتني على أساس صحيح ، بل مثبتات الأمارات أيضا في نفسها غير حجّة ما لم يدلّ دليل من الخارج على حجّيّتها. وكلا القسمين ـ أي ما دلّ دليل خارجي على حجّيّة مثبتاته وما لم يدلّ دليل كذلك عليها من الأمارات ـ موجود.

فمن القسم الأوّل : باب الحكايات بأجمعها من أخبار الآحاد والبيّنات

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١٦ ـ ٤١٨.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ١٢ و ١٤.

١٤٧

والأقارير ، فإنّ السيرة القطعيّة العقلائيّة جرت على الأخذ بلوازمها ولو مع ألف واسطة.

ومن القسم الثاني : فتوى الفقهاء ـ كما هو المنصوص ـ بحجّيّة الظنّ للمتحيّر في القبلة مع أنّه لم يفت أحد ـ فيما نعلم ـ بثبوت لازمه ، وهو دخول الوقت وجواز الصلاة بمجرّد وصول الشمس إلى النقطة التي يظنّ أنّ القبلة في طرفها إذا كان وصولها إلى طرف القبلة ظهر ذلك المكان.

وبعد ذلك ينبغي التنبيه على أمرين :

الأوّل : ذكر كاشف الغطاء قدس‌سره أنّه لو بنينا على حجّيّة الأصل المثبت في نفسه وشمول أدلّة الأصول لمثبتاتها أيضا ، لا يمكن الالتزام بحجّيّتها لمانع ، وهو معارضة استصحاب بقاء الملزوم ، المثبت لوجود لازمه باستصحاب عدم حدوث لازمه ، فلو كان المقتضي لشمول أدلّة الأصول لمثبتاتها موجودا لكانت المعارضة الدائميّة تمنع عن ذلك ، فإنّ الشكّ في وجود اللازم دائما مسبوق بيقينين : استصحاب أحدهما مثبت له ، وهو اليقين بوجود الملزوم ، والآخر ينفيه ، وهو اليقين بعدم حدوث اللازم في زمان (١).

وأجاب عنه شيخنا الأنصاري قدس‌سره بأنّ استصحاب بقاء الملزوم ، المثبت للّازم حاكم على استصحاب عدم حدوث اللازم ، إذا الشكّ في وجود اللازم وعدمه لا منشأ له إلّا الشكّ في بقاء الملزوم ، فإنّا لو تيقّنّا بحياة زيد إلى زمان وقوع سيف الضارب عليه ، لا نشكّ في استناد قتله إلى الضارب أصلا (٢).

وما أفاده قدس‌سره ـ كما أفاد شيخنا الأستاذ (٣) قدس‌سره ـ تامّ من وجه وغير تامّ من

__________________

(١) كشف الغطاء : ٣٥.

(٢) فرائد الأصول : ٣٨٤.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤١٨ ـ ٤١٩.

١٤٨

وجه آخر ، فإنّ وجه حجّيّة الأصل المثبت لو كان ثبوت التعبّد بكلّ من اللازم والملزوم بدليل واحد نظير الحكم الانحلالي ، فما أفاده غير تامّ ، إذ الشكّ في ثبوت اللازم وإن كان مسبّبا عن الشكّ في ثبوت ملزومه إلّا أنّ التسبّب ليس بشرعي ، وبدونه لا يكون الأصل السببي حاكما ، لما مرّ غير مرّة من أنّه لا بدّ في حكومته أن يكون المشكوك بالشكّ المسبّبي من الآثار الشرعيّة للمشكوك بالشكّ السببي ، والمفروض في المقام أنّه من اللوازم العقليّة أو العاديّة له لا من آثاره الشرعيّة.

ولو كان الوجه ثبوت التعبّد بالملزوم بما له من الأثر بلا واسطة أو مع الواسطة بدعوى أنّ أثر أثر الشيء أثر لذلك الشيء ، فما أفاده تامّ ، إذ على هذا الوجه ليس في البين إلّا تعبّد واحد متعلّق بالملزوم بجميع آثاره ، فإذا ثبت الملزوم بالتعبّد الاستصحابي ، يثبت بجميع آثاره ، ومنها أثر اللازم ، ويكون هذا الاستصحاب حاكما على استصحاب عدم حدوث اللازم ، إذ التسبّب على هذا شرعي ، فإنّ المفروض أنّ التعبّد بأثر الملزوم بعينه تعبّد بأثر لازمه ، فيكون مثل التعبّد بطهارة الثوب النجس المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، وهذا بخلافه على الوجه الأوّل ، فإنّ التعبّد ـ عليه ـ متعدّد : تعبّد ببقاء الملزوم ، وآخر بحدوث لازمه ، فإذا فرضنا في التعبّد الثاني أنّ عدم حدوث اللازم أيضا متيقّن ومشكوك ، يشمله دليل الاستصحاب في نفسه ، فيتعارض الاستصحابان.

الأمر الثاني : التزم شيخنا الأنصاري قدس‌سره بحجّيّة الأصل المثبت إذا كانت الواسطة خفيّة بحيث يرى العرف الأثر أثرا لذي الواسطة (١).

وتبعه صاحب الكفاية في ذلك ، وزاد عليه ما إذا كانت الواسطة جليّة

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٨٦.

١٤٩

بمرتبة من الجلاء يكون التعبّد بذيها مستلزما للتعبّد بها عند العرف. وبيّن لذلك موردين :

أحدهما : ما يكون بينهما تضايف ، كالفوقيّة والتحتيّة ، والتقدّم والتأخّر ، فإنّ المتضايفين متكافئان لا ينفكّ أحدهما عن الآخر في مقام القوّة والفعليّة ، فإذا فرض أنّ زيدا أبو عمرو بالقوّة ، فلا محالة يكون عمرو أيضا ابن زيد بالقوّة ، وهكذا في مقام الفعليّة ، فالتعبّد بأبوّة زيد بنظر العرف مستلزم للتعبّد ببنوّة عمرو ، فإنّ الأبوّة والبنوّة عندهم مطلب واحد يعبّر عنه بتعبيرين ، وهكذا غيرهما من المتضايفات.

والآخر : ما يكون أحدهما معلولا للآخر أو كان كلاهما معلولا لعلّة ثالثة ، كوجود النهار ، المعلول لطلوع الشمس ، أو وجود النهار والضوء المعلولين لطلوع الشمس ، فإنّ التفكيك كما لا يمكن بين المعلول والعلّة أو المعلولين لعلّة ثالثة واقعا ، كذلك لا يمكن عرفا بحسب التعبّد (١).

وهذا الّذي أفاده وإن كان تامّا كبرى إلّا أنّه لا صغرى لهذه الكبرى ، ضرورة أنّ المتضايفين لا يعقل التفكيك بينهما قوّة وفعلا ويقينا وظنّا وشكّا ، فإذا فرض اليقين بأبوّة زيد لعمرو ، لا يعقل عدم حصول اليقين ببنوّة عمرو له ، وهكذا في الظنّ والشكّ ، فأيّ مورد يعقل تحقّق موضوع الاستصحاب ـ من اليقين والشكّ ـ في أحد المتضايفين وعدم تحقّقه في المتضايف الآخر حتى يدخل في تلك الكبرى؟ وهكذا الكلام في العلّة والمعلول والمعلولين لعلّة ثالثة حرفا بحرف.

ثمّ إنّ ما أفاده شيخنا الأنصاري قدس‌سره ـ من اعتبار الأصل المثبت إن كانت

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٢ (الهامش) و ٤٧٣.

١٥٠

الواسطة خفيّة ـ غير تامّ أيضا ، فإنّ الأثر إن كان ـ بحسب متفاهم العرف بمناسبة الحكم والموضوع ـ أثرا لذي الواسطة ، فهو خارج عن الأصل المثبت بالمرّة ، وإن كان الأثر أثرا للواسطة حقيقة وإنّما العرف يتسامح ويعدّه أثرا لذي الواسطة ، فلا اعتبار بهذا الأصل أصلا ، فإنّ العرف مرجع لتشخيص المفاهيم وأخذها منه ، وبعد أخذ أصل المفهوم أو سعته وضيقه منه ـ ولو كان ذلك من جهة القرائن الحاليّة أو المقاليّة ، فإنّ الميزان هو انفهام المعنى من اللفظ وإن لم يكن معنى حقيقيّا له ـ لا يعتنى بالمسامحات العرفيّة ، بل لا بدّ بعد ذلك من اتّباعهم في نظرهم الدقّي لا المسامحي ، فإنّهم ربما يتسامحون في باب الأوزان والأعداد ، ويعدّون الألف إلّا واحدا مثلا ألفا ، ويقولون : جاء ألف من العساكر ، ولكن لو أنكر على القائل منكر ، لم ينكر عليه.

والحاصل : أنّ العرف مرجع في فهم أصل المعنى أو سعته وضيقه ولو بالقرائن مقاليّة أو حاليّة ، ومن جملة القرائن الحاليّة مناسبة الحكم والموضوع ، كما في قوله عليه‌السلام : «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» (١) فإنّ لفظ «ما» وإن كان عامّا يشمل الإنسان وغيره إلّا أنّ النهي حيث إنّه متعلّق بالإنسان ـ وهو آكل لا مأكول ـ لا يفهم منه عرفا بهذه المناسبة بطلان الصلاة في شعر الإنسان ، فيضيّق مفهوم «ما لا يؤكل» وإن كان عامّا ، ويختصّ بغير الإنسان بهذه القرينة الحاليّة.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره ذكر أمثلة لخفاء الواسطة :

منها : استصحاب بقاء الرطوبة في الثوب المغسول الواقع على الأرض النجسة لإثبات نجاسته من جهة السراية (٢).

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٦٥ ـ ٨٢٤ ، الوسائل ٤ : ٣٤٦ ـ ٣٤٧ ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، الحديث ٦.

(٢) فرائد الأصول : ٣٨٦.

١٥١

وفيه : أنّه لا بدّ من أن ينظر إلى أدلّة تنجّس الملاقي للنجس ، ومعرفة أنّ الموضوع للنجاسة هل هو مجرّد نجاسة أحد الجسمين وتماسّه مع الجسم الرطب. أو أنّ الموضوع هو انتقال بعض أجزاء النجس إلى الجسم الطاهر ، المعبّر عنه في اصطلاح الفقهاء بالسراية؟ ولا يكاد يستفاد شيء منهما من روايات الباب على كثرتها ، وإنّما أوكل أمر ذلك إلى العرف. والموضوع بحسب فهمهم ـ على ما هو الشأن في القذارات العرفيّة ـ هو السراية.

وكيف كان ، فإن كان الموضوع هو الأوّل ، فالمقام داخل في الموضوعات المركّبة ، فإنّ أحد جزأي الموضوع ـ وهو المماسّة ـ محرز بالوجدان ، وجزءه الآخر ـ وهو رطوبة الثوب ـ محرز بالاستصحاب ، فيترتّب عليه حكمه ، وهو نجاسته ، ولا واسطة في البين لا خفيّة ولا جليّة.

وإن كان هو الثاني ، فحيث إنّه عنوان بسيط لازم لتحقّق الجزءين فاستصحاب بقاء رطوبة الثوب بعد إحراز مماسّته للأرض النجسة من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

هذا كلّه في غير الحيوان ، أمّا في الحيوان : فإن بنينا على تنجّسه بالملاقاة وأنّ زوال عين النجس أو المتنجّس عن بدنه مطهّر له ، كما هو المشهور ، فلا إشكال في استصحاب بقاء الرطوبة النجسة في رجل البقّ أو البعوضة مثلا ، إذا كان الثوب أو البدن الملاقي مع لأجل الحيوان مرطوبا بحيث تسري النجاسة منها إليه ، فإنّ الملاقاة وجدانيّة ونجاسة بدن الحيوان مستصحبة ، فيلتئم الموضوع المركّب.

وإن بنينا على عدم تنجّسه بذلك وأنّ النجس هو البول أو الدم الّذي أصاب بدنه وأمّا بدنه فهو طاهر ، فلا يجري الاستصحاب ولو قلنا بأنّ موضوع التنجّس مركّب من مجرّد الملاقاة ورطوبة النجس أو الملاقي ولو لم تكن سراية

١٥٢

في البين ، إذ استصحاب بقاء البول في رجل الذباب أو منقار الديك مثلا ، لا يثبت ملاقاة الماء ـ الّذي وقع فيه الذباب أو منقار الديك ـ للنجس.

والفرق : أنّ الملاقاة في غير الحيوان وجدانيّة على هذا القول ـ أي القول بعدم ترتّب النجاسة على السراية ـ بخلاف الحيوان ، فإنّ المعلوم هو ملاقاة الماء لمنقار الديك ، والمفروض أنّه لا أثر لها في تنجّسه ، وإنّما الأثر لملاقاته للبول الّذي أصاب المنقار ، وهي غير معلومة لنا بالوجدان ، واستصحاب بقاء البول على المنقار لا يثبت ملاقاة الماء للبول.

فاتّضح الفرق بين الحيوان وغيره ، وظهر عدم تماميّة ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من جريان الاستصحاب في الحيوان وغيره لو قلنا بتركّب الموضوع من الملاقاة والرطوبة ، وعدم جريانه فيهما لو لم نقل بذلك وقلنا بالسراية (١).

ومنها : استصحاب عدم دخول رمضان أو شوّال لإثبات كون الغد أوّل رمضان أو الشوّال وترتّب أحكام أوّل الشهر ، وهكذا ثانية وثالثة إلى آخره (٢).

وأجاب شيخنا الأستاذ قدس‌سره عنه بأنّه لا يبتنى على الأصل المثبت ، وذلك أنّ ما دلّ على توقّف ثبوت أوّل الشهر على الرؤية أو مضيّ ثلاثين يوما من الشهر السابق حاكم على أدلّة الأحكام الثابتة بعنوان أوّل الشهر (٣).

وما أفاده وإن كان تامّا بضميمة عدم القول بالفصل بين وجوب الصيام وغيره من أحكام أوّل الشهر وسائر الأحكام الثابتة بعنوان ثاني الشهر وثالثة إلى آخره إلّا أنّا لا نحتاج إليه ، إذ يمكننا استصحاب بقاء أوّل الشهر بعد مضيّ دقيقة أو أقلّ من اليوم الّذي نتيقّن أنّه من شوّال ونشكّ في أنّه أوّله أو ثانيه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢٠ ـ ٤٢١.

(٢) فرائد الأصول : ٣٨٧.

(٣) أجود التقريرات ٢ : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

١٥٣

ولا يرد على هذا إلّا الإشكال الجاري في استصحاب الزمان في الزمانيّات بأنّ استصحاب بقاء النهار لا يثبت كون هذا الزمان نهارا ، وهكذا في المقام استصحاب بقاء أوّل الشهر لا يثبت أنّ هذا اليوم أوّل الشهر.

والجواب هو الجواب ، وما ذكرنا جار في جميع أيّام الشهر ولياليه ، بخلاف ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، فإنّه في غير الأوّل يحتاج إلى ضميمة عدم القول بالفصل.

وتوهّم تركّب موضوع تلك الأحكام من كون اليوم من شوّال وعدم كون سابقه منه فيمكن إحرازه بضمّ الوجدان إلى أصالة عدم كون اليوم السابق من شوّال ، واضح الدفع ، ضرورة أنّ عنوان أوّل الشهر ، الّذي هو موضوع لتلك الأحكام عنوان بسيط منتزع عمّا ذكر ، كما هو واضح لا يخفى.

ومنها : استصحاب عدم وجود الحاجب في أعضاء الوضوء أو الغسل لإثبات تحقّق الغسل ووصول الماء إلى البشرة ، أو في محلّ المتنجّس لإثبات تحقّق الغسل (١).

وهذا الأصل مثبت ، ودعوى خفاء الواسطة قد عرفت ما فيها ، وأنّه لا فرق بين خفاء الواسطة وعدمه في عدم حجّيّة الأصل المثبت.

وربما يتوهّم استقرار السيرة على عدم الاعتناء باحتمال وجود الحاجب.

وفيه : أنّ السيرة غير متحقّقة إلّا في مورد الاطمئنان بعدم وجود الحاجب أو في مورد الغفلة عنه ، وعلى فرض تحقّقها في غيرهما فهي ناشئة من فتاوى الفقهاء بذلك لتخيّل حجّيّة الأصل المثبت أو غير ذلك. وبالجملة إثبات السيرة المتّصلة بزمان المعصوم عليه‌السلام الكاشفة عن رضاه عليه‌السلام بذلك دونه خرط القتاد.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٨٧.

١٥٤

وممّا تخيّل ابتناؤه على القول بالأصل المثبت ما ذكروه فيما إذا جنى أحد على أحد فمات المجنيّ عليه وادّعى الوارث أنّه مات بالسراية والجاني أنّه شرب السمّ وموته مستند إليه ، من أنّ الاحتمالين متساويان ، أي احتمال الموت بالسراية وشرب السمّ ، والأصلين متعارضان ، أي أصالة عدم سراية الجناية وعدم تحقّق سبب ضمان الدّية ، وأصالة عدم شرب السمّ. ويلحق بذلك الفرع السابق ، وهو ما إذا قدّ المريض نصفين.

والتحقيق : أنّ الموضوع في الفرعين إن كان بسيطا ـ وهو عنوان القتل ـ فلا يكاد يمكن إحرازه باستصحاب عدم شرب السمّ ، مضافا إلى أنّه معارض باستصحاب عدم تحقّق سبب ضمان دية النّفس ، أو بقاء الحياة إلى زمان القدّ في الفرع الثاني مع أنّه أيضا معارض.

وإن كان مركّبا من الجناية وعدم شرب السمّ في الأوّل ، ومن القدّ والحياة في الثاني ، فباستصحاب عدم شرب السمّ وبقاء الحياة وضمّه إلى الوجدان يلتئم الموضوع ، ولا تصل النوبة إلى استصحاب عدم تحقّق سبب ضمان دية النّفس أو سبب جواز القصاص ، فإنّ الشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في شرب السمّ وبقاء الحياة ، فإذا جرى الاستصحاب السببي يزول الشكّ المسبّبي.

ومن الموارد المذكورة : ما إذا كان مال أحد تحت يد آخر ، وادّعى المالك أنّ يده يد ضمان ، وادّعى الآخر أنّ يده يد مجّان ، فقدّموا قول المالك ، وحكموا بالضمان (١). ويتفرّع عليه فروع :

منها : ما إذا ادّعى المالك أنّه غصب ، والآخر أنّه مأذون في التصرّف.

ومنها : ما إذا ادّعى المالك أنّه باعه ، وادّعى الآخر أنّه وهبه.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢٢.

١٥٥

ومنها : ما إذا ادّعى المالك أنّه آجره ، وادّعى الآخر أنّه أعاره.

وتوهّم بعض أنّ القول بتقديم قول المالك مبنيّ على الأصل المثبت. وآخر أنّه مبنيّ على قاعدة المقتضي والمانع. وثالث أنّه مبنيّ على جواز التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة.

وأنكر جميع ذلك شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، وذهب إلى أنّ تقديم قول المالك من جهة أنّ موضوع الضمان مركّب من التسلّط على المال والتصرّف فيه ، وعدم اقتران التصرّف برضاء مالكه ، والتصرّف معلوم بالوجدان ، فإذا ضممنا إليه استصحاب عدم مقارنته لرضا مالكه ، يتمّ الموضوع ويحكم بالضمان (١).

وما أفاده إنّما يصحّ في الفرع الأوّل. وأمّا في الفرعين الآخرين فلا ، فإنّ التصرّف جائز ومقرون برضاء مالكه على كلّ تقدير ، فإنّهما اتّفقا في الفرع الثاني على أنّ المال ملك للمتصرّف ، وفي الثالث اتّفقا على اقتران التصرّف بالرضى ، غاية الأمر أنّ المالك يدّعي ضمان المتصرّف بالمسمّى وهو ينكره.

نعم ، في الفرع الثاني إن كانت الهبة بغير ذي رحم ، فللمالك أن يرجع ويستردّ العين ، لكنّه مطلب آخر لا ربط له بالمقام.

بقي فرعان آخران : أحدهما : الشكّ في تقدّم إسلام الوارث على موت مورّثه وتأخّره. والآخر : الشكّ في تقدّم الملاقاة على الكرّيّة وتأخّرها عنها ، وسيجيء الكلام فيهما إن شاء الله.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره استثنى موارد من الأصل المثبت :

منها : استصحاب الفرد لترتيب آثار الكلّي (٢) ، كاستصحاب خمريّة مائع خارجي لترتيب آثار كلّي الخمر من حرمة الشرب والنجاسة وغير ذلك ، وذلك

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤٢٣.

(٢) كفاية الأصول : ٤٧٤.

١٥٦

من جهة أنّ وجود الكلّي عين وجود فرده ومتّحد معه ، فليست واسطة عقليّة في البين حتى يكون الأصل مثبتا.

وفيه : أنّ الكلّي وإن كان متّحدا مع الفرد وجودا إلّا أنّه معرّف لمصاديقه الخارجيّة ، لما مرّ مرارا من أنّ الأحكام ثابتة على موضوعاتها بنحو القضايا الحقيقيّة ، فحرمة الشرب مترتّبة على طبيعيّ الخمر بما أنّه معرّف لمصاديقه الخارجيّة ، والمطهّريّة ثابتة لكلّي الماء كذلك ، فالمياه الخارجيّة كلّها موضوعات لهذا الحكم ، غاية الأمر أنّ الخصوصيّات الخارجيّة ـ من كون الماء ماء بحر أو نهر أو ملك زيد أو عمرو ـ خارجة عن حيّز الحكم ، بل كلّ ماء بمائيته وطبيعته محكوم بهذا الحكم ، فالأثر مترتّب على نفس الفرد ، ويترتّب على استصحاب الفرد أثره ، كما في جميع الاستصحابات الموضوعيّة ، كان الكلّي الطبيعي موجودا في الخارج أو لم يكن ، وكان متّحدا مع فرده أو لم يكن.

ومنها : استصحاب منشأ انتزاع أمر انتزاعي لترتيب آثار الأمر الانتزاعي ، كالملكيّة والزوجيّة ممّا يكون من الخارج المحمول لا ما يكون من المحمول بالضميمة كالأبيض والأسود (١).

وما أفاده غير معلوم المراد ، ويحتمل فيه وجهان :

الأوّل : أن يكون مراده استصحاب كون الدار ـ مثلا ـ ملكا لزيد إذا كان بقاء ملكا له لترتيب آثار الملكيّة عليه من جواز اشترائها واستئجارها والتصرّف فيها بإذنه وغير ذلك ، فإن أراد ذلك ، فهو عين الاستثناء الأوّل وليس أمرا مغايرا له ، ضرورة عدم الفرق بين استصحاب ملكيّة زيد للدار لترتيب آثار كلّي الملكيّة ، واستصحاب خمريّة مائع لترتيب آثار كلّي الخمر.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٤.

١٥٧

نعم ، الخمر والماء وأمثال ذلك من الكلّيّات المتأصّلة الخارجيّة ، والملكيّة والزوجيّة وأمثالهما من الكلّيّات الاعتباريّة ، ومجرّد ذلك لا يوجب استثناءه ثانيا.

الثاني : أن يكون مراده استصحاب ذات منشأ الانتزاع ، كاستصحاب بقاء نفس المال لترتيب الأمر الانتزاعي عليه إذا قطع بترتّبه عليه على تقدير بقائه ، كما إذا علمنا بوجود ثوب كذائي سابقا ، وعلمنا أيضا بأنّه لو كان باقيا إلى الآن انتقل إلى زيد يقينا بشراء أو غيره ، فنستصحب وجوده إلى الآن لنحكم بملكيّة زيد له.

وإن أراد هذا ـ كما هو أوفق بعبارته في الكفاية ـ فهو من أوضح أنحاء الأصل المثبت.

ومنها : ما أفاده من أنّ استصحاب الشرط لترتيب الشرطيّة ، واستصحاب المانع لترتيب المانعيّة ليس بمثبت ، وفرّع ذلك على جواز استصحاب نفس الشرطيّة والمانعيّة والجزئيّة لكونها أيضا قابلة للواضع والرفع ، غاية الأمر أنّه لا يكون مستقلّا بل بتبع منشأ انتزاعها (١).

والظاهر عدم تماميّة ما أفاده أصلا وفرعا.

أمّا الأصل ـ وهو جواز استصحاب نفس الجزئيّة والشرطيّة للمأمور به ـ فلما عرفت سابقا من عدم تصوّر اليقين والشكّ فيهما من دون يقين وشكّ في منشأ انتزاعهما ، وهو الأمر بالمركّب والأمر بالمقيّد ، ومعه لا تصل النوبة إلى استصحاب نفس الجزئيّة والشرطيّة ، فإذا شكّ في بقاء السورة على جزئيّتها ، فلا بدّ من الاستصحاب في سبب هذا الشكّ ، وهو استصحاب عدم نسخ الأمر

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٤.

١٥٨

بالمركّب من السورة وغيرها.

وأمّا الفرع ـ وهو استصحاب وجود الشرط لترتيب الشرطيّة ـ فهو من الغرائب ، إذ الشرطيّة ليست من أحكام وجود الشرط خارجا بحيث لم تصر فعليّة إلّا بفعليّة وجود الشرط ، كإباحة الماء ، التي لا تصير فعليّة إلّا بفعليّة وجود الماء ، بل الوضوء ـ مثلا ـ شرط للصلاة سواء توضّأ المصلّي أم لا ، والسورة جزء للصلاة تحقّقت في الخارج أم لا.

والظاهر أنّه قدس‌سره في مقام دفع إشكال استصحاب وجود الشرط ، الّذي هو من العويصات ، فإنّه ليس بحكم ولا موضوع ذي حكم ، إذ لا أثر له إلّا جواز الدخول في الصلاة ، ومطابقة المأتيّ به للمأمور به ، وهو أثر عقلي له لا شرعي ، ولا يندفع بما أفاده.

فالتحقيق في الجواب : أنّ هذه الكلمة المعروفة من أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون حكما شرعيّا أو موضوعا ذا حكم ممّا لا أصل لها ، إذ لم ترد في آية ولا رواية ، بل المستصحب لا بدّ وأن يكون قابلا للتعبّد إمّا بنفسه أو بالواسطة ، فكلّ ما كان كذلك تشمله أدلّة الاستصحاب ولا قصور فيها ، وكما يكون الشيء في مقام الجعل والإثبات قابلا للتصرّف الشرعي كذلك يكون في مقام الامتثال والإسقاط أيضا كذلك كما هو واقع في موارد قاعدة الفراغ ، حيث إنّ الشارع اكتفى بالامتثال الاحتمالي ، وحكم بمطابقة المأتيّ به للمأمور به وإسقاطه عنه ، وفي المقام أيضا للشارع أن يقنع في مقام الامتثال بالصلاة المقترنة بالطهارة الاحتماليّة ، فلا مانع من شمول دليل الاستصحاب للمقام ، واكتفاء الشارع في مقام الامتثال بوجود الشرط احتمالا ، فإذا صلّينا مع الطهارة الاستصحابيّة ، فقد صلّينا في زمان حكم الشارع بطهارتنا ، وأحرزنا أحد جزأي الموضوع بالوجدان والآخر بالأصل.

١٥٩

ومنها : ما أفاده من أنّ الأثر الّذي نستصحبه أو نرتّبه على المستصحب لا يفرّق فيه بين أن يكون وجوديّا أو عدميّا ، إذ لا ملزم لاعتبار كون المستصحب حكم شرعيّا أو موضوعا ذا حكم شرعي ، بل الميزان هو أن يكون المستصحب قابلا للتعبّد بنفسه أو باعتبار أثره.

وفرّع على ذلك أنّ استصحاب عدم المنع عن الفعل لا إشكال فيه ، ولا يكون مثبتا كما أفاده الشيخ قدس‌سره في الرسالة ، نظرا إلى أنّ عدم استحقاق العقاب من اللوازم العقليّة لعدم المنع (١).

وما أفاده أوّلا ـ من أنّ الالتزام بكون المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم بلا ملزم ـ فالأمر كما أفاده.

وأمّا ما فرّع عليه من الإشكال على الشيخ قدس‌سره فمن المحتمل قويّا أنّه من اشتباه القلم ، إذ الشيخ قدس‌سره عقد بحثا مستقلّا لعدم الفرق بين كون الأثر وجوديّا أو عدميّا (٢) ، ويستفاد ذلك من مواضع متعدّدة من كلماته (٣) ، ومع ذلك كيف يتوهّم الشيخ قدس‌سره اختصاص اعتبار الاستصحاب بما إذا كان الأثر وجوديّا!؟ ولا ينبغي أن يتوهّم ذلك أيضا ، فإنّه المؤسّس لأغلب هذه الأمور.

والصواب : تفريع هذا الفرع على ما أفاده في التنبيه الآتي من أنّ الأثر العقلي أو العادي إنّما لا يترتّب على المستصحب إذا كان أثرا له بوجوده الواقعي ، أمّا إذا كان أثرا للأعمّ من وجود المستصحب واقعا أو ظاهرا ـ كعدم استحقاق العقاب الّذي هو أثر لعدم الإلزام الشرعي سواء كان ظاهريّا أو واقعيّا ـ فيترتّب عليه لا محالة ، فلا يكون استصحاب عدم المنع عن الفعل وهكذا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٥ ، وانظر : فرائد الأصول : ٢٠٤.

(٢) فرائد الأصول : ٣٢٢.

(٣) منها ما في ص ٣٦١ من فرائد الأصول.

١٦٠