الهداية في الأصول - ج ٤

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني

الهداية في الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله الشيخ حسن الصافي الإصفهاني


المحقق: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة صاحب الأمر (عج)
المطبعة: اسوة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:

الصفحات: ٤٧٥

يقتضي البراءة عن جزئيّة كلّ بخصوصه ، ونتيجتها هي التخيير.

ولكن ما ذكرنا مختصّ بما إذا كان كلا الدليلين لفظيّا دالّا بالعموم الوضعي أو الإطلاقي ، أمّا لو كان أحدهما لبّيّا كدليل شرطيّة الاستقرار في الصلاة ، والآخر لفظيّا كدليل الركوع ، يقدّم الدليل اللفظي ، وهكذا إذا كان أحدهما بالعموم الوضعي والآخر بمقدّمات الحكمة ، يقدّم الوضعي.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ مع صاحب العروة في الفرع المذكور من أنّ الحكم هو التخيير ، فلا يقاس المقام بتكليفين مستقلّين ، لوضوح الفرق بينهما ، فإنّ هنا أمرا واحدا متعلّقا بشخص واحد لا يعلم متعلّقه في مقام الجعل ، وأنّه هل هو الصلاة قائما أو جالسا؟ وفي فرض العصيان يعاقب بعقاب واحد ، وهناك تكليفين مستقلّين متعلّق كلّ منهما بشيء مقدور للمكلّف في نفسه ، غاية الأمر أنّه يزاحم امتثال أحدهما امتثال الآخر ، وفي فرض العصيان يعاقب بعقابين بمعنى العقاب على الجمع في الترك.

فإذا كان المقام من باب التعارض لا التزاحم ، فلا وجه لملاحظة مرجّحات باب التزاحم من السبق في الزمان أو الأهمّيّة أو غير ذلك ، فيجوز للمكلّف اختيار أيّ منهما شاء ، ولا وجه أيضا للاحتياط اللزومي في سعة الوقت كما في العروة.

نعم ، وردت رواية في خصوص القيام من أنّه «إذا قوي فليقم» (١) يستفاد منها أنّ أيّ زمان يكون فيه قادرا على القيام يجب ، وإذا عجز يجلس ، فعلى هذا لو دار الأمر بين القيام في الركعة الأولى والجلوس في الثانية وبين العكس ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٤١٠ ـ ٣ ، التهذيب ٢ : ١٦٩ ـ ٦٧٣ ، و ٣ : ١٧٧ ـ ٤٠٠ ، الوسائل ٥ : ٤٩٥ ، الباب ٦ من أبواب القيام ، الحديث ٣.

٣٢١

فلا بدّ من القيام في الأولى والجلوس في الثانية بمقتضى الرواية.

ثمّ إنّك عرفت أنّ ظهور القرينة مقدّم على ظهور ذيها بالحكومة أو الورود ، لأنّه رافع لموضوع أصالة الظهور في الآخر ، وأنّ القرينة المتّصلة مانعة عن أصل انعقاد الظهور ، والمنفصلة مانعة عن حجّيّة ما انعقد له ظهور ، ورافعة لموضوع أصالة انطباق ظاهر كلام المتكلّم لمراده الواقعي ، فكلّ ما يحسب عند العرف قرينة بوجوده المتّصل مانع عن انعقاد الظهور ، وبوجوده المنفصل رافع لحجّيّة الظاهر.

فربما يكون أحد المتعارضين بحسب قرائن شخصيّة ـ كلاميّة أو حاليّة ـ مقدّما على الآخر ، لكونه كاشفا عمّا يراد من الآخر ، وهذا لا يندرج تحت ضابط كلّي ، وما يكون تحت ضابط أمور :

الأوّل : ما مرّ من أنّ الخاصّ قرينة على ما يراد من العامّ ، وأنّ أصالة الظهور فيه رافعة لموضوع أصالة العموم.

الثاني : ما كانت دلالته على العموم بالوضع ، ك «أكرم كلّ عالم» فإنّه مقدّم على العموم الإطلاقي ، ك «لا تكرم الفاسق» سواء كانا شموليّين أو بدليّين أو مختلفين ، لكونه قرينة على خلاف الإطلاق دون العكس ، لأنّ حجّيّة ظهور المطلق في الإطلاق مبنيّة على تماميّة مقدّمات الحكمة ، ومنها : عدم نصب قرينة على الخلاف ، وهذا بخلاف العموم الوضعي ، فإنّه لا يتوقّف على شيء.

وبتعبير الشيخ قدس‌سره : دلالة العامّ الوضعي على العموم تنجيزيّة ، ودلالة المطلق الشمولي على الشمول تعليقيّة (١).

ومراده قدس‌سره من التنجيز والتعليق على الظاهر ـ والله العالم ـ هو عدم

__________________

(١) فرائد الأصول : ٤٥٧.

٣٢٢

التوقّف على قرينة الحكمة ، وعدم التوقّف عليها.

وأورد صاحب الكفاية قدس‌سره في كفايته وحاشيته على الشيخ قدس‌سره بأنّ هذا يتمّ في المتّصل ، حيث يمنع العموم الوضعي عن انعقاد الظهور للمطلق في الإطلاق ، دون المنفصل ، إذ بعد انعقاد الظهور للمطلق لا ينقلب عمّا هو عليه ، فلا وجه لترجيح العموم الوضعي عليه مع كون كلّ منهما ظاهرا في العموم (١).

والصحيح ما أفاده الشيخ قدس‌سره ، فإنّ انعقاد الظهور مع الانفصال مقام ، وحجّيّة هذا الظهور وكون ظاهره مطابقا للمراد الجدّي مقام آخر. والأوّل ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام في الثاني ، حيث إنّ مجرّد كون الكلام ظاهرا في معنى لا يفيد شيئا ما لم يكن حجّة عند العقلاء ، وهم لا يحكمون بحجّيّة ما كان له ظهور عند نصب قرينة منفصلة على الخلاف ، فإنّ بناءهم على كون ظاهر الكلام مرادا للمتكلّم ، وكون مراده الاستعمالي مطابقا لمراده الجدّي معلّق على عدم نصب قرينة على الخلاف إلى الأبد ، ومن المعلوم أنّ ما لم يكن الكلام ظاهرا في المراد الجدّي لم يكن حجّة ، ولذا لو قال المولى : «أكرم العلماء» وبعد مدّة علمنا من الخارج أنّه لا يريد إكرام العالم الفاسق أو صرّح هو بذلك ، لا يشكّ أحد في سقوطه عن الحجّيّة في العموم ، فالمطلق الشمولي المنفصل وإن كان ظاهرا في العموم إلّا أنّ هذا الظهور مع وجود العموم الوضعي ـ الّذي هو بمنزلة التصريح بإكرام كلّ واحد من أفراد العامّ ـ ليس بحجّة ، فإنّه يعدّ عرفا بيانا للمراد من المطلق ، فيسقط عن الحجّيّة بمقدار نصب القرينة على الخلاف ، وهو الفاسق العالم ، فيحكم بحرمة إكرام الفاسق غير العالم ، ويبقى عموم «أكرم كلّ عالم» على حاله ويرتفع التعارض.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥١٢ ـ ٥١٣ ، حاشية فرائد الأصول : ٢٧٦.

٣٢٣

الثالث : ما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من أنّ المطلق الشمولي مقدّم على المطلق البدلي ك «لا تكرم الفاسق» و «أكرم عالما» لوجوه :

أحدهما : أنّ تقديم المطلق البدلي مستلزم لإخراج فرد عن تحت حكم المطلق الشمولي دون العكس ، فإنّه لا يوجب ذلك ، إذ ليس له إلّا فرد واحد ، غاية الأمر أنّه يوجب تضييق دائرة هذا الفرد الواحد الّذي يكون المكلّف في سعة من اختياره على أيّ صفة كان (١).

ويرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ هذا وجه اعتباري استحساني لا يصحّ أن يعدّ مرجّحا ، فإنّ إخراج الفرد كما يكون خلاف الظاهر كذلك تضييق ما يكون موسّعا أيضا خلاف الظاهر ، فأيّ مرجّح لأحدهما على الآخر؟

وثانيهما : أنّ تقديم المطلق الشمولي أيضا يستلزم الإخراج الفردي ، وذلك لما مرّ في بحث المطلق والمقيّد من أنّ المطلق البدلي ك «أكرم عالما» له ظهوران : أحدهما بالمطابقة ، وهو وجوب إكرام عالم ما ، والآخر بالالتزام ، وهو ترخيص تطبيق طبيعيّ العالم ـ الّذي حكم بإكرام صرف وجوده ـ على أيّ فرد شاء المكلّف ، فتقديم المطلق الشمولي وإن كان لا يخرج فردا عن تحت الحكم الإلزاميّ إلّا أنّه موجب لخروج الفرد الفاسق من العالم عن تحت الحكم الترخيصي ، وهو جواز تطبيق المأمور به على أيّ فرد يريد المكلّف.

ثانيها : أنّ الإطلاق في كلّ من البدلي والشمولي وإن كان من جهة مقدّمات الحكمة إلّا أنّ البدلي له مقدّمة أخرى غير ما كان مشتركا مع الشمولي ، وهو إحراز عدم تفاوت أفراد العالم في «أكرم عالما» وتساويها في حصول

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦١ ـ ١٦٢.

٣٢٤

الامتثال بأيّ فرد منها ، وهذا بخلاف المطلق الشمولي ، ك «لا تكرم الفاسق» فإنّه ليس كالبدلي حكما واحدا على موضوع واحد يكون أمر تطبيقه بيد المكلّف ، بل متكفّل لأحكام عديدة حسب تعدّد موضوعاته الخارجيّة ، فكلّ فرد من الفاسق محكوم بحكم مغاير لحكم الفرد الآخر ، ومن المعلوم أنّ أفراد الفاسق مختلفة من حيث مراتب الفسق ، والشارع حكم بمقتضى الإطلاق بحرمة إكرام جميع هذه الأفراد المختلفة في المبغوضيّة ، كاختلاف مبغوضيّة أخذ درهم من الرّبا أو درهمين منه ، واختلاف مبغوضيّة قتل المؤمن والمسلم والذمّيّ ، ففي المطلق الشمولي حيث سرى الحكم إلى جميع الأفراد على اختلاف مراتبها لا وجه لإحراز تساوي الأفراد ، وهذا بخلاف البدلي ، إذ لا يصحّ إكرام العالم الفاسق إلّا بعد إحراز كونه مساويا للعادل في حصول الامتثال به ، والمطلق الشمولي يمنع عن هذا التساوي (١).

وهذا الّذي أفاده تامّ على تقدير كون التخيير في المطلق البدلي عقليّا ، أمّا على ما اخترناه من كونه شرعيّا مستندا إلى كون المتكلّم في مقام البيان مع عدم بيان خصوصيّة فلا يفرق بينهما من جهة تماميّة مقدّمات الحكمة في كلّ منهما ، فالعالم الفاسق يكون موردا للتعارض ، فإنّه مساو لغيره في حصول الامتثال بمقتضى المطلق البدلي الدالّ على التخيير شرعا ، ولا يكون مساويا لغيره ، لكونه محرّم الإكرام بمقتضى العموم المستفاد من المطلق الشمولي.

وممّا يشهد على كون التخيير شرعيّا أنّه لو لم يكن المطلق البدلي مبتلى بالمعارض ، لا إشكال في حصول الامتثال بأيّ فرد كان ولو احتملنا مدخليّة شيء من خصوصيّات الأفراد وجودا أو عدما في الحكم ، فلو كان إحراز

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦١ ـ ١٦٢ ، و ٢ : ٥١٣ ـ ٥١٤.

٣٢٥

التساوي لازما ، لما صحّ التمسّك بالإطلاق مع هذا الاحتمال.

ثالثها : أنّ تقديم المطلق البدلي على الشمولي وبقاءه على إطلاقه متوقّف على عدم كون الشمولي بيانا لعدم تساوي الأفراد في البدلي في حصول الغرض ، وهو متوقّف على عدم إرادة الإطلاق من الشمولي ، وإلّا يكون بيانا ، وهو متوقّف على بقاء المطلق البدلي على إطلاقه ، فإطلاق المطلق البدلي توقّف على نفسه ، وهو دور محال (١).

وهذا بعينه هو الوجه الثاني بتقريب آخر ، وتماميّته متوقّفة على كون التخيير في المطلق البدلي عقليّا ، وقد عرفت أنّه شرعي.

ومن الموارد التي قدّم فيها أحد الظهورين المتعارضين لقرينيته : ما إذا كان أحدهما عامّا والآخر خاصّا ، ودار الأمر بين أن يكون المتأخّر ناسخا أو يكون الخاصّ مخصّصا ، سواء كان متقدّما أو متأخّرا. ولا ثمرة بالنسبة إلى ما بعد ورود المتأخّر إذا كان المتأخّر خاصّا ، فإنّه على كلّ تقدير يخرج عن حكم العامّ إمّا نسخا أو تخصيصا ، فلو ورد «أكرم العلماء» ثمّ بعد ذلك ورد «لا تكرم زيدا العالم» لا يجب إلّا إكرام غير زيد من العلماء ، سواء كان الثاني ناسخا للعموم أو مخصّصا له ، وهذا بخلاف ما إذا كان الخاصّ متقدّما ، فإنّ العمل بعد ورود العامّ على طبق العامّ لو كان ناسخا وعلى طبق الخاصّ لو كان مخصّصا.

وكيف كان فذكروا لتقديم الخاصّ وتعيّن التخصيص أمورا :

منها : قلّة النسخ وشيوع التخصيص.

ومنها : أنّ التعارض بين ظهور الخاصّ المتقدّم في الاستمرار وظهور العامّ المتأخّر في الاستغراق ، والخاصّ قرينة منفصلة على عدم إرادة الاستغراق

__________________

(١) أجود التقريرات ١ : ١٦١ ـ ١٦٢.

٣٢٦

من العامّ.

وأورد شيخنا الأستاذ قدس‌سره بأنّ الدليل الواحد لا يعقل أن يكون بنفسه متكفّلا لبيان الحكم وبيان استمراره ، فإذا لا يكون الاستمرار إلّا مستفادا من استصحاب عدم النسخ ، ومن المعلوم أن لا وجه للتقديم لو كان استمرار حكم الخاصّ مستفادا من الاستصحاب ، فإنّه أصل عملي ، وظهور العموم في الاستغراق حاكم عليه ، فتقديم الخاصّ ليس من باب كونه ظاهرا في الاستمرار ، بل من باب أنّه بنفسه قرينة منفصلة على ما يراد من العامّ جدّاً ، ومعه لا يكون ظهور العامّ في الاستغراق حجّة حتى يكون ناسخا له ، كما أنّه لو كان الخاصّ متأخّرا أيضا يكون كذلك.

ولا قبح في تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان عن مصلحة في التأخير ، ضرورة أنّ قبحه ليس كقبح الظلم الّذي لا يقبل التخصيص ، بل يكون كقبح الكذب ربّما يصير في بعض الموارد واجبا (١).

هذا ، ولنا كلام في المقام لا نتعرّض له ، لأنّ هذا البحث عندنا لغو من أصله ، ولا تترتّب عليه ثمرة بمقدار ذرّة ، وذلك لأنّ موضوع هذا البحث هو مقام الإثبات ، والنسخ والتخصيص راجعان إلى مقام الثبوت ، بمعنى أنّ الدليل المتأخّر لو كان دالّا على أنّ الشيء الفلاني من الآن حكمه كذا في الشريعة المقدّسة ولم يكن ناظرا إلى ما قبل زمان الورود ، لكان لهذا البحث مجال ، لكنّ الأمر ليس كذلك بالضرورة ، فإنّ المعصوم عليه‌السلام لا يبيّن إلّا حكم الشيء من أوّل جعله لا من حين بيانه ، ولذا لو سأله أحد عن حكم الصلاة في غير المأكول ، يجيب بأنّه «تجب إعادتها» و «يعيد صلاته» ولا يقول : إنّ هذا حكم ما سيأتي

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥١٤ ـ ٥١٥.

٣٢٧

لا ما مضى.

ثمّ ـ بعد التكلّم في التنافي بين الدليلين ، والفرق بين التنافي من جهة التزاحم والتنافي من جهة التعارض ، وبيان ما تقتضيه القاعدة في باب التزاحم من الترجيح أو التخيير ، وفي باب التعارض من الترجيح لو كان أحدهما أظهر ، والتساقط لو لم يكن ـ يقع الكلام في تعارض أكثر من دليلين ، وأنّه هل لا بدّ من ملاحظة النسبة ـ لو كان بعضها عامّا وبعضها خاصّا ـ قبل العلاج أو بعده؟ ويسمّى هذا البحث ببحث انقلاب النسبة.

وصاحب الكفاية قدس‌سره أنكره ، نظرا إلى أنّ النسبة إنّما هي بملاحظة الظهورات ، وتخصيص العامّ بمخصّص منفصل ـ ولو كان قطعيّا ـ لا ينثلم به ظهوره وإن انثلمت به حجّيّته (١).

ولنقدّم مقدّمة تهدم أساس هذا الإنكار ، فنقول : إنّ للّفظ دلالات ثلاثا :

الأولى : الدلالة التصوّريّة المسمّاة عند القوم بالدلالة الوضعيّة ، وهي دلالة اللفظ على معناه ولو كان صادرا عن لافظ بلا شعور واختيار ، أو علم أنّه لم يكن قاصدا لمعناه ، كما إذا قال : «الكلمة إمّا اسم كأسد ، أو فعل كضرب ، أو حرف كمن» فإنّه في هذا المقام لم يقصد من ألفاظ «أسد» و «ضرب» و «من» إلّا ألفاظها ولم يرد معناها.

الثانية : دلالة اللفظ على أنّ المتكلّم به في مقام تفهيم معناه ، المسمّاة عند القوم بالدلالة التصديقيّة ، وعندنا بالدلالة الوضعيّة ، لما قرّرناه في محلّه من أنّ الأولى دلالة أنسيّة ناشئة من أنس المخاطب بالمعنى ، فبمجرّد تصوّره أو سماعه ينتقل إلى معناه ، وأمّا الدلالة الوضعيّة فهي الدلالة الثانية ، لأنّ حقيقة

__________________

(١) كفاية الأصول : ٥١٤ ـ ٥١٥.

٣٢٨

الوضع عندنا هو التعهّد ، وأنّه متى ما تكلّم بكلمة كذا أراد تفهيم معنى كذا.

الثالثة : دلالة اللفظ على أنّ ما قصد تفهيمه هو مراده الجدّي. وبعبارة أخرى : دلالته على مطابقة المراد الجدّي للمراد الاستعمالي. هذه أقسام الدلالات.

ولا ريب في أنّ الأولى منها لا تنثلم بالقرينة المتّصلة ولا بالمنفصلة ، كما لا ريب في أنّ الثانية تنثلم بالقرينة المتّصلة ، فإذا قال : «أكرم العلماء إلّا زيدا» لا يدلّ العامّ في هذا الكلام على العموم ، ولا يكون كاشفا مع احتفافه بقرينة «إلّا زيدا» عن قصد المتكلّم تفهيم العموم ، وحينئذ يرتفع موضوع الدلالة الثالثة ، فلا تدلّ هذه الجملة على أنّ المتكلّم أراد العموم جدّاً ، فإنّ الثالثة متوقّفة على دلالة اللفظ على قصد المتكلّم تفهيم العموم ، فبدونها لا موضوع للدلالة الثالثة.

وأمّا بالقرينة المنفصلة ـ بأن قال منفصلا عن قوله : «أكرم العلماء» : «لا تكرم زيدا» ـ فلا تنثلم الدلالة الثانية ، وإنّما تنثلم بذلك الدلالة الثالثة ، وهي دلالته على أنّ ما قصد تفهيمه من العموم مطابق لمراده الجدّي ـ وما يكون من بناء العقلاء هي هذه الدلالة الثالثة ، وعند القوم الثانية والثالثة كلتاهما من بناء العقلاء ، وليس لنا شغل في إثبات ذلك ، لعدم دخله فيما يهمّنا ـ وحينئذ نقول : إن كان المراد من القول المعروف : «إنّ الظهور لا ينثلم بالقرينة المنفصلة وإنّما تنثلم بها حجّيّته» أنّ الدلالة الثانية لا تنثلم ، وإنّما تنثلم الدلالة الثالثة ، فالأمر كما ذكروا ، ولازم ذلك هو انقلاب النسبة.

وإن كان المراد أنّ شيئا من الدلالات الثلاث لا ينثلم حتى الثالثة منها ، فهو غير صحيح ، إذ لا وجه ـ بعد عدم انثلامها ـ لعدم الحجّيّة ، فإنّ الحجّيّة هي بمعنى صحّة احتجاج المولى على عبده ، والعبد على مولاه ، ومن الواضح أنّ موضوعها هو الدلالة الثالثة ، فهي دائرة مدارها وجودا وعدما ، فلو علم بقرينة

٣٢٩

منفصلة أنّ المولى لم يرد من كلامه العموم ، لم يصحّ للعبد ـ عند العقلاء ـ أن يحتجّ على المولى عند إكرامه زيدا ب «أنّك أتيت بكلام عامّ شامل له» وهكذا لا يصحّ للمولى أن يحتجّ على عبده بعموم كلامه لو لم يعمل به.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ اللازم في باب التعارض هو ملاحظة النسبة بين الدليلين أو الأدلّة بعد الفراغ عن دليليّة كلّ في نفسه ، وإلّا فلا معنى لملاحظة النسبة بين ما هو حجّة ودليل وما ليس بهما ، فإذا فرض العلم بعدم حجّيّة العامّ في العموم بواسطة قرينة منفصلة ، فالعامّ وإن لم ينثلم ظهوره في العموم بذلك بمعنى أنّ الآن أيضا ظاهر في أنّ المتكلّم كان في مقام تفهيم العموم واستعمل اللفظ في العموم إلّا أنّ دلالته الثالثة وظهوره في أنّ المراد الجدّي مطابق للمراد الاستعمالي زالت وارتفعت بالقرينة المنفصلة ، ولا يحكم العقلاء بحجّيّته في العموم ، فلا معنى لملاحظة النسبة بين هذا العامّ الّذي لا يكون حجّة في العموم مع مجموع المخصّصات ، بل لا بدّ من تخصيص العامّ أوّلا بالمخصّص القطعي ثمّ بعد العلاج ملاحظة النسبة. ولعمري هذا واضح لا سترة عليه.

وما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره في المقام وفي بحث الترتّب من أنّ تصوّره ملازم لتصديقه كما أفاده.

ثمّ إنّ تعارض أكثر من دليلين ـ سواء استلزم انقلاب النسبة أو لا ـ له صور :

الأولى : ما إذا كان هناك عامّ له مخصّصان ، وهي على أقسام ثلاثة ولا رابع لها ، إذ النسبة بين الخاصّين إمّا هي التباين أو العموم والخصوص من وجه أو العموم والخصوص مطلقا.

أمّا الأوّل : فكما إذا قال : «أكرم العلماء» وورد أيضا «لا تكرم البصريّين

٣٣٠

منهم» وفي دليل آخر «لا تكرم البغداديّين منهم» ولا بدّ في هذا القسم من تخصيص العامّ بكليهما ، والنسبة باقية على حالها بعد التخصيص بكلّ منهما ، فإنّ العالم غير البصريّ أعمّ مطلقا من العالم البغدادي ، والعالم غير البغدادي أيضا أعمّ مطلقا من العالم البصري ، فنسبة العامّ إليهما لا تنقلب ، خصّص بأحدهما أو بكلّ منهما.

ولكن هذا إذا بقي للعامّ بعد تخصيصه بمجموع المخصّصين مقدار يمكن انتهاء التخصيص إليه ، فلو لم يبق له مورد أو بقي بمقدار يقبح انتهاؤه إليه ، تقع المعارضة بين الأدلّة الثلاثة ، فإنّ كلّا منها نصّ في بعض مدلوله ، فيعلم إجمالا بكذب أحدها ، مثلا : إذا وصل بطريق موثوق به إلى العبد أنّ المولى أمرك ببيع جميع كتبه ، وأخبره ثقة آخر بأنّ المولى قال : «لا تبع كتب الأصول واجعلها وقفا للطلّاب» وأخبره أيضا ثقة آخر بأنّه قال : «لا تبع كتب الفقه وملّكها الطلّاب مجّانا» وفرضنا أن ليس للمولى كتاب غير كتب الفقه والأصول ، أو إذا كان فهو كتاب واحد مثل «المنجد» فالعلم الإجمالي حاصل بكذب أحد هذه الأخبار الثلاثة ، إذ صدور العامّ فقط ممكن ، وصدوره مع أحد المخصّصين أيضا ممكن ، وصدورهما بدون العامّ أيضا ممكن ، فلا علم إلّا بكذب أحدها ، فيعارض كلّ اثنين منها الثالث ، فلا بدّ من طرح واحد منها لا محالة ، فإن كان الجميع متساوية ، فهو مخيّر في طرح أيّ منها شاء ، وإن كان أحدها أضعف من الآخرين ، فلا بدّ من طرحه دونهما ، وإن كان الاثنان منها متساويين والثالث أقوى منهما ، فلا بدّ من الأخذ بالأقوى ، ومخيّر في أخذ أحد المتساويين.

وبالجملة ، لا مناص عن طرح واحد إمّا تعيّنا لو كان أضعف من غيره وإمّا تخييرا بينه وبين ما يكون مساويا له.

٣٣١

ومن ذلك ظهر عدم تماميّة ما أفاده صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل في المقام من أنّ العامّ لو كان أقوى من أحد الخاصّين وأضعف من الآخر ، فالحكم هو التخيير بين الأخذ به والأخذ بهما ، لمعارضته لهما وعدم أقوائيته عن كليهما (١) ، لما ذكرنا من أنّ المعارضة ليست بين العامّ وبين الخاصّين فقط ، بل كما أنّ العامّ معارض لهما كذلك العامّ مع أحد الخاصّين أيضا معارض للآخر ، فالتعارض بين كلّ اثنين منها والثالث ، فإذا كان أحد الخاصّين أضعف من العامّ ومن الخاصّ الآخر ، يتعيّن طرح الأضعف ، والأخذ بالعامّ والخاصّ الأقوى من العامّ والخاصّ الآخر.

وأمّا القسم الثاني : فهو كما إذا ورد «أكرم العلماء» وورد أيضا «لا تكرم النحويّين» وأيضا «لا تكرم الصرفيّين» فإنّ النسبة بين العامّ وكلّ من الخاصّين عموم مطلق ولكنّها بين نفس الخاصّين عموم من وجه ، والحكم في هذا القسم أيضا هو تخصيص العامّ بكلّ منهما ، لعدم وجود مرجّح لتقديم أحدهما ، ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ المخصّص والخاصّ الآخر ، فإنّ العامّ بحسب ظهوره في أنّ المراد الجدّي مطابق للمراد الاستعمالي كان شاملا لجميع العلماء على اختلاف أنواعهم وأصنافهم وأشخاصهم ، وكلّ من الخاصّين ، له كاشفيّة عن عدم مطابقة الإرادة الجدّيّة للإرادة الاستعماليّة في بعض مدلول العامّ ، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر.

فإن قلت : إذا ورد أحد الخاصّين أوّلا ثمّ الآخر ، فالعامّ بعد ورود الخاصّ الأوّل لا يبقى له ظهور في أنّ العموم مراد جدّي ، فلا يكون حجّة في العموم ، فلا بدّ من ملاحظة العامّ ـ بعد تخصيصه بالأوّل ـ والخاصّ الآخر ، لا قبل

__________________

(١) حاشية فرائد الأصول : ٢٧٨.

٣٣٢

ذلك ، ضرورة أنّ غير الحجّة لا يعارض الحجّة ، وحينئذ ربّما تنقلب النسبة إلى عموم من وجه كما في المثال ، فإنّ العالم غير النحوي ربّما يكون صرفيّا وربّما لا يكون ، كما أنّ العالم الصرفي ربّما يكون نحويّا أيضا وربّما لا يكون.

قلت : تقدّم زمان الصدور لا يوجب ذلك بعد ما كان كلّ من المتقدّم والمتأخّر كاشفا عن ثبوت الحكم من حين صدور العامّ ، فزمان الكاشف وإن كان مختلفا إلّا أنّ زمان المنكشف واحد ، وهذا كما إذا وصل كتاب من المولى إلى عبده أمره فيه ببيع جميع كتبه ، ثمّ وصل كتاب آخر أمره بوقف ما كان جلده أحمر من كتبه ، وكتاب آخر وصل إليه بعد ذلك الكتاب نهاه فيه عن بيع كتب الفقه ، وفرض أنّ النسبة بين النوعين من الكتاب عموم من وجه ، فإنّه لا يشكّ في أنّ المولى لم يرد من العامّ جدّاً بيع جميع الكتب حتى كتب الفقه وما كان أحمر الجلد بل أراد غير هذين النوعين.

نعم ، لو كان التخصيص بمقدار يقبح انتهاؤه إليه ، يقع التعارض ، ويأتي الكلام السابق في القسم الأوّل حرفا بحرف.

وأمّا القسم الثالث : فهو كما إذا ورد أن «لا ضمان في العارية» وورد أيضا «في عارية الذهب والفضّة ضمان» وورد أيضا «في عارية الدينار والدرهم ضمان» والحكم في هذا القسم أيضا كسابقيه هو تخصيص العامّ بكلّ من الخاصّين : الخاصّ الأعمّ ، والخاصّ الأخصّ بعين البيان السابق ، ولا وجه لتقديم الخاصّ الأخصّ وتخصيص العامّ به أوّلا ، لخروجه عنه على كلّ تقدير ، ثمّ ملاحظة النسبة بين العامّ والخاصّ الأعمّ حتى تنقلب النسبة أحيانا كما في المثال ، لما عرفت من أنّ كلّا منهما كاشف عن عدم مطابقة ظهور العامّ في المراد الجدّي بالإضافة إليه ولا تنافي بينهما.

نعم ، لو كان المخصّص الأخصّ متّصلا بالعامّ ، تصير النسبة بينه وبين

٣٣٣

الخاصّ الأعمّ عموما من وجه ، مثلا : نفرض أنّه ورد «لا ضمان في العارية إلّا الدرهم والدينار» وورد أيضا «أنّ في عارية الذهب والفضّة ضمانا» فمورد الاجتماع هو الذهب والفضّة غير المسكوكين ، وحينئذ يرجع إلى القاعدة في العامّين من وجه من التساقط والرجوع إلى الأصل العملي أو الرجوع إلى المرجّحات إذا لم يكن عامّ فوقهما.

وأمّا إن كان ، كما إذا ورد «لا ضمان في العارية» فشيخنا الأستاذ قدس‌سره التزم بأنّه لا يصحّ تخصيصه بدليل «في عارية الذهب والفضّة ضمان» بتقريبين :

أحدهما : أنّ العامّ أيضا بعد ما علم ـ باستثناء الدرهم والدينار منه في دليل آخر ـ عدم إرادة العموم منه يكون طرفا للمعارضة وتكون النسبة بينه وبين «في عارية الذهب والفضّة ضمان» عموما من وجه ، فلا وجه لتخصيصه به.

ثانيهما : أنّ المخصّص الأعمّ لكونه مبتلى بالمعارض لا يصلح لأن يخصّص العامّ ، لعدم حجّيّته بسبب المعارضة ، فما لا يكون حجّة كيف يخصّص العامّ الّذي يكون حجّة في العموم ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه!؟ (١) وما أفاده ثانيا وإن كان تامّا إلّا أنّ ما أفاده أوّلا من كون العامّ أيضا طرف المعارضة غير تامّ ، فإنّ «لا ضمان في العارية» عامّ ورد عليه مخصّصان ، فلو لم يكن تعارض بين المخصّصين ، لكنّا نخصّص العامّ بكليهما ، ولكن في المقام حيث تكون بين الخاصّين معارضة لا يدخل في تلك الكبرى ، فلا بدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة في العامّين من وجه من التساقط أو تقديم ذي المزيّة إن كان ، والتخيير إن لم يكن ، على الخلاف الآتي عن قريب إن شاء الله.

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٢٠ ـ ٥٢٢.

٣٣٤

فإن قلنا بالتساقط ، يرجع إلى العموم الفوق ، ويحكم بعدم الضمان في مورد الاجتماع ، وإلّا فيخصّص العامّ بما قدّم تعيينا أو تخييرا. هذا ما تقتضيه القاعدة في المقام.

والأولى التكلّم في هذا الفرع ـ الّذي ذكرناه مثالا ـ مختصرا ، فنقول : ليس في روايات العارية ما استثني فيه الدرهم والدينار معا ، بل بعضهما مضمونه أن لا ضمان في العارية إذا لم يكن فيها شرط إلّا الدرهم (١). وبعضها أن لا ضمان في العارية إذا لم يكن فيها شرط إلّا الدينار (٢) وهما ـ بعد الجمع بينهما بتقييد إطلاق كلّ منهما بالآخر ـ بمنزلة رواية واحدة استثني فيها الدرهم والدينار معا.

وهنا رواية أخرى مضمونها أنّ في عارية الذهب والفضّة ضمانا (٣). ورواية ثالثة مضمونها أن لا ضمان في العارية (٤). وعلى ذلك يكون المقام من صغريات تلك الكبرى.

ولكن شيخنا الأستاذ قدس‌سره في الدورة السابقة خصّص العامّ بالدليل المثبت للضمان في مطلق الذهب والفضّة مع جعله أيضا من أطراف المعارضة ، لنكتة هي : أنّ تقديم العامّ الّذي تكون نسبته ـ بعد عدم إرادة العموم منه بالقياس إلى الدرهم والدينار ـ مع ما يدلّ على أنّ في عارية الذهب والفضّة ضمانا عموما من

__________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨٤ ـ ٨٠٨ ، الوسائل ١٩ : ٩٦ ـ ٩٧ ، الباب ٣ من أبواب كتاب العارية ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٣٨ ـ ٢ ، التهذيب ٧ : ١٨٣ ـ ٨٠٤ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ ـ ٤٤٨ ، الوسائل ١٩ : ٩٦ ، الباب ٣ من أبواب كتاب العارية ، الحديث ١.

(٣) الكافي ٥ : ٢٣٨ ـ ٣ ، الفقيه ٣ : ١٩٢ ـ ٨٧٤ ، التهذيب ٧ : ١٨٣ ـ ٨٠٦ و ١٨٣ ـ ١٨٤ ـ ٨٠٧ ، الاستبصار ٣ : ١٢٦ ـ ٤٥٠ ، الوسائل ١٩ : ٩٦ و ٩٧ ، الباب ٣ من أبواب كتاب العارية ، الحديث ٢ و ٤.

(٤) التهذيب ٧ : ١٨٢ ـ ٧٩٨ ، الاستبصار ٣ : ١٢٤ ـ ٤٤١ ، الوسائل ١٩ : ٩٣ ، الباب ١ من أبواب كتاب العارية ، ذيل الحديث ٦.

٣٣٥

وجه ، والحكم بعدم الضمان إلّا في عارية الدرهم والدينار موجب لتقييد إطلاق الدليل الآخر ـ أي «في عارية الذهب والفضّة ضمان» ـ بالفرد النادر ، فإنّ عارية الدرهم والدينار نادرة جدّاً ، بخلاف عارية غيرهما من الذهب والفضّة ، فإنّها كثيرة شائعة (١).

وفي الدورة الأخيرة جعل المقام من قبيل ما إذا كان عامّ ورد عليه مخصّصان ، وحكم بلزوم تخصيص العامّ بكليهما ، وأنّ مقتضى القاعدة هو الحكم بالضمان في مطلق الذهب والفضّة ولو لم تكن تلك النكتة أيضا (٢).

وما أفاده قدس‌سره في الدورة السابقة من تقديم ما يثبت الضمان في عارية مطلق الذهب والفضّة ، للنكتة المذكورة فكما أفاده وإن كان ما ذكره من كون العامّ أيضا من أطراف المعارضة ليس بوجيه كما عرفت.

وأمّا ما أفاده في الدورة الأخيرة فلا وجه له أصلا ، لوضوح الفرق بين المقام وبين ما كان عامّ ورد عليه مخصّصان بينهما عموم من وجه ، وهو أنّ المخصّصين في المقام بينهما تعارض في المدلول ، فيثبت أحدهما في مورد الاجتماع ما ينفيه الآخر ، بخلافهما هناك ، فإنّ مورد الاجتماع ـ وهو النحويّ الصرفيّ في المثال السابق ـ له حكم واحد وهو حرمة الإكرام ، فهو محكوم بحرمة الإكرام في كلا الخاصّين ، فكم فرق بينه وبين المقام الّذي يكون مورد الاجتماع فيه ـ وهو عارية الذهب والفضّة غير المسكوكين ـ محكوما بالضمان في أحدهما وبعدمه في الآخر.

والمتحصّل ممّا استفدناه من رواية العارية أنّ عارية الذهب والفضّة فيها الضمان مطلقا اشترط أو لم يشترط ، كانا مسكوكين أو لا ، وعارية غيرهما فيها

__________________

(١) فوائد الأصول : ٧٤٨ ـ ٧٥٠.

(٢) أجود التقريرات ٢ : ٥٢٠ ـ ٥٢٢.

٣٣٦

ضمان إن اشترط فيها وإلّا فلا.

الصورة الثانية من صور تعارض أكثر من دليلين : ما إذا كان هناك عامّان بينهما عموم من وجه ، ومخصّص ، وهي أيضا على أنحاء :

الأوّل : أن يكون المخصّص مخرجا لمادّة الاجتماع ، كما إذا كان أحد العامّين «لا تكرم الفسّاق» والعامّ الآخر «أكرم العلماء» والخاصّ «يستحبّ ـ أو ـ يكره ـ أو ـ يجوز إكرام العالم الفاسق» فكلّ من العامّين يخصّص بهذا الخاصّ ، فينحصر مورد «أكرم العلماء» بالعالم العادل ، ومورد «لا تكرم الفسّاق» بالفاسق غير العالم ، فيرتفع التعارض بينهما ، وتنقلب النسبة إلى التباين.

الثاني : أن يكون المخصّص مخرجا لمادّة الافتراق في أحد العامّين بأجمعها ، كما إذا كان أحد العامّين «يستحبّ إكرام العلماء» والعامّ الآخر «يحرم إكرام الفسّاق» والخاصّ «يجب إكرام العالم العادل» فيخصّص «يستحبّ إكرام العلماء» وينحصر مورده بالعالم الفاسق ، فيصير أخصّ مطلقا من «يحرم إكرام الفسّاق» وتنقلب النسبة إلى العموم المطلق.

الثالث : أن يكون المخصّص مخرجا لبعض أفراد مادّة الافتراق لا مخرجا لها بتمامها وكمالها ، كما إذا كان المخصّص في المثال السابق «يجب إكرام العالم العادل الهاشمي» فيخصّص «يستحبّ إكرام العلماء» به ، وينحصر مورده بالعالم الفاسق الهاشمي أو العادل غير الهاشمي أو الفاسق غير الهاشمي ، فتصير نسبته مع «يحرم إكرام الفسّاق» عموما من وجه ، ومادّة الاجتماع هي العالم الفاسق ، هاشميّا كان أو غيره ، فإنّه مستحبّ الإكرام بمقتضى أحدهما ، ومحرّم الإكرام بمقتضى الآخر.

الرابع : ما إذا أخرج المخصّص مادّتي الافتراق في كلا العامّين بأن كان أحد العامّين «يستحبّ إكرام العلماء» والعامّ الآخر «يكره إكرام الفسّاق»

٣٣٧

ومخصّص دلّ على وجوب إكرام غير الفاسق من العلماء ، ومخصّص آخر دلّ على حرمة إكرام غير العالم من الفسّاق ، وحينئذ يكون مورد الاجتماع ـ وهو العالم الفاسق ـ محكوما بحكمين متضادّين : استحباب إكرامه وكراهته.

وظاهر كلام شيخنا الأستاذ قدس‌سره في هذا القسم بل صريحه هو تخصيص العامّين ، ومعاملة التعارض في خصوص مادّة الاجتماع (١).

ولكنّ الصحيح وقوع المعارضة بين الجميع ، للعلم إجمالا بكذب أحد هذه الأربع ، فيرجع إلى قاعدة باب التعارض.

الصورة الثالثة : ما إذا كان عامّان بينهما التباين ، ومخصّص. وهي على قسمين :

أحدهما : أن يكون المخصّص مخصّصا لأحد العامّين دون الآخر ، كما إذا كان أحد العامّين «أكرم البغداديّين» والعامّ الآخر «لا تكرم البغداديّين» والمخصّص «يجب إكرام العالم البغدادي» فيخصّص «لا تكرم البغداديّين» به وينحصر مورده بالبغداديّ غير العالم ، فتنقلب النسبة بعد هذا التخصيص إلى العموم المطلق ، فيخصّص «أكرم البغداديّين» بالعامّ الآخر الّذي صار أخصّ مطلقا منه ، وكان مفاده بعد العلاج «لا تكرم البغداديّين غير العالمين».

ومن هذا القبيل إرث الزوجة من العقار ، فإن طائفة من الروايات دلّت على أنّها لا ترث من العقار (٢) ، وطائفة أخرى على أنّها ترث من العقار (٣) ، ورواية مقطوعة لابن أذينة تدلّ على أنّها ترث إن كان لها ولد (٤) ، فيخصّص

__________________

(١) أجود التقريرات ٢ : ٥٢٠.

(٢) انظر الوسائل ٢٦ : ٢٠٥ ـ ٢١٢ ، أحاديث الباب ٦ من أبواب ميراث الأزواج.

(٣) الفقيه ٤ : ٢٥٢ ـ ٨١٢ ، التهذيب ٩ : ٣٠٠ ـ ١٠٧٥ ، الاستبصار ٤ : ١٥٤ ـ ٥٨١ ، الوسائل ٢٦ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، الباب ٧ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ١.

(٤) الفقيه ٤ : ٢٥٢ ـ ٨١٣ ، التهذيب ٩ : ٣٠١ ـ ١٠٧٦ ، الاستبصار ٤ : ١٥٥ ـ ٥٨٢ ، ـ

٣٣٨

ما دلّ على أنّها لا ترث بها ، وبعد ذلك يصير أخصّ مطلقا ممّا دلّ على أنّها ترث ، وفي هذا الفرع خصوصيّات ليس هنا محلّ ذكرها والغرض مجرّد التمثيل.

ثانيهما : أن يكون مخصّصان كلّ منهما يخرج مقدارا من أحد العامّين غير ما يخرجه الآخر بحيث يكون بينهما عموم من وجه ، كما إذا كان أحد المخصّصين «لا يجب إكرام الفاسق البغدادي» والآخر «لا يحرم إكرام البغدادي الفاسق الهاشمي» فيخصّص «أكرم البغداديّين» بالأوّل و «لا تكرم البغداديّين» بالثاني ، وبعد التخصيص تصير النسبة عموما من وجه ، ومادّة الاجتماع هي الجاهل العادل البغدادي ، فإنّه واجب الإكرام بمقتضى وجوب إكرام البغدادي غير الفاسق ، ومحرّم الإكرام بمقتضى حرمة إكرام البغدادي غير العالم ، فيعمل على قاعدة المتعارضين بالعموم من وجه.

وبالجملة ، الميزان الكلّي في تعارض أكثر من دليلين ابتداء هو أن ينظر ، فإن علم بكذب أحدها ، يقع التعارض بين الجميع ، وإلّا فيجمع بينها جمعا عرفيّا إن أمكن ، سواء انقلبت النسبة أو لا ، وتتشعّب من هذا فروع يظهر حكمها ممّا ذكر.

__________________

ـ الوسائل ٢٦ : ٢١٣ ، الباب ٧ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ٢.

٣٣٩
٣٤٠