الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

الانقطاع.

نعم ، تخلّل السكون في بعض الموارد لا ينافي الاتّصال العرفي ، كما في المسافر ، فإنّه لا يتحرّك دائما ، فيصحّ استصحاب كون زيد مسافرا ما لم يعلم بانقلابه إلى ضدّه ، ولا يضرّ العلم بكونه واقفا في أثناء الطريق كثيرا.

وأمّا مثل جريان الدم وسيلان الماء فهو أيضا كالحركة في كون التقضّي والتصرّم في قوامه وحقيقته ، وأنّ الاتّصال فيه مساوق للوحدة ، بل هو عين الحركة ، فلا مانع من استصحاب بقاء الجريان والسيلان إذا ترتّب عليه أثر شرعي. والكلام في الشكّ في المقتضي والرافع هو الكلام المتقدّم.

نعم ، الغالب في هذه الموارد هو عدم العلم بمقدار استعداد الرحم ومنبع الماء ، فيكون الشكّ فيها بحسب الغالب شكّا في المقتضي.

وأمّا التكلّم وشبهه كالصلاة وقراءة القرآن فحيث إنّ تخلّل السكون فيها ضروري ، لعدم إمكان التكلّم ـ من غير تخلّل نفس في البين ـ مقدار دقيقة عادة فضلا عن مقدار ساعة وأكثر ، فالوحدة فيها وحدة اعتباريّة ليست بحقيقيّة ، مثل الخطبة والقصيدة والسورة ، فإنّها ـ مع كون كلّ منها مركّبا من وجودات متغايرة ـ لها وحدة اعتباريّة عرفيّة ، وهكذا الصلاة ـ مع كونها مركّبة من ماهيّات متباينة بعضها من مقولة الفعل ، وبعضها الآخر من مقولة الكيف المسموع وغير ذلك ـ أمر واحد باعتبار الشرع ، وبهذا الاعتبار يمكن استصحاب بقاء المتكلّم والمصلّي والقارئ على حال تكلّمه وصلاته وقراءته إذا ترتّب على ذلك أثر شرعي ، ولا تنافيه السكونات المتخلّلة ، حيث إنّها كالعدم في نظر العرف ، ولذا يرون المصلّي في الآنات ـ التي لا يكون فيها مشغولا بأجزاء الصلاة ـ مصلّيا أيضا ، فيصحّ استصحاب اشتغال زيد بقراءة سورة البقرة مثلا ، إذا علم بشروعه فيها وشكّ في أنّه هل أتمّها أم لا ، لاحتمال عروض مانع عن الإتمام ، كما أنّه

١٢١

يمكن أن يكون من الشكّ في المقتضي ، كما إذا علم بشروعه في قراءة القرآن وشكّ في أنّه هل رفع اليد عنها أم لا ، مع عدم العلم بأنّه بنى على قراءة أيّ مقدار من القرآن ، ويمكن أيضا استصحاب الكلّي بجميع أقسامه ، فيمكن استصحاب القسم الأوّل من الكلّي في المثال المتقدّم ، وإذا تردّدت السورة التي شرع فيها بين القصيرة والطويلة ، كان من القسم الثاني ، كما أنّه إذا شكّ في الشروع في أخرى مع القطع بتماميّة الأولى ، كان من القسم الثالث.

هذا كلّه في الزماني الّذي يكون متدرّج الوجود بالذات. أمّا الزماني الّذي تدرّجه بالعرض وباعتبار الزمان ـ كالقيام من الزوال إلى الغروب مثلا ، الّذي هو موجود واحد ، وليس الموجود منه حال الزوال بموجود مغاير للموجود منه حال الغروب ـ فالشكّ في بقاء حكمه يتصوّر على أقسام :

الأوّل : ما إذا كان ناشئا من الشكّ في بقاء الزمان الّذي جعل قيدا له ، فالشبهة في هذا القسم موضوعيّة ، وقد مرّ الإشكال في استصحاب بقاء الزمان ، والجواب عنه.

الثاني : ما إذا نشأ الشكّ في بقاء الحكم من الشكّ في حصول ما جعل غاية للفعل ، لإجماله ـ كالغروب في الظهرين ، فإنّه بضرورة الدين غاية لهما لكنّه اختلف في أنّه هل هو معنى يحصل ويتحقّق باستتار القرص عن الأبصار والأنظار ، أو بذهاب الحمرة عن قمّة الرّأس؟ ـ فالشبهة في مثله مفهوميّة ، بمعنى أنّ الشبهة حكميّة نشأت من عدم معلوميّة مفهوم الغاية ، كالغروب في المثال ، أو نشأ لأجل الشكّ في حصول الغاية لا لعدم معلوميّة مفهومها ، بل لتعارض الأدلّة ، كما في القدم والقدمين لنافلة الزوال.

والحقّ هو عدم جريان الاستصحاب في هذا القسم لا استصحاب الحكم ولا استصحاب الموضوع.

١٢٢

أمّا استصحاب الحكم : فعدم جريانه ـ بناء على اختصاص أدلّة الاستصحاب بموارد الشكّ في الرافع ، وعدم شمولها لموارد الشكّ في المقتضي ـ واضح ، فإنّ مقتضي الجري على اليقين بالوجوب في عمود الزمان إلى ذهاب الحمرة مشكوك من أوّل الأمر.

وأمّا بناء على التعميم : فلأنّ دليل الاستصحاب ناظر إلى إبقاء اليقين بشيء في ظرف الشكّ فيه بعينه عملا ، فاتّحاد متعلّقي اليقين والشكّ ممّا لا بدّ منه ، ومن المعلوم أنّ الفعل المقيّد بزمان خاصّ مغاير عند العرف له مقيّدا بزمان آخر ، فكما تكون الصلاة في المسجد مغايرة للصلاة في الدار عرفا ، كذلك الصلاة قبل الاستتار مغايرة لها قبل ذهاب الحمرة وبعد الاستتار ، والوجوب المتعلّق بكلّ منهما مغاير لما يتعلّق بالآخر ، فإذا شكّ في مفهوم الغروب ، يشكّ في بقاء الموضوع ، فلا يحرز شمول دليل الاستصحاب له ، لعدم إحراز بقاء الموضوع واتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ، فالتمسّك بدليل الاستصحاب فيه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

وأمّا استصحاب الموضوع فعدم جريانه من جهة ما ذكرنا مرارا من أنّه لا بدّ في الاستصحاب من الشكّ في بقاء ما كان متيقّنا سابقا ، وفي المقام ليس شيء كنّا على يقين منه ونشكّ في بقائه حتّى نستصحبه ، فإنّ استتار القرص نقطع بحصوله ، وذهاب الحمرة أيضا نقطع بعدم تحقّقه ، ولا شكّ لنا في شيء منهما ، إنّما الشكّ في كون الغاية هي هذا أو ذاك.

وأمّا استصحاب عدم حصول الغاية بما هي غاية وبوصف كونها غاية فهو عبارة أخرى عن الاستصحاب الحكمي ، وتبديل لفظ بلفظ ، ليس شيئا مغايرا له.

وهذا الإشكال سار في جميع الشبهات الحكميّة ، مثلا : إذا علمنا

١٢٣

بوجوب إكرام زيد العالم واحتملنا دخل وصف العلم في موضوع وجوب الإكرام ، لا يمكن استصحاب الوجوب بعد زوال علمه ، ولا استصحاب بقاء الموضوع ، إذ لا نشكّ في بقاء زيد ولا في ارتفاع علمه ، واستصحاب موضوع وجوب الإكرام بوصف موضوعيته عبارة أخرى عن استصحاب حكمه.

الثالث من الأقسام : ما إذا كان الشكّ في بقاء الحكم ناشئا من العلم بانقضاء زمان الواجب واحتمال بقائه بعد ذلك الزمان أيضا ، وقد تقدّم البحث في ذلك مفصّلا في مبحث البراءة ، وأنّ استصحابي الوجود والعدم متعارضان عند الفاضل النراقي ، واخترنا جريان استصحاب الوجود دون العدم وفاقا للشيخ قدس‌سره ، وخلافا لشيخنا الأستاذ قدس‌سره ، حيث أنكر كليهما ورجع إلى البراءة فلا نعيده.

الرابع : ما إذا كان احتمال البقاء لأجل تعدّد المطلوب واحتمال أنّ طبيعيّ الصلاة مثلا مطلوب بطلب ، وخصوصيّة إيقاعها في الوقت مطلوبة بطلب آخر ، نظير نذر إيقاع الصلاة في أوّل وقتها ، حيث إنّ الصلاة فيما بين الحدّين مطلوبة بطلب ، وخصوصيّة إيقاعها في أوّل الوقت مطلوبة بالأمر النذري ، والاستصحاب في هذا القسم لا مانع منه ، فإنّه من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، لأنّ وجوب طبيعيّ الصلاة ، المردّد بين الاستقلالي والضمني معلوم لنا ، وبعد الوقت نشكّ في بقائه ، لاحتمال كونه وجوبا استقلاليّا فنستصحبه ، فلو فرض عدم ورود نصّ ظاهر في التقييد بالوقت ووحدة الطلب ، فلا مانع من هذا الاستصحاب بناء على ما بنى عليه القوم من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة ، فعلى ذلك لا يحتاج وجوب القضاء في ظرف الشكّ وعدم استظهاره من دليل ، إلى دليل خاصّ ، بل لا بدّ من القول بتبعيّة القضاء للأداء.

١٢٤

نعم ، لا يجري لو أنكرنا جريانه في الأحكام كما أنكرناه.

التنبيه السادس : أنّ المستصحب ربما يكون حكما ثابتا على موضوع فعليّ على كلّ تقدير ، وشكّ في بقائه ، ويسمّى هذا بالاستصحاب التنجيزي ، وربما يكون حكما ثابتا على موضوع على تقدير وبعنوان خاصّ ، وشكّ في بقائه على نحو ثبوته من كونه على تقدير ، لزوال العنوان ، ويسمّى هذا بالاستصحاب التعليقي والتقديري.

والشكّ في بقاء الحكم من غير جهة النسخ لا محالة يكون من جهة انقلاب وجود إلى عدم أو عدم إلى وجود ، بمعنى زوال عنوان مأخوذ في الموضوع وخصوصيّة كذلك أو قيام صفة لم تكن قائمة به ، وإلّا فلو لم يتغيّر الموضوع بوجه ويبقى على حاله من غير زيادة ولا نقصان ، لا يعقل الشكّ في بقاء حكمه ـ بعدم عدم احتمال النسخ ـ إلّا من جهة احتمال البداء بمعناه الحقيقي الّذي هو ظهور ما خفي ، وهو مستحيل في حقّه تعالى.

وليعلم أنّ النزاع في جريان الاستصحاب التعليقي وعدمه مبنيّ على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة الإلهيّة ، وأمّا على ما أنكرناه من جهة معارضته باستصحاب عدم الجعل فلا يبقى لهذا النزاع مجال أصلا.

ثمّ إنّ العنوان المأخوذ في موضوع الحكم إمّا يكون ممّا لا دخل له في ثبوت الحكم أصلا ، بل هو في نظر العرف معرّف للمعنون ـ سواء صدق عليه هذا العنوان أم لا ـ بحيث لو تبدّل الموضوع وزال عنه ذلك العنوان وتلك الخصوصيّة المأخوذة فيه ، لا يشكّ العرف في ثبوت الحكم له ، مثلا : عنوان العنب أو الحنطة ليس له دخل في ثبوت الحلّيّة للعنب أو الحنطة بحيث لو صار العنب زبيبا أو الحنطة دقيقا ، يشكّ العرف في شمول دليل حلّيّة العنب له أو دليل حلّيّة الحنطة ، بل نفس هذا الدليل في نظر العرف دليل على حلّيّتهما أيضا.

١٢٥

وإمّا يكون عند العرف من مقوّمات الموضوع بحيث يرى الحكم الثابت له عند زوال ذلك العنوان حكما آخر ثابتا لموضوع آخر ، لا بقاء للحكم الأوّل ، كعنوان الكلب ، فإنّ زوال هذا العنوان بصيرورة الكلب ملحا موجب لزوال الحكم عنه ، فإذا ثبت حكم النجاسة له بعد ذلك أيضا ، لا يكون بقاء للحكم الأوّل عند العرف ، إذ لا يرى موضوعه موضوعا للحكم الأوّل ، فإنّ هذا الملح ليس كلبا بل هو شبيه بالكلب وبصورته كالحجر المصنوع بصورة الكلب.

وإمّا لا يكون من مقوّمات الموضوع كالثاني ، ولا من قبيل المعرّف كالأوّل ، بل هو وسط بينهما ، ويكون زواله موجبا للشكّ في بقاء الحكم الأوّل بحيث لو دلّ دليل على ثبوت الحكم له بعد زوال عنوانه ، يراه العرف بقاء للحكم الأوّل ، لا حكما مغايرا له. وهذا هو مورد لاستصحاب الحكم تنجيزيّا أو تعليقيّا ، كعنوان «التغيّر» في الماء المتغيّر.

ومن هنا ظهر أنّ ما جعلوه مثالا للاستصحاب التعليقي ـ وهو استصحاب بقاء الحرمة الثابتة للزبيب على تقدير الغليان حال عنبيته ـ ليس من مورد الاستصحاب التعليقي في شيء ، فإنّ العنوان المأخوذ في موضوع الحرمة في الأدلّة ليس عنوان «العنب» حتى تستصحب حرمته التقديريّة بعد صيرورته زبيبا ، بل المأخوذ هو عنوان «العصير» وعصير الشيء لغة وعرفا ما يستخرج منه بالعصر من الماء ، ومن المعلوم أنّ الزبيب ليس له ماء ، والماء الممتزج والمختلط بأجزائه ليس عصيرا له.

وكيف كان ، فالعنوان المأخوذ في موضوع الحكم المستصحب تنجيزيّا كان أو تقديريّا لا بدّ وأن يكون من القسم الثالث المتوسّط بين القسمين الأوّلين.

وبعد ذلك نقول : قد مرّ مرارا أنّ الاستصحاب متوقّف على اليقين بحكم أو موضوع ذي حكم ، والشكّ في بقائه ، والشكّ في بقاء الحكم ناش من أحد

١٢٦

أمور ثلاثة ولا رابع لها كما تقدّم :

الأوّل : الشكّ في مقام الجعل من جهة احتمال النسخ ، ولا شكّ في جريان الاستصحاب في هذا القسم ، ولا تعتبر فيه فعليّة الموضوع كما لا تعتبر في أصل مقام الجعل ، فكما لا يعتبر وجود زان خارجا لجعل وجوب جلده ثمانين جلدة بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)(١) كذلك عند احتمال نسخ هذا الحكم لا يعتبر وجود الموضوع ، بل يستصحب هذا الحكم على نحو ثبوته. ولا فرق في ذلك بين الحكم التنجيزي والتعليقي ، فتستصحب أيضا حرمة عصير العنب على تقدير غليانه عند احتمال النسخ.

الثاني : الأمور الخارجيّة ، كاحتمال إصابة المطر لما علمنا بنجاسته. وهذا أيضا ممّا لا ريب فيه.

الثالث : الشكّ في مقام الجعل من غير جهة احتمال النسخ ، بل من جهة الشكّ في سعة دائرة الجعل وضيقها كالشكّ في نجاسة الماء المتغيّر ، بعد زوال تغيّره ، فإنّ منشأه الجهل بأنّ المجعول هو نجاسة الماء المتغيّر ما دام متغيّرا أو أنّه نجاسته ولو زال عنه التغيّر ، ولا مانع من الاستصحاب في هذا القسم أيضا بناء على جريانه في الأحكام الكلّيّة ، ومورد الاستصحاب التعليقي هو هذا القسم ، فإنّ الشكّ في بقاء حرمة عصير العنب على تقدير غليانه عند صيرورته زبيبا ليس من جهة احتمال النسخ ، ولا من جهة الأمور الخارجيّة بعد العلم بمقدار المجعول ، بل الشكّ في بقاء حرمته التقديريّة في الحالة الثانية من جهة الشكّ في مقدار المجعول ، وأنّه هل هو الحرمة في حال عنبيته فقط أو فيها وفي

__________________

(١) النور : ٢.

١٢٧

حال صيرورته زبيبا أيضا؟

واستصحاب الحكم التعليقي في هذا القسم أساسه وجودا وعدما مبنيّ على ما مرّ في بحث الواجب المشروط من أنّ الشروط في الواجبات المشروطة ، مثل «إن استطعت فحجّ» أو «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» وغيرهما هل هي راجعة إلى قيود الموضوع ـ بمعنى أنّ فعليّة الحكم تتوقّف على وجود الشرط كما تتوقّف على وجود المكلّف خارجا بحيث لا يكون قبله حكم من قبل الشارع ، فالمثالان راجعان إلى قولنا : «المكلّف المستطيع يجب عليه الحجّ» أو «الماء الكرّ لا ينفعل ولا ينجّسه شيء» ولا فرق بين التعبيرين إلّا استفادة المفهوم من الأوّل دون الثاني في مقام الإثبات والدلالة ، وإلّا فليس في مقام الثبوت إلّا فرض وجود الاستطاعة كفرض وجود نفس المكلّف ـ أو لا تكون كذلك ، بل راجعة إلى الحكم ، بمعنى أنّ الحكم ـ كوجوب الحجّ ـ ثابت وفعليّ عند وجود المكلّف ، لكن كان حكما على تقدير ، وبعبارة أخرى : وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة ثابت على المكلّف وفعليّ في حقّه.

فإن قلنا بالأوّل ، لا يجري الاستصحاب التعليقي. وإن قلنا بالثاني ، يجري ، ونقول : الحرمة التقديريّة كانت ثابتة لعصير العنب حال عنبيته ، والآن نشكّ في بقائها بواسطة صيرورته زبيبا ويابسا فنستصحبها ، وحيث بيّنّا هناك بطلان هذا الوجه وأثبتنا الوجه الأوّل ، أي رجوع الشروط إلى قيود الموضوع ـ لا بمعنى رجوعه إلى المتعلّق كما نسب إلى الشيخ (١) حتى يرجع إلى الواجب التعليقي ـ فلا وجه لجريان الاستصحاب التعليقي ، لعدم اليقين بتحقّق شيء والشكّ في بقائه في المقام حتى نستصحبه ، فإنّ المفروض عدم احتمال

__________________

(١) الناسب هو المحقّق النائيني. انظر : أجود التقريرات ١ : ١٣٠.

١٢٨

النسخ ، وعدم تحقّق الموضوع المركّب الّذي هو العصير المغليّ حتى نستصحب حكمه الفعلي ، وما تحقّق خارجا ـ وهو العصير ـ لم يكن له حكم ـ أي حكم الحرمة والنجاسة ـ في الشريعة ، فإنّه أحد جزأي الموضوع.

نعم ، على تقدير انضمام جزئه الآخر يترتّب عليه حكما عقلا كسائر الموضوعات المركّبة الشرعيّة والخارجيّة ، مثلا : إزالة الشعر أثر للنورة عقلا إذا امتزج معها الماء والزرنيخ.

ثمّ إنّ الشيخ قدس‌سره أرجع الاستصحاب التعليقي في هذه الموارد إلى الاستصحاب التنجيزي ، وجعل المستصحب في المثال هو السببيّة والملازمة بين الغليان والحرمة (١).

وتعجّب منه شيخنا الأستاذ (٢) قدس‌سره. وتعجّبه في محلّه ، حيث إنّه مصرّ على عدم مجعوليّة الأحكام الوضعيّة بالخصوص مثل السببيّة مستقلّة ، والتزم بأنّها منتزعة عن الأحكام التكليفيّة ، فكيف يجري استصحاب السببيّة المنتزعة عن الحكم التكليفي مع عدم جريانه في منشأ انتزاعه!؟

وفي بعض كلماته ـ ولعلّه في باب الوصيّة من ملحقات المكاسب ـ أنكر قدس‌سره جريان الاستصحاب التعليقي في العقود التعليقيّة ، مثل التدبير والوصيّة والمسابقة إذا شكّ في كونها لازمة لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين بعد العقد أو جائزة تنفسخ به (٣).

وقال شيخنا الأستاذ : يا ليته عكس الأمر ، واختار المنع عن جريان

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٨٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٤١٣.

(٣) لم نعثر عليه في باب الوصيّة من ملحقات المكاسب.

١٢٩

الاستصحاب التعليقي في المقام ، والصحّة في العقود التعليقيّة (١).

والحقّ مع شيخنا الأستاذ قدس‌سره ، وذلك لأنّ الاستصحاب التعليقي في العقود التعليقيّة يكون نظير استصحاب بقاء الجعل في الأحكام ، فإنّ الملكيّة ـ مثلا ـ اعتبار من العاقد وجعل منه ، كما أنّ الوجوب وغيره من الأحكام التكليفيّة اعتبار وجعل من الشارع ، والفسخ في الأوّل بمنزلة النسخ في الثاني.

نعم ، لا أثر لاعتبار المتعاقدين من دون إمضاء الشارع بقوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٢) ونحوه ، فكما يستصحب بقاء وجوب الحجّ على تقدير الاستطاعة عند احتمال نسخه ونستصحب بقاء الجعل كذلك بعد ما أمضى الشارع اعتبار الموصي وجعله ، ودخل عقد الوصيّة حدوثا تحت قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(٣) نستصحب بقاء هذا الإمضاء عند احتمال ارتفاعه بارتفاع اعتبار الموصي ورفع يده عن جعله بفسخه.

وبعبارة أخرى : إذا شككنا في أنّ إمضاء الشارع للملكيّة على تقدير الموت ـ مثلا ـ المجعولة بجعل الموصي هل هو تابع لجعل الموصي حدوثا وبقاء بحيث لو رفع اليد عن جعله واعتباره رفع الشارع أيضا اليد عن إمضائه فيكون فسخه نسخا لإمضاء الشارع أيضا ، أو أنّه تابع له حدوثا فقط ، فلا أثر لفسخه بعد العقد ويكون نظير التغيّر المشكوك كونه علّة للنجاسة حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط؟ نحكم ببقاء ما حدث على نحو حدوثه ، وهو حكم الشارع بوجوب الوفاء بعقد الوصيّة ، الّذي صار فعليّا بفعليّة موضوعه وهو العقد بشرائطه في مقابل ما لا يكون ممضى عند الشارع أصلا لا بقاء ولا حدوثا ، كالوصيّة بمحرّم من المحرّمات الإلهيّة.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١١ ، فوائد الأصول ٢ : ٤٦٢.

(٢ و ٣) المائدة : ١.

١٣٠

وبالجملة ، بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة لا إشكال في جريان الاستصحاب التعليقي في العقود التعليقيّة ، لتحقّق أركانه فيها ، بخلاف المقام ، فإنّ موضوع الحكم مركّب من جزءين : العنب وغليانه ، ولا شكّ لنا في مقام الجعل ، ولا نحتمل نسخ حرمة العنب على تقدير غليانه حتى نستصحبها ، ولا في مقام المجعول عند تحقّق موضوعه المركّب بكلا جزأيه ، وهو غليان العنب ، بل نقطع بالحرمة ، وأمّا مع تحقّق أحد جزأيه بأن تحقّق العنب أو غليان الزبيب دون العنب فلا يقين لنا بالحكم ، بل نقطع بعدم الحكم ، فأيّ شيء نستصحبه؟

نعم ، نحتمل حرمة الزبيب المغليّ وبعبارة أخرى : نحتمل سعة دائرة جعل الحرمة وتعميمها للمغليّ من العنب في كلتا حالتيه : حالة عنبيته وحالة زبيبيته ، لكن ليست لها حالة سابقة حتى نستصحبها ، فإنّ تحقّق الحرمة بتحقّق كلا جزأي الموضوع ، المفقود في المقام ، نظير ما إذا ترتّب وجوب الصدقة على مجيء زيد وعمرو وجاء أحدهما دون الآخر ، فإنّه لا يترتّب عليه وجوب الصدقة ، فلا أثر لتحقّق أحد الجزءين إلّا أثر عقلي ، وهو ترتّب حكمه عليه عند انضمام جزئه الآخر.

وما أفاده الشيخ قدس‌سره من استصحاب السببيّة (١) يرد عليه : أوّلا : ما ذكرنا من أنّ السببيّة أمر انتزاعي على مبناه لا يصحّ استصحابه إلّا بتبع استصحاب منشأ انتزاعها ، الّذي هو الحكم بالحرمة عند غليان العصير.

وثانيا : أنّ تحقّق السببيّة إنّما هو بتحقّق سبب الحرمة ، وهو مركّب من أمرين : العنب وغليانه ، والمتيقّن السابق في الزبيب لم يكن إلّا أحدهما وهو

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٨٠.

١٣١

العنب ، وواضح أنّه بمجرّده لا يكون سببا للحرمة حتى نستصحب سببيّته المتيقّنة سابقا.

بقي شيئان :

الأوّل : أنّه ربّما يتوهّم تعارض استصحاب الحرمة التعليقيّة للزبيب مع استصحاب حلّيّته الثابتة قبل الغليان بالقطع.

وأجيب عن ذلك بوجهين :

الأوّل : ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره في الدورة الأخيرة من أنّ استصحاب الحرمة حاكم على استصحاب الحلّيّة ، فإنّ الشكّ في حلّيّته بعد الغليان مسبّب عن الشكّ في حرمته على تقدير الغليان ، إذ لو لا احتمال الحرمة عند الغليان لكنّا قاطعين بالحلّيّة ، فلا موجب للشكّ في الحلّيّة إلّا الشكّ في الحرمة التعليقيّة ، فإذا جرى الاستصحاب في السبب ، يرتفع موضوع جريانه في المسبّب فلا تعارض (١).

وهذا الجواب غير تامّ ـ كما أفاده صاحب الكفاية في هامش الكفاية (٢) ـ :

أوّلا : بأنّ الشكّ في أحدهما ليس مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، إذ ليس لنا إلّا شكّ واحد ، وهو الشكّ في حكم الزبيب ، وأنّه هل هو الحرمة عند الغليان والحلّيّة المغيّاة بالغليان أو لا حرمة أصلا بل الحكم هو الحلّيّة المطلقة؟ وهذا الشكّ الواحد مسبوق بيقينين في حالة العنبيّة : اليقين بالحرمة على تقدير الغليان ، واليقين بالحلّيّة المغيّاة ، وليس الشكّ بعد غليان الزبيب شكّا آخر مغايرا للشكّ في الحلّيّة المغيّاة والحرمة على تقدير الغليان ، الثابتتين قبل الغليان بل هو هو بعينه ، فإذا لم يكن الشكّ متعدّدا ، فأين السببيّة والمسبّبيّة؟

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١٣ ـ ٤١٤.

(٢) كفاية الأصول : ٤٦٩.

١٣٢

وثانيا : بأنّ الاستصحاب السببي يكون حاكما على المسبّبي فيما إذا كان أحد طرفي المشكوك بالشكّ المسبّبي من آثار الاستصحاب السببي ، وبعبارة أخرى : فيما إذا كان الترتّب شرعيّا ، كما في طهارة الثوب النجس المغسول بالماء المستصحب الطهارة ، وليس كلّ أصل سببي حاكما على الأصل المسبّبي ما لم يكن كذلك ، والمقام ليس كذلك ، فإنّ عدم الحلّيّة ليس من آثار استصحاب الحرمة شرعا ، بل يكون من لوازمه العقليّة من جهة التضادّ بين الحرمة والحلّيّة وعدم إمكان اجتماعهما ، ووجود أحد الضدّين مستلزم لعدم الآخر عقلا ، فموضوع استصحاب بقاء الحلّيّة ـ وهو الشكّ ـ باق ، فيجري ويعارض استصحاب الحرمة.

ولشيخنا الأستاذ قدس‌سره تقريب آخر في دورته السابقة ، وهو : أنّ استصحاب الحرمة على تقدير الغليان بنفسه تعبّد بأمرين : الأوّل : فعليّة الحرمة عند الغليان ، والثاني : عدم حلّيّة الزبيب بعد الغليان ، إذ لا معنى للحكم بالحرمة مع عدم الحكم بعدم الحلّيّة والإباحة ، وحينئذ لا شكّ في الحلّيّة بعد الغليان حتى نستصحبها ، بل نقطع بالتعبّد الاستصحابي بعدم الحلّيّة ، ولا يلزم في الأصل السببي الجاري في الشبهات الحكميّة أن يكون الترتّب شرعيّا ، وإنّما هو معتبر في الأصول السببيّة الجارية في الشبهات الموضوعيّة (١).

وفيه : أنّ لنا حكمين نقطع بكون أحدهما عامّا والآخر خاصّا ، ولا نميّز العامّ من الخاصّ ، إذ نعلم إجمالا إمّا بعموم الحرمة التقديريّة للعنب والزبيب وخصوص الحلّيّة بما قبل الغليان فيهما ، أو بعموم الحلّيّة للزبيب قبل الغليان وبعده وخصوص الحرمة التقديرية للعنب ، فكما يمكننا إثبات عموم الحرمة

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٤٧٦ ـ ٤٧٧.

١٣٣

وعدم الإباحة للزبيب بالاستصحاب التعليقي يمكننا إثبات عموم الحلّيّة لما قبل الغليان وما بعده بالاستصحاب التنجيزي ، أي استصحاب الحلّيّة الثابتة قبل الغليان ، فلما ذا يتقدّم الأوّل على الثاني؟

والجواب الثاني ـ وهو الصحيح ـ ما أفاده في الكفاية (١) ، وتوضيح ما أفاده وتبيين ما أراده من عبارته ـ وإن كانت قاصرة عن بيان مرامه ـ هو أنّ استصحاب الحلّيّة يجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي يثبت كونها مغيّاة بالغليان ، ومعه لا مورد لاستصحابها بعد الغليان ، نظير ما ذكرنا في القسم الثاني من استصحاب الكلّي من أنّه لا يجري إذا أثبت بالأصل كون الحدث الموجود هو الحدث الأصغر ، وفي المقام كذلك ، لأنّ حلّيّة الزبيب أمر قطعي لا نشكّ فيها ، فإنّه من الطيّبات التي أحلّها الله تعالى قطعا ، ولا نحتاج في إثباتها إلى استصحاب الحلّيّة الثابتة له قبل صيرورته زبيبا.

نعم ، نشكّ في أنّ هذه الحلّيّة في حال الزبيبيّة هل هي الحلّيّة الثابتة له في حال العنبيّة ، التي كانت مغيّاة بالغليان ، أو أنّها حلّيّة جديدة غير تلك الحلّيّة؟ فإذا استصحبنا تلك الحلّيّة المغيّاة وحكمنا بأنّ الحلّيّة الموجودة في هذا الحال أيضا هي الحلّيّة المغيّاة بالغليان ، فلا معنى بعد ذلك لاستصحابها بعد الغليان ، إذ لا نحتمل ـ بعد كونها مغيّاة ـ بقاءها بعد حصول الغاية حتى نستصحبها.

وبعبارة أخرى : نستصحب كلّ ما كان ثابتا للعنب من الحرمة على تقدير الغليان ، والحلّيّة المغيّاة في حال عنبيته وصفة الزبيبيّة له ، ونقول : قبل صيرورته زبيبا يحرم بالغليان وتزول عنه الحلّيّة فالآن كما كان.

الثاني : هل يجري الاستصحاب التعليقي ـ على القول به ـ في خصوص

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

١٣٤

الأحكام أو يعمّ الموضوعات ومتعلّقات الأحكام أيضا ، فإذا شككنا في ثوب أنّه من المأكول أو من غيره هل يمكن القول بصحّة الصلاة فيه بأن يقال : إنّ هذه الصلاة التي نأتي بها في الثوب المشكوك كانت بحيث لو وقعت قبل لبس هذا الثوب لم تكن واقعة في غير المأكول وصحيحة يقينا فالآن كما كانت ، أو لا يمكن؟

ذهب شيخنا الأستاذ إلى الثاني ، نظرا إلى اختلال الركن الركين من الاستصحاب ، وهو بقاء الموضوع ، فإنّ ما نريد استصحابه التعليقي ـ وهو صحّة الصلاة ـ لم يكن متحقّقا سابقا كما أنّ الأمر في المثال المعروف للاستصحاب التعليقي أيضا كذلك ، فإنّ موضوع الحرمة التعليقيّة ـ وهو عصير العنب ، الّذي هو ماء متكوّن فيه ـ غير محرز بل مقطوع العدم في عصير الزبيب ، الّذي هو ماء خارجي يمتزج بأجزاء الزبيب ويسمّى عصير الزبيب (١).

هذا ، وما أفاده من لزوم إحراز الموضوع في الاستصحاب ، وأنّه ركن ركين ، وما ناقش في المثال المعروف تامّ في محلّه ، أمّا ما أفاده من عدم إحراز الموضوع في مثال الصلاة في اللباس المشكوك ففيه : أنّ الموضوع ليس هو الصلاة الخارجية ، لعدم كونها متعلّقة للوجوب قطعا ، بل الموضوع هو طبيعيّ الصلاة ، وحينئذ نقول : كان طبيعيّ الصلاة قبل ساعة بحيث لو أوجد لا وجد في المأكول والآن كما كان.

ولكنّ التحقيق عدم الجريان ، لما مرّ غير مرّة من أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون موضوعا ذا حكم أو حكما شرعيّا ، والصلاة بوجودها الفرضي لا تكون حكما ولا موضوعة لحكم من الأحكام ، فإنّ سقوط الأمر وغيره من

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١٣.

١٣٥

الآثار إنّما هو أثر للصلاة بوجودها الخارجي ، فالصلاة وإن كانت قبل ساعة بحيث لو وقعت لوقعت في المأكول أو بحيث لو وقعت لم تكن واقعة في غير المأكول إلّا أنّ هذه القضيّة الفرضيّة التعليقيّة ليس لها أثر أصلا ، فلا يمكن استصحابها ، وهكذا لا يمكن استصحاب الغسل على تقدير وقوع الثوب في الحوض بأن يقال : هذا الثوب الواقع في الحوض لو وقع قبل ساعة لغسل يقينا فالآن كما كان ، لأنّ الطهارة من آثار الغسل الخارجي لا الفرضي ، وإلّا لاسترحنا من غسل المتنجّسات بفرض الغسل.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الاستصحاب التعليقي لا يجري ـ على القول به ـ في الموضوعات ، بل يختصّ بالأحكام ، فإنّ الحكم التقديري نفسه أثر قابل للاستصحاب دون الموضوع التقديري ، فالبناء على جريان الاستصحاب في الموضوع التقديري بناء فاسد مبنيّ على بناء فاسد آخر ، وهو جريان أصل الاستصحاب التعليقي ، وهو أيضا مبنيّ على بناء فاسد ثالث ، وهو جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة.

التنبيه السابع : في استصحاب أحكام هذه الشريعة عند الشكّ في النسخ ، ويلحق بذلك استصحاب أحكام الشرائع السابقة.

وهنا إشكال مشترك في المقامين ، وهو أنّ الموضوع غير باق ، حيث إنّ من كانت صلاة الجمعة ـ مثلا ـ واجبة عليه في أوّل الشريعة وزمان الحضور قد مات ، والموجود في زمان الغيبة لم تكن صلاة الجمعة واجبة عليه في زمان حتى يستصحب في حقّه. وهكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة.

وأجاب عنه الشيخ قدس‌سره : أوّلا : بأنّا نفرض الكلام فيمن أدرك الزمانين : زمان الغيبة وزمان الحضور ، وأدرك الشريعتين ، وإذا جرى الاستصحاب في

١٣٦

حقّه ، يثبت الحكم للباقي بقاعدة الاشتراك (١).

وفيه : أنّه لو دلّ دليل على ثبوت حكم في حقّ المدرك للزمانين ، فالأمر كما أفاده ، أمّا ثبوت ذلك بالأصل في حقّه فلا يوجب ثبوته في حقّ غيره ممّن لا يكون له يقين وشكّ. وبعبارة أخرى : قاعدة الاشتراك لا بدّ في جريانها من إحراز اتّحاد الصنف ، وتثبت بها الأحكام ـ الثابتة في حقّ بعض أفراد المكلّفين في لسان الأدلّة ـ في حقّ غيره ممّن يكون متّحدا معه صنفا لا غير من يكون كذلك ، فإذا سأل سائل عن حكم الذهاب بريدا والإياب بريدا فأجابه الإمام عليه‌السلام بوجوب القصر ، نعمّم الحكم بالقاعدة لغير هذا الرّجل السائل من المسافرين ، لا الحاضرين ، فمقتضى القاعدة هو جريان استصحاب أحكام هذه الشريعة في حقّ كلّ من يكون على يقين منها وشكّ في بقائها ، لا من لا يقين له بثبوتها في حقّه أصلا.

وثانيا : بأنّ الحكم ثابت لطبيعيّ المكلّف من غير مدخليّة أشخاص المكلّفين في ذلك (٢).

والظاهر أنّ غرضه قدس‌سره أنّ الأحكام جعلت بنحو القضايا الحقيقيّة على أفراد المكلّفين من غير خصوصيّة لبعض دون بعض وجماعة دون جماعة ، فإذا علمنا بجعل حكم في هذه الشريعة أو في الشرائع السابقة ـ بحيث لو لم نحتمل نسخه ، لكان فعليّا في حقّنا أيضا ، وشكّنا في بقائه من جهة احتمال النسخ ـ فلا مانع من استصحابه ، لتماميّة أركانه كما لا يخفى.

وإشكال آخر مختصّ باستصحاب أحكام الشرائع السابقة ، وهو أنّا نعلم إجمالا بنسخ كثير منها ، ونحتمل أن يكون المشكوك من المنسوخ ، ولا يجري

__________________

(١) فرائد الأصول : ٣٨١.

(٢) فرائد الأصول : ٣٨١.

١٣٧

الاستصحاب ولا غيره من الأصول في أطراف العلم الإجمالي.

وجوابه ظاهر ، فإنّ العلم الإجمالي وإن كان موجودا إلّا أنّه انحلّ بالظفر بالمقدار المعلوم بل أكثر.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره استشكل في جريان استصحاب أحكام الشرائع السابقة بدعوى أنّ الشرائع السابقة إن كانت منسوخة بجميع أحكامها ـ بأن كانت أحكام الشرائع اللاحقة أحكاما جديدة بعضها مغاير وبعضها مماثل لها ـ فعدم الجريان واضح ، وإن لم تكن كذلك ، فاستصحاب بقاء ما شكّ في نسخه لا يثبت كونه ممضى في شريعتنا (١).

وفيه : أنّ نسخ شريعة لا يكون إلّا بتبديل بعض أحكامها ، حيث إنّ الأنبياء صلوات الله عليهم ـ سفراء من الله لا يبلّغون إلّا الأحكام الإلهيّة التي جعلها الله تعالى على عباده ، فهم صلوات الله عليهم ـ بلا تشبيه من قبيل وزراء سلطان واحد في أنّ اللاحق ينسخ من قوانين السابق ما أمره السلطان بنسخة ، ويبقى الباقي على حاله ، لا من قبيل وزراء سلاطين متعدّدة في كون كلّ منهم يجعل قوانين برأسه ربما يوافق بعضها ما جعله الآخر اتّفاقا.

ثمّ لا يكون الاستصحاب مثبتا ، ضرورة أنّه بنفسه إمضاء ، وهل يكون التعبّد بعدم نقض اليقين بثبوت حكم في الشريعة السابقة بالشكّ ـ الّذي هو أحد مصاديق «لا تنقض اليقين بالشكّ» الثابت في شريعتنا ـ إلّا إمضاء لثبوته في شريعتنا؟

هذا ، ولكنّ الإشكال في أصل استصحاب عدم النسخ ، فإنّ النسخ لو كانت حقيقته رفعا ، لكان الاستصحاب جاريا بلا إشكال ، لكنّه مستلزم

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٤١٥.

١٣٨

للبداء بمعناه الحقيقي الّذي هو ظهور ما خفي ، المستحيل في حقّه تعالى ، فلا محالة تكون حقيقته دفعا ، وإذا كان كذلك ، فلا يقين بالجعل بالنسبة إلى من يكون في زمن الغيبة أو في زمان الشريعة اللاحقة حتى يستصحب بقاؤه.

وما ادّعاه المحدّث الأسترآبادي من الإجماع بل دعوى الضرورة على ذلك ، إن أراد استصحاب ما احتمل نسخه ، فإثباته بالإجماع فضلا عن الضرورة مشكل جدّاً. وإن أراد مجرّد بقاء الأحكام وعدم ارتفاعها باحتمال نسخها لا من جهة الاستصحاب ، فهو متين من جهة قيام الدليل على استمرار الأحكام إلى يوم القيامة ، مضافا إلى كفاية نفس الإطلاقات ، حيث لم يقيّد وجوب الحجّ وغيره بزمان خاصّ ، ولم أذكر موردا ممّا نشكّ في نسخه لا يكون لدليله إطلاق ، فظهر أنّ ما سلّمناه سابقا من جريان استصحاب عدم النسخ في غير محلّه.

التنبيه الثامن : أنّه هل تترتّب بالاستصحاب آثار نفس المستصحب وآثار لوازمه العقليّة أو العاديّة معا ، أو لا يترتّب إلّا آثار نفس المستصحب؟

وليعلم أنّ محلّ البحث ما يكون للمستصحب لازم بقاء فقط ، أمّا إذا كان اللازم العقلي أو العادي لازما له حدوثا وبقاء ، فيكفي استصحاب نفس اللازم لترتيب آثاره ، فإنّه أيضا متيقّن الحدوث مشكوك البقاء كملزومه.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية جعل منشأ النزاع والخلاف هو أنّ مفاد أخبار الاستصحاب هل هو التعبّد بالمستصحب وتنزيله بلحاظ أثر نفسه فقط حتى تكون آثار لوازمه خارجة عن دائرة التنزيل والتعبّد ، أو يكون مفادها هو تنزيل المستصحب بلوازمه ، أو يكون تنزيله بلحاظ مطلق أثره ـ ولو كان مع الواسطة ـ حتى تكون آثار لوازمه متعبّدا بها إمّا بتبع التعبّد بلوازمه كما في الوجه الثاني ، أو

١٣٩

بنفسها كما في الوجه الأخير ، حيث إنّ نفس اللوازم ـ عليه ـ غير ملحوظة (١)؟ ولا فرق بين الوجهين الأخيرين إلّا من حيث اختلاف لسان الدليل.

ومثاله المعروف ما مثّل به الشيخ قدس‌سره من أنّه إذا فرضنا أنّ زيدا مريض نائم تحت اللحاف فجاء أحد وسلّ سيفه وقدّه بنصفين وشككنا في حياته في هذا الحال وعدمها ، فاستصحاب بقاء الحياة إلى زمان وقوع السيف عليه إن كان مثبتا للازمه ـ وهو القتل العمدي ـ يترتّب عليه حكمه ، وهو جواز الاقتصاص من القاتل ، وغيره من الأحكام ، وإلّا فلا يترتّب عليه (٢).

وقبل الورود في البحث لا بدّ من بيان ما به تفرق الأمارات عن الأصول.

فنقول : صريح كلام الشيخ وشيخنا الأستاذ قدس‌سرهما هو أنّ الفرق من جهة أنّ الأمارة لم يؤخذ الشكّ والجهل في موضوعها ، وإنّما يكون موردها الجهل ، وهذا بخلاف الأصول ، فإنّ الشكّ أخذ في موضوعها (٣). وبهذا جعل قدس‌سره الأصول متأخّرة عن الأمارات بمرتبتين.

ثمّ إنّ شيخنا الأستاذ قدس‌سره فرّق أيضا بينهما بأنّ المجعول في باب الأمارات هو نفس الكاشفيّة والمحرزيّة ، بخلاف باب الأصول ، فإنّه هو الجري العملي الّذي هو أثر اليقين والإحراز (٤).

وصاحب الكفاية جعل المجعول في باب الأصول هو الحكم المماثل للمستصحب إن كان حكما ، والحكم المماثل لحكم موضوعه إن كان موضوعا (٥).

__________________

(١) كفاية الأصول : ٤٧٢.

(٢) فرائد الأصول : ٣٨٦.

(٣) فرائد الأصول : ١٩٠ ـ ١٩١ ، أجود التقريرات ٢ : ٤١٥.

(٤) أجود التقريرات ٢ : ٤١٦.

(٥) كفاية الأصول : ٤٧٢.

١٤٠