نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

٥ ـ التفويض في بيان حقائق أسرار الأحكام ، أي يبيّن للناس كل ما يرى فيه المصلحة من الأسرار والأحكام ، ولا يفصح عمّا لا يرى فيه المصلحة.

والمعنى الثاني هو المستفاد من مجموع الروايات الواردة في باب التفويض ، وهو أنّ الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بالتشريع في موارد محدودة بإذن الله تعالى (ولعلها لم تتجاوز حدود العشرة موارد) ، وأنّ الله تعالى قد أمضى هذا الأمر ، وبعبارة أخرى ، أنّ الله تعالى قد أعطاه هذه الصلاحية في قيامه بالتشريع في بعض الموارد ، ومن ثم أمضاها الله تعالى.

ويستفاد أيضاً من هذه الروايات وبشكل جيد ، أنّ الله تبارك وتعالى ، قد أعطاه هذا المقام لعدّة أسباب :

أولاً : لكي يبيّن عظمة مقامه ومنزلته وبأن تشريعاته من سنخ تشريعات الله تعالى.

والثاني : لكي يمتحن الناس ويرى مدى تسليمهم لأوامر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والثالث : إنّ الله تعالى قد أيّده بروح القدس ، وأطلعه من خلال ذلك على أسرار الأحكام الإلهيّة.

ومن خلال ماذكرنا ، تتضح لنا عدّة أمور :

١ ـ يُستفاد من مجموع روايات التفويض ، أنّ الله تبارك وتعالى أعطى رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الولاية على التشريع إجمالاً ، لكي يمتحن طاعة الخلق من جهة ، ولتعظيم المقام الرفيع للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبيان منزلته عند الله تعالى من جهة أخرى.

٢ ـ إنّ هذا التفويض لا يتمتع بصفة الكلية والشمول ، بل يتحقق في موارد محدودة ومعدودة ، ولهذا السبب كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ينتظر نزول الوحي في الأمور المهمّة الّتي كان المسلمون يسألونه عنها غالباً ، وهذا دليل على عدم شمول التفويض ، وإلّا لما دعت الضرورة إلى أن ينتظر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله نزول الوحي ، بل كان بمقدوره أن يشرّع أي قانون يراه ، (فتأمل).

٣ ـ هذا المقام الرفيع أُعطيَ له صلى‌الله‌عليه‌وآله بإذن الله تعالى ، وإضافة لذلك فإنّ بعض القوانين الّتي شرعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أمضاها الله سبحانه وأقرها ، وبناءً على ذلك فلا دليل على تعدد الشارع

٨١

والمشرّع إطلاقاً ، بل إنّ تشريع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يُعدّ أيضاً فرعاً من تشريع الله تعالى.

٤ ـ هذا المقام الرفيع والسامي تحقق للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد النّبوّة وبعد أن صار مؤيّداً بروح القدس ، وكان معصوماً ، ولم يطرأ على فعله أي خطأ أو زلل ، وبناءً على ذلك فالذين لا يتمتعون بهذه الشروط لن تتحقق لهم مثل هذه المنزلة الرفيعة.

٥ ـ بالرغم من أنّ الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كانوا مؤيدين بروح القدس ، ولم يصدر عنهم أي خطأ أو انحراف إطلاقاً ، إلّاأنّهم لم يصدروا تشريعاً جديداً ، لإنّه بعد إكمال الدين وإتمام النعمة الإلهية ، فإنّ جميع الأحكام الّتي تحتاجها الأمة إلى يوم القيامة وطبقاً للروايات الكثيرة الّتي قد تصل إلى حد التواتر ، قد تمَّ تشريعها ولم يبق مجال لأي تشريع جديد ، وبناءً على ذلك فإنّ واجب الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام إقتصر على توضيح وتبيين الأحكام الّتي وصلت إليهم عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله سواء بدون واسطة أو بالواسطة.

سؤال :

هل من الممكن أن يُقال أنّه يُستفاد من بعض الروايات ، أنّ أمير المومنين عليه‌السلام فرض الزكاة على الخيل فكان ذلك تشريعاً جديداً حيث وردت رواية بأنّ الإمامين الباقر والصّادق عليهما‌السلام قالا : «وَضَعَ أميرُ المؤمِنين عَلى الخَيل العِتاقِ الرّاعية في كُلِّ فَرسٍ في كلِّ عامٍ دِينارَيْن وَعَلى البَراذِين دِيناراً» (١).

وجاء أيضاً في رواية علي بن مهزيار أنّ الإمام الجواد عليه‌السلام عندما جاء إلى بغداد في عام ٢٢٠ ه‍ ، فرض خُمساً آخر غير الخُمس الواجب المتعارف عليه في قسم عظيم من الأموال ، ولمرّة واحدة فقط (٢).

وكلا الحديثين معتبران من حيث السند ، وبناءً على ذلك لابدّ من القول : إنّ الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كانوا يمتلكون حق التشريع أيضاً.

__________________

(١) الخلاف ، ج ٢ ، ص ٥٥.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، أبواب ما يجب فيه الخمس ، الباب ٨ ، ح ٥.

٨٢

الجواب :

إنّ الأحكام الكليّة في التشريع تختلف عن الأحكام التنفيذية للحاكم ، فالأحكام الكليّة هي نفس القوانين الثابتة والمستمرة التي تبقى قائمة في كل عصر ومكان إلى يوم القيامة ، إلّا أنّ الأحكام الصادرة عن الحاكم الشرعي هي الّتي تصدر بسبب الأمور الضرورية وأمثالها وبشكل مؤقت (مثل حكم تحريم التنباكو الذي صدر في فترة محدّدة لغرض محاربة الاستعمار الاقتصادي الإنجليزي من قبل مرجع كبير ثم رفع بعد انتهاء الخطر).

ويستفاد من القرائن الواردة في رواية الإمام الجواد عليه‌السلام وبشكل واضح ، أنّه عليه‌السلام لما جاء إلى بغداد كان الشيعة يعانون الفاقة والضنك ، وقد أقرّ الإمام تعدد الخمس في تلك السنة لغرض حل هذه المشكلة بشكل خاص ، والواقع أنّه عليه‌السلام طبّق أحكام العناوين الثانوية والضرورية على إحدى مصاديقها ، بدون أن يمثل ذلك تشريعاً جديداً.

ويمكن أن يكون حكم الزكاة الوارد في رواية الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من هذا النوع أيضاً ، ولذا فإنّ هذا الحكم محدود بذلك الزمان فقط ، ولم ينظر إليه الفقهاء كتشريع عام ولم يصدروا فتاواهم طبقاً لتلك الفتوى ، (فتأمل).

٦ ـ ممّا ورد في البند الخامس يتضح لنا أنّ غير الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام لا أحد يملك حق تشريع القوانين الكلية الإلهيّة بطريق أولى ، لأنّه باختتام النبوة وارتحال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإكمال الدين وإتمام النعمة ، لم يبق مجال لتشريع الآخرين من جهة ، وأنّ جميع الأحكام الإلهيّة الكلية الّتي يحتاجها الإنسان إلى يوم القيامة تمّ تبيينها طبقاً للكثير من الآيات القرآنية والروايات الواردة بذلك الشأن ، ومن جهة أخرى فإنّ غيرهم من الناس ليسوا معصومين وغير مؤيدين بروح القدس لكي يثبت لهم مثل هذا الحق ، خاصة وقد اعتبرت الروايات السابقة هذا المعنى شرطاً للحاكمية على التشريع.

٧ ـ لابدّ من الإلتفات إلى أن البعض من روايات التفويض ، لم تنظر إلى مسألة تشريع الأحكام ، بل تناولت تسليمهم أمر الحكومة والولاية ، أو تسليمهم بيت المال.

٨ ـ تعتقد طائفة من علماء السنة بتفويض تشريع الأحكام إلى الفقهاء في ما لا نصّ فيه ،

٨٣

وتوضيح ذلك : يقسّم علماء السنّة المسائل إلى قسمين : مافيه نص (في القرآن والسنة) وما لا نصّ فيه.

وفيما يتعلق بالقسم الأول يعتقدون جميعاً بوجوب العمل بالأوامر والنصوص ، وفي القسم الثاني يعتقد الكثير منهم بوجوب الذهاب إلى القياس أولاً ، بمعنى قياس تلك المسألة التي لم يرد فيها نص مع المسائل التي ورد فيها حكم معين ، والإفتاء بحكم شبيه بذلك الحكم لتلك المسألة ، وبغير ذلك فإنّ علماء الدين مكلفون بدراسة مصلحة ومفسدة ذلك الأمر ، ثم وضع حكم مناسب حسب ما هو أفضل وأقوى برأيهم ، ويجب على أتباعهم القبول بذلك الحكم ، والعمل به كحكم إلهي.

وهذا ما يصطلحون عليه أحياناً بـ «الإجتهاد» (طبعاً الإجتهاد بمعناه الخاص ، وليس الإجتهاد بمعنى استنباط الأحكام من الأدلة الشرعيّة) ، وأحياناً يصطلحون عليه بكلمة «التصويب» ، ويقولون إنّ ما يضعه الفقيه في هذه الموارد على شكل قانون يحظى بتصويب الله تعالى! ولو وضع فقهاء مختلفون أحكاماً متعددة ومختلفة ، فإنّها جميعاً تحظى بالقبول بعنوان حكم إلهي!

وبهذا الشكل فإنّهم يعطون للفقهاء حقّ في التشريع في الموارد التي لم يرد بشأنها نصّ أو دليل خاص.

إلّا أنّ فقهاء الشيعة السائرون على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام يخالفون هذا الكلام جملةً وتفصيلاً ، ويقولون : إنّ جميع الأحكام التي يحتاجها الإنسان إلى يوم القيامة وردت في الشريعة الإسلامية ولم يبق شيء لم يُذكر له حكم لكي يقوم أحدٌ بتشريع قانونٍ ما ، ولكن البعض من هذه الأحكام وردت بشكل صريح في القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة ، أو سنّة الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، والبعض منها ورد بشكل القواعد الكلية والأصول العامّة ، أو بعبارة أخرى إنّ في «العمومات» و «الإطلاقات» أدلة أولية وثانوية ، بحيث إنّ لكل موضوع من المواضيع ، هناك حكم ثابت له ، سواء كان هذا الحكم حكماً واقعياً تارةً أو حكماً ظاهرياً تارةً أخرى.

وبناءً على ذلك لا وجود لشيء بإسم الإجتهاد (بالمعنى الخاص) أو القياس ، أو ما لا نص

٨٤

فيه ، فمسؤولية الفقهاء تقتصر على تطبيق الأحكام الكليّة على مصاديقها فقط.

ويتضح لنا ممّا تقدم ذكره أن «التشريع» في المجالس التشريعية لا يعني في عُرف مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وضع أحكام جديدة بشأن المسائل التي يواجهها الإنسان ، بل المراد به تطبيق الأصول على الفروع أو تشخيص الموضوعات المختلفة بمعنى التشريع الموضوعي.

وخلاصة القول : إنّ مجالس التشريع في مذهب الشيعة ، ليست بمعنى وضع الأحكام الكليّة ازاء أحكام الإسلام ، أو بدل ما لا نصّ فيه ، والمسألة هي من قبيل تطبيق الأحكام ، أو التشريع الموضوعي ، ولهذا السبب وُضع «مجلس صيانة الدستور» إلى جانب المجلس التشريعي ، لكي يُشرف عليه جمعٌ من الفقهاء ويتأكدوا من أنّ القوانين الموضوعة غير مخالفة لأحكام الإسلام.

وحتى مجلس «تشخيص المصلحة» الذي أُقرّ مؤخراً في الدستور ، هو الآخر مسؤول عن تشخيص الموضوع أيضاً ، وليس جعل القانون.

وبعبارة أوضح : إنّ أحد العناوين الثانوية هو عنوان الأهم والمهم ، يعني متى ما تعارضت مسألتان شرعيتان مع بعضهما ، كما هو الحال مثلاً في المحافظة على أموال الناس وعدم التصرّف بها إلّابإذن صاحبها مع مسألة الحاجة الملحّة لفتح شارع في المدينة أو طريق في الصحراء ، فمن جهة تعتبر مسألة المحافظة على النظام في المجتمع الإسلامي واجبة ، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلّابشق الطرق الضروريّة ، ومن جهة أخرى فإنّ المحافظة على أموال النّاس أمرٌ واجب ، ففي هذه الحالات يجب تقديم الأهم على المهم ، وأن تُمنح الإجازة بفتح هذه الطرق ، مع دفع الأضرار والخسائر الناجمة عن ذلك إلى مالكي تلك الأراضي.

وكذلك الحال فيما يتعلق بمسألة وضع الأسعار على المواد المختلفة ، فالقانون الإسلامي أساساً ، يقول بحرية الأسعار والتسعيرة ، ولكن في الحالات التي تصبح فيها هذه الحرية سبباً لاستغلال الانتهازيين والجشعين الذين يجعلون المجتمع في وضع حرج بحيث تتوقف معها مسألة المحافظة على النظام الاقتصادي في المجتمع على تحديد

٨٥

الأسعار ، فممّا لا شك فيه أنّ مسألة المحافظة على النظام مرجحّة ، ومن الممكن هنا القيام بإصدار قانون لتحديد الأسعار ، وتكليف الحكومة الإسلامية بتنفيذه.

وعلى مجلس تشخيص المصلحة في هذه الموارد ، اختيار الأهم من خلال دراسته الدقيقة للأمر ، لكي تقوم الحكومة الإسلامية بتنفيذ القانون ، بالضبط كما هو معروف أنّ المحافظة على النّفس واجبة وأكل اللحم الحرام ممنوع ، ولكن في موارد خاصّة عندما ينحصر فيها حفظ النفس على الاستفادة من اللحم الحرام فقط ، نسمح بذلك ونعتبره أمراً مجازاً ، وذلك لأنّ أهميّة حفظ النسل أكبر وأهم من ذلك.

وبناءً على هذا المفهوم فإنّ (مجلس تشخيص المصلحة) يختلف كثيراً عن الإجتهاد والإستحسان والمصالح المرسلة الشائعة بين علماء السنّة ، إذ يدور الأمر هنا بين تعارض وتضاد حكمين ، فتصبح مسألة تشخيص المصلحة هي الأهم ، في حين أنّ الذي يحصل هناك عبارة عن وضع حكم معين لموضوعٍ يعتقد بعدم وجود حكم معيّن له ، (فتأمل).

* * *

ومن مجموع ما ذكرنا نستنتج أنّ المجلس التشريعي يعد أحد أركان الحكومة الإسلامية ، ذلك أنّه في كل زمان ومكان وفي كل مرحلة معينة تبرز مجموعة من المتطلبات والمسائل المستحدثة التي تستوجب تحديد القانون الخاص بها بشكل دقيق ، ولكن التشريع هنا يعني التخطيط وتطبيق الأصول على الفروع ، واستخراج الفروع من القوانين الكلية وتشخيص المواضيع بشكل دقيق.

* * *

٨٦

مجلس الشورى وانتخاب النوّاب

يجب علينا هنا أن نبحث أولاً مسألة أهميّة الشورى في الإسلام ، ومواردها ، وصفات الذين ينبغي أن نستشيرهم.

أهميّة وضرورة المشورة :

تُعدّ مسألة المشاورة وخاصة في الأمور الاجتماعية وما يتعلق بمستقبل المجتمع من أهمّ المسائل التي عرضها الإسلام بدقّة وأهميّة خاصة ، ولها مكانة متميزة في آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية وتاريخ أئمّة الإسلام العظام.

وقد جاء الأمر بالمشورة في عدّة آيات من القرآن الكريم.

ففي سورة آل عمران أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بأن يشاور المسلمين في الأمور المهمّة وهو قوله تعالى : (وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ). (آل عمران / ١٠٩)

وفي سورة الشورى ، وعند بيان الأوصاف المتميزة للمؤمنين حقاً يقول تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِم وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). (الشورى / ٣٨)

وكما تلاحظون في هذه الآية ، أنّ مسألة الشورى هي بمستوى الإيمان بالله تعالى والصلاة ، إذ يبيّن ذلك أهميّتها الاستثنائية.

ويُقال أحياناً إنّ السبب في صدور الأمر إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بمشاورة النّاس كان لغرض احترام المسلمين وإشراكهم في المسائل الاجتماعية فقط ، ذلك أنّ الذي يعزم على الأمور في نهاية المطاف هو شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس الشورى ، وهذا هو قوله تعالى في نهاية الآية الكريمة : (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ). (آل عمران / ١٥٩)

٨٧

ولكن من المسلّم به أنّ المراد من الآية الكريمة لاسيما نهايتها ليس المقصود به أن يقوم الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمشاورة النّاس ومن ثم لا يأخذ بوجهات نظرهم وآرائهم ، ويختار طريقاً آخر ، فمثل هذا الأسلوب لا ينسجم ، من جهة ، مع الهدف الذي تقصده الآية (لأنّه سيصبح سبباً لعدم احترام الرأي العام ، ويؤدّي بالتالي إلى انزعاج المسلمين وترتُّب نتائج عكسية) ، ولا ينسجم من جهة أخرى مع تاريخ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، لإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان يشاور النّاس في الحوادث والملمات المهمّة ، فإنّه كان يحترم آراء النّاس ، حتى أنّه كان يتجاهل أحياناً وجهة نظره الكريمة ، بهدف تقوية ودعم مبدأ المشاورة بينهم.

وتجدر الإشارة إلى أنّ آية المشاورة ونظراً للآيات الورادة قبلها وبعدها ، يُراد بها غزوة «احُد» ، ونعلم أنّه في غزوة أحُد ، لم يكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله موافقاً على الخروج بالجيش من المدينة ، ولكن بما أنّ أكثرية آراء المسلمين استقرت على هذا الأمر ، فقد وافق صلى‌الله‌عليه‌وآله على الخروج (١).

وعلى فرض أنّ هذه الآية تعطي هذه المزية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن تكون مشاورته للناس ذات جنبة تشريفية ، إلّاأنّ الآية الواردة في «سورة الشورى» والتي توضح القانون العام للمسلمين بشكل واضح وجلي ، تؤكد على أنّ الأمور المهمّة يجب أن تُنجز من خلال الشورى بين المسلمين ، وأنّ الشورى تلعب دوراً مصيرياً.

ومن البديهي أنّ العمل بالشورى يكون في المسائل التي لم ينزل بها حكم خاص من قبل الله تعالى ، وعندما نقول : إنّ الشورى في مسألة خلافة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا اعتبار لها ، بسبب وجود أمر خاص من قبل الله تعالى في هذا المجال ، ومع تعيين الوصي وخليفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق الوحي ومن خلال شخص رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لم يبق مجالٌ للشورى بعد ذلك.

وبعبارة أخرى ، إنّ الشورى يُعمل بها دائماً في المواضيع ، وليس في الأحكام التي صدر حكمها من قبل الله تعالى.

وعلى أيّة حال فإنّ مسألة الشورى التي ذكرت في الإطار المبين أعلاه ، تُعدّ ركناً ومبدأً

__________________

(١) كتاب سيد المرسلين ، ج ٢ ، ص ١٤٢.

٨٨

أساسياً في الإسلام ، إذ إنّ التعبير بكلمة «أمر» إشارة إلى الأمور المهمّة ، وخاصة المسائل التي يحتاجها المجتمع ، ويحمل هذا المصطلح مفهوماً واسعاً لدرجةٍ يشمل معها جميع الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية المهمّة.

وقد صدر الأمر بالشورى في القرآن الكريم كذلك في الأمور المهمّة المتعلقة بنظام الأسرة (المجتمع المصغر ، ومن ذلك فطام الطفل قبل بلوغ الحولين الكاملين إذ يشير إلى مبدأ الشورى ، وهو قوله تعالى : (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلَا جُناحَ عَلَيهِمَا). (البقرة / ٢٣٣)

وهذا دليل على الأهميّة البالغة للشورى في الأمور.

* * *

أهميّة الشورى في الأحاديث الإسلامية :

لقد ذكرت أهميّة استثنائية للشورى في الأحاديث الإسلامية ، سواءً تلك التي نقلت عن شخص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، لدرجةٍ اعتُبرت معها مسألة الشورى في الحديث النبوي الشريف إحدى أسباب إحياء المجتمع ، وتركها يُشكل إحدى أسباب موت المجتمع إذ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إذا كانَ امَراؤُكُمْ خِيارَكُمْ وَاغْنِياؤُكُمْ سُمَحاؤَكُمْ وَأمْرُكُمْ شُورى بَيْنَكُمْ فَظَهْرُ الأرْضِ خَيرٌ لَكُمْ مِنْ بَطْنِها ، وَإذا كانَ امَراؤُكُمْ شِرارَكُمْ وَأغْنياؤُكُمْ بُخَلاؤُكُمْ وَلَمْ يَكُنْ أمْرُكُمْ شُورى بَيْنَكُمْ فَبَطْنُ الأرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِها» (١).

وبلغت أهميّة الشورى إلى درجة أن قال عنها الإمام علي عليه‌السلام :

«الإسْتِشارَةُ عَيْنُ الْهِدايَةِ ، وَقَدْ خاطَرَ مَنْ اسْتَغنى بِرَأيِهِ» (٢).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي عليه‌السلام أيضاً أنّه قال :

__________________

(١) تحف العقول ، باب الأحاديث القصيرة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ح ١٣.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٤٢ ، ح ١٠.

٨٩

«لا يَسْتغنِي الْعاقِلُ عَنِ الْمُشاوَرَةِ» (١).

والسببُ في ذلك واضحٌ أيضاً ، وجاء ذلك في تعبير جميل ورد في بعض الروايات عن الإمام علي عليه‌السلام في هذا المجال إذ قال :

«حَقّ عَلى العاقِلِ أنْ يُضيفَ إلى رَأيِهِ رَأيَ الْعُقَلاءِ وَيَضُمَّ إلى عِلْمِهِ عُلُومَ الَحُكَماءِ» (٢).

وجاءَ في حديث آخر أيضاً عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال :

«من شاورَ ذوي العقول استضاءَ بأنوار العقولِ» (٣).

وبناءً على ذلك ، فالمشاورة هي السبب في إضافة عقول الآخرين وعلومهم وتجاربهم إلى عقل المرء وعلمه وتجربته ، إذ إنّ الإنسان في هذه الحالة قليلاً ما يقع في الخطأ والانحراف. والاحاديث الواردة في هذا المجال كثيرة جدّاً ، ونختتم هذا البحث المختصر بحديث آخر عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحديث عن الإمام علي عليه‌السلام.

قال النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«لا مظاهرةَ أوثقُ من المشاورةِ» (٤).

وقال الإمام علي عليه‌السلام :

«شاور ذوي العقولِ تأمنْ من الزَّللِ والنَّدم» (٥).

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالإشارة إليها ، إذ ليس من الضروري أن يكون مستوى الذين نشاورهم أرفع درجةً من المشاورين أنفسهم ، والدليل على ذلك مشاورة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه ، ولربما نجد أفراداً بسطاء يمتلكون من العقل والفطنة الفطرية ما يجعل مشاورتهم تحل الكثير من المعضلات ، كما ورد ذلك في حديث عن الإمام علي بن موسى الرّضا عليه‌السلام ، إنّه دار الحديث ذات مرّةٍ في مجلسه عليه‌السلام عن أبيه المعصوم عليه‌السلام فقال : «إنَّ الله

__________________

(١) غرر الحكم.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ١٠٠.

(٥) غرر الحكم.

٩٠

تبارك وتعالى ربَّما فتح على لسانِهِ» (١).

ونختتم الحديث حول أهميّة المشاورة بأبيات من الشعر الحسن لأحد الشعراء العرب إذ يقول :

أَقرِنْ برأيكَ رَأي غيركَ واسْتَشِر

فالحقُّ لا يخفى على الإثنينِ

للمرءِ مِرآة تريهِ وجههُ

ويرى قفاهُ بجمعِ مرآتيْنِ

أي أنّ المرآة الواحدة تريه جانباً منه ، فإذا أراد أن يرى جوانب متعددة فعليه بمرآتين.

صفات المستشارين :

ممّا لا شك فيه أنّ الطرف الذي يشاوره الإنسان ، وخاصة في الأمور المهمّة والمسائل الاجتماعية الحساسة ، لا يمكن أن يكون أي شخصٍ كان ، بل يجب أن يمتلك صفات خاصة تجعله فرداً صالحاً للمشورة ، ولهذا السبب نجد الروايات الإسلامية وصفت مجموعة من النّاس بأنّهم «أفراد جديرون بالمشاورة» ومجموعة أخرى بأنّهم «غير جديرين».

ويقول الإمام الصّادق عليه‌السلام في حديث مروي عنه :

«إن المشورة لا تكونُ إلّابحدودها الأربعةِ ... فأولها أن يكون الذي تشاوِرُهُ عاقلاً ، والثاني أن يكونَ حُرّاً متديناً ، والثالثُ أن يكونَ صديقاً مؤاخياً ، والرابع أنْ تطلعه على سرِّك فيكون علمُهُ به كعلمك ...» (٢).

ونطالع في حديث آخر عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال :

«خيرُ ما شاورتَ ذووا النُّهى والعِلمِ واولوا التجاربِ والحزمِ» (٣).

وورد في النقطة المقابلة لهذا المعنى ، نهي شديد عن المشورة مع الأفراد «البخلاء» و «الجبناء» و «الحريصين» و «الحمقى» ، إذ قال النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي عليه‌السلام :

«يا علي لا تشاور جباناً فإنّه يضيّقُ عليك المخرجَ ، ولا تشاور البخيل فإنّه يقصِّرُ بك عن

__________________

(١) ميزان الحكمة ، ج ٥ ، ص ٢١١.

(٢) ميزان الحكمة ، ج ٥ ، ص ٣١٨.

(٣) غرر الحكم.

٩١

غايتك ، ولا تشاور حريصاً فإنّه يزيّن لك شَرَهاً» (١).

كما ورد النّهي في الروايات أيضاً عن مشاورة الأفراد الحمقى والجهلاء والكذّابين.

ويُستفاد ممّا تقدم أنّ المستشارين ـ وخاصة في الأمور المهمّة ـ يجب أن يكونوا من الأذكياء ، والعقلاء ، والمحسنين ، وذوي التجربة ، والصادقين ، والأمناء ، والشجعان والأسخياء ، وإن فقدان أو زوال كل واحدة من هذه الصفات يوجب وهن وتخلخل أركان واسس المشاورة.

وعلى سبيل المثال ، عندما يكون المستشار فرداً أحمقاً وجاهلاً ، فإنّه سيقلب الحقائق للإنسان ، وبالشكل الذي ورد ذكره في الأحاديث ، فإذا أراد أن يُحسن إليك فسوف ينقلب عليك شراً! ولو كان جباناً فإنّه سيحول دون الإقدام المناسب والحزم في الأمور ، فتذهب تلك الفرصة السانحة ، ولو كان كذّاباً ـ وكما تعبّر الروايات عنه ـ يقرّب إليك البعيد ، ويبعّد عنك القريب ويشبه في ذلك السراب الذي يخدع العطاشى في الصحراء ، ولو كان بخيلاً يحول دون أعمال الخير ويخوّفك دائماً من الفقر وعسر الحال ، ولو كان قليل التجارب أو عديمها ، فإنّه سيؤدّي إلى العبث وإفشال البرامج والمناهج البنّاءة ، ولو كان حريصاً فإنّه سيدعوك إلى ممارسة الظلم والعدوان لكي يطفيء بذلك نار الحرص (٢).

ومن خلال ما تقدم ذكره من الملاحظات يجب أن نتوخى الحذر الشديد في اختيار من نستشيرهم ، وخاصة في المسائل الاجتماعية المهمّة التي تأخذ بنظر الاعتبار حقوق الآخرين ، وأن تؤخذ المعايير الآنفة الذكر بنظر الاعتبار بشكل دقيق.

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالذكر أيضاً ، إذ إنّ المشاورة في الإسلام تؤدّي إلى إيجاد الحق بمعنى أنّ الشخص المستشار إمّا أن لا يقبل المشاورة ، أو يقبلها ولكن بشرط أن يراعي حق أداء الأمانة في ذلك ، وأن يجعل بين يدي من استشاره ما يرى فيه الخير والصلاح ، وبغير ذلك فإنّه يعد «خائناً»! ، والخيانة في المشاورة تعدّ من كبائر الذنوب.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٠ ، ص ٣٤.

(٢) إن جميع ما ذكر أعلاه تقريباً ورد في الروايات المختلفة.

٩٢

ونقرأ في حديث ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ استشاره أخوه المؤمن فلم يمحِّضه النصيحةَ سَلبَ اللهُ لُبَّهُ» (١).

وورد في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : «خيانة المستسلمِ والمستشير من أفظع الأمور وأعظم الشرور وموجبُ عذابِ السعير!» (٢).

إنّ الحديث عن المشاورة وفروعها وما يتعلق بها واسعٌ جدّاً ، وما ذكرناه يعدّ غيضاً من فيض وعصارة من هذه الأبحاث التي تساعد على فتح الطريق أمام الأبحاث اللاحقة.

ونختتم بحثنا هذا بمقطع جميل آخر من الشعر الذي يتناول صفات المستشارين :

لا تستشر غير ندبٍ حازمٍ فطنٍ

قد استوى منهُ اسرار واعلان

فللتدابير فرسان إذا ركظوا

فيها أبرّوا كما للحربِ فرسانُ (٣)

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٢ ، ص ١٠٤.

(٢) غرر الحكم.

(٣) حياة الحيوان ، الدميري ، ج ١ ، ص ١٧٣.

٩٣
٩٤

كيفية انطباق مجالس الشورى مع موازين

المشورة الإسلامية

هناك سؤال مهم يطرح نفسه وهو : إنّنا موافقون على أنّ مسألة الشورى والمشاورة تعدّ من أهمّ القوانين الإسلامية الأساسية ، ولكن الطريقة المتبعة حالياً في انتخاب مجموعة من الأفراد ، الذين يجتمعون في مجلسٍ معين مثل «مجلس الشورى الإسلامي» ، وتتمّ إدارة جلساته طبقاً لقانون خاص بهذا المجلس ، ويتناولون فيه القضايا المختلفة بالبحث والدراسة والمشاورة ، ومن ثم يصوّتون على تلك الأمور بأكثرية الآراء ، وتصبح تلك القرارات لازمة التنفيذ ، فما هو الدليل الشرعي على صحة هذا الأسلوب في الشورى؟!

وبعبارة أخرى : إنّ مثل هذه المراسيم والإجراءات المعمول بها في المجالس التشريعية الفعلية ، لم ترد في أيّة آية أو رواية أو سند تأريخي ، فكيف نثبت شرعيتها ولزوم الالتزام بلوازمها؟ في الوقت الذي يشكّل فيه مجلس الشورى في عصرنا هذا واحداً من الأركان الأساسية الثلاثة للحكومة الإسلامية ، بلوائحه الداخلية وآدابه وتقاليده الخاصة به.

ويلاحظ هذا المعنى أيضاً في إقرار اللوائح في المستويات الأدنى ، وعلى مستوى مجالس الوزراء والمسؤولين عن المسائل الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية. وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال المهم لابدّ أن نقول وباختصار : إنّ مجلس الشورى الحالي يمثل في الواقع نفس «الصورة المتبلورة للمشورة» والتي وردت في تعاليم الدين الإسلامي.

وتوضيح ذلك : إنّه من الأفضل في المسائل الاجتماعية المتعلقة بالبلاد ، التشاور مع

٩٥

جميع النّاس وفي جميع أنحاء البلاد ، ولكن بما أنّ مثل هذا الأسلوب غير ممكن عملياً ، وفضلاً عن أنّ جميع النّاس لايملكون الخبرة اللازمة في جميع المسائل ، فلذلك لا يوجد أيّ حلّ آخر لهذه المسائل سوى أن يُصار إلى انتخاب النواب من قبل النّاس لكي يتشاوروا فيما بينهم ، وما يختاره هؤلاء النواب ـ حيث يمثل حضورهم في ذلك المجلس حضور جميع النّاس ـ ويصادقون عليه ، يعدّ مصداقاً كاملاً وجامعاً للشورى الإسلامية الحقيقية.

وبما أنّ اتفاق جميع الآراء في أغلب المسائل لا يتحقق عادةً ، فلا يوجد حلّ لذلك إلّا من خلال رأي الأكثرية كمعيار ومقياس لذلك ، والذي غالباً ما يكون أقرب إلى الواقع. والأكثرية هنا طبعاً هي الأكثرية المتشكلة من الأفراد المؤمنين والواعين ، سيّما وأنّ افتراضنا مبنيّ على أنّ النّاس وبحكم تكليفهم الديني ينتخبون ممثليهم من الأفراد الذين يمتلكون الصفات اللازمة لهذا الأمر.

وبناءً على ذلك فإنّ ما يُقال إنّ القرآن الكريم يذم الأكثرية في كثير من الموارد ، لا يشمل الموضوع الذي نتحدث عنه قطعاً ، إذ إنّ الأكثرية المقصودة في قوله تعالى : (أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ). (المائدة / ١٠٣)

وقوله تعالى : (أَكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ). (الأنعام / ٣٧)

وقوله تعالى : (أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ). (التوبة / ٨)

وقوله تعالى : (أكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ). (المؤمنون / ٧٠)

وأمثالها ناظرة إلى الأكثرية في المجتمعات المنحرفة والضالّة لا الأكثرية المؤمنة والعالمة والملتزمة.

إنّ هذه الضمائر وبقرينة ما جاء قبلها ، تعود جميعاً إلى المشركين والجهلاء والمتعصبين وغير الملتزمين ، إذ لم يصرح القرآن أبداً بأن : «أكثر المؤمنين أو أكثر المتقين لا يعلمون ولا يفقهون» ، ولهذا السبب فإنّنا نقرأ في علم الاصول في باب «التعادل والتراجيح» عندما يدور الحديث حول الروايات المتعارضة : إنّ الشهرة بين الفقهاء هي إحدى المرجّحات ، والمشهور هو نفس الاستناد إلى قول أكثرية الفقهاء ، وقد ورد في الحديث : «خُذْ بِما اشتَهَرَ

٩٦

بَينَ أصْحابِكَ وَدَعِ الشّاذَّ النادِرَ ، فإنّ المُجْمع عَلَيه لا رَيبَ فِيه» (١).

بل ويستفاد من تاريخ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يحترم رأي الأكثرية من المسلمين في موارد المشاورة ، بالرغم من كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله يمثل العقل الكلي.

ويتضح ذلك في معركة أُحُد عندما شاور المسلمين بخصوص مسألة البقاء داخل المدينة أو الخروج منها وخوض الحرب خارجها ، فلما رأى إجماع أكثرية المسلمين على تأييد النظرية الثانية ، قبلها وعمل بها ، حتى إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعتن برأيه الشخصي المؤيد للأقلية. فأعطى بذلك أكبر درسٍ في تاريخ الإسلام بشأن مسألة الشورى (٢). وكما هو معلوم لدينا أنّ نتيجة هذا الأمر لم تكن إيجابية تماماً ، ولكن بالرغم من ذلك فإنّ فوائد احترام الشورى كانت أكثر بكثير من الخسائر الفادحة لمعركة أُحُد! (فتأمل).

وحصل ما يشبه هذا الأمر أيضاً في معركة «الخندق» ، فقد جاء في (مغازي الواقدي) أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يشاور أصحابه كثيراً في المسائل والامور العسكرية والحربية ، ومن ذلك أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه قبل وقوع معركة الخندق : هل نغادر المدينة ونقاتل جيش المشركين ، أم نبقى في المدينة ونحفر خندقاً حول المدينة ، أم نكون على مقربةٍ من المدينة ونجعل الجبل خلفنا؟! وعندها اختلف أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حول هذه المسألة ... فرأى جمعٌ من أصحابه أن يخرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خارج المدينة ، ولكن سلمان قال : كنّا إذا داهمنا فرسان العدو وخشيناهم ، نحفر الخندق حول المدينة ، فهل تجيزنا يا رسول الله أن نحفر خندقاً حول المدينة؟ فنالت وجهة نظر سلمان قبول (أكثر) المسلمين (ورجّحوا حفر الخندق وقبل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بهذا الرأي) (٣).

ونكرر القول مرّة أخرى ، أنّه في عملية الشورى ، عندما تتعرض مجموعة ما للقيام بمسألة الشورى ـ وخاصة في المسائل الاجتماعية المهمّة ـ فقلّما يحصل الإجماع على رأي واحد ، ولو أهملت الأكثرية ولم يؤخذ بها ، لن ينجز أيّ عمل على الاطلاق.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٧٥ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، ح ١ ،

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ٦٦.

(٣) مغازي الواقدي ، ج ١ ، ص ٤٤٤ (مع التلخيص).

٩٧

ومن اللازم أن نذكر الملاحظة التالية أيضاً ، وهي أنّ مسألة الشورى والمشاورة ، قبل أن يقرّها الدين الإسلامي كانت متداولة بين سائر العقلاء في العالم أيضاً ، وقد أقرها الدين الإسلامي ـ مع إضافة بعض الشروط المهمّة إليها ـ حيث إنّ الأمر بين سائر العقلاء في العالم يستند إلى أنّ المعيار هو رأي الأكثرية ، هذا فيما يتعلق برأي الأكثرية.

وأمّا اللوائح المعمول بها في المجالس التشريعية لُاسلوب إدارة تلك المجالس وكيفية أخذ الآراء ، فهي موضوعة أيضاً على أساس تصويت ذلك المجلس وعن طريق تلك الشورى.

وبناءً على ذلك فإنّ مجالس التشريع الإسلامية ، بجميع التشريفات المتّبعة في أمر الانتخابات ، والمنتخبين ، وإدارة الجلسات ، وكيفية مناقشة المسائل ، وتقسيمها إلى مسائل فوريةوغير فورية ، وأمثال ذلك ، فإنّها تمثل نفس «الشكل المنظّم لقاعدة الشورى» التي ينظر إليها الإسلام باعتبارها إحدى الثوابت الأساسية ، إذ يمكن مطابقة جميع تلك الممارسات مع هذه القاعدة.

ومن البديهي أنّه متى ما انحرف أحد المجالس عن نظرية الشورى الإسلامية من حيث مواصفات المشاورين أو الامور الاخرى ، ويُصار إلى انتخاب أفرادٍ غير واعين أو غير ملتزمين ، أو يتحول المحيط الحر لابداء الرأي إلى جوّ من الضغوط ، أو يتمّ اقرار شيء ما خلافاً للقوانين الإسلامية والضوابط الدينية المسلّم بها ، فإنّ هذا المجلس سوف لن يكون مجلساً اسلامياً للشورى ولن ندافع عنه اطلاقاً.

المسؤولية الرئيسية لمجلس التشريع الإسلامي :

إنّ تعبير «السلطة المقننة» أو «المجلس التشريعي» ـ المقتبس من الأجانب ـ يؤدّي أحياناً إلى أن يتداعى إلى الذهن بأنّ المراد به قيام ممثّلي الشعب في هذا المجلس بوضع القوانين ، أي قيامهم بتشريع الحلال والحرام ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ كما أشرنا إلى ذلك في بحوثنا السابقة أنّ العمل الرئيسي للممثلين في هكذا مجلس هو تطبيق الأحكام

٩٨

الكلية على المصاديق ، والفهم الموضوعي للُامور ، أي ينبغي عليهم الجلوس والتشاور لتحديد المواضيع المعقدة التي يحتاجها المجتمع ، بهدف تطبيق الأحكام الإسلامية عليها.

وعلى سبيل المثال ، يعدّ الدفاع عن دولة الإسلام ضد الغزو الاجنبي وقتالهم أمراً واجباً ، كما أن عقد الصلح معهم في ظروف خاصة يؤدّي إلى تعزيز وتقوية دعائم الإسلام وردّ كيدهم وشرّهم ، إلّاأنّ تشخيص هذا المعنى وتحديده ، وهو هل أنّ الحرب مثلاً في الظروف الحالية ، تؤدّي إلى دفع شرّهم ، أم الصلح؟ هذا الأمر بحاجة إلى الفهم والخبرة الموضوعية ، ويعقد المجلس في هذه الحالة جلسة خاصة ، ومن خلال دراسته للموضوع من كافة جوانبه ، يختار مافيه الصلاح للُامّة.

وكذلك فيما يتعلق بكيفية إنفاق أموال بيت المال ، وكيفية تنظيم الخزينة وتوزيعها بشكل عادل ، لتصبح مصداقاً للعدل والمساواة ، فإنّ المجلس يعقد اجتماعه الخاص لمناقشة هذا الموضوع ، ويختار ما يراه المصداق الحقيقي للأصلح.

ومن الممكن طبعاً في بعض الاحيان أن يُخطِىء المجلس في محاولته لتطبيق الأحكام الإسلامية على مصاديقها ، لأنّ أغلب النواب عادةً ليسوا من الفقهاء والمجتهدين ، ولهذا السبب بالذات ولغرض الحد من الوقوع في هذه الأخطاء ، فقد تم تشكيل (مجلس صيانة الدستور) في نظام الجمهورية الإسلامية ، ويضم نخبة من الفقهاء والحقوقيين ، إذ يقوم هذا المجلس بالاطمئنان على إسلامية القوانين ، والدراسة الموضوعية لها.

ومن خلال هذا الكلام يمكن الوصول إلى هذه النتيجة ، وهي وجود اختلافين رئيسيين بين المجالس التشريعية الإسلامية ، والمجالس التشريعية للأنظمة العلمانية والغربية :

١ ـ تقوم المجالس التشريعية غير الدينية بتشريع الأحكام فعلاً ويضعون الحلال والحرام والمجاز والممنوع ، دون أن يستندوا في ذلك إلى حكم إلهي ، ولكن في المجالس التشريعية الإسلامية ، يتمثل العمل الرئيسي فيها بتطبيق الأحكام الإلهية الكليّة على مصاديقها أو الدراسة والدراية الموضوعية لها.

٢ ـ إنّ الهدف المطلوب في المجالس التشريعية الغربية والعلمانية هو السعي لتحقيق

٩٩

متطلبات الناس ، سواء كانت هذه المتطلبات منحرفة وتؤدّي إلى انحطاط المجتمع ، أو إيجابية وبنّاءة ومفيدة ، ولهذا السبب فإننا نشاهد ونلاحظ أنّه يتمّ في هذه المجالس التصويت على قوانين مخزية وحمقاء من قبيل السماح بالاختلاط الجنسي ، والاعتراف الرسمي بعقد الزواج بين الذكور ، ونظائرها من القوانين المخزية!

بينما نجد أنّ الهدف الأساسي في المجالس التشريعية الإسلامية يتمثل بتحقيق إرادة الله سبحانه وتعالى ، والاصول المعروفة في الدين الإسلامي ، والاهتمام بتلبية المتطلبات السليمة للناس.

وحل المشاكلهم وتطوير المجتمع الإسلامي في جميع المجالات الإيجابية ضمن إطار التعاليم الإسلامية ، مع رفض تلبية الحاجات والرغبات المنحرفة.

* * *

١٠٠