نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

ولكن في الحقيقة أنّ غير المسلمين أربعة أصناف ، إذ يوجد مضافاً إلى الصنفين المذكورين صنف ثالث وهم «المعاهدون» (وهم الذين يرتبطون بالمسلمين بعهدٍ وميثاق وإن كانوا يعيشون خارج المحيط الإسلامي ولم يكونوا أقليّة) و «المهادنون» وهم غير الأصناف الثّلاثة ، بل هم قوم يعيشون في بلادهم ولا يزاحمون المسلمين.

وفي دنيا اليوم ، يوجد لهذه الأصناف الأربعة مصاديق واضحة :

١ ـ الأقليات التي تعيش داخل الدّول الإسلاميّة ، والتي تشملها قوانين تلك الدّول ، وتكون الحكومات الإسلاميّة ملزمة بحفظ أموال ودماء ونواميس أفراد هذه الأقليات والدّفاع عن حقوقها ، وهؤلاء يدفعون بعض الضّرائب للحكومة الإسلاميّة ، ويمكن اعتبارها بمقام «الجزية» لأنّ «الجزيّة» كما ذكرنا مأخوذة من «الجزاء» بمعنى الشيء الذي تأخذه الحكومة الإسلاميّة كأجرٍ أو معونة للدّفاع عنهم ، وهؤلاء هم «أهل الذمّة».

٢ ـ بعض الدّول «كإسرائيل» و «أمريكا» الذين يحاربون المسلمين اليوم ، ولا يتورعون عن أي عدوان ضدهم ولا يُقصرون في إيذائهم ، فهؤلاء كفرة حربيّون ، لَسْنا ملزمين بأي تعهد في قبالهم.

٣ ـ هناك شعوب غير مسلمة تربطهم معنا علاقات صداقة ، ونتبادل معهم السّفراء ، ونعقد معهم أحياناً بعض المعاهدات الإقتصاديّة والتجاريّة والثّقافيّة ، أو نلتزم بمقررات معينة فيما بيننا من خلال المنظمات الدّولية وكل هؤلاء مصاديق «للمعاهدين» وعلينا أنّ نتعامل معهم بما تقضيه الإلتزامات التي تربطنا معهم بشكل مباشر أو غير مباشر (عن طريق المنظمات العالمية) وأن نرعى الإحترام المتبادل فيما بيننا.

٤ ـ وهناك بعض الدّول التي ليست في حالة حرب معنا ، ولا معاهدة لنا ، ولا يوجد بيننا سفراء ، ولا تربطنا بهم مواثيق ، ولكن لا يزاحموننا ولا نحن نزاحمهم ، فعلينا أنْ نراعي الأصول الإنسانيّة والأخلاقيّة معهم ، وهؤلاء هم (المهادنون).

وممّا ذكر أعلاه ، يتضح لنا أنّ «أهل الذمّة» هم فقط ذلك الصنف من أهل الكتاب الذين يعيشون داخل الدّول الإسلاميّة ، وأنّ أحكام الجزية أو عدم التّظاهر بالمعاصي والذنوب

٣٢١

الكبيرة وأمثالها ، خاصة بهم.

وأمّا أهل الكتاب من الذين يعيشون في دولهم ، فلا يعتبرون من مصاديق أهل الذمّة ، حتى لو ارتبطوا بمواثيق وعهود معنا ، وإنّما هم مصداق «المعاهدين» وقد يكونون «محاربين» وقد يكونون «مهادنين» في بعض الظروف. (إلتفتوا جيداً).

* * *

٣٢٢

الحكومة الإسلامية والأجهزة الأمنية

تمهيد :

لا شك في أنّ التجسس على أحوال النّاس الخاصة والبحث عن أسرارهم عملٌ مذموم وقبيح ، فإنّ الله «ستّار العيوب» ، وينبغي على عباده أن يكونوا كذلك أيضاً ، إلّابالنسبة للذين يهتكون السّتر ويتركون الحياء جانباً ويتظاهرون بارتكاب الذّنوب ، فإنّه لا حرمة لهم ، لإنّهم هم الذين هتكوا حرمهم.

والقرآن الكريم يحذِّر بصراحة من التّجسس ، كما ورد في سورة الحجرات ، حيث يقول تعالى :

(يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَّعْضُكُمْ بَعْضًا). (الحجرات / ١٢)

فهنا إشارة إلى ثلاثة ذنوب كبيرة «سوء الظن» ، «التجسس» و «الغيبة» وكل واحدٍ من هذه الثّلاثة في الواقع مقدّمة للآخر ، فإنّ إساءة الظّن بالأشخاص مقدّمة للتّجسس عليهم ، والتجسس سبب في الإطلاع على العيوب والأخطاء ، فتكون الغيبة ، التي تعتبر من أكبر الذّنوب ، وأساس العداوات والاختلاف وفقدان الثقة.

و «كرامة الإنسان» في الحقيقة ، أهم شيء في كيانه من وجهة نظر الإسلام ، حتّى أنّها أهم من حاله وحياته أيضاً ، وقد ورد في حديث عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«إنّ الدِّرْهَمَ يُصيبُهُ الرَّجُل من الرِّبا أعْظَمُ فِي الخطيئة من سِتٍّ وثلاثين زَنيَةً يزنيها الرَجُلُ ، وأربى الرّبا عِرضُ الرّجل المُسْلِم» (١).

__________________

(١) المحجّة البيضاء ، ج ٥ ، ص ٢٥٣.

٣٢٣

والواقع هو أنّ رأسمال الإنسان في المجتمع هو كرامته ، وكل المسائل الاخرى تابعة لها ، ولا شك في أنّ سوء الظنِّ والتّجسس والغِيبة تعرِّض رأسماله الغالي إلى الخطر ، أو تفنيه.

* * *

ولكن ومع ذلك ، فإنّ هناك بعض الموارد إذا واجهناها بحسن الظن ، ولم يُتَجسَّسْ عليها وتفضح أسرارها ، فإنّها ستشكل خطراً على المجتمع الإسلامي ، سواءً كان هذا الخطر مؤامرة من قبل المنافقين في الدّاخل ، أو مخططات مشئومة من قبل الأعداء من الخارج تنفذ على أيدي عملائهم في الداخل.

فمثل هذه الموارد لابدّ من مواجهتها بريبة واستفهام ، والتّجسس لحفظ الأهداف الأهم ، وهذه هي فلسفة تشكيل الأجهزة الأمنيّة والأمن المضاد ، وهي فلسفة معقولة ومنطقيّة وموافقة للعقل والشّرع ، وإن كان طلّاب الدّنيا والحكومات المستبدة والإستكبارية تسيء استغلال ذلك ، ولكن هذا لا يمنع من بقاء أصل هذا الأمر منطقيّاً ومعقولاً ، فلا يقال ما هي الضرورة لمثل هذه الأعمال؟ فأي قانون مقدس لم يُستغل استغلالاً سلبياً من قبل ضعاف النّفوس؟!

وخلاصة الكلام ، هي أنّ عدم التّجسس على أوضاع الآخرين وحياتهم الخاصة «أصلٌ» لابدّ أن يحفظ ، ولكن التّجسس في موارد معينة «استثناء» ولابدّ أن يُحفظ هو الآخر في حدود وشرائط خاصة باعتباره وظيفة شرعية واجتماعية.

وفي الواقع إنّ هذا الاستثناء يخضع لقانون الأهم والمهم ويخضع للعناوين الثّانوية ، فحفظ كرامة الأفراد مهمٌ جدّاً ، ولكن حفظ وجود المجتمع الإسلامي ونظام الحكم والأمن والإستقرار أهم من ذلك وأوجب ، ولذا ففي مثل هذه الموارد يقدم الثاني على الأول.

وممّا تقدم يتضح أن التّجسس واستقصاء أسرار الآخرين يحتاج إلى مجوّز ودليل كافٍ ، وأمّا التّصرف الشّخصي فغير مجاز.

هذا ما يرتبط بالتّجسس في داخل المجتمع الإسلامي.

٣٢٤

وأمّا في خارج المجتمع الإسلامي ، فالمسألة أوضح ، فإنّ على المسلمين دائماً أنْ يتعرفوا على ما يجري في ظاهر وباطن المجتمعات الأجنبية والذي قد يرتبط بمصير المجتمع الإسلامي ، فعليهم أنّ يحبطوا المؤامرات في مهدها ويخنقوها وهي في مراحلها الاولى ، وبغير ذلك فإنّهم سيطلعون عليها بعد فوات الأوان ، ويكون القضاء عليها صعباً حينئذٍ ، أو يكلف ثمناً باهضاً جدّاً!

وهناك نوع آخر من التّجسس في الحكومة الإسلاميّة (وكل حكومات العالم) وهو التّجسس على أحوال موظفي وكوادر الحكومة الإسلاميّة ومسؤوليها ، ليحصل الإطمئنان بأنّهم يؤدّون وظائفهم بشكل صحيح ، وأنّهم لا يجحفون ولا يتعدّون على حقوق المسلمين ، وأنّهم لا يسيئون استغلال مناصبهم.

وعلى أيّة حال ، فالمستفاد من آيات القرآن هو أنّ مسألة التّجسس كانت موجودة في تلك الأعصار ، وأنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له أجهزة للأمن المضاد لمواجهة عمليات التّجسس لصالح أعداء الإسلام ، وبهذا الطريق كان يحبط مؤامراتهم وتحركاتهم.

وقد حذّر الله عزوجل ، المسلمين وأمرهم بمراقبة تحركات جواسيس المنافقين ، وقال : (لَو خَرَجُوا فِيكُم مازَادُوكُم إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيْكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) (١). (التوبة / ٤٧)

وقد يكون لفظ «سمّاع» بمعنى «الجاسوس» ، أو من يتميز بقوة السمع والإستقبال ، والاحتمال الأوّل أنسب لمورد الآية.

هذا في حين أنّ الله تعالى قبل عدّة آيات يأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ببذل الجهد للتعرف على المنافقين ، ويقول : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعلَم الْكَاذِبِينَ). (التوبة / ٤٣)

* * *

__________________

(١) و «أوضعوا» من مادة «إيضاع» بمعنى السّرعة في الحركة ، فالمراد هنا هو أنّ المنافقين يوجدون الفتنة في قلوب البسطاء من المسلمين والفرقة والنّفاق بسرعة.

٣٢٥

توضيحات

١ ـ قصة تجسس حاطب وسارة

يظهر أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان له جهاز أمني قوي من خلال قصة «حاطب بن أبي بلتعة» التي وقعت قبيل فتح مكة المكرّمة.

وتوضيح ذلك : كان النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يستعد لفتح مكة وكان حريصاً على عدم انتشار أخبار ذلك وإنتقالها إلى أسماع المشركين وكان هناك رجل من المسلمين يقال له «حاطب بن أبي بلتعة» اشترك في غزوة «بدر» و «بيعة الرّضوان» ، وكان يخاف على أهله في مكة من كيد المشركين فوسوس له الشيطان ، فأراد أن يقدم خدمة لهم ليأمن كيدهم على عياله ، فاتفق مع امرأة تدعى «سارة» كانت قد جاءت من مكة إلى المدينة ، وعندما أرادت العودة إلى مكة كتب حاطب كتاباً معها لتوصله إلى أهل مكة يخبرهم بنية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعطاها عشرة دنانير ، وقيل عشرة دراهم ، وكان قد كتب في الكتاب : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أنّ رسول الله يريدكُم فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبرئيل فأخبر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما فعل حاطب ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاً وعماراً وعمر والزّبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد ، وكانوا كلهم فرساناً وقال لهم : إنطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها ، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي ذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا لها : أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، فنحّوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً ، فهموا بالرجوع فقال علي عليه‌السلام : والله ما كذبنا ولا كُذِبنا وسَلَّ سيفه وقال لها : أَخرجي الكتاب وإلّا والله لأَضربنَّ عنقك ، فلما رأت الجدَّ أخرجته من ذوائبها فقد أخبأته في شعرها ، فرجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأرسل إلى حاطب فأتاه ، فقال له : تعرف الكتاب؟ قال : نعم ، قال ما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رسول الله ، والله ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتُك منذ نصحتك ولا أحببتهُم منذ فارقتهم ولكن لم يكن أحدٌ من المهاجرين إلّاوله بمكة من يمنع عشيرته وكنت عزيزاً فيهم ـ أي غريباً ، وكان أهلي بين ظهرانيهم فخشيتُ على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أنّ الله ينزل بهم بأسه وأنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً ، فصدقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعذره ،

٣٢٦

فقام عمر بن الخطاب وقال دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وما يدريك يا عمر لعلَّ الله إطَّلع على أهل بدر فغفر لهم ، فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

فنزلت الآيات الأولى من سورة «الممتحنة» وحذَّرت بشدّة المسلمين من تكرار مثل هذه التّصرفات ، لأنّها تذهب بدنياهم وآخرتهم (١).

ففي هذه القصة ، نجد أنّ هناك تجسساً لصالح الأعداء ، ولكن جهاز الأمن المضاد عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ سواءً كان عن طريق اطلاع جبرئيل الأمين أو أي طريق آخر ـ أحبط مؤامرة العدو ، بنحو لم يصل أي خبر عن تحرك النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومخططه لفتح مكة إلى أسماع قريش وفوجيء مشركو قريش بدخول جيش الإسلام إلى مكّة ، وكان ذلك سبباً في تحرير أقوى قلاع الشرك بلا إراقة دماء ولا حرب ، ولو كانت الجاسوسة قد أوصلت ذلك الكتاب إلى مكّة ، كان يُحتمل أن تراق دماء كثيرة في هذا الطّريق ، وهذا يدل على أهميّة دور الأجهزة الاستخبارية أو الأمن المضاد في تحديد مصير مجتمع وأمّة بكاملها.

* * *

٢ ـ قصة استخبار حُذيفة

نموذج آخر من النشاطات الأمنية في عصر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو قصّة «حذيفة» في حرب الأحزاب.

فقد روي في التواريخ ؛ ذات ليلة من ليالي حرب الأحزاب ، وبعد اختلاف الأحزاب فيما بينهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ـ يشرط له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الرجعة ـ أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنّة؟ قال حذيفة : فما قام رجل من القوم من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني ، فقال : «يا حذيفة إذهب فأوغل في القوم فانظر ماذا

__________________

(١) ذكر أكثر المفسرين هذا المعنى في شأن نزول الآيات الأولى من سورة الممتحنة.

٣٢٧

يصنعون ولا تُحدثَنَّ شيئاً حتى تأتينا».

قال فتهيأت فدخلت في القوم والرّيح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرُّ لهم قِدراً ولا ناراً ولا بناءً ، فقام أبو سفيان فقال : يا معشر قريش لينظر امرؤ مَنْ جليسه؟ قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت : من أنت قال : فلان بن فلان ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنّكم والله ما أقمتم بدار فقام ، لقد هلك الكُراع والخفّ وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نَكره ولقينا من شدة الرّيح ما ترون ما يطمئن لنا قِدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا تحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جَمَله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثبَ به على ثلاث فوالله ما أطلق عقاله إلّاوهو قائم ، ولولا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إليّ «أن لا تحدث شيئاً حتى تأتيني» ولو شئت لقتلته بسهم.

والمستفاد من آيات القرآن ، أن وجود الأجهزة الأمنيّة والتّجسسية كان أمراً رائجاً حتّى في زمن الأنبياء الذين سبقوا نبيّنا محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى استفيد من الطيّور في هذا المجال كما في قصّة سليمان عليه‌السلام والهدهد ، الذي كان يأتي بأخبار البلدان البعيدة إلى سليمان ، ثُمّ يحمل رسالة سليمان ـ التي كانت تبين علاقته بالدّول الاخرى ـ إلى تلك الدّول (١).

* * *

٣ ـ المنظمات الأمنية في الروايات الإسلاميّة

لهذه المسألة في الروايات الإسلاميّة وكتب التاريخ صدىً واسعٌ ، فمن خلال الاطلاع عليها يمكن الوقوف على هذه الحقيقة وهي أنّ الحكومة الإسلاميّة ينبغي أن لا تغفل عن هذه المسألة المهمّة ، وأنّ عليها أن تمارس نشاطاً موسعاً في اتجاهين : أن تطّلع على تحركات العدو العسكريّة والسّياسية والاقتصاديّة التي لها تأثير على مستقبل ومصير المسلمين ، وأن تواجه الفعاليات الجاسوسية ، للعدو الذي يحاول النفوذ واختراق المسلمين للتعرف على أسرارهم وسرقتها.

وسنتعرض هنا إلى بيان نموذج من هذه الرّوايات والوقائع التّاريخية :

__________________

(١) الآية ٢٠ إلى ٢٦ من سورة النّمل (وللتّفصيل راجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية مورد البحث).

٣٢٨

١ ـ ورد في حديث عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام :«كان رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا بعثَ جَيشاً فاتَّهمَ أميراً بَعَثَ مَعَهُ من ثقاتِه مَنْ يتجسس خَبَرَهُ» (١).

فقد يكون ذلك الأمير معتمداً من بعض الجهات ، ولكن خطورة مسؤوليته توجب وجود ناظرٍ ومفتش عليه ، تحسُباً من انحرافه ـ لا سمح الله ـ وارتكابه ما لا يمكن جبرانه من قبل المسلمين.

وهذا الحديث موافق لما ورد في متن الوسائل وقرب الإسناد ، الطّبعة الجديدة (مؤسسة آل البيت) ، ولكن ورد في بعض الكتب كلمة «فأمَّهُمْ» أي ، عيّن لهم أميراً ، بدلاً من «فاتَّهَمَ» ، ولكن تعيين المفتش والجاسوس أنسب بلفظ «فاتَّهَمَ» ، وانتخاب مثل هذا الأمير يكون لتميزه ببعض الميزات المفقودة في غيره ، (التفتوا جيداً).

٢ ـ ورد في حديث آخر حول سَرِّية «عبد الله بن جحش» (والسّرية ، الحرب التي لم يحضر الرسول بنفسه فيها) ، أنّ النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به. فلما سار عبدالله يومين فتح الكتاب فنظر فيه فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامضى حتى تنزل نخلّة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم من أخبارهم (والقصة طويلة وقد جاء في ذيلها أنّه اشتبك معهم وأسر منهم جماعة وغنم غنائم ... (٢).

٣ ـ بعد غزوة بدر (٣) ، لما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى : إنّ موعدكم بدر للعام القابل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل من أصحابه قل : نعم ، هو بيننا وبينكم موعد.

ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله علي بن أبي طالب عليه‌السلام وقال له : أخرج في آثار القوم ، فأنظر ماذا

__________________

(١) وسائل الشّيعة ، ج ١١ ، ص ٤٤.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ٢٥٢ ؛ والكامل ، لابن الأثير ج ٢ ، ص ١١٣.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ١٠٠.

٣٢٩

يصنعون وما يريدون ، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنّهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنّهم يريدون المدينة ، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأُناجزنّهم!

قال عليّ : فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون ، فجنبوا الخيل وامتطوا الأبل وتوجّهوا إلى مكّة.

وكان هذا النّشاط التّجسسي للنّبي على يد أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عملٌ مهمٌ جدّاً ومؤثر في تحديد مصير المسلمين ، وكان ينقذهم من أن يُفاجأوا.

٤ ـ ونقرأ (١) في قصة حرب أُحُد أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أرسل رجلين يتجسسان على أحوال جيش قريش قبل أن يردوا أُحُد ليتعرفوا على عدد قوات العدو وعدتهم ، كما أنّه أرسل «الحباب بن المنذر» سراً ليستطلع أوضاع قريش بعد أن نزلوا أحداً ، وطلب منه أن يأتيه بالخبر سرّاً إذا كان عددهم كبيراً ، وإذا كان قليلاً فلا مانع من أنْ يخبره علناً.

ولمّا كان عدد المشركين كبيراً ، جاء الحباب وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعددهم سرّاً.

٥ ـ وكتب نهج البلاغة ، تبيّن لنا بوضوح أنّ الجهاز الأمني للإمام علي عليه‌السلام كان مطّلعاً على الأمور في كلّ بقاع الدولة الإسلاميّة.

ومن جملة ذلك «عهده لمالك الأشتر» في تعيين المفتشين السّريّين للنّظر في كيفيّة قيام العمّال ـ الولاة بوظائفهم ، يقول عليه‌السلام : «وابعثِ العيونَ من أهل الصّدق والوفاء عليهم فإنَّ تعاهُدَكَ في السّرِّ لأمورهم حَدْوَة لَهُمْ على استعمال الأمانة والرفق بالرعيّة».

وبطبيعة الحال ، فإنّ هذا النّشاط واحد من نشاطات العيون التّجسسية ، وهو أن يتجسسوا على كيفية قيام مأموري وموظفي الدولة الإسلاميّة بوظائفهم.

٦ ـ وفي كتاب آخر له عليه‌السلام إلى واليه على مكة «القُثم بن عباس» وهو أخو عبد الله بن عباس ، يقول فيه : «أمّا بعد ، فإنَّ عَيني بالمغرب (٢) كتب إليّ يُعلِمُني أنَّه وُجِّهَ إلى الموسم

__________________

(١) المغازي للواقدي ، ج ٢ ، ص ٢٠٦ وص ٢٠٧.

(٢) الشام ، وعاصمتها دمشق ، التي تقع إلى الغرب (أو الشّمال الغربي) من الكوفة مركز خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام.

٣٣٠

اناس من أهل الشّام العُمي القلوب الصُمِّ الأسماع الكُمهِ الأبصار الذين يَلبسُونَ الحقَّ بالباطل ويطيعون المخلوق في معصية الخالق .... فَاقِمْ على ما في يَدَيك قيامَ الحازم الصَّليب» (١) ويبدو أنّ معاوية كان قد أعدَّ مخططاً لخداع «القثم بن عباس» ودعوته لخيانة علي عليه‌السلام ، وإيجاد الفوضى في موسم الحج ، فأخبر عيون الإمام عليه‌السلام المخترقين جهاز حكم معاوية ، الإمام عليّاً عليه‌السلام بهذا الخبر بسرعة فأسرع الإمام عليه‌السلام في إحباط تلك المؤامرة.

والكلام هنا في المأمورين السّريّين الذين يخترقون قلب أجهزة العدو وينفذون فيها لنقل المعلومات السرية.

٧ ـ ونقرأ كتاب أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى «عثمان بن حنيف» ، حيث يقول عليه‌السلام : «أمّا بَعدُ يا ابن حنيف فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعَاكَ إلى مأدُبَة فأسْرَعْتَ إليْها تُستطابُ لك الألوانُ وتُنقَلُ إليكَ الجفانُ» (٢).

فمن هذا الكتاب يتضح لنا بأنّ عيون الإمام عليه‌السلام السريّة لم تكن تنقل له المسائل السّياسية والعسكرية فقط ، بل وكذلك المسائل الأخلاقيّة التي لم تكن مناسبة لمقام الولاة وموظفي الحكومة الإسلاميّة وغير المنسجمة مع أُصول التّعاليم الإسلاميّة وخاصّة فيما يرتبط بالزّهد ، وأنّ جزئيات حركاتهم غير خافية على عيون الإمام التّجسسية الفطنة.

وشبيه هذا المعنى نراه في كتابه عليه‌السلام إلى «المنذر بن جارود» واليه على «اصطخر» حيث ورد في هذا الكتاب :

«أمّا بعدُ فإنَّ صلاحَ أبيك غرَّني مِنك ، وظَننتُ إنّك تَتَّبِعُ هَدْيَهُ ، وتَسلُكُ سَبيلَهُ فإذا أنت فيما رُقّيَ إليَّ عَنْكَ لا تَدَعُ لِهَواكَ انْقياداً ولا تبقى لآخرتكَ عِتاداً تعْمُرُ دُنياكَ بِخَرابِ آخرتِكَ وتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعِةِ دِينِكَ» (٣).

والمستفاد من الرّوايات أنّ خيانة إبن الجارود هي أنّه اختلس أربعمائه الف درهم من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٣٣.

(٢) المصدر السابق ، الرسالة ٤٥.

(٣) المصدر السابق ، الرسالة ٧١.

٣٣١

بيت المال ، له ولأقربائه ، فعزله الإمام عليه‌السلام من ولايته وحبسه مدة من الزمن (١).

ونرى هنا أنّ عيون الإمام عليه‌السلام قد نقلوا خيانة هذا الوالي الخفيّة بعد أن كشفوها ، وأنّ الإمام عليه‌السلام أبدى موقفاً شديداً تجاهه.

٨ ـ جاء في تاريخ حياة الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام لمّا بلغ معاوية بن أبي سفيان وفاة أمير المؤمنين عليه‌السلام وبيعة النّاس ابنه الحسن عليه‌السلام دسَّ رجلاً من حِمْيَر إلى الكوفة ، ورجلاً من بني القين إلى البصرة ليكتبا إليه بالأخبار ، ويفسدا على الحسن الأمور ، فعرف ذلك الحسن عليه‌السلام فأمر باستخراج الحميري من عند لجّام بالكوفة ، فأُخرج وأمر بضرب عنقِه ، وكتب إلى البصرة باستخراج القينيِّ من بني سليم فأُخرج وضُربت عُنُقه» (٢) وكتب الحسن عليه‌السلام إلى معاوية : أمّا بعد فإنّك دسست الرّجال للإحتيال والإغتيال وارصدت العيون كأنك تحب اللقاء وما أشكُّ في ذلك فتوقعه إن شاء الله.

٩ ـ بعد حرب صفين أعلن جماعة من «بني ناجية» يتزعمهم «الحريث بن راشد» مخالفتهم للإمام ونقضهم البيعة ، فأرسل الإمام عليّ عليه‌السلام إلى الحريث وطلب منه المثول عنده ليبيّن له السُنَن وأموراً من الحق ، فلم يحضر الحريث وفرَّ برجاله ، وفي الطريق قتلوا رجلاً مسلماً من أتباع الإمام عليه‌السلام ، وتركوا يهودياً واعتبروه من أهل الذمّة ، فكتب الإمام عليه‌السلام كتاباً إلى عمّاله في تلك المناطق ، مضمونه : أنّ قوماً مذنبين هربوا ، ونظن أنّهم قصدوا البصرة ، وكان ممّا جاء في ذلك الكتاب : «واجْعَل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك ثم اكتب إليّ بما ينتهي اليك عَنْهُمْ» (٣).

* * *

من مجموع الروايات الآنفة الذكر ، والرّوايات والتّواريخ الاخرى التي يطول المقام بذكرها ، يتضح جيداً أنّ أجهزة التجسس والتفتيش كانت تعمل دائبة في عصر النّبيّ

__________________

(١) سفينة البحار ، مادة (نذر).

(٢) بحار الأنوار ، ج ٤٤ ، ص ٤٥ ، ح ٥.

(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن ابي الحديد ، ج ٣ ، ص ١٣٠.

٣٣٢

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام سواءً في مجال كشف مؤامرات الأعداء ، أو في إبطال خطط الأجهزة الجاسوسية للمخالفين ، أو في التحقيق في سلوك موظفي الدّولة الإسلاميّة ، وكذلك كشف مؤامرات المنافقين في داخل الدّولة الإسلاميّة.

وبطبيعة الحال ، فإنّ أساليب «التّجسس» و «ضد التّجسس» في زماننا تغيرت كثيراً كغيرها من المسائل عمّا كانت عليه في ذلك الوقت واتسعت وتعقدت كثيراً واستفيد فيها من التّكنولوجيا الحديثة المتطورة بشكل واسع.

ولا شك ، أنّ الحكومة الإسلاميّة في هذا العصر لا يمكنها الإكتفاء بالأساليب القديمة والبدائيّة للوصول إلى أهدافها الأمنية بواسطة الأمن المضاد ، بل لابدّ أن تتجهّزَّ بكلّ الوسائل المتطورة ، لكي تكشف كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم الرامية إلى تضعيف الدولة الإسلامية وقهرها ، كما أنّ عليها أنْ تراقب بدقة تصرفات المسؤولين في الدوّلة الإسلاميّة ، ونشاطات الأحزاب والتجمعات السياسيّة المتواجدة ، لإقرار الأمن والحدِّ من المفاسد والتخريب.

وعلى الحكومة الإسلاميّة أن تستعين بالتّكنولوجيا الحديثة وكلّ أساليب التّجسس ولا تكتفي بالأساليب القديمة.

وعلى الرّغم من أنّ هذا يكلِّفُ الدّولة أموالاً طائلة ، إلّاأنّه قد يكون صرف أموال قليلة في هذا المجال سبباً للحدِّ من ضياع أموالٍ طائلة في المجالات العسكريّة والسياسيّة والإقتصاديّة ، أو تكون سبباً في الوقاية من خسائر كثيرة لا يمكن تعويضها.

فمثلاً لو أنّ أجهزة التّجسس في الدّولة الإسلاميّة ، كشفت عملية تفجير تستهدف زعزعة أمنها ، فإنّها ستمنع من حدوث خسائر فادحة في القوى البشريّة والاقتصاديّة ، والأهم من ذلك أنّها ستكشف مؤامرة الأعداء العسكريّة الخطيرة وتمنع من مضاعفات مثل هذا العمل.

* * *

٣٣٣

٤ ـ إستراق السّمع

لا شك في أنّ مراقبة المكالمات الهاتفية الشّخصية والتّجسس على محتواها للإطلاع على أسرار النّاس ، مصداق من مصاديق الآية الشّريفة في سورة الحجرات الدّالة على حرمة «التّجسس» ، كما أنّ الرّوايات الإسلامية تؤكد هذا المعنى.

فقد ورد في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تتّبعوا عَثَرات المسلمين فإنه من تَتَبّع عثراتِ المسلمين تَتَّبعَ اللهُ عَثْرَتهُ ، ومن تتَّبعَ اللهُ عَثرتَه يَفْضَحُهُ».

والملفت للنظر هو أنّه ذكر المخاطبين في هذا الحديث بقوله : «يا معشرَ من أسْلَمَ بلسانهِ ولم يُسلمْ بِقَلْبِه» (١).

وفي أصول الكافي ، في باب من طلب عثرات المسلمين وعوراتهم ذكرت أحاديث كثيرة أخرى ـ غير الحديث أعلاه ـ.

وحرمة هذا الأمر كانت مسلّمَةً بين المسلمين إلى درجة أنّ عمر بن الخطّاب كان ذاتَ ليلة يتجول في أزقة المدينة ، فسمع رجلاً يُغنّي في داره ، فتسلق عمر حائط الدّار وصاح بالرّجل يا عدوّ الله أتعصي الله هنا وتظن أنّ الله لن يفضحك؟!

فقال الرجل : مهلاً أيّها الخليفة ، فإن كنتُ قد ارتكبتُ ذنباً واحداً فإنّك قد ارتكبت ثلاثة ذنوب ، فإن الله عزوجل يقول (وَلَا تَجَسَّسُوا) وأنت تتجسس ، وإن الله عزوجل يقول (وَأتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا) (البقرة / ١٨٩) وأنت سطوت من على الجدران ، وإنّ الله عزوجل يقول : (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) (النور / ٢٧) ولم تفعل أنت ذلك!

فاستحى عمر وقال : لو عفوتُ عنك فهل تترك اقتراف هذا الذنب؟

قال الرجل : نعم ، فعفى عنه عمر وخرج (٢).

وعلى أيّة حال ، فلا شبهة في أنّ استراق السّمع ، بمعنى مراقبة مكالمات النّاس ، العادية منها أو الهاتفية ، وحتّى التّجسس على الرّسائل والمكاتبات الخاصّة ، كل ذلك من مصاديق التّجسس الواضحة الحرمة.

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٣٥٥ ، ح ٤.

(٢) كنز العمّال ، ج ٣ ، ص ٨٠٨ ، ح ٨٨٢٧.

٣٣٤

ولكن ، قد تقتضي الضرورات أحياناً ، أن ترتكب الحكومة الإسلاميّة مثل هذا الفعل في بعض الموارد ، وهو مورد احتمال وجود مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين ، واحتمال وجود خطر على الأنفس والأموال المحترمة ، ففي مثل هذه الموارد لا مفرَّ من استراق السمع والتفتيش في الأعمال ، بالضّبط كما يتمّ ذلك في التّفتيش عن المواد المخدرّة وأمثال ذلك في الطرق العامة ووسائل النّقل أو تفتيش الأشخاص في مداخل المدن!

والواقع أنّ هذه المسألة فرع من فروع مسألة تزاحم الواجبات أو تزاحم الواجب والحرام ، ولابدّ من مراعاة «المرجحات» ومسألة «الأهم والمهم».

وبتعبير أوضح ، التّجسس على أفعال المسلمين حرام ولكن حفظ نفوس أفراد المجتمع ، ونظام الدّولة الإسلاميّة ، وإحباط مؤامرات الأعداء ، أهم من ذلك ، وعليه ففي كلّ مورد يخاف فيه من تعرّض مثل هذه الأمور للخطر ، يجوز استراق السّمع للحدِّ من وقوع تلك المخاطر.

* * *

٥ ـ التعذيب الجسدي لأخذ الإعترافات!

لاشكَّ في أنّ إيذاء أي إنسان بلا مبرر غير جائز ، وقلنا في الأبحاث السابقة أيضاً : إنّه لا يجوز تعذيب أحدٍ لأخذ الإعترافات منه ، وأنّ كل إقرار مأخوذ بهذا الأسلوب غير معتبر شرعاً وليس له أيّة قيمة قانونية.

ففي حديث عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه‌السلام قال : «مَنْ أقرَّ عِنْدَ تجريدٍ أو تخويف أو حَبسٍ أو تهديد فلا حدَّ عَلَيْه» (١).

ولكن إذا كان المتهم قد ارتكب جرماً بيّناً غير ذلك الجرم الذي لم يثبت عليه ، جاز تعزيره لأجله ، كما لو ألقي القبض على سارق في أثناء اقتحامه منزل أحد الناس ولم تثبت سرقته ، فلو عزّر لاقتحامه المنزل واعترف أثناء التّعزير بالسّرقة ظناً منه أنّ هذا التّعزير

__________________

(١) وسائل الشّيعة ، ج ١٨ ، ح ٢ ، الباب السابع من أبواب حدِّ السرقة.

٣٣٥

تعذيب لأخذ الإقرار ، وثبت بالقرائن صدق اعترافه هذا (كما لو دلَّ على مواضع إخفاء تلك المسروقات وتبين صحة ذلك) ، أمكن الأخذ بهذا الإقرار واعتباره شرعيّاً ، وذلك لأنّ القرائن القطعيّة هي التي تثبت صحة هذا الإقرار.

كما يمكن اتباع هذا الأسلوب في خصوص الجواسيس الأجانب حتى لو لم يرتكبوا مخالفة قطعيّة ، وكان الحاكم الشرعي يعتقد يقيناً أو ظناً قوياً بأنّ هذا الجاسوس يحمل معلومات سريّة خطيرة تهدد مصير الدّولة الإسلاميّة والمسلمين بالخطر ، فإنه في مثل هذه الحالة يمكن تعذيب هذا الجاسوس والتّضييق عليه بشرط مراعاة التّعامل الإنساني.

وقد مرَّ بنا في قصة «حاطب بن أبي بلتعة» ، عندما امتنعت «سارة» تلك الجاسوسة ، عن الإعتراف وتسليم الكتاب الذي كتبه حاطب لأهل مكة ، سلّ علي عليه‌السلام سيفه وهدّدها بالقتل ، فخافت «سارة» فأخرجت الكتاب من شعرها وسلمته للإمام عليه‌السلام. فهذا الإقرار كان مقروناً بالتّعذيب الرّوحي ومع ذلك حكم بصحته.

فمن الواضح أنّ مثل هذه الضّغوط في مثل هذه الموارد ، «ليست أمراً مخالفاً للعقل ولا للشّرع» ، لأنّ أهميّة المسألة تكون إلى درجة يجوز معها مثل هذا التّعذيب ، ففي تلك الحادثة ، لو أن خبر عزم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله على فتح مكة ، كان قد وصل إلى أسماع قريش ، لأريقت دماء كثيرة في ذلك البلد الآمن مع أنّ نتيجة الحرب كانت واحدة.

وفي قصة قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام نجد موارد كثيرة مارس الإمام عليه‌السلام فيها التّعذيب النفسي ضد المجرمين وخاصّة في القضايا المهمّة التي كانوا يرفضون الإعتراف والإقرار فيها ، فكان الإمام يمارس مثل ما مرَّ ذكره من الأساليب للحصول على إقرارهم ، فمثلاً جاء في قضيته : أنّ رجلين تداعيا عنده ، وكان كل منهما يدعي أنّه السيّد وأنّ الآخر غلامه ، فقال الإمام عليه‌السلام لقنبر : يا قنبر علي بسيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأجل أن أضرب رقبة العبد (بعد أن أدخل رأسيهما في ثقبين أعدّهما خصّيصاً لهذا الأمر) ، قال : فأخرج الغلام رأسه مبادراً ، فقال عليّ عليه‌السلام للغلام : ألست تزعم أنّك لست بعبد ، ومكث الآخر في الثقب ، قال : بلى إنّه ضربني وتعدّى علي (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، أبواب كيفية الحكم ، باب ٢١ ، ح ٤ ، ص ٢٠٨.

٣٣٦

فلا شك في أنّ هذا التهديد كان مؤذياً للغلام الواقعي ولكن هذا المقدار جائز للكشف عن واقع حقٍّ مهم ففي موارد التجسس يكون الأمر كذلك ، بل هو أعلى وأولى.

وبتعبير آخر ، فإنّ قانون «الأهم والمهم» و «تزاحم الواجبات والمحرمات» يُجيز مثل هذا التعذيب في مثل هذه الموارد.

ولكن ، ينبغي أن لا يُستغل هذا القانون بهذه الذّريعة ويُعذَّب المتهمّون تعذيباً شديداً لا يطاق أو يطبق هذا القانون والإستثناء لأدنى سوءِ ظنٍ بالأشخاص.

وينبغي أن لا ننسى أنّ هذا مجرد استثناء ، ولا يجوز الاستفادة من مثل هذه الأساليب إلّا في موارد الضّرورة مع رعاية الحقوق الإنسانيّة كمّاً وكيفاً.

* * *

ومن هنا تتضح لنا مسألة أخرى وهي أنّ بعض المأمورين لجمع المعلومات والأسرار يضطرون ـ ولكسب الأخبار الحسّاسة والمصيرية ـ أن يتزيّوا بزي الأعداء ويتقمصوا شخصيات أفراد العدو في الملبس والمأكل كي يتمكنوا من اختراق العدو ، وفي مثل هذه الحالات قد يضطرون إلى ارتكاب بعض الذّنوب كأكل الحرام أو الحديث ضدّ الإسلام والمقدّسات الإسلاميّة لتحقيق أغراضهم ، فالحكم هنا مشمول لقاعدة «تزاحم الواجب والحرام» و «الأهم والمهم» ، فمتى ما كان الهدف أعلى وأهم من الذّنب ، كان ارتكاب ذلك الذّنب جائزاً ، لتحقيق الهدف.

* * *

سؤال : هل الغاية تبرر الوسيلة؟

قد يقال ، إنّ ما ذكرنا من استثناءات أليس تعبيراً آخر عن ما هو معروف عند بعض زعماء المدارس الإلحادية المادية من أنّ : «الغايات تبرر الوسائل»؟

والجواب :

وفي الإجابة عن هذا السّؤال ، لابدّ من الإلتفات إلى نكتة واحدة وهي أن هؤلاء الذين يقولون بهذه المقالة لم يحددوا قيداً ولا شرطاً لها ، أي إنّهم يقولون : للوصول إلى الأهداف

٣٣٧

(بلا استثناء) يمكن التّوسل بأيّة وسيلة (بلا استثناء) ، ولذا فإنّهم يوجهون الحروب المدمِّرة الدامية من أجل الحفاظ على مصالحهم الإقتصاديّة ، فيذهب آلآف النّاس ضحيّة من أجل عدم تضرر مصالحهم بأقل ضرر.

أمّا أتباع الأديان السّماويّة ، فهم ينكرون هذه العمومية في الشّقين معاً ، أي أنّه لا يكفي كل هدفٍ لتبرير وتجويز الوسيلة ، كما أنّه ليست كل وسيلة مجازة وإن كان الهدف سامياً ، فالحاكم هنا هو قانون «الأهم والمهم» ، تلك الأهميّة المقررة عقلاً وشرعاً ، لا كلّ أهميّة وإن كانت مصلحة شخصيّة ، وهوى وهوَساً شيطانيّاً.

فقانون الأهم والمهم ليس أمراً يمكن إنكاره ـ فمثلاً يجوز ضرب وجه من استعمل الترياق ويريد النّوم ـ ذلك النّوم الذي يؤدّي بحياته ـ بعدة صفعات على خدّه ليفيق من نومه من أجل إنقاذه من الموت ، وأكبر من ذلك يمكن أخذ الضّرائب المالية من النّاس من أجل إعداد القوة المناسبة لحفظهم من أخطار الأعداء وغزوهم ، أو حبس كلّ أفراد المجتمع في منازلهم لعدة أيّام ، لتلقيحهم بلقاح ينقذهم من وباءٍ خطير يهدد حياتهم جميعاً.

هذا ما يقوله أتباع مدرسة الأنبياء عليهم‌السلام ، بينما نجد أنّ أتباع المدارس الماديّة الإلحادية لا يشترطون أي شرط لتطبيق قاعدتهم ، فيجيزون كل وسيلة للوصول إلى أي هدف من أهدافهم.

وبهذا ينتهي الجزء العاشر من نفحات القرآن والذي تناول البحث حول الحكومة والولاية ، وبهذا تنتهي الدورة الكاملة في المعارف والعقائد الإسلاميّة من وجهة نظر القرآن الكريم وعلى أساس التّفسير الموضوعي في عشرة أجزاء. نشكر الله ونحمده على هذا التّوفيق الذي شملنا لأداء هذا الأمر المهم.

إلهنا : تقبل منا جميعاً هذا المجهود المتواضع واجعله ذخراً لنا في يوم الجزاء ، ووفق كلّ من يود الإطلاع على المعارف والعقائد الإسلاميّة من وجهة نظر القرآن الكريم ، للإطّلاع عليه.

تمّ في آخر شهر صفر يوم ذكرى استشهاد

الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام

سنة ١٤١٦ ه‍ ق

٣٣٨

الفهرس

العلاقة بين الإمامة والحكومة.................................................... ٥

ضرورة إقامة الحكومة في المجتمع البشري....................................... ٩

ضرورة الحكومة في الروايات الإسلامية........................................... ١٥

ضرورة الحكومة في التصور العقلي.............................................. ١٧

أهداف الحكومة الإسلامية.................................................... ٢٣

أنواع الحكومات............................................................. ٢٧

١ ـ الحكومات الاستبداية..................................................... ٢٧

٢ ـ الحكومة الديمقراطية....................................................... ٢٨

٣ ـ الحكومة الإلهيّة........................................................... ٢٩

دراسة نقد لأنواع الحكومات................................................... ٣٣

الحكومة تنصيب أم انتخاب................................................... ٣٥

حقيقة الحكومة الإسلامية..................................................... ٣٩

الولاية الخيرية والإنشائية...................................................... ٤٢

الحكومة والوكالة............................................................. ٤٣

العلاقة بين الدين والحكومة من وجهة........................................... ٤٥

٣٣٩

نظر القرآن الکریم............................................................ ٤٥

فریقان لا یروق لهما تشکیل الحکومة الإسلامية.................................. ٥١

الطائفة الأولى............................................................... ٥٢

والطائفة الثانية............................................................... ٥٤

والطائفة الثالثة............................................................... ٥٤

نقد وتحليل.................................................................. ٥٦

أركان الحكومة الإسلامية....................................................... ٦٣

أركان الحكومة الإسلامية...................................................... ٦٥

المقدّمة..................................................................... ٦٥

الركن الأول: السلطة التشريعية................................................. ٦٩

جمع الآیات وتفسيرها........................................................ ٧١

هل يمتلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله...................................................... ٧٩

والمعصومون حق التشريع...................................................... ٧٩

مجلس الشورى وانتخاب النواب................................................ ٨٧

أهميّة وضرورة المشورة.......................................................... ٨٧

أهميّة الشورى في الأحاديث الإسلامية.......................................... ٨٩

صفات المستشارين........................................................... ٩١

كيفية انطباق مجالس الشورى مع موازين......................................... ٩٥

المشورة الإسلامية............................................................ ٩٥

المسؤولية الرئيسية لمجلس التشريع الإسلامي...................................... ٩٨

٣٤٠