نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

ونفس الحالة ستتواجد في آخر الزمان على ما ذُكِرَ ، إذ لا يمكن نشر التوحيد والعدل إلّا بتشكيل الحكومة ، حكومة المهدي (عج) العالمية ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإنّ الأحكام الإسلامية لا تنحصر في إطار (العبادات) وحسب ، بل إنّ لدينا احكاماً جمّة تهتم بالشؤون السياسية والاجتماعية للمسلمين ، كأحكام الحدود والديّات والخُمس والزكاة والانفال وما شاكل.

فهل يمكن جمع حقوق مستحقي الزكاة وأخذها من الأغنياء دون وجود حكومة؟ أو هل يمكن تنفيذ كافة الامور القضائية في الإسلام؟ كيف يمكننا ضمان إجراء الحدود والحدّ من أعمال المفسدين؟ وإذا تعرّض البلد المسلم إلى الهجوم والعدوان ، كيف يمكن بدون وجود الحكومة تعبئة الجيوش المجربّة وتهيئة الأسلحة المختلفة للدفاع عن حياض الإسلام ودرء الخطر الخارجي؟

وخلاصة الكلام : إنّه من غير تشكيل حكومة عادلة وشعبية على أساس العقائد الدينية ، فإنّ القسم الأعظم من الأحكام الإسلامية ستظلّ معطّلة ، لأنّه لا يمكن بدون مساندة ووجود الحكومة إجراء الأقسام الثلاثة الرئيسية في الدين الإسلامي ، (السياسيّات) وهو برنامج الحكومة وعمودها الفقري ، و (المعاملات) التي لا تستقرّ إلّابوجود الحكومة ، وحتى (العبادات) كالحج وصلوة الجمعة والجماعة ، كل ذلك لا يمكن أن يتبلور ويتألق إلّافي ظل حكومة الله العادلة.

* * *

٢١
٢٢

أهداف الحكومة الإسلاميّة

بناءً على ماورد في البحث المتقدّم حول ضرورة وجود الحكومة اتضحت أيضاً أهداف الحكومة الإسلامية بشكل اجمالي ، ولمزيد من التوضيح نشير ادناه إلى بعض الآيات الشريفة :

١ ـ نقرأ في قوله تعالى : (الَّذِينَ انْ مَّكَّنَّاهُم فِى الأَرضِ اقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ). (الحجّ / ٤١)

انَّ تعبير (مَكَّنَّاهُم فِى الأَرضِ) يُشير إلى القدرة المعطاة للمؤمنين في الأرض ، لكن هذا التعبير نفسه قد استُخْدِمَ مراراً في القرآن الكريم معبّراً عن قدرة الحكم ، كما نطالع في آيتين من سورة يوسف : (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الأَرضِ). (يوسف / ٥٦)

وفيما يخصّ ذا القرنين تقول الآية : (انَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأَرضِ وَآتَينَاهُ مِن كُلِّ شَىءٍ سَبَباً). (الكهف / ٨٤)

وطبقاً لما تعنيه الآية الشريفة الاولى فإنّ المعنى يكون هكذا : إنَّ أولياء الله إن اعطُوا زمام الامور والحكم فإنّهم سيقيمون الصلوة ، وهي من جهة ، مظهر في مظاهر التقرّب والوصول إلى الله تعالى ، ومن جهة اخرى ، فإنّهم سيعبّدون الطريق المؤدي إلى العدالة الاجتماعية ، وأبرز مظاهر هذا الطريق أداء الزكاة ، بالاضافة إلى ذلك فإنّهم سيعملون على اشاعة الفضائل الإنسانية والقضاء على المنكرات بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع بأبعادهِ المختلفة.

على هذا ، فلو افترضنا أنّ كلمة (مكنّا) تعني أيَّ نوع من القدرة سيتمّ معنى الآية ضمن

٢٣

التعبير الذي قلناه سابقاً ، ذلك أنّ الحكومة هي أبرز انموذجٍ للقدرة.

وقد ذكر العلّامة الطباطبائي في ذيل هذه الآية

فهل يمكن الوصول إلى هذه القدرة من دون استلام الحكم (١)؟

وقد ورد هذا المعنى في تفسير القرطبي بشكل أوضح حيث يفسّر جملة (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ) بالامراء وأصحاب الحكومة (٢).

وطبيعي أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكور في هذه الآية وكما ورد ذلك في مختلف البحوث الفقهية ، يلزم لتنفيذه مراحل عِدّة ، واحدى هذه المراحل يختصّ بالحكومة وتشكيلها.

٢ ـ ورد في القرآن الكريم ما يتعلّق بحكومة الصالحين حيث تقول الآية : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِى الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُم دِيِنَهُمُ الَّذِى ارتَضَى لَهُم وَلَيُبدِّ لَنَّهُم مِّن بَعدِ خَوفِهِم أمناً يَعبُدُونَنِى لَا يُشرِكُونَ بِى شَيئاً). (النور / ٥٥)

وفي هذه الآية وبعد أن وعد الله المؤمنين الصالحين باستخلافهم وتسليمهم مقاليد الحكم ، عقَّب قوله ببعض العبارات وهي في الواقع أهداف هذه الحكومة ، أوّلها : التمكين والقدرة للدين الإلهي وتحكّمه على المجتمع ، والاخرى : إزالة حالة اللاأمن وتبديله إلى الأمن والاستقرار الاجتماعي الكامل والعبادات الخالية من كل أنواع الشّرك ، وعلى هذا فإنَّ أهداف الحكومة طبقاً لذلك هي كما يلي :

١ ـ سيادة الدّين والقوانين الإلهيّة على كلّ المجتمع.

٢ ـ نشر الأمن والاستقرار الكاملين في كلّ مكان.

٣ ـ إخلاص العبادة لله وحده وإزالة كلّ آثار الشرك والوثنية.

والواقع أنّ الهدف الأصلي لكلّ ذلك هو كمال الإنسان والسيّر نحو الله سبحانه ، وأنّ الأمن والاستقرار وتحكيم القوانين الإلهيّة إنّما هي مقدمة للوصول إلى ذلك.

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٤ ، ص ٣٨٦.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٤٤٦٥.

٢٤

٣ ـ ونقرأ خطاب الله لنبيّه داود عليه‌السلام : (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُم بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ). (ص / ٢٦)

وتبيّن هذه الآية بوضوح النتيجة المرجوّة للخلافة والحكومة في الارض وهي احقاق الحقوق ، أو ما يُعَرفُ بالحدّ من الاعتداء والتعدّي على حقوق الآخرين وأخذ حق الضعفاء والمحرومين من الأقوياء والمترفين.

وبديهيٌّ أنّ هدف حكومة النبي داود عليه‌السلام وأنبياء بني اسرائيل الآخرين لم يكن هذا فحسب ، بل إنّه أحد الأهداف لايّة حكومة في ايّ مكان وزمان.

وصحيحٌ أنّ عبارة (الحكم) الواردة في القرآن الكريم تعني أغلبها (القضاء) ولكن وبعد ملاحظة أنّ الشطر الأول من الآية يتحدّث عن الخلافة في الأرض ، يتّضح أنّ أيّ نوع من الحكم بالعدل مشمول في مضمون الآية ككل ، مضافاً إلى ذلك فانَّ القضاء هو شأن آخر من شؤون الحكومة ، وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في سورة النساء حيث يقول تعالى : (انَّ اللهَ يَأْمُرُكُم ان تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمَتُم بَينَ النَّاسِ انْ تَحكُمُوا بِالعَدلِ). (النساء / ٥٨)

ولقد ورد في روايات كثيرة في تفسير هذه الآية صراحة أنّ المقصود من هذه الامانة هو مقام الولاية والتي يُؤدّيها كلُّ إمام إلى الإمام الذي يليه ، وإن كان المعنى العام لها يشمل باقي أنواع الأمانات كذلك ، (١) وبالأخص ما ورد في بعض الروايات من أنّ المخاطب في الآية هم الحكّام والامراء ، (٢) ويدلّ ذلك على أنّ المراد بالحكومة العادلة في الآية المذكورة ليس القضاء فحسب ، بل يشمل كلّ نوع من أنواع الحكم العادل.

٤ ـ إنّ جميع الآيات والرّوايات التي تذكر هدف بعثة الأنبياء على أنّه تعليم وتربية وتزكية النفوس واقامة القسط بين الناس ورفع الأغلال وتحطيم القيود ، فإنّها في الواقع تبيّن أهداف تشكيل الحكومات الإلهيّة ، لأنَّ هذه الحكومات هي مقدمة ووسيلة لضمان أهداف

__________________

(١) تفسير نورالثقلين ، ج ١ ، ص ٤٩٥ و ٤٩٦ ؛ تفسير العيّاشي ، ج ١ ، ص ٢٤٩ ؛ بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ٢٧٤ فمافوق.

(٢) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٣٨٠ (أنّه خاطب بها الحكام).

٢٥

بعثة الأنبياء ، وعلى هذا يمكن تلخيص أهداف الحكومات الإلهيّة بالنقاط التالية :

١ ـ تعليم وتربية أفراد المجتمع في المجالات العلمية والأخلاقية.

٢ ـ ضمان الحرّيات الإنسانية ، ورفض كل أنواع العبودية واستعمار الإنسان لأخيه الإنسان سواءً في المجالات الفكرية أو السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية.

٣ ـ إقامة العدل والحقّ وضمان العدالة الاجتماعية في كلّ الطبقات الاجتماعية.

٤ ـ استتباب الأمن الاجتماعي بوصفه مقدمة للوصول إلى الأهداف الأخرى.

٥ ـ تركيز المباديء الخاصة بالعبودية لله والسّير إليه تعالى والكمال الإنساني والوصول إلى منزلة القُرب من الله والتي هي غاية الغايات ومنتهى الرّغبات.

ونختم هذا البحث بكلامٍ لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام والذي ورد في أوّل عهده إلى مالك الأشتر ، حيث يرسم له بوضوح أهداف الحكومة الإسلامية اذ يقول : (هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبدُ اللهِ عَلِىٌّ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ ، مَالِكَ بنَ الحَارِثِ الاشْتَرَ فِي عَهدِهِ إِلَيهِ حِينَ وَلَاه مِصْرَ ، جِبَايَةَ خَرَاجِهَا ، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا وَاستِصلَاحَ اهلِهَا وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا) (١).

وهكذا فإنّ عمارة البلاد واستصلاح أهلها وجهاد عدّوها وتعزيز بيت المال كلّ ذلك يعني دعامة لانجاز تلك الامور ، وهي أهداف هذه الحكومة ، ولكن كما أشرنا سابقاً فإنّ هذه الأهداف هي بمثابة اسس المرحلة الاولى ، أمّا الأهداف النهائية والاصلية فهي التعليم والتربية وتهذيب النفوس والسير إلى الله سبحانه.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٢٦

أنواع الحكومات

لقد كانت للحكومات على مدى التاريخ أشكال متباينة ، وربّما كانت تلك الأشكال بعدد أنواع حكومات العالم ، ولكن يمكن تقسيم اصولها إلى ثلاثة أنواع :

١ ـ الحكومات الاستبدادية

وهي الحكومات المتشكلة على أساس الحكم الفردي أو حكم جماعة معينة حيث تدور حول محور المصلحة الفردية أو مصلحة تلك الجماعة ، وطبيعي أن تخدم تلك الحكومة منافع ومصالح تلك الفئة فقط ، ونتيجتها ستكون استعباد المجتمع وانتشار البؤس والحرمان فيه ، هذا وقد قام حكّام وسلاطين من هذا القبيل على طول التاريخ بارتكاب أفضع الجنايات وذلك لحفظ مصالحهم الشخصية ، وقد تعدّوا كلّ الحدود المعروفة ، بل لقد سفكوا دماء إخوتهم وبنيهم عند احساسهم بالخطر منهم على مناصبهم.

وفي هذا النوع من الحكومات لا تؤخذ آراء الشعب بنظر الاعتبار بل ولا يُقام لها أي وزن على الاطلاق وكلّ شيء يدور حول محور الظلّم والجبروت ، وتنقسم هذه الحكومات إلى أنواع اخرى ، منها الحكومة الفردية الاستبدادية (المستبدة) ، والحكومة الحزبية المستبدة حيث يسيطر فيها الحزب ذو الأقلية على الأكثرية المطلقة وذلك باستخدام اسلوب القوة ، ثم تفرض على تلك الأكثرية آراؤها وايديو لوجيتها وهو ما كان يشيعه الماركسيّون حيث كانوا يسمّونها بالدكتاتورية البروليتارية (المقصود بالبروليتارية (الطبقة المُنتجة) والبعض منهم الذي ثبت ولاؤه وإخلاصه للماركسيين ، فتُسَجَّلُ أسماؤهم في

٢٧

الحزب الشيوعي حيث كانوا يشكّلون مجموعة صغيرة في مقابل الجموع الغفيرة للشعب ويتحكمون بمصير الشعب بأكمله ، ولم يكن الحزب الشيوعي حزباً ممثلاً لمختلف قطاعات الشعب ، ولا يهتم بالانتخابات الحرة ، ولم يكن بمقدور أيِّ كان الانتماء إليه ، بل ولم تكن في أفكاره أيُّ نوع من الديمقراطية.

٢ ـ الحكومة الديمقراطية

وهي أفضل وأكمل حكومة معروفة في عالمنا الحاضر.

والأساس في حكومة من هذا القبيل هو أنَّ جميع الناس في أيّة فئة كانوا أو طبقة يمكنهم ـ وبحريّة تامة ـ الذهاب إلى صناديق الاقتراع والادلاء بآرائهم حول من يريدون انتخابه من الممثلين وتسليمهم زمام أمور الشعب لفترة معينة تحت ضوابط خاصة وشروط معينة ، فيضع الممثلون للشعب بعد ذلك وبحرية واستقلالية كاملتين على الأرجح كل القوانين الضرورية ، ثم يشكلّون هيئة بواسطة هؤلاء الممثلين تارةً أو بصورة مباشرة من قبل الشعب تارةً اخرى باسم مجلس الوزراء أو رئيس الجمهورية ، ويطلق ـ كما أشرنا ـ على هذا النوع من الحكومة بالحكومة الديمقراطية (أي حكومة الشعب أو حكومة الشعب على الشعب).

وتنقسم هذه الحكومة بدورها إلى قسمين : النوع الأول وهو الحكومة التي لها صفة شعبية واقعاً ، وهي نادرة الوجود سواءً في الماضي أو حتى في الحاضر وربّما لم تظهر ملامحها في الخارج بعد.

والنوع الآخر هي حكومة شعبية الظاهر والمظهر لكنها ليست كذلك في الواقع ، فحقيقتها (استبدادية) وظاهرها (ديمقراطية)!

وهذا التفاوت الموجود بين الظاهر والواقع ينقسم كذلك إلى صنفين ، فإمّا ان يتدّخل فرد أو أفراد مصَلحيون في نمط الانتخابات وبصورة علنية مرسلين أفراد الشعب إلى صناديق الاقتراع عنوةً ، أو أنّهم يعملون على ملء صناديق الاقتراع بأوراق انتخابية مزيّفة

٢٨

حتى يتمّ لهم انتخاب الأفراد الذين يرغبون في فوزهم في هذه الانتخابات والخروج بأصوات انتخابية أكثر ، وقد تأخذ هذه العملية ، أي عملية تدخّل أولئك الأفراد طابعاً آخر هو طابع التدخّل الخفيّ وقد يكون غير محسوس ، فيبدو للبعض من أصحاب العقول الساذجة وذوي النيّة الحسنة أنّ هذه الانتخابات إنّما جرت بحرية كاملة تماماً ، بينما يختلف الواقع عمّا يَرَوْنَهُ ، إذ يسيطر ذوو الإمكانات والنفوذ على وسائل الاعلام ويروّجون عن طريقها ، لمن يريدون مستفيدين من أساليب علم النّفس بحيث يتصوّر النّاس أنَّ هؤلاء المرشحين عبارة عن علماء مدبّرين وكأنّهم ملائكة منزلين ، لكنهم في الواقع عملاء يخدمون تلك الطبقة الثريّة وذات السلطة القويّة وكل المصلحيين والوصوليين.

والحقّ أنّ الحكومة في مثل هذه المجتمعات والتي نجدها بكثرة في اروبا وعلى الأخص في أمريكا ، هي حكومة مستبدة وظالمة إلّاأنّها ترتدي زيّ الحكومة الديمقراطية والشعبية.

٣ ـ الحكومة الإلهيّة

وهي الحكومة التي لا تعتمد لا على الإرادة الفردية ولا على الأكثرية الساحقة من الشعب ، بل تنبثق طبقاً لإرادة الله ، ولا شك أنّ إرادة البارىء عزوجل لا تقتضي سوى ضمان المصالح الواقعية لعباده ليس إلّا ، ويمكن مشاهدة مثل تلك الحكومة من خلال حكومة الأنبياء وأوصيائهم الحقيقيّين وأولئك الذين يسيرون على خطاهم وينتهجون منهجهم ، ومثل هذه الحكومة يندر وجودها في العالم.

* * *

لقد ذكر القرآن الكريم نماذج للانواع الثلاثة لهذه الحكومات :

١ ـ أشار القرآن الكريم إلى حكومة فرعون باعتبارها حكومة مستبدة وفردية حيث يقول : (انَّ فِرعَونَ عَلَا فِى الأَرضِ وجَعَلَ أَهلَهَا شِيعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَسْتَحِيى نِسَاءَهُم انَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ). (القصص / ٤)

كان فرعون يعتبر كل أرض مصر ملكاً شخصياً له وكل ما فيها من أنهار ومياه هي له

٢٩

أيضاً. وكان يقول : (يَا قَومِ الَيْسَ لِى مُلكُ مِصرَ وَهَذِهِ الأَنهَارُ تَجرِى مِن تَحتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ). (الزخرف / ٥١)

إنّه لم يقنع بحكومته المستبدة على الشعب فحَسب ، بل كان يتوقع أن يعبده الجميع ولا يعبدون غيره! ولذا قال لموسى عليه‌السلام : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ). (الشعراء / ٢٩)

وحتّى أنّه كان يتصوّر ان من يُريد الاعتقاد والإيمان بشخص يدّعي النبوّة بعد ما رأى معجزاته لا يمكن أن يفعل ذلك إلّابعد موافقته وإذنه! ولذلك نرى أنّه وبّخَ السحرة الذين آمنوا بموسى عليه‌السلام بعد مشاهدة أدلّته ومعجزاته حيث قال : (قَالَ فِرعَونُ آمَنتُم بِهِ قَبلَ ان آذَنَ لَكُم). (الاعراف / ١٢٣)

ونرى انموذجاً آخر لحكومة مستبدة اخرى ألا وهي حكومة «نمرود» والذي صَرَّحَ مخاطباً إبراهيم عليه‌السلام : «أنا أحيي وأميت» ولكنه واجه بعد ذلك استدلال إبراهيم عليه‌السلام الدامغ عندما قال له : (فَإِنَّ الله يَأْتِى بِالشَّمسِ مِنَ المَشرِقِ فَأتِ بِهَا مِنَ المَغرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَر). (البقرة / ٢٥٨)

والحقيقة أنّ الناس جميعاً وحتى السلاطين المستبدين أنفسهم كانوا يعلمون بهذه الحقيقة وهي أنّ الملوك مفسدون في الأرض ومخلّون بأنظمة المجتمع الإنساني ، ولذا نقرأ في القرآن الكريم أنّه عندما وصلت رسالة سليمان عليه‌السلام إلى بلقيس ملكة سبأ ، وبدأت تحقيقاتها حول سليمان لتبَيّن فيما إذا كان ملكاً مستبداً أو نبيّاً مُرسلاً ، فأرسلت إليه الهدايا ، وقالت معبّرةً عن قلقها : (انَّ المُلُوكَ اذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهلِهَآ اذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ). (النّمل / ٣٤)

فقد كان الملوك يضطهدون ويعذّبون مخالفيهم بأبشع الصور بل حتى يدفنوهم أحياءً ، وقد ورد ذلك في سورة البروج التي تتحدّث بعض آياتها عن أصحاب الاخدود (إذ يذكر التاريخ أنّ الملك «ذو نواس» أصْدر أمراً بحفر خندق ووضع كمية كبيرة من الحطب فيه وأشعل ناراً عظيمة ثم قذف ببعض المسلمين الذين فضّلوا البقاء على دينهم وسط تلك

٣٠

النيران ولم يرحم منهم لا شيخاً ولا طفلاً رضيعاً) ، وما كان ذنبهم إلّاأن آمنوا بالله العزيز القّهار : (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُم الّا انْ يُؤمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ). (البروج / ٨)

ويضمّ التاريخ بين صفحاته الكثير من هذه الوقائع التي مارستها الحكومات المستبدة والتي كانت تُعامل شعوبها كالعبيد ، بل أدنى من ذلك أيضاً ، وقد أشار القرآن في عدّة مواطن إلى مثل تلك الحكومات ، ولذلك كان أحد أهم الأهداف لثورات الأنبياء عليهم‌السلام محاربة الاستبداد وإنقاذ الشعوب من براثن المستبدّين.

٢ ـ ونرى كذلك بعض الآيات القرآنية الشريفة التي تشير إلى حكومة الشورى ، أو كما هو المصطلح عليه بحكومة الشعب للشعب ، وإن لم يكن هذا المصطلح واضحاً كما عليه اليوم.

نطالع في قوله تعالى وفيما يخصّ قصة (سليمان عليه‌السلام) مع (بلقيس ـ ملكة سبأ) : لما وصلت رسالة سليمان إلى بلقيس جمعت الأخيرة مستشاريها وبدأت معهم بالتحدث عن مضمون تلك الرسالة قائلة : (يَا أَيّها الْمَلَوُاْ أفتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ). (النحل / ٣٢)

ومن المتيقّن أنّه لم تكن في ذلك الزمان انتخابات ولا آراء شعبية ، لكن مع وجود مثل هذه الحالة عند الملكة وهي الالتزام بالشورى في سير الأمور والبتّ فيها فذلك يدّل على وجود حكومة الشورى نوعاً ما.

إضافة إلى ذلك فإنّ مسألة الشورى هي احدى المسائل التي تتضمنها البرامج الإسلامية وتؤكد عليها في الامور الاجتماعية والحكومية عامة ، وكما يذكر القرآن الكريم واصفاً المؤمنين الحقيقيين بقوله : (وَأَمْرُهُم شُورَى بَيْنَهُم). (الشورى / ٣٨)

بل حتى أنّه أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالمشورة مع المؤمنين حيث يقول القرآن مخاطباً الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَشَاوِرهُم فِى الأَمرِ). (آل عمران / ١٥٩)

ومع أنّ حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت من نوع الحكومات الإلهيّة ، إلّاأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يُؤمر بمشاورة الناس لتبقى حكومته ذات صبغة شعبية.

٣١

٣ ـ وأمّا ما يتعلّق بالحكومات الإلهيّة فقد وردت آيات قرآنية كثيرة تبحث ذلك ، يقول القرآن الكريم عن لسان داود : (قَالَ رَبِّ اغفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكاً لَّايَنبَغِى لِأَحَدِ مِّن بَعدِى إِنّكَ أَنْتَ الوَهّابُ). (ص / ٣٥)

ونتبيّن من الآيات التي تلت هذه الآية أنّ دُعاء سليمان عليه‌السلام كان قد استُجيبَ ووهبه الله حكومة لم يسبق لها مثيل ، فقد كانت الرِيح تجري بأمره ، وسخَّرَ الله له الشياطين والعفاريت ، وكان يستفيد حتى من الطيور في إنجاز بعض أعماله.

ويقول القرآن الكريم متحدثاً عن آل إبراهيم : (فَقَد آتَينَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَينَاهُم مُّلكاً عَظِيماً). (النساء / ٥٤)

وتشمل كلمة (آل إبراهيم) : بني اسرائيل ويوسف وداود وسليمان وغيرهم).

ويذكر القرآن الكريم (طالوت) ، أحد ملوك بني اسرائيل المعروفين وعلى لسان نبيّ ذلك الزمان (شموئيل) قائلاً : (وَقَالَ لَهُم نَبيُّهُم إِنَّ اللهَ قَد بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلَكاً). (البقرة / ٢٤٧)

ويُقصَدُ بذلك أنّ هذه الهبة قد وهبها الله سبحانه لطالوت.

ولكن بني اسرائيل الذين لم يكونوا على علم واطّلاع كاملين بأمور الحكومة الإلهيّة ، عارضوا هذا الانتخاب واعتبروا أنفسهم أفضل منه لاستلام ذلك المنصب لأنّ طالوت كان رجلاً قروياً ، فلم يكن صاحب مال ولا عشيرة معروفة ، لكن نبيّهم رفع تلك الشبهة بقوله : (إِنَّ اللهَ اصطَفَاهُ عَلَيْكُم وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى العِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤتِى مُلكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). (البقرة / ٢٤٧)

وقد اشير في سورة النساء إشارة واضحة إلى حكومة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله بقوله : (أَم يَحسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ فَقَد آتَينَا آلَ إِبرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَآتَينَاهُم مُّلكاً عَظِيماً). (النساء / ٥٤)

كانت تلك لمحة حول بعض أنواع الحكومات المذكورة في القرآن الكريم ، والآن نبدأ بنقد ودراسة كل نوع من تلك الحكومات الثلاث :

* * *

٣٢

دراسة ونقد لأنواع الحكومات

لا يخفى على أي شخص ما تستبطنه الحكومات المستبدة والدكتاتورية في ثناياها من مفاسد ، وما أصاب المجتمعات من ويلات ومصائب مدمرة على مر التّاريخ ، من قتل الأبرياء وتعذيبهم ، والحروب المدمّرة والاستيلاء على الأموال ، واستعباد المحرومين والضعفاء ، وانتشار التعصّب والتمييز العنصري والظلّم ، وصرف أموال المجتمع على التّرف والبذخ ، كلّ ذلك من آثار تسلط الحكومات المستبدة ، وقد ذكر القرآن الكريم وصفاً حقّاً لذلك حيث قال : (انَّ المُلُوكَ اذَا دَخَلُوا قَريَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا اعِزَّةَ أَهلِها اذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفعَلُونَ). (النمل / ٣٤)

ولا فرق بين أن يكون الاستبداد فردياً أو جماعياً ، بل إنّ آثار الاستبداد الجماعي أكثر سوءاً من الاستبداد الفردي ، وأوضح مثال على هذا النوع من الاستبداد هو الحزب الشيوعي في روسية والذي كان السبب في جرّ أنواع المصائب والفجائع التي لا ميثل لها في التاريخ.

إنَّ الحكومات المستبدة والتي تتظاهر بزيّ الحكومات الشعبية والديمقراطية لا تقلّ سوءاً عن الحكومات المستبدة المطلقة ، بل إنّها أسوء بكثير من جهات شتى ، ذلك لأنّ الشعب حسّاسٌ دائماً تجاه استبداد الدكتاتوريين ويتحين الفرص للانتفاض ضدهم والتخلّص منهم ، أمّا في حالة الحكومة المستبدة المتلبسة بلباس الديمقراطية ـ كما هو الحال في كثير من الحكومات الغربية التي تستلم السلطة بصرف مبالغ طائلة على الاعلام والصحف بالإستعانه بالرأسماليين ـ فلا تبيّن شيئاً يمكّن الناس من معارضتهم والثورة ضدهم في الفرصة المناسبة.

٣٣

وأمّا الحكومة الديمقراطية الواقعية والّتي تمثل أكثرية الشعب (إذا وجدت حكومة كهذة في العالم) فهي كذلك ، حيث تنطوي على مساوىء كثيرة ، بل وحتى تمارس الظلم والاعتداء ، وذلك لأمور منها :

أولاً : إنّ الكثير من النّاس في أغلب الدول التي تكون حكوماتها واقعاً أو ظاهراً من هذا النوع ، لا يشاركون بصورة عملية في الانتخابات فيها ، إذ ربّما شارك ستون أو سبعون في المئة بل وأقل من ذلك أيضاً ؛ ومع ذلك فاننا نرى ان نتائجها تشير إلى أنّ المرشّح الفلاني قد حاز على أكثرية الأصوات ، إنّها لم تكن أكثرية في المجتمع. (مثلاً نسبة ٣١ خ مقابل ٢٩ خ من مجموع ٦٠ خ من الأفراد المشتركين في تلك الانتخابات).

وفي هذه الحالة ، توجد مصاديق عديدة فإنّ الأقلية من الناس تتسلّم مقاليد الامور ، بينما ترضخ الأكثرية تحت حكمهم وسيطرتهم ، وبديهيّ أن ينظّموا كل القوانين حسب أهوائهم ومصالحهم ، وهذا هو الظلم الفاحش بعينه.

ثانياً : لو فرضنا أن جميع أفراد الشعب الذين لهم حقّ المشاركة في الانتخابات قد اشتركوا فيها (طبعاً إنّ مثل هذه الفرضية لم تحدث أبداً) فيمكن أيضاً فوز البعض بأكثرية قليلة وضئيلة (كأن يكون ٥١ خ في مقابل ٤٩ خ أو أكثر أو أقل).

وهذا أيضاً أحد أنواع (استبداد الأكثرية) ضد الأقلية ، ففي دولة يبلغ عدد سكانها ١٠٠ مليون نسمة مثلاً تخضع فيه ٤٩ ميلون نسمة لسلطة ٥١ مليون شخص ، فكلّ شيء في المجتمع يسير وِفقاً لمصلحة الأكثريّة وقد يكون بضرر الأقليّة ، ولهذا فقد أذعن كثير من المفكرين إلى أنّ حكومة الأكثرية هي نوع من الحكومة الظالمة الّتي لابدّ منها ، لأنّه لا حيلة لهم ولا بديل سواها.

ثالثاً : وبعيداً عن ذلك وعلى فرض أنّ الحكومة الديمقراطية لا تنطوي على أيّ من الإشكالين المذكورين فإنّها حكومة تتبعُ رغبات الأكثرية من الشعب ، ونحن نعلم أنّه يحدث أحياناً أن ينحرف أكثرية الشعب نتيجة للمستوى العلمي والثقافي المتدنّي ، أو في هذه الحالة يتحتَّم على العلماء والمتقفين النهوض ومحاربة هذه الآفة الخطيرة ، بينما لا نرى

٣٤

في هذه الموارد معارضة ولا محاربة في الأنظمة الديمقراطية ، بل نرى العكس ، حيث أخذت هذه الانحرافات شكلاً قانونياً واجيزت من قبل المشرّعين هناك ، فمثلاً أصبح الزواج من الجنس المماثل في انجلترا وأمريكا مجازاً من قِبلِ القانون ، وكذلك الحال مع مسألة سقط الجنين أو الإجهاض ، ذلك أنّ الممثلين في هذه الدوّل يعبّرون عن رغبات الشعب لا رعاية مصالحه.

ومن هنا نجد أنّنا بحاجة إلى البحث عن النوع الثالث من الحكومة ، ألا وهي حكومة الصالحين ، الحكومة التي اقترحها الأنبياء عليهم‌السلام ، وحتّى لو كانت هناك انتخابات فإنّها تجري على أساس انتخاب الأصلح وقت رعاية الإمام العادل.

ففي هذا النوع من الحكومة لا نجد الآفات الثلاث التي وجدناها في الحكومات الديمقراطية ، فلا مجال للرأسمالية ولا للاستبداد حيث يسيطر بواسطتها نصف المجتمع على النصف الآخر ، ولا مكان للرغبات المنحرفة في المجتمع.

وعلى هذا ، فإنّ الحكومة الوحيدة التي يمكن قبولها تماماً هي حكومة الله ، وحكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وأولئك الذين يمتلكون الشروط الخاصّة لخلافتهم ، وطبيعي أن لا نرى الدنيا في حالة من العدالة والصلاح والسعادة التامة إلّافي ظل الحكومة الإلهيّة.

الحكومة تنصيب أم انتخاب :

الجواب عن هذا السؤال يختلف باختلاف وجهات النظر فالذين لاينتمون إلى دين معين ، أو ينتمون إلى دين ، لكن انتمائهم محدود بالامور والمسائل الشخصية وليس له أي نفوذ في الامور الاجتماعية ، مثل «الكثير من المسيحيين» فإنّ جوابهم عن هذا السؤال واضح.

فهم يقولون : إنَّ أفضل أشكال الحكومات هي التي تكون منبثقة عن الشعب ، ولأنّ اتفاق الآراء غير ممكن غالباً ، فلذلك يجب انتخاب الحكّام عن طريق الأكثرية.

٣٥

ولكن ما هو جدير بالذكر أنّ الموالين لهذه الفكرة يؤيدون الحكومات التي تصل إلى دفّة الحكم عن طريق الانقلابات واستخدام القوة من قِبلَ العسكريين ويقيمون معها نفس العلاقات التي يقيمونها مع الحكومات الشعبية ، ولا يهمّهم كيف وصلت هذه الحكومة إلى سدة الحكم! المهم هي على كرسي الحكم وتستطيع تثبيت حكمها وسيادتها.

ولهذا السبب نراهم يتريثون قليلاً حينما يقع انقلاب عسكري في أي بقعة من بقاع العالم ليروا هل ينتصر ويستلم مقاليد الحكم؟ فاذا انتصر وثبّت دعائم حكمه ووطّد أركانه فعندئذ تتبارى الحكومات المادية للإعتراف به.

والاعجب من ذلك أنّ جميع فقهاء المذاهب الأربعة من السنّة ، حسب قول مؤلف كتاب (الفقه الإسلامي وادلّته) يتفقون على أنّ الإمامة والحكومة يمكن حيازتهما بالقوّة والغلبة ، وكلّ من يصل إلى الحكم بالقوّة! دون الحاجة إلى بيعة الناس أو خلافة امام ومجيء خليفة من بعده (١). وقد ورد هذا المعنى بصراحة أكثر على لسان الفقيه السنّي المعروف «أحمد بن حنبل» ، حيث لا يعتبر الإمامة مشروطة بالعدل ولا بالعلم ولا الفضيلة ، وينقل حديثاً يتضمن معناه أنّ كلّ من تغلّب على الحكم بالسيف فهو خليفة وأمير للمؤمنين ولا يجوز لأحد انكار إمامة ذلك الغالب سواء كان بارّاً أم فاجراً (٢).

وورد نظير هذا المعنى في كتاب (منهاج السنن) (٣).

وربّما خطر على بال البعض ان القول بهذا المعنى لا يصدر إلّامن أولئك الذين لا يؤمنون بأي اله أو دين ، ولكن لماذايصدر هذا القول وتلك الفتوى ممّن يدّعي الإيمان والإسلام ويتمسّك بالقيم الخاصة للحكومة كالإيمان والعدالة؟

ولكننا وبعد فهمنا لهذه الحقيقة وهي أنّهم كانوا غالباً بصدد تبرير موقف الخلفاء من بني امية وبني العباس ومسايرتهم ، حينئذٍ لا يعترينا العَجَب من اعترافهم بالحكومات الظالمة والفاجرة التي وصلت إلى سدّة الحكم بالقوة والبطش.

__________________

(١) الفقه الإسلامي وأدلّته ، ج ٦ ، ص ٦٨٢.

(٢) الأحكام السلطانية ، ص ٢٠.

(٣) كتاب المنهاج السنّة كتاب البغاة ، ص ٥١٨.

٣٦

على أيّة حال ، فإننا وكلّما نظرنا بمنظار القرآن الكريم إلى هذه المسألة يتّضح لنا بجلاء أنّ الحكومة هي من حقّ الذات المقدّسة للخالق ثم لمن يراه عزوجل صالحاً لذلك.

فقد ذكر القرآن الكريم هذه الآية في أكثر من مكان : (إِنِ الحُكْمُ إِلَّا للهِ). (الانعام / ٥٧) (يوسف / ٤٠ ـ ٦٧)

ونرى نفس هذا المضمون في آيات اخرى.

إنَّ كلمة «حُكم» تتضمّن معنىً واسعاً حيث تشمل (الحكومة) و (القضاء) كذلك.

والواقع أن توحيد الخلقة ملازمٌ لتوحيد الحكم ، بمعنى أننا عندما نُسَلِّم أنّ العالَم بأجمعه مخلوق من مخلوقات الله سبحانه ، علينا أن نقبل أنَّه ملكٌ تامٌ له أيضاً ، وطبيعي أن يكون الحكم المطلق لهذا العالم بيد الله كذلك ، لذا وجب أن نسير حسب أوامره ، واعتبار من يجلس على كرسي الحكم دون اذنه وأمره متعدياً وغاصباً.

هذه الفكرة النابعة من (التوحيد الافعالي للخالق) (توحيد المالكية والحكم) ، معروفة كاملاً للموحدين كما أنّ عقائد المذاهب الالحادية معروفة للجميع ، (تأمل جيداً).

ولهذا السبب فإننا نعتبر الأنبياء حكّاماً حقيقيين من قبل الله ، ولهذا السبب أيضاً بدأ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتشكيل الحكومة في أول فرصة سنحت له ، أي عند هجرته إلى المدينة حيث كان الوقت مناسباً لذلك.

وبعد ذلك فالحكومة من حقّ الذين عُينّوا من قِبَلهِ بواسطة أو بدونها.

وهناك روايات كثيرة تحدد الأمراء والأئمّة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بإثنى عشر إماماً وقد أوردنا المصادر لذلك في المجلد التاسع من نفحات القرآن بأن هذا الحقّ من نصيب الأئمّة الاثني عشر من آل البيت عليهم‌السلام ، (إذ لم يظهر أيّ تفسير مقبول لتلك الرّوايات غيره).

وعلى هذا الأساس ، فإنّ الأشخاص الذين لهم حق الخلافة والحكومة في زمن غيبة الإمام المهدي (عج) هم الذين ينصّبهم الإمام بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

ويتبيّن لنا ممّا قيل أعلاه أنّ الحكومة من وجهة نظر المسلم الموحِّد يجب تعيينها من قبل الله تعالى ، بل وحتى تلك الحقوق التي نقر بها للشعب فهي أيضاً تتعين من قبله تعالى ،

٣٧

ولا يتمكن الموحِّد ابداً ان يجعل إرادة الخلق اساساً للحكومة دون أن تنتهي إلى إرادة الخالق. (تأمل جيداً).

وما كتبه بعض المغفلين من أنّ : «هناك حقيقة يدركها الجميع وهي أنّ كل من حاز على أكثرية الأصوات وأيده الشعب فهو الحاكم لأنّ القوّة الحقيقية للمجتمع هو الشعب ... الشعب هو الذي يمنح الولاية لشخص ويجسّد حاكميته على الآخرين» لا يتلاءم مع النظرة التوحيدية.

نحن نقول : إنّ النظرة التوحيدية هي عكس هذا الأمر ، أي : إنّه الله تعالى هو الذي يمنح الولاية لشخص ما ويجسِّد حاكميته على الآخرين ، ولو كان للشعب حق في هذا المجال فهو أيضاً من الله تعالى.

زبدة الكلام هي أنّ الحكومة وحسب النظرة التوحيدية تكون من السماء ، بينما حسب الأفكار الالحادية فهي من الأرض!.

* * *

٣٨

حقيقة الحكومة الإسلامية

البحث حول حقيقة الحكومة الإسلامية مع الاخذ بنظر الاعتبار ما تقدم من كلام في البحث السابق ليس بتلك الصعوبة ، لان حق الحكومة هو اولاً وبالذات من شأنه سبحانه ، وذلك بعد قبول التوحيد في الحاكمية الذي يعد من فروع التوحيد الافعالي ، وفي المرتبة الثّانية من شأن كل من يعيِّنُه لذلك. وعلى هذا ، فالحكومة الإسلامية ليست حكومة دكتاتورية استبدادية ، ولا حكومة ديمقراطية ، بل نمط من الحكومة الأفضل ، اي الحكومة الإلهيّة.

لكن هذا لا يعني أنّ أصل (الشورى) ، والاهتمام بآراء الشعب ليس له دور في الحكومة الإسلامية ، وأنّه لا يعتد به لا من قريب ولا من بعيد.

لأنّ «مالك الملوك» و «أحكم الحاكمين» حينما يأمر بالشورى والاصغاء إلى آراء الشعب ، تكتسب هذه الامور شرعيتها ، ونعلم بوجود الأمر الصريح بالشورى في آيتين من القرآن الكريم.

ففي الآية ٣٨ من سورة الشورى التي سميت بهذا الاسم لأجل نفس هذه الآية ، ذكرت سبع خصال جلية للمؤمنين المتوكلين على الله تعالى ، أحداهما ، المشورة في الامور المهمّة ، يقول تعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُم)!.

وذهبت الآية ١٥٩ من سورة آل عمران ابعد من ذلك إذ أوصت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث توصيات فيما يتعلق بالمؤمنين ، احداهما مشاورتهم في الامور الحساسة ، يقول تعالى : (وَشَاوِرْهُم فِى الأَمْر).

٣٩

وبناءً على هذا ، فاحترام آراء الناس يكتسب مشروعيته من أمره تعالى. هذا من جهة ومن جهة اخرى ، فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفاؤه المعصومون ، وكذلك العلماء الذين يكتسبون مشروعيتهم بالواسطة من قبله سبحانه باعتبارهم من مصاديق «الولي الفقيه» ملزمون برعاية مصالح الناس في كل مكان وزمان ، أي الاهتمام بغبطة العامّة كما يصطلح عليه ، ومن البديهي أنّ مصلحة الناس تستلزم اسهامهم في أمر الحكومة نوعاً ما والاصغاء لآرائهم ، وبهذا يكتسب الاهتمام بآرائهم صبغة إلهيّة.

وبعبارة اخرى ، فالحكومة الإلهيّة إنّما تبدو منسجمة حينما تتمتع بقدرة تنفيذية عالية ، ولا سبيل إلى هذه القدرة إلّابمشاركة الشعب في أمر الحكومة ، وبما أنّ تنفيذ الأحكام الإلهيّة واجب ، فيكون اسهام الشعب في أمر الحكومة مقدّمة لذلك الواجب ، ومقدّمة الواجب واجبة.

وخلاصة الكلام : ، إنّ جوهر الحكومة الإسلامية هو الحكومة الإلهيّة ، لكن هذه الحكومة تنبع في خاتمة المطاف من الحكومة الشعبية ، فتعيين الأنبياء والأئمّة وخلفائهم يشكل جوهر الحكومة الإلهيّة ، والتزام هؤلاء بمسألة الشورى واحترام آراء الشعب الذي يكون بأمر الله تعالى أيضاً ، يشكل الصبغة الشعبية لها.

فالذين يتصورون أنّ الحكومة الإسلامية متكئة على آراء الشعب مائة بالمائة ، ويهملون عنصرها الإلهي ، يذهبون شططاً ، كما أنّ الذين يولون اهتمامهم للجانب الإلهي ويغضون الطرف عن جانب الشورى وآراء الشعب مخطئون أيضاً.

وسنتناول في الأبحاث القادمة (في بحث البيعة والشورى) هذا الأمر بتفصيل أكثر.

وعلى أيّة حال ، فكيف يمكن تجاهل هذه الحقيقة ، وهي أنّ مشاركة الشعب في أمر الحكومة تضيف قدرة ومنعة للحكام ، كما أنّهم أعجز ما يكونون عند غياب مشاركة الشعب ، كما يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة الشقشقية :

«أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرءَ النَّسَمَةَ لَولَا حُضُورُ الحَاضِرِ وَقِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ إلَّايُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلا سَغَبِ مَظلُومٍ ، لَأَلقَيتُ حَبلَهَا عَلَى غَارِبِهَا» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

٤٠