نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

سبباً في زعزعة صمود المسلمين في الحرب ، وأنّ الإنشغال بنقل الأسرى إلى الخطوط الخلفية يشغل المقاتلين عن أهدافهم الأساسية.

وتعبير «شُدّوا الوَثاق» إشارة إلى ضرورة إحكام قيد الأسرى والتّدقيق في حبسهم ، كي لا يهربوا من الأسر ، فينقلبوا إلى مقاتلين ضد المسلمين.

ثُمّ تبين الآية حكم الأسرى وتقول : (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).

فهنا تخيِّر المسلمين بين أمرين ، إطلاق الأسرى بلا مقابل ، أو مقابل الفدية (ويراد بالفدية «الغرامة» التي يتحملها العدو في أزاء إطلاق سراح أسراه ، وهي في الواقع جزءٌ من الخسائر التي تسبب بها في عدوانه).

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ فقهاء الإسلام وتبعاً للرّوايات ، ذكروا طريقاً ثالثاً في المسألة وهي استرقاق الأسرى ، ولكن لم ترد إشارة إلى ذلك في الآية الشّريفة على الرّغم من مسألة استرقاق الأسرى كانت أمراً عادياً في ذلك الزّمان ، وقد يكون ذلك باعتبار أن «الإسترقاق» ـ وكما ذكرنا ذلك مفصلاً في محله ـ كان حكماً مقطعياً متناسباً مع شرائط خاصة ، وكان نظر الإسلام هو أن يتمّ تحرير هؤلاء العبيد تدريجياً حتّى لا يبقى شيء بإسم الإسترقاق ، ولهذا فإنّ الآية إشارة فقط إلى الطريقين الأولين أي الإطلاق بلا مقابل أو في مقابل الفدية (وتبادل الأسرى بين الطرفين نوعٌ من أخذ الغرامة في مقابل إطلاق سراح الأسرى).

كما أنّهم ذكروا طريقاً رابعاً في الكتب الفقهية للأسرى (وهو قتل الأسرى) ولم تذكره الآية أيضاً ، وذلك لأنّ قتل الأسير ليس حكماً أساسياً في الأسرى ، بل هو استثناء يتمّ إجراؤه في خصوص الأسرى من ذوي الخطر ومجرمي الحرب لا في كل أسير (١).

وممّا ذكرنا يتضح أنّ حكم الآية ليس منسوخاً ، ولا دليل على نسخة ، وعدم ذكر بعض أحكام الأسرى فيها ، له دليل وجيه.

* * *

__________________

(١) وللفخر الرازي في تفسير هذه الآية وعدم ذكر القتل والإسترقاق ، رأي يشابه ما ذكرناه أعلاه (تفسير الكبير ، ج ٢٨ ، ص ٤٤).

٣٠١

وفي الآية الثّانية إشارة إلى كيفية أسر الأسرى ، تقول : (مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الارْضِ).

وتعبير «يُثْخِنَ فِى الارْضِ» وكما أشرنا سابقاً لا يعني المبالغة في إراقة الدّماء والإكثار من القتل ، بل ومن خلال جملة «فِي الارْضِ» يتضح أنّ المراد هو تحكيم المواقع على أرض المعركة والتّفوق على العدو ، والسّيطرة على المنطقة ، وحتّى لو فرضنا أنّ معناها هو إراقة الدّماء فإنّما هو من أجل كسر شوكة العدو والغلبة عليه.

وفي الواقع فإنّ هذا التّعبير شبيه جدّاً بما جاء في ذيل الآية حيث يقول تعالى : (حَتَّى تَضَعَ الْحَربُ أَوْزَارَهَا) وهذا خير شاهد على تفسيرنا.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنَّ هذا تحذير للمسلمين من أخذ الأسرى قبل تحقيق الأهداف المرسومة ، بسبب أنّ بعض المسلمين الذين أسلموا حديثاً ، كان هدفهم الأساسي هو أخذ الأسرى ، ليحصلوا على مبلغ أكبر من المال عند الفداء ، وكان ذلك يؤدّي إلى تماهل هؤلاء في أداء مسؤولياتهم الخطيرة في الحرب وعدم اكتراثهم بالأخطار المحتملة ضد المسلمين ، وانشغالهم بالأمور الثّانوية ، فيتعرض جندُ الإسلام إلى ضربة ماحقة ، كما حدث ذلك في معركة أُحد وانشغال بعض المسلمين في جمع الغنائم.

ولذا يقول تعالى في ذيل الآية : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

ثُمّ إنّ المستفاد من الآية هو أن أخذ الأسرى لم يكن في عصر نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط ، بل كان ذلك أمراً جارياً في عصور الأنبياء السّابقين أيضاً ، غاية الأمر أنّ هذه الآية تؤكد على أنّ أخذ الأسرى ينبغي أنّ لا يكون لأجل الربح المادي ، فكم من مورد تقتضي فيه مصلحة المسلمين أنْ يطلق المسلمون سراح أسرى العدو بدون أخذ الفدية منهم.

والملفت للنظر هنا هو أنّ القرآن الكريم يُحذِّر في الآية اللاحقة أولئك الذين يضحّون بالمصلحة العامة وأهداف الحرب المهمّة من أجل مصالحهم الشّخصية الماديّة ، فيعّرضون مصلحة المجتمع للخطر ، تقول الآية : (لَّولَا كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ) (وهو أنّه لا يعذب أمة بلا

٣٠٢

حجة) (لَمَسَّكُمْ فِيَما أخَذْتُم) (الأسرى الذين أخذتموهم لأغراض دنيوية) (عَذابٌ عَظِيمٌ). (الانفال / ٦٨)

ومن مجموع هذه العبارات ، يستفاد بوضوح أنّ أخذ الأسرى لابدّ أنْ يتمّ أولاً بعد السّيطرة الكاملة على العدو (ولو في موقع معين من ميدان القتال) ، وثانياً إنّ أخذ الأسرى يجب أنْ لا يكون لأغراض مادية أي لأخذ الفدية مقابل إطلاق سراحهم فيما بعد ، إذ في كثير من الأحيان تستوجب المصالح الإنسانيّة ومصلحة المسلمين أن يتمّ إطلاق سراح هؤلاء الأسرى بلا مقابل ، وفي مثل هذه الظروف يصعب على المسلمين الذين أسّروا هؤلاء الأسرى لأغراض مادية إطلاق سراحهم والإمتثال للحكم الإلهيّ.

* * *

وفي الآية الثّالثة ، نجد حديث عن مسألة الرفق بالاسرى بما يَدّلُّ على احترام الإسلام لَهُم ولأحاسيسهم ، تقول الآية : (يَا ايُّهَا النَّبىُّ قُلْ لِّمَنْ فِى ايْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا اخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وكلمة «خيراً» في الجملة الأولى إشارة إلى الإيمان والإسلام وإتّباع الحقّ ، والمراد من «خيراً» في الجملة الثّانية هو الثّواب الإلهي الماديّ والمعنوي الذي يحصل عليه هؤلاء في ظلّ الإيمان بالله ، وهذا أفضل بكثير من المبالغ التي دفعوها بعنوان الفدية أو الّتي خسروها في ساحة الحرب.

وجملة «إنْ يَعْلَمِ اللهُ» وكما ذكرنا ذلك مِراراً ، بمعنى التّحقق ـ المعلوم ـ إذ إنّ علم الله شمل كلّ شيء من الأزل ، ولا يحدث شيءٌ في علمه أو يزيد أو ينقص ، إلّاالمعلومات التي تتحقق على أثر مرور الزّمن مثل وجود نيّة أوْ اعتقاد في قلب الأسير.

ومضافاً إلى هذا الثّواب ، فإن لطفاً إلهياً آخر يشملهم وهو غفران ذنوبهم ، والذي يُشغل بالهم لا محالة بعد إيمانهم ويُعذب روحهم ، فالمغفرة الإلهيّة تسكين لهم.

كان هذا تفسيراً مختصراً للآيات القرآنيّة الواردة في الأسرى ، واستنتاجاتها.

* * *

٣٠٣

الأسرى في الرّوايات :

وردت روايات عديدة عن الأئمّة الأطهار عليه‌السلام في التّعامل العطوف مع أسرى الحرب ، ورعاية الأخلاق الإنسانيّة معهم ، وهذه الرّوايات تبيّن عظمة التّعاليم الإسلاميّة في هذا المجال.

١ ـ ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بعدما ضربه إبن ملجم (لعنه الله) ثمّ قبض عليه ، قال الإمام عليه‌السلام لولده الحسن عليه‌السلام : «إحبسوا هذا الأسير ، وأطعِمُوه واسْقوه وأحسنُوا أسارَهُ» (١).

٢ ـ وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام قال : «إطعام الأسير والإحسانُ إليه حق واجبٌ وإن قَتْلَتُهُ من الغَدِ!» (أي وإن كان محكوماً بالإعدام غداً كإبن ملجم) (٢).

وهذا الحكم شامل لجميع الأسرى ويعمّ المسلم والكافر ، ولذا نجد في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه‌السلام ما يدلّ صراحة على هذا الحكم ، يقول عليه‌السلام : «إطعامُ الأسِير حقّ على من أسَرَهُ وإنْ كان يراد من الغدِ قتلُهُ فإنّهُ ينبغي أنْ يُطعم ويُسقى ويُرفَقَ به كافراً كان أو غَيْرَهُ» (٣).

وهناك روايات اخرى في قصّة أسر ابن ملجم قاتل الإمام عليّ عليه‌السلام تحكي جميعاً عن غاية لطف الإمام عليّ عليه‌السلام بالإسرى (سواءً كانوا أسرى حرب أو غير حرب).

ومن جملة ذلك ما ورد عن الإمام عليّ عليه‌السلام عندما كان راقداً في فراش الشّهادة يوصي ولده الحسن عليه‌السلام بمداراة أسيره والتّرحُم عليه والإحسان إليه ، ثُمّ يغمى على الإمام عليه‌السلام ، وعندما يفيق يأتيه ولده الحسن بقدح من لبن فيشرب الإمام عليه‌السلام منه قليلاً ثُمّ ينحيه عن فيه ويأمرهم أن يَسقُوا ابن ملجم ، ويضيف قائلاً : «وحقّي عليكَ يا بُنّي إلّاما طَيّبتُمْ مطعَمَهُ ومَشْرَبَهُ وارْفِقوا بِه إلى حينِ موتي وتُطعمهُ ممّا تأكُلُ وتسقيه ممّا تَشربُ» (٤).

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) وسائل الشّيعة ، ج ١١ ، ص ٦٩.

(٣) المصدر السابق ، ص ٦٨.

(٤) مستدرك الوسائل ، ج ٣ ، ص ٢٥٨ ، ح ٤.

٣٠٤

وهنا نكتة مهمّة اخرى وهي أنّ إطلاق سراح الأسرى مقابل فدية لابدّ أن يتناسب مع مكنتهم ، كما راعى ذلك النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أسرى بدر ، بل ويجوز إطلاق سراحهم في قبال عملٍ ثقافي يقدمونه كما ذكر المؤرخون ، واعتبروا ذلك خطوة تاريخيّة مهمّة بعد معركة بدر الكبرى من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهي إطلاق سراح كل أسير من المشركين في قبال تعليم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة (١) في حين دفع البعض الآخر من الأسرى أربعة آلاف درهم فدية لحريته ، أمّا الفُقراء والمعدمين فقد أطلق سراحهم بلا مقابل.

* * *

__________________

(١) سيرة الحلبي ، ج ٢ ، ص ١٩٣.

٣٠٥
٣٠٦

علاقة المسلمين بغير المسلمين ، الأقليات الدّينيّة

والحكومة الإسلاميّة

تمهيد :

من المسائل الّتي تثار ضدّ الحكومة الإسلاميّة ويُطبَّلُ ويزمَّرُ لها من قِبل الأعداء هي مسألة كيفيّة تعامل الحكومة الإسلاميّة مع الإقليات الدّينيّة غير المسلمة ، ولكن ليس هذا بسبب وجود تعقيد في المسألة ، بل من أجل أمرين هما :

الأول : عدم اطلاع الكثير من النّاس على قوانين وتعاليم الإسلام في هذه القضيّة ، والوقوع في شباك التّعصبات الجافة.

الثاني : وسائل اعلام العدو المضللة وسعي الأعداء لابعاد أتباعهم عن الشّريعة الإسلاميّة ، لأنهّم يعلمون جيداً أنّ جاذبية التّعاليم الإسلاميّة قويّة إلى درجة أنّها تؤثر على أتباع الأديان الاخرى بمجرّد تفهمها ، ولذا يقول هؤلاء لأتباعهم : إنّ الإسلام يتعامل بخشونة مع أتباع الأديان الأُخرى ، فابتعدوا عن المسلمين!!

في حين أنّ الإسلام يتعامل تعاملاً أخوياً مع أتباع المذاهب الاخرى ، ويدعوهم دائماً للعيش بسلام جنباً إلى جنب ، وتفصيل الكلام في ذلك سيتضح في الأبحاث القادمة.

وبعد هذه الإشارة ، نرجع إلى القرآن الكريم ونتعمق في دراسة الآيات القرآنيّة ثُمّ الرّوايات الواردة في هذا المجال :

١ ـ (لَّايَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ ديَارِكُمْ انْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا الَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَاخْرَجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (الممتحنة / ٨ ـ ٩)

٣٠٧

٢ ـ (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَومِ الآخِرِ وَلَايُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). (التوبة / ٢٩)

٣ ـ (وَلَا تُجَادِلُوا اهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ إلَّاالَّذينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى انْزِلَ إِلَيْنَا وَانْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ). (العنكبوت / ٤٦)

٤ ـ (قُلْ يَا اهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَانُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَايَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِانَّا مُسْلِمُونَ). (آل عمران / ٦٤)

٥ ـ (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذينَ اشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ اقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَانَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون). (المائده / ٨٢)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

الآية الأولى الّتي وردت بعد آيات تحذر المسلمين من عقد الصّداقة مع أعداء الله ، وتذكرهم ببغض هؤلاء للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين ، وإيذائهم باليد واللسان للمسلمين الأبرياء ، تقول : (لَايَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّنْ ديَارِكُمْ انْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا الَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

ثُمّ تضيف للتأكيد الأقوى في مورد الذين يحاربون المسلمين وتقول : (إِنَّما يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ واخْرَجُوكُمْ مِّنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

من ملاحظة سبب نزول هاتين الآيتين والآيات السّابقة لهما في سورة «الممتحنة» ، وبملاحظة القرائن الموجودة في نفس الآيات ، يتضح تماماً أنّ هذه الآيات ناظرة إلى

٣٠٨

المشركين وعبدة الأوثان ، فهي تقسِّمُهُمْ إلى مجموعتين : مجموعة قاتلت المؤمنين وآذتهم ولم تتردد عن كل مخالفة وممارسة عدائية ضدهم ، ومجموعة ثانية كانت مستعدة للعيش معهم بسلام.

ففي هذه الآيات نجد منع إنشاء العلاقة والتّعامل مع المجموعة الأولى وقد أجازت ذلك منع المجموعة الثّانية ، وعدّت الّذين يرتبطون بالمجموعة الأولى من الظّالمين ، أمّا المتعاملين مع المجموعة الثّانية فاعتبرتهم الآية الشريفة من أنصار العدالة.

وإذا كان الحكم الإلهي في مورد المشركين وعبدة الأوثان على هذا النّحو ، فهو بالنسبة للكفار من أهل الكتاب من باب أولى.

واعتبر بعض المفسرين أنّ الأمر الوارد في هذه الآية قد نُسِخ ، وأنّ ناسخة هو قوله تعالى : (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فَاقتُلُوا المشُرِكِينَ حَيثُ وَجَدتُّمُوهُمْ). (التوبة / ٥)

ولكن وبقرينة أنّ هذه الآية بشهادة سائر آيات سورة التّوبة ، نازلة في شأن المشركين الذين ينقضون العهد ، والّذين أعلنوا العداء للمسلمين ، يتضح لنا تماماً أنّ الآية لم تُنْسَخْ ، بل إنّ آيات سورة التّوبة مرتبطة بالمجموعة الأولى.

وروى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أنّ زوجة أبي بكر المطلّقة قد جاءت لإبنتها «أسماء» ببعض الهدايا من مكة ، ولما كانت لا تزال مشركة ، امتنعتْ أسماء من قبول تلك الهدايا منها ، حتى أنّها لم تسمح لأمِّها بالدّخول عليها ، فنزلت الآية المذكورة ، وأمرها الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ تستقبل امَّها وتقبل هديتها وأنْ تحترمها (١).

وعلى أيّة حال ، يستفاد من هذه الآيات ، أصلٌ عام كلّي في كيفية تعامل المسلمين مع غير المسلمين ، بلا تحديد ذلك بزمانٍ أو مكانٍ خاص ، وهذا الأصل هو أنّ المسلمين مكلّفين بسلوك طريق السّلم مع كلّ فرد أو مجموعة أو مجتمع أو دولة لا تتخذ موقفاً معادياً تجاههم ، أو تحارب الإسلام والمسلمين وتنصر أعداءهم ، سواءً كان هؤلاء مشركين أو كانوا من أهل الكتاب.

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٩ ، ص ٤٨١ ، كما نقلت هذه الرواية في كثير من كتب التفسير ، وفي صحيح البخاري بتفاوت.

٣٠٩

وحتى لو كانت مجموعة أو دولة تقف في صف أعداء الإسلام ثمّ تراجعت عن ذلك وغيرّت سياستها ، فإنّ على المسلمين أنْ يقبلوهم وأن لا يعادوهم ، فالمعيار هو الموقف الراهن لأولئك تجاه الإسلام والمسلمين.

* * *

قصّة «الجزية» :

والآية الثّانية وهي من سورة التّوبة أيضاً ، وبعد بيان الأحكام الخاصّة بالنّسبة للمشركين وعبدة الأوثان ، تتعرض لبيان موقف المسلمين من كفار أهل الكتاب (اليهود والنّصارى) وتقول :

(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَومِ الآخِرِ وَلَايُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَديِنُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ اوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)

ولا شكَّ في أنّ لهجة الآية في خصوص أهل الكتاب «شديدة» وذلك لأنّ أهل الكتاب وخاصة «اليهود» كانت لهم مواقف سلبية جدّاً تجاه الإسلام والمسلمين ، فقد وافقوا الأعداء في حرب الأحزاب وبعض الحروب الاخرى ، مضافاً إلى أنّهم وقفوا في وجه الإسلام في بعض الحروب كحرب «خيبر» وتآمروا على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يتجسسون على المسلمين لصالح الأعداء.

وبالنظر لأن الآية أعلاه من آيات سورة التّوبة ، ونعرف أنّ سورة التوبة نزلت في السّنة التّاسعة للهجرة ، حيث كان المسلمون قد غزو غزوات عديدة ، وكان من الضّروري أن يحددوا موقفهم من كل القوى المخالفة لهم.

ففي البدء تحذر المشركين وتطلب منهم تحديد موقفهم ، فتعلن الحرب ضد أولئك الذين نقضوا عهدهم إلّاإذا أذعنوا للحق ، وأمّا أولئك الذين وفوا بعهدهم فتطلب منهم الاستمرار بالوفاء حتّى النّهاية (وهذا المعنى ذكر في الآيات الأولى من السّورة).

ثُمّ تعلن الحرب على أهل الكتاب الّذين لا زالوا يُنسّقون مع المشركين ضد المسلمين ،

٣١٠

فتصفهم بثلاثة أوصاف ، الأولى : (لا يُؤمِنُونَ بِاللهِ ولَا بِاليَومِ الآخِرِ) ، فصحيح أنّ اليهود والنّصارى كانوا في الظّاهر يقبلون المبدأ والمعاد ، ولكنّهم من جهة اخرى كانوا قد دنّسوا هذا الإعتقاد بالخرافات ، فأداروا ظهورهم للتّوحيد الصّحيح وتمسّكوا بالتثليث والشّرك ، وقالوا بانحصار المعاد غالباً في المعاد الرّوحاني ، والأهم من ذلك هو أنّ إيمانهم بالمبدأ والمعاد لم ينعكس على أعمالهم وأفعالهم ، وانغماسهم في الخرافات والضّلال كان إلى درجة يمكن القول معها أنّهم ليسوا بمؤمنين بالمبدأ والمعاد.

والصّفة الثّانية هي : (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ).

وتاريخ هؤلاء يشهد بأنَّهم لم يلتزموا عمليّاً باجتناب المحرمات وكانوا يرتكبون الذّنوب المحرمة في كلّ الشّرائع السماويّة ، فكان الدين عندهم مجرد طقوس خاوية صوريّة (كما أن الدين عندهم اليوم عبارة عن مسألة شخصيّة تقتصر على الدّعاء الأسبوعي وذكر بعض الأمور الأخلاقيّة التي ليس لها أي أثر على حياتهم عملياً ، مثالهم الصهيونيّة التي لا تتورع عن القيام بأي جريمة نكراء من أجل تحقيق أغراضها).

والصفة الثّالثة هي : (وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ).

لأنّهم غيّروا مفهوم الدّين كليّاً وعزلوه عن هموم البشريّة وخلطوه بالخرافات.

وهذه الأوصاف الثّلاثة ، تعتبر متلازمة لهم في الواقع ، وهي التي كانت تدعوهم مجتمعة لمواجهة الإسلام ومخالفته.

ولكن مع كلّ ذلك فإنّ الآية تفتح باباً للصّلح أمامهم وتقول : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ).

يقول الرّاغب في مفرداته : «الجزية» ما يؤخذ من أهل الذّمة (وهم غير المسلمين الذين يتعاهدون معهم للعيش جنباً إلى جنب داخل الدّول الإسلاميّة) ، وتسميته بذلك لإنّه بمنزلة الجزاء والأجر الّذي يدفعونه لحفظ أنفسهم (وأموالهم).

وجاء في كتاب التّحقيق ، أنَّ الجزيّة نوع من الجزاء والأجرة ، وهو نفس ما يؤخذ من غير المسلمين.

٣١١

وعلى كلّ حال ، فإنّ أصل «الجزية» هو «الجزاء» ، لأنّ ما يدفعونه من مال لا يكون مجاناً وبلا عوض ، بل عوضه هو أنّ الحكومة الإسلاميّة تكون مسؤولة عن الدّفاع عن أموالهم وأنفسهم وأعراضهم وتوفير الأمن اللازم لهم.

وقد احتمل البعض أنّ «الجزيّة» مأخوذة من «الجزء» لأنّ الجزية عادة مبلغ قليل من المال يدفعه كلّ فرد منهم سنوياً.

والتّعبير بـ «عن يدٍ» إشارة إلى أنّ «المعاهد» لابدّ أنّ يدفع «الجزيّة» بيده شخصيّاً ، ولا يحق له توكيل شخص آخر للقيام بذلك ، ولكن البعض يعتقد أنّ هذا التّعبير إشارة إلى أنّ الجزية لابدّ أن تكون نقداً ، وعليه فيحق للذّمي أنْ يُوَكِّل عنه شخصاً آخر لدفع الجزيّة ولكن يجب أن تكون نقداً لا نسيئة ، أو أن المراد من ذلك هو أنّ «الجزية» تؤخذ من الأغنياء فقط ، وأمّا الفُقراء فيعفون عن أداء الضرائب الإسلاميّة.

وأيّاً كان المعنى من هذه الثّلاثة فلا يؤثر على أصل المسألة مع أنّه يمكن جمعها جميعاً.

وأمّا تعبير «صاغِرُونَ» والذي ذكرت له معانٍ وتفاسير غير مناسبة ، فهو في الأصل مأخوذ من مادة «صِغَر» بمعنى الاستصغار والخضوع ، فيكون المراد هنا هو خضوع هؤلاء واحترامهم للإسلام والمسلمين ولمقررات الحكومة الإسلاميّة ، وبعبارة اخرى علامة على العيش بسلام وقبول أنَّهُم أقلية مسالمة ومحترمة في قبال الأكثرية.

وماذكره بعض المفسرين من أنّه بمعنى «التّحقير والإهانة والسّخرية بأهل الكتاب» لا يمكن استفادته لا من المفهوم اللّغوي للكلمة ولا من روح التّعاليم الإسلاميّة ، ولا من أحكام التّعامل مع الأقليات الدّينيّة الواصلة إلينا ، وفي الواقع فإنّ هؤلاء المفسرين يفرضون عقيدتهم الخاصة على الآية.

ومن هنا تتضح لنا حقيقة تلك (الزوبعة) التي يثيرها البعض حول هذه الكلمة من هذه الآية ، وأنّها مخالفة لكرامة الإنسانية ونهج العيش المشترك المسالم ، فهي ضجَّةٌ وزوبعة لا أساس لها من الواقع.

والنكتة المهمّة هنا هي أنّ «الجزية» عادة مبلغ قليل من المال كان أهل الكتاب يدفعونه

٣١٢

في قبال تعهد الحكومة الإسلاميّة على حفظ أموالهم وأنفسهم ونواميسهم ، وطبقاً لما ورد في بعض الرّوايات فإنّ مقدار الجزيّة كان ديناراً واحداً في السنة!!

حتى أنّ بعض أهل الكتاب الذين كانوا يعجزون عن دفعه كانوا يعفون من الجزية (وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ البعض يرى أنّ جملة «عن يدٍ» إشارة إلى ذلك).

* * *

إختيار الأسلوب الأفضل في النقاش :

والآية الثّالثة تتناول كيفية مجادلة المسلمين لأهل الكتاب ، فهي توصيهم بانتخاب أفضل أسلوب للنّقاش والبحث وتقول : (وَلَا تُجَادِلُوا اهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ). وهذا مفهوم عام وجامع وأساسي.

و «الجدال» : في اللغة هو إبرام الحبل وإحكامه ، فإذا تباحث اثنان في أمرٍ وأراد كلٌ منهما حرف صاحبه عن رأيه يقال «جادله» والمراد منه هنا النّقاش والبحث المنطقي.

أمّا فيما يرتبط بالمراد من جملة (بِالَّتِى هِىَ احْسَنُ) ، فإن بعض المفسرين قالوا إنّ المراد منها هو التعامل معهم بلين ولطف ومحبة ، ففي قبال الخشونة اللين ، وفي قبال الغضب ، الصّبر ، وفي قبال الشرّ ، حب الخير ، وفي قبال التسرُّع ، التأني.

وعلى أيّة حال ، فإنّ تعبير بجملة (بالتي هي أحسن) جامع جدّاً يشمل كلّ الأساليب الصّحيحة والمناسبة للبحث والنّقاش ، سواءً كان ذلك بالألفاظ أو في محتوى الكلام ، أو في لحن القول أو في الحركات والسلوك العملي ، وعليه يكون مفهوم الجملة هو أنّ الحديث معهم لابدّ أنْ يكون مؤدباً ، وأنْ لحن القول لابدّ أنْ يكون حبيباً وأنْ محتوى الكلام لابدّ أن يكون منطقيّاً وبرهانيّاً ، فينبغي أنْ يكون الصّوت خالياً عن العربدة والغوغاء والضجيج ، وأن تكون حركات اليد والعين والحاجبين المكملّة للبيان على هذا المنوال.

وكلّ ذلك من أجل أنّ الهدف من النّقاش والمجادلة ليس حب السّيطرة والإستعلاء ، وإنّما هو إقناع الطرّف المقابل ونفوذ الحقّ إلى أعماق روحه ، وأنْ يتخذ الموقف الصّحيح في

٣١٣

قبال الإسلام ، فهؤلاء المعاهدون لابدّ أنْ يعرفوا أنّ روح الإسلام روح السّلام والصّفاء ، والآية توصي المسلمين بأن يتعاملوا مع غير المسلمين معاملة سلمية.

وبطبيعة الحال ، فإنّ هذه الأمور يجب أنْ لا تكون بنحو يتصور المقابل أنّ المسلمين ضعفاء عاجزين فيسيء استغلال عطفهم ولينهم. ثُمّ تستثني الآية مجموعة من هؤلاء وتقول : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وهي إشارة إلى الذين رفضوا العيش بسلام إلى جنب المسلمين ، وأساءوا استغلال محبّة المسلمين لهم ومداراتهم ولينهم ، حيث عادوا الحق وعاندوه مع أنّهم كانوا قد قرأوا علامات نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبهم ، وكانوا يحاولون إخفائها وكتمانها ، وكانت ميولهم ميول عدوانية وغير مسالمة ، بعيده عن الاحترام والمحبّة ، فمثل هؤلاء لا شكّ في ضرورة استثنائهم من تلك الأحكام الرّؤوفة.

وجاء في تتمّة الآية عدّة جمل لطيفة اخرى في هذا المجال حيثُ يقول تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى انْزِلَ إلَيْنَا وَانْزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهُنَا وَإلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

وهذا في الحقيقة نموذج واضح ورائع للمجادلة بالّتي هي أحسن ، أي أنّ القرآن الكريم لم يكتفِ بذكر الكليّات في هذا المجال ، بل عرض مصاديق واضحة في الأثناء.

وهذه العبارة تدل بوضوح على ضرورة الإعتماد على النّقاط المشتركة لتحكيم اسس العيش السّليم المشترك ، وهي الإيمان بالله الواحد والإيمان بكل الكتب السّماوية وأمثال ذلك.

ولكنّ التّأكيد والإصرار على الجهات المشتركة لا يعني قبول المسلمين لبدع هؤلاء وانحرافاتهم وتراجعهم عن معقتداتهم ، وقد تكون جملة (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، إشارة لطيفة لهذا المعنى.

ونقرأ في حديث مفصل عن الإمام الصّادق عليه‌السلام الذي يرشدنا فيه إلى نموذج «للمجادلة بالتي هي أحسن» ويأمرنا بالتّأمل في آخر سورة «ليس» ، وملاحظة كيفيّة مجادلة منكري المعاد بطرق مختلفة وبمنطق لطيف وبرهاني قوي في نفس الوقت (١).

__________________

(١) إقتباس من تفسير نور الثّقلين ، ج ٤ ، ص ١٦٣ ، ذيل الآية مورد البحث.

٣١٤

هذا وقد جاء مضمون الآية بشكل آخر في سورة النّحل ، حيث يقول تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ). (النّحل / ١٢٥)

والملفت للنّظر هو أنّ هذه الآية هي أول الإرشادات الأخلاقيّة العشرة التي وردت في تلك السّورة في مورد التّعامل الصّحيح مع المخالفين.

وفي الواقع فإن الجملة الأولى أي : (أدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ) ناظرة إلى الاستدلالات العقليّة في قبال أرباب الاستدلال والفكر.

وعبارة (والمُوعَظِةِ الحَسَنَةِ) إشارة إلى الأسلوب العاطفي في المجادلة مع غير أرباب الإستدلال العقلي ، أي أولئك الذين يدورون مدار المسائل العاطفيّة ، وخصوصاً وأنّ وصف «الموعظة» بالحسنة ، إشارة إلى ضرورة خلوها من الخشونة والإستعلاء وتحقير الطرف المقابل وإثارة إحاسيسه وأمثال ذلك ، ولا شك في أنّ مثل هذه الموعظة تكون مؤثرة.

و (وجَادِلْهُمْ بِالَّتِى هي أَحسَنُ) إنّما هي مع أولئك الذين مُلِئَت أذهانهم بالشّبهات والشكوك ، فينبغي مجادلتهم عن طريق المناظرات الصّحيحة وإخلاء أذهانهم من تلك الشّبهات تمهيداً لقبول الحق.

* * *

الدّعوة إلى أصلٍ أساسي مشترك :

والآية الرابعة تخاطب أهل الكتاب وتدعوهم إلى أصل أساسي مشترك وهو التّوحيد وفروعه ، يقول عزوجل :

(قُلْ يَا اهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَانُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَايَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَاباً مِّنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِانَّا مُسْلِمُونَ).

والدعوة إلى القدر المشترك خير طريق للعيش بين مذهبين مختلفين ، إذ لا يمكن عادة أنْ نطلبَ من طرف واحد أن يتخلى عن معتقداته ويتبع الطّرف الآخر ، وحتّى لو كان ذلك مقبولاً ومنطقيّاً فإنّه غير ممكن عملياً ، فالأفضل أن نترك أتباع الأديان الاخرى على

٣١٥

معتقداتهم إذا رفضوا قبول الإسلام بعد بيان الأدلة على حقانيته ، وأنّ نعمل ضمن القدر المشترك بيننا وبينهم ، وخير مشترك بين كلّ الأديان السماوية هو أصل «التوحيد» في الذات والصفات.

وحتّى أنصار التّثليث (وينبغي التّنبيه هنا إلى أنّ الإعتقاد بثالث ثلاثة لم يكن موجوداً في عصر المسيح والقرن الأوّل بعده ، كما صرح بهذا المعنى علماء المسيحيّة) فإنّهم يفسرِّون التّثليث بشكل يتلائم مع التّوحيد ، ويسمّونَهُ بـ «الوحدة في التثليث» ، وعلى الرغم من أنّ ذلك تناقض واضح ، ولكنه في نفس الوقت دليل على أنّ هؤلاء يرغبون في بقائهم أوفياء لأصل التّوحيد.

وهذه الدّعوة إلى الحياة السّلميّة المشتركة المستمرة من المعتقدات المشتركة يعتبر في الحقيقة مصداقاً واضحاً «للمجادلة بالّتي هي أحسن» الذي ورد في الآية السّابقة ، ويدلّ بوضوح على أنّ الإسلام لا يرغب أبداً في إجبار أتباع الأديان الاخرى بالقوة على اعتناق الشّريعة الإسلاميّة.

والظّريف هنا ، هو أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد صلح الحديبيّة في السّنة السابعة للهجرة وعندما أرسل كتباً إلى زعماء وملوك الدّول العظمى في ذلك الوقت مثل «المقوقس» ملك مصر و «هرقل» ملك الرّوم ، و «كسرى» ملك إيران ، دعاهم فيها إلى الإسلام ، ذكر هذه الآية المباركة في ذيل تلك الكتب ودعاهم على الأقل إلى الأصل المشترك بين كل الأديان السّماويّة ، أي أصل «التّوحيد» ، ثُمّ العيش بسلام جنباً إلى جنب.

وهذا بنفسه خير دليل على روح السّلام والصّلح في الإسلام والرّغبة في العيش السّليم مع أتباع سائر الأديان السّماوية ، والذي لها جذور منذ عصر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

وفي خامس وآخر آية من الآيات الّتي ذكرناها في صدر البحث ، إشارة إلى اختلاف مواقف أتباع الأديان الاخرى تجاه المسلمين ، فتتحدث الآية عن كلٍ من هؤلاء بحسب حاله ، يقول تعالى :

٣١٦

(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ اشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ اقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).

ثُمّ تبين الآية الكريمة دليل محبة المجموعة الثّانية للمؤمنين وتقول :

(ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيِسيِنَ وَرُهْبَاناً وَانَّهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ).

وهذا التّعبير يدلّ بوضوح على أنّ الإسلام مضافاً إلى أنّه يرفض مواجهة من لا يكنُّ للإسلام العداء والبغضاء ، فإنّه يعتبر هؤلاء من أقرب الأصدقاء إلى الإسلام ، ويثني على زعماء هؤلاء ويعتبرهم من أهل العلم والمعرفة وترك الدّنيا والإستكبار وبهذا يستقبل هؤلاء بصدر رحب ويفتح لهم ذراعي المحبّة والصّداقة ويكنُّ لهم احتراماً خاصاً.

وإذا كان موقف الإسلام تجاه اليهود والنّصارى متفاوتاً ، فإنّ ذلك ليس لعداوة خاصة يكنّها لليهود ، بل من أجل مواقفهم العدائيّة ضدّ المسلمين واتفاقهم مع المشركين العرب السّفاكيّن ، على العكس من النّصارى ، ولذا جمع في الذكر بين اليهود والمشركين في هذه الآية ، وأمّا المسيحيين فكانوا على صلة حسنة بالمسلمين.

والملفت للنّظر هنا هو أنّ المسيحيين كانوا أبعد من اليهود عن المسلمين لاعتقادهم بالتّثليث بينما كان اليهود يقولون بالتّوحيد صراحة ، ولكن لما كان اليهود عملياً يضمرون العداء ويحيكون المؤامرات ضدّ المسلمين بخلاف المسيحيين فإنّ الإسلام يهتم بالعيش بسلام مع النّصارى أكثر من اليهود.

وللأسف ، فإن وضع اليهود اليوم هو الإستمرار في ميولهم العدوانيّة السّالفة ، حيث نجد أنّ اليهود اليوم قد جنّدوا كلّ قدراتهم ضدّ الإسلام والمسلمين ، في حين أنّ بين المسيحيين أفراد أو دول تربطهم روابط حسنة مع المسلمين.

ومن مجموع ما ذكر ، يتّضح تماماً أنّ سعة صدر الإسلام وعظمته تميل إلى الرّغبة في العيش بسلام مع الأديان السّماويّة الاخرى بشرط أن يدخل هؤلاء من باب الصّلح والصّفاء والصّداقة والإحترام المتقابل ـ ويأمر المسلمين بالتّعامل الحسن معهم ، وأن يجادلوهم بالموعظة الحسنة وإتباع المنطق والأدب والإنصاف ، وبهذا الطّريق يرشدونهم إلى تعاليم

٣١٧

شريعة الإسلام ، لا عن طريق ممارسة الخشونة والشّدّة والتّصرفات المرفوضة إسلامياً.

* * *

العيش المشترك مع أتباع الأديان الاخرى في الرّوايات :

نلاحظ في الروايات الإسلاميّة إرشادات كثيرة فيما يرتبط بكيفية التعامل مع أتباع الأديان الاخرى :

١ ـ جاء في عهد أمير المؤمنين المعروف لمالك الأشتر :

«وأشعِرْ قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّةِ لهم واللّطف بهم ولا تكوننَّ عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكْلَهُمْ ، فإنّهُمْ صنفان ، إمّا أخ لَك فِي الدين أو نظيرٌ لك فِي الخلْق» (١).

ونحن لم نعهد تعبيراً أوضح وأبلغ من هذا التعّبير حول العيش بمحبّة وسلام مع غير المسلمين ، وبملاحظة أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام يبيّن في هذا العهد أنَّ إبداء المحبّة والمداراة والرحمّة واللطف تجاه غير المسلمين هو من وظائف رئيس الحكومة الإسلاميّة ، يتضح لنا جلياً تكليف سائر أفراد المجتمع الإسلامي تجاه بعضهم البعض.

٢ ـ وفي حديث عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّ عليّاً عليه‌السلام صاحب رجلاً ذمّياً فقال له الذمّي : أين تريد يا عبدالله؟

قال عليه‌السلام : أُريد الكوفة. فلمّا عدل الطّريق بالذمّي عَدَل معه الإمام عليّ عليه‌السلام ، فقال له الذمّي : أليس زعمت تريد الكوفة؟

قال الإمام عليه‌السلام : بلى.

فقال له الذّمّي : فقد تركت الطّريق.

فقال الإمام عليه‌السلام : قد علمتُ.

فقال له الذّمي : فَلِمَ عدلت معي وقد علمت ذلك؟

فقال له الإمام عليّ عليه‌السلام :

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٣١٨

«هذا من تمام حسن الصُحْبَة أن يُشيِّعَ الرَجُلُ صاحِبَهُ هُنَيْئةً إذا فارقهُ ، وكذلك أمَرَنا نبيّنا».

فقال له الذّمي : هكذا؟ قال : نعم.

فقال له الذّمي : لا جَرَم إنّما تبِعَهُ مَنْ تبعه لأفعاله الكريمة ، وأنا أُشهدك أنّي على دينك.

فرجع الذمّي مع عليّ عليه‌السلام ، فلمّا عرفَه أسْلَم (١).

٣ ـ ونقرأ في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

«من ظَلَمَ معاهداً وكلّفَهُ فوق طاقته فأنا حَجيجَهُ يومَ القيامة» (٢).

٤ ـ وجاء في كتاب «الخراج» لأبي يوسف أنّ «حكيم بن حزام» شاهد «عياض بن غنم» وقد حبس قوماً من أهل الذمّة في الشّمس لمّا امتنعوا عن إعطاء الجزية (وكان يريد أن يضيق عليهم ليضطرهم لدفع الجزية) فقال له حكيم : ما هذا يا عياض ، لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

«إنَّ الذينَ يعذّبونَ النّاس في الدنيا يُعَذَّبونَ في الآخرة» (٣).

وقد كان هذا الأمر معروفاً بين المسلمين إلى درجة أنّهم نقلوا أنّ أحد ولاة عمر بن عبد العزيز واسمه «على بن أرطأه كتب له بأنّ قوماً عندنا لا يدفعون الخراج مالم يجبروا على ذلك بالضرب والإيذاء! فكتب له عمر بن عبد العزيز : عجيب حقاً أن تطلب مني أن أجبرك بتعذيب النّاس ، أتريد أن تجعلني درعاً أمام عذاب الله ، وتظن أن إذني ينجيك من عذابه!؟ فإذا جاءك كتابي فمن دفع خراجه وإلّا حلّفهُ على عجزه عن دفع الخراج ، واكتفِ بذلك الحلف.

ثم يضيف : وأيم الله إنّه لأحب إليّ أن ألقى الله يوم القيامة وهؤلاء لم يدفعوا الخراج من أن ألقاه وقد عذّبْتُهُمْ (٤).

وكما تلاحظون فإنّ الوارد في الحديث هو «تعذيب وإيذاء الإنسان» وهذا يدلّ على أنْ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤١ ، ص ٥٣.

(٢) فتوح البلدان ، البلاذري ، ص ١٦٧.

(٣) الخراج ، ص ١٢٤.

(٤) الخراج ، ص ١١٩.

٣١٩

الممتنعين عن أداء الخراج لم يكونوا من المسلمين.

ونفس هذا المضمون ورد في حديث آخر ، ولكن ورد فيه عنوان «النّاس» ، حيث ورد أن «سعيد بن زيد» رأى أنّ قوماً يُعذَّبون لعدم دفعهم «الجزية» فقال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من عذَّبَ النّاس عذّبهُ اللهُ» (١).

٥ ـ ورد تعبير رائع في نهج البلاغة ، خطبة الجهاد ، يقول عليه‌السلام : «وَلَقَد بلغنِي أنّ الرّجُلَ مِنهُم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حِجْلَها وقُلْبَها وقلائدها ورُعْتَها ما تمتنعُ مِنهُ إلّابالإسترجاع والإسترحام .... فلو أنَّ امرءً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً ، بل كان به عندي جديراً».

(عندما أَخبروا أمير المؤمنين عليه‌السلام بأنّ سرايا من جيش معاوية هجموا على الأنبار وقتلوا واليهِ عليها «حسان بن حسان» ونهبوا أموال المسلمين وغير المسلمين ، فدعى أمير المؤمنين النّاس إلى الجهاد وخطب خطبة الجهاد المعروفة ، جاء فيها المقطع أعلاه) (٢).

فهنا نجد أنّ الإمام عليه‌السلام يعتبر المرأة المعاهدة والمرأة المسلمة في رعيل واحد في وجوب الدّفاع عنهما ، وأن من مات أسفاً على سلبهما أموالهما فهو عنده جدير ، ولا نجد تعبيراً أبلغ من هذا في الدّفاع عن حيثية أهل الذّمة وأموالهم وأنفسهم وأعراضهم.

٦ ـ روي أنّ علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام رأى رجلاً مكفوفاً كبيراً يسأل ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام ما هذا؟ قالوا : يا أمير المؤمنين هو نصراني. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه ، أَنفقوا عليه من بيت المال».

* * *

تعامل المسلمين مع غير أهل الذمّة :

قد يُتصور أحياناً أنّ غيرَ المسلمين صنفان ، هما «أهل الذمّة» و «المحاربون» ، وعليه فكلُّ من لم يكن من «أهل الذمّة» فهو محارب وأنّ ماله ودمه مهدوران.

__________________

(١) الخراج ، ص ١٢٤ و ١٢٥.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٧.

٣٢٠