نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

المحرمات ، وثانياً : لاشراف على صحة سير الأمور المرتبطة بالمصالح العامة للمجتمع ورفاههم وحياتهم ، وكذلك الحدِّ من سدِّ الطّرقات العامة والأزقة من قبل بعض المخالفين والباعة ... والإشراف على الوزن ، وما هو اليوم في عهدة «البلديات» من هذه الوظائف كان في الأصل في عهدة القاضي ، ولكنّهم جعلوها شغلاً مستقلاً لكي لا يبتلى القاضي بها» (١).

ويذكر في نفس الكتاب وظائف المحتسب نقلاً عن كتاب «معالمُ القُرْبَة» والذي قد يكون أجمع كتاب كتب في أحكام الحسبة ، حيث يذكر ما يظهر منه أنّ شغل المحتسب يشمل الاشراف على أنواع الكسب والتجارات وموارد الإنتاج والخدمات والتّربية والتعليم.

ومن جملة الموارد : منع وقوع المنكرات في الأزقة والأسواق ومراقبة صحة الوزن والمكيال وأمور الأفران والمخابز ، والأمُور الصّحية والمسالخ والتّدقيق في صحة الذّبح وشرائطه ، والحمّامات العامة ، والأطباء والمعلمين والمؤذنين وخدمة المساجد والوعاظ والكتّاب ، وكذا النظارة على أشغال التّجارة ، والملاحين ، والمعمارين والبنّائين ، والسماسرة والصرّافين والصاغة وأمثالهم (٢).

وفيما يرتبط بالفرق بين مسألة «الحسبة» ومسألة «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» ذكرت بعض الكتب مثل «الأحكام السلطانية» فروقاً كثيرة بينهما بلغت تسعة فوارق (٣).

ويمكن في الواقع تلخيص تلك الفروق في جملة واحدة وهي أنّ «الحسبة» هي الشّق الحكومي للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والذي يمكن التّوسل به في موارد اللزوم ، وعليه فالمحتسب يُعَيَّن من قبل الحكومة ، وله أعوان وأنصار ، وظيفتهم الإشراف والنظارة على المسائل الاجتماعيّة المذكورة ، وهؤلاء يستلمون مرتباتهم الشّهرية من صندوق بيت المال ، ويلقون القبض على المخالفين ويعزّرونهم ويعاقبونهم على النحو الذي مرَّ ، وأما الشّق العام للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، فلا يكون بهذا النحو.

* * *

__________________

(١) لغتنامه دهخدا ، مادة (حسبة).

(٢) المصدر السابق.

(٣) الأحكام السلطانية ، ص ٢٤.

٢٢١
٢٢٢

الرّكن الرّابع : التربية والتعليم

تمهيد :

يعتبر نشر الثقافة الصّحيحة والتّربية والتّعليم أحد الأركان المهمّة في الحكومة الإسلاميّة ، وبالنظر إلى الإنسان كموجود ثقافي ، أي أنّ أعماله وسلوكه نتاج لمجموعة افكاره واستعداداته ، لذا فأيّ إصلاح وتحوّل في وضع المجتمع غير ممكن ما لم يتمّ النفوذ إلى فكره وروحه.

ولذا تحاول الدول العظمى النّفود في ثقافة المجتمعات ووسائل الإعلام العامة كالمطبوعات (الكتب والجرائد والمجلات) والإذاعة والتلفزيون وأمثال ذلك ، من أجل تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعيّة والعسكرية والاقتصادية المختلفة ، ويعتبر ذلك ركناً من أركان تلك الحكومات وقوة رابعة تضاف إلى القوى الثّلاث (القوة التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائية) ، بل إنّ الكثيرين يعتبرون ذلك من أهم أركان المجتمع ويراهنون عليه كثيراً.

وهذه حقيقة لا مبالغة فيها ، إذ إنّ وسائل الإعلام العامة لو استغلت في طريق نشر الثقافة الصحيحة السالمة المبرمجة المؤثرة ، لكان جو التّشريع والقضاء والتّنفيذ سالماً ، ولخففت كثيراً من ذلك العبء الثقيل عن كاهل المسؤولين ، ولأدّى أفراد المجتمع وظائفهم بشكل طبيعي ومنظم.

والملفت للنظر هو أنّ منهج الحكومة الإسلاميّة المستنبط من القرآن المجيد والسّنة النبوية ، والمقرر قبل أربعة عشر قرناً ، كان قد اهتم فوق حد التصور بمسائل التّربية والتّعليم والتّبشير والإنذار ، وقد اعتمد برامج عديدة ومتنوعة لتحقيق هذا الغرض.

٢٢٣

والموضوع القابل للتّأمل هو أنّ أبرز أنواع الحكم الإسلامي وهو حكومة الرّسول الأكرم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بنيت على أساس ثورة ثقافيّة ، فقد إهتم الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة الثّلاثة عشر عاماً التي قضاها في مكة بالتربية والتّعليم ونشر الثّقافة الإسلاميّة والعقائد ، وقد ربّى أصحابه وعلّمهم بحيث صار كلٌ منهم لُبنَةً أساسية في بناء الحكومة الإسلامية ، أي أنّ الثّورة السياسيّة والاجتماعيّة للنظام الإسلامي قامتا على أساس نفس تلك الثّورة الثّقافية.

ويعتبر إحياء الفكر والتّفكر ، المادة الأولية لكل البرامج الإسلاميّة ، حتّى أنّ الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطلب من مخالفيه هذا الأمر فقط وكما ورد في القرآن المجيد : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُم بِوَاحِدةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّه مَثنَى وَفُرادَى ثُمَّ تَتَفكَّروُا ...). (سبأ / ٤٦)

وفي حديث عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنَّ التّفكر حياةُ قَلْبِ البَصيرِ ، كما يمشي المُستَنِيرُ في الظّلمات بالنّور» (١).

وفي حديث عن الإمام عليّ عليه‌السلام قال : «بالفِكْرِ تَنْجلي غياهِبُ الأمور» (٢).

وورد في حديث آخر معروف : «تفكُّرُ ساعةٍ خيرٌ من عبادةِ ستّين سنة» (٣).

وعلى هذا الأساس ، سنتناول بالبحث الأمُور التّالية ، مستلهمين من القرآن الكريم :

١ ـ التّربية والتّعليم في الإسلام.

٢ ـ أهميّة العلم لا تنحصر بالعلوم الدينيّة.

٣ ـ تعلم العلوم المفيدة ، في الرّوايات الإسلاميّة.

٤ ـ مقام المعلّم في الإسلام و...

* * *

١ ـ التّربية والتّعليم في الإسلام

وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة في «التّعليم» و «التّعلّم» و «نشر العلم» ، وذكر كلّ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٨٩ ، ص ١٧.

(٢) غرر الحكم.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٢٩٣.

٢٢٤

تلك الآيات لا يَسَعَهُ هذا المختصر ، ولذا سنشير هنا إلى بعض تلك الآيات :

١ ـ (اللهُ الَّذِىِ خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الارْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الامْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شىءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىءٍ عِلْماً). (الطلاق / ١٢)

٢ ـ (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنَا ويُزَكّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَّالَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ). (البقرة / ١٥١)

٣ ـ (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (البقرة / ١٢٩)

٤ ـ (وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِى الَيْهِمْ فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَا تَعْلَمُونَ). (النّحل / ٤٣)

٥ ـ (وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَليُنْذِروُا قَوْمَهُمْ اذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ). (التوبة / ١٢٢)

٦ ـ (يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوتِىَ خَيْراً كَثيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا اولُوا الالْبَابِ). (البقرة / ٢٦٩)

٧ ـ (انَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ). (البقرة / ١٥٩)

* * *

فبنظرة إجمالية إلى هذه الآيات السبع التي انتخبناها من بين عشرات الآيات القرآنية حول التّعليم والتّربية ، يتضح لنا اهتمام الإسلام البالغ بهذا الأمر المهم.

ففي الآية الأولى ، يعتبر العالم كلّه بمثابة جامعة خُلِقَت جميع الموجودات فيه لتعليم الإنسان وزيادة اطلاعه ، والهدف هو أن يتفكر الإنسان في أسرار هذه الكائنات ، فيتعرف على علم وقدرة الخالق ، وبتعبير آخر ، الهدف من عالم الخلقة كلّه هو العلم والمعرفة حيث يقول عزوجل :

٢٢٥

اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ... لتَعلَموا أنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شىءٍ قَديرِ ...» (١).

وهذا في الحقيقة موضوع ظريف وهو أنّ خلق السماوات وخلق الأرضين وتدبيرهما الدائمي ، يكون وسيلة لتحريك حسّ الإطلاع عند الإنسان للتفكر والتّأمل في أسرار العالم ، وبالنّتيجة التّيقن من علم الله وقدرته ، فكل تلك الأمور إذن مقدمة لتربية النفس الإنسانيّة والقرب إلى الله ، وللإطلاع على أنّ أحكام الشّريعة كأحكام الخلقة ، مبتنية على حسابات دقيقة ، فالخلقة إذن من أجل العلم.

* * *

وتشير الآية الثّانية إلى الهدف من بعثة نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتعتبر أنّ الهدف هو التّعليم والتّربية في ظل تلاوة آيات الله ، حيث تقول :

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ويُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَالَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

فهنا لم يحصر الهدف من البعثة في تعليم الكتاب والحكمة ، بل تعليم الأمور التي لم يكن بالإمكان التعرف عليها إلّابنزول الوحي ، ولذا يقول : (وَيُعَلِّمُكُمْ مَّالَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

وبهذا يكون الهدف من الخلقة تطوير المعرفة ، والهدف من البعثة كذلك هو توسعة ونشر العلم والحكمة وتهذيب وتربية النفوس.

* * *

__________________

(١) فُسرّت السّماوات السّبع بتفسيرات عديدة ، منها تفسير معروف وهو أن كلّ ما نراه من سماوات وكرات سماوية ونجوم سيارة وثابتة ، مرتبط بالسّماء الأولى ، وما بعدها ستة عوالم أخرى عظيمة جدّاً ، واحد تفاسير الأرضين السبّع هو أن ما يوجد فوقنا من عوالم يوجد مثله تحت أرجلنا وهذا المعنى بينه الرّسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في عبارة رائعة حيث سأل أصحابه هل يعرفون ما تحت أرجلهم؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الأرض وتحتها أرض اخرى بينهما خمسمأة عام» (تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤). وللإطلاع أكثر على معنى السماوات السبع راجعوا الى ج ٢ ، ص ١٤٤ من هذا التفسير.

٢٢٦

والمستفاد من الآية الثالثة هو أنّ هذا الهدف الكبير أي التّربية والتعليم والحكمة ، ورد في دعاء إبراهيم الخليل عليه‌السلام لهذه الأمة ، حتى إنّه يطلب ذلك من الله عزوجل ويقول :

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزٌ الْحَكِيمُ).

وهذا يدل على أنّ هذين الهدفين (الترّبية والتعليم) كانا من الأهداف المعروفة في الأمم السّابقة أيضاً.

والملفت للنظر هو أنّه ورد في هذه الآية وبعض الآيات الاخرى الواردة في هذا المضمار ، الحديث عن تعليم الكتاب وتزكية النّفس إضافة إلى تعليم الحكمة ، وفيما يرتبط بمعنى «الحكمة» وردت تفسيرات كثيرة ومختلفة.

الأول : إنّ المراد منها هو العلوم الدّينيّة والتّعرف على أحكام الدّين.

والثّاني : إنّ المراد منها هو سنّة النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لإنّها ذُكرت إلى جنب كتاب الله. وقال البعض الآخر إنّ المراد من الحكمة هو العلامات والفوارق التي تميز الحق من الباطل ، وقيل أيضاً إنّ الحكمة بمعنى الآيات المتشابهة التي لابدّ أنْ يُعلِّمها الرّسول بنفسه للآخرين (١).

لكن وبالتأمل في أصل لفظ «الحكمة» في اللغة ، والتي جاءت بمعنى المنع من الجهل والخطأ ، ووضع كلّ شيء في موضعه ، يبدو أنّ المراد من الحكمة هنا الإطلاع على أسرار وعلل ونتائج الأحكام ، وأسرار خلقة الكون والإنسان ، ومصيره ونهايته.

* * *

وفي الآية الرّابعة إشارة إلى قاعدة كلية هي أساس مسألة التّربية والتعليم ، حيث يقول عزوجل : (فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَاتَعْلَمُونَ).

وهذه الآية وإنْ وردت في صفات الأنبياء السابقين عليهم‌السلام وإنّهم كانوا من جنس البشر ، وأنّه لا فرق بينهم وبين سائر البشر في الظّاهر ، ولكننا نعلم أنّ مورد الآية لا يحدّد مفهومها

__________________

(١) التّفسير الكبير ، ج ٤ ، ص ٦٦ (ذيل الآية مورد البحث).

٢٢٧

الوسيع ، بل الحكم باقٍ على عموميته.

وهذا في الواقع أصلٌ أساسي يذعن بصحته كل عقلاء العالم ، وهو أن غير أهل العلم يتعلمون من أهل العلم ، إذ إنّ العلوم والمعارف الحقيقية محصول التفكر والتأمل والتجارب التي اكتسبها القدماء ، والّتي يضعونها تحت تصرف الأجيال القادمة ، وهؤلاء يضيفون عليها ويسلمونها للأجيال اللاحقة ، وهكذا يتكامل العلم والمعرفة البشرية يوماً بعد يوم ، ولهذا الدّليل تعتبر مسألة التّربية والتّعليم الأساس الأول لكل تطور ورقّي اجتماعي في البعد المعنوي والمادي.

ونُقِلَت عبارة عن الغزّالي توضح هذا المطلب أكثر ، وهي أنّه سئل عن كيفية حصوله على هذه الإحاطة العلميّة باصول وفروع الإسلام ، فأجاب بتلاوة هذه الآية : (فَاسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُم لَاتَعْلَمُونَ) (١).

وقد فَسَرَّت الروايات العديدة الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، أهل الذكر ، بمعنى الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام (٢) ولكن وكما تعلم أنّ هذه التفاسير ليست بمعنى الحصر ، بل في بيان المصداق الأتمِّ والأكمل لها ، وشبيه هذا المعنى نلاحظه في تفسير كثير من آيات القرآن.

* * *

والآية الخامسة تقسم المسلمين إلى مجموعتين : «المعلمين والمتعلمين» وفي الواقع لابدّ أن يكون المسلم فرداً من أفراد إحدى المجموعتين ، فإمّا أنْ يكون معلماً أو متعلماً حيث يقول عزوجل :

(وَمَا كَانَ الْمُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَليُنْذِروُا قَوْمَهُمْ اذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

وقد استند كثير من العلماء على طول التّاريخ إلى هذه الآية الشّريفة لإثبات لزوم تعلم

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧.

(٢) للإطلاع على هذه الروايات يراجع من تفسير البرهان ج ٢ ص ٣٦٩ ، والملاحظ أنّ هذا التعبير ورد في روايات أهل السنّة أيضاً (راجع شواهد التّنزيل للحسكاني ج ١ ، ص ٣٤٤ ، وإحقاق الحق ، ج ٣ ، ص ٤٨٢.

٢٢٨

العلوم الإسلاميّة لإبلاغها إلى الآخرين بعنوان الواجب الكفائي ، مضافاً إلى أنّهم يوجبون التّعلُّمَ على الجميع وجوباً عينياً.

وفي عالم اليوم ، يعتبر طلب العلم في كثير من الدّول إلزامياً ، فيجب على كلّ طفل أنْ يتعلم وإلّا استدعي وليّه من قبل الجهات المسؤولة ، ولكن التّعليم ليس إلزامياً في أي مكان من العالم ، بل الناس مخيرون بين انتخاب التعليم وعدمِه.

وأمّا في الإسلام ، فإنّه كما يعتبر تحصيل العلم واجباً ، فكذلك تعليم الآخرين فإن فيه جنبة الإلزام والوجوب ، وأحد الأدلة على ذلك هو نفس آية النّفر هذه ، فإنّها من جهة توجب تحصيل العلم بجملة (فَلَولَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طائِفَةٌ) (١).

ومن جهة أخرى فإنّها توجب التّعليم ، بجملة (وَليُنْذِرُوا قَومَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ) ، ولا شك في أنّ كلّ ذلك مقدّمة للقيام بالتّكاليف الإلهيّة ، والذي تخلّصَ في جملة : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

ولهذا ، فإنّ بعض علماء الإسلام ، كان أحياناً يطوي المسافات البعيدة لأيّام عديدة وينتقل من بلدٍ إلى آخر لتعلّم حديثٍ واحد! ، ومن جملة هؤلاء ـ كما ذكر التاريخ ـ «جابر» الذي سافر من «المدينة» إلى «مصر» ليسمع حديثاً واحداً من أحد العلماء الذي كان يروي ذلك الحديث ، ولذا قيل إنّ أحداً لا يصل إلى مرحلة الكمال إلّابالسفر (والإلتقاء بعلماء البلاد المختلفة والاستفادة من علومهم وتجاربهم) ، وإنّ أحداً لا يصل إلى مقصوده إلّا بالهجرة (٢).

ونقرأ في قصة الخضر وموسى عليه‌السلام والتي وردت الإشارة إليها في سورة الكهف كيف أنّ هذا النّبيّ الكبير (موسى) ، كان قد طوى طريقاً طويلاً وشاقاً حتى وصل إلى هذا العبد الصّالح (الخضر) وتعلم شيئاً من علومه.

* * *

__________________

(١) طبقاً لأقوال علماء الأدب فإن «لولا» تحضيضية ، وهي في مقام اللَوم والتّقريع ومن الواضح فإن التقريع إنّما يكون على ترك الواجب أو فعل الحرام.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ٣ ، ص ٥٣٧.

٢٢٩

وفي الآية السّادسة ، نواجه تعبيراً مهماً آخر حول تعلُّم العلم والمعرفة ، يقول عزوجل : (يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اوتِىَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا اولُوا الالْبَابِ).

بداهة أن المنظور من تعبير «مَنْ يَشاءُ» ليس هو أنّ يعطي الله الحكمة والعلم لهذا وذاك بلا مبرر وبدون مقدمة ، بل وكما تعلم فإنّ «مشيئة» الله وإرادته منسجمة دائماً مع «حكمته» ، أي أنّه يؤتي الحكمة من كان لائقاً بها ، وهذه اللياقة إنّما يحصل عليها الإنسان عن طريق الجد والسّعي وتحمل عناء ومشقة تحصيل العلم ، أو بواسطة جهاد النفس والتقوى التي تعتبر منبع النّظرة الصائبة والفرقان الإلهي.

واللّطيف في هذا الأمر هو أن الآية الكريمة تعبر عن العلم والحكمة بعبارة «خَيْراً كَثيراً» وهو تعبير جامع يشمل كل الحُسْن والخَير ، خير الدنيا والآخرة ، والخير المادي والمعنوي ، والخير في كل الجهات.

وللمفسر الكبير ، المرحوم العلّامة الطّباطبائي (ره) نكتة في هذا المقام يقول : «إنّ جملة (وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ) جاءت بصيغة المبني للمجهول ، في حين أنّ الجملة التي قبلها جاءت بصيغة المعلوم حيث قال تعالى (يُؤتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) وماذاك إلّاليبيّن أنّ الحكمة والمعرفة ذاتاً منبع خير كثير ، لا من جهة الإنتساب إلى الله المتعال فقط ، بل إنّ ذات وحقيقة العلم خير كثير» (١).

* * *

والآية الأخيرة ، أشارت إلى بُعد آخر في هذه المسألة ، حيث ورد فيها ذمٌّ شديد لأولئك الذين يكتمون العلم والمعرفة ، حيث يقول تعالى :

(انَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيْنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢ ، ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٠

والتعبير بلعن الله ولعن اللاعنين من أشدّ التّعبيرات التي استعملت في القرآن المجيد في ذنب من الذّنوب ، وهذا دليل على قبح كتمان العلم والهدى إلى أبعد الحدود ، بالخصوص تلك العلوم والمعارف التي تكون أساساً لهداية النّاس.

وفي الآية التي تلي هذه الآية مباشرة من سورة البقرة ، ذكر تعالى الطريق الوحيد للتوبة من هذا الذّنب الكبير وهو تبيين المسائل المكتومة بعد النّدم والعودة إلى الله ، وهذا بنفسه دليل واضح على أنّ جبران «كتمان العلم» لا يتحقق إلّابتبيينه حيث يقول تعالى : (إِلَّا الَّذِين تَابُوا وَأَصلَحُوا وبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوابُ الرَّحيمُ). (البقرة / ١٦٠)

وهذه الآية وإن نزلت في أهل الكتاب الّذين كتموا علامات نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله المذكورة في كتبهم ، إلّاأنّ مفهومها أوسع من ذلك ، فتشمل كتمان كلّ علم من العلوم يكون سبباً في هداية النّاس ، والرّوايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام تشهد بهذا الأمر وأنّ المراد من العلم مفهومه المطلق ، يقول النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ سُئل عن عِلْم يَعْلَمُهُ فَكَتَمه ، الجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نارٍ» (١).

وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نلاحظ تعبيراً أوضح من الأوّل حيث يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ كَتَمَ عِلمَاً نافِعاً عِنْدَه ، أَلْجَمَهُ اللهُ يومَ القيامَة بلجامٍ منْ نارٍ» (٢).

ومن الواضح أنّ هذا التّعبير يشمل كلّ العلوم المفيدة للإنسان في مجالٍ من المجالات.

وقد نُقل هذا المعنى بصراحة في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً حيث يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ عَلِمَ شَيئاً فلا يكتمه» (٣).

٢ ـ أهميّة العلم لا تنحصر بالعلوم الدينيّة

قد يتصور البعض أنّ كلّ تلك التأكيدات الواردة في الآيات القرآنية والرّوايات الشّريفة في التعلّم والتّعليم ونشر العلوم ، ناظرة إلى العلوم الدينيّة فقط ، ولا تشمل ما يرتبط ببحث

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١ ـ ٢ ، ص ٢٤١ ، ذيل الآية مورد البحث.

(٢) كنز العمال ، ح ٢٩١٤٢ ، ج ١٠ ، ص ٢١٦ ؛ بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٧٨.

(٣) كنز العمال ، ح ٢٩١٤٥.

٢٣١

الحكومة الإسلاميّة ونشر كلّ العلوم وهو مورد حديثنا!

ولكن هذا اشتباه كبير ، إذ إنّ المستفاد من آيات القرآن ، ومن الرّوايات الإسلامية أيضاً ، هو أهميّة العلم والتّربية والتعليم بشكل مطلق.

والشواهد على هذا المعنى كثيرة ، من جملتها الآيات القرآنيّة الشّريفة التالية :

١ ـ ورد في قصة آدم عليه‌السلام ، مسألة تعليم الأسماء ، وهي إشارة إلى العلم والإطلاع على أسرار خلقة تمام الموجودات ، لا فقط العلوم الدينيّة ، يقول عزوجل :

(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسَماءَ كُلَّهَا). (البقرة / ٣١)

٢ ـ تعرضت الآية الرّابعة من سورة الرحمن التي تعدّد نعم الله تعالى وآلائه إلى تعليم البيان ، واعتبرته موهبة إلهيّة عظيمة ، يقول تعالى : (عَلَّمَهُ البَيَانَ). (الرحمن / ٤)

٣ ـ ورد في سورة يوسف عليه‌السلام إشارة إلى علم تفسير الأحلام التي تحكي عن المستقبل والتي قد يكون لها أثر في مصير الأمم كشعب مصر ، وتأويل تلك الأحلام ، حيث يحكي القرآن عن لسان يوسف ويقول :

(ذَلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّى). (يوسف / ٣٧)

٤ ـ وفي نفس تلك السّورة ، يشير إلى مسألة تدبير أمر دولة كاملة والإطلاع على إدارة بيت المال ، حيث يحكي القرآن عن لسان يوسف مخاطباً عزيز مصر :

(قَالَ اجْعَلنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنّىِ حَفِيْظٌ عَلِيمٌ). (يوسف / ٥٥)

٥ ـ (وفي أمر إدارة الدّولة هذا) قصّة طالوت وجالوت ، عندما يُبين دليل انتخاب طالوت ملكاً من قبل نبيّ ذلك العصر (اشموئيل) ، تقول الآية :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بسَطَةً فِى العِلْمِ وَالجِسْمِ). (البقرة / ٢٤٧)

ومن الواضح أنّ امتياز طالوت على سائر بني إسرائيل لم يكن في العلوم والمعارف الإلهيّة فقط ، بل كان العلم والقدرة الإدارية للأمور العسكريّة والسّياسية عند هذا الشّاب الذكّي المدبّر ، مورد نظر في الاستدلال.

٦ ـ وفي قصة داود عليه‌السلام يعتبر تعليم (صنعة لَبوس) من امتيازاته الكبيرة بل على رأي

٢٣٢

الطبّرسي في مجمع البيان أنّ «لبوس» يشمل كلّ أنواع الأسلحة الدفاعيّة والهجوميّة ، ولا تختص بالدّروع (١) ، يقول عزوجل :

(وَعَلَّمْنَاهُ صَنعَةَ لَبُوسٍ لَّكُم لِتُحْصِنَكُمْ مِّنْ بَأْسِكُمْ). (الأنبياء / ٨٠)

٧ ـ وتتحدث سورة الكهف عن قصّة موسى والخضر والعلوم والمعارف التي تعلمهاموسى عليه‌السلام من الخضر عليه‌السلام ، ونلاحظ أنّ أياً منها لم يكن من العلوم الدينيّة ، بل كانت من العلوم التي تدير المجتمع الإنساني طبق نظام أحسن ، يقول تعالى :

(فَوَجَدَا عَبْدَاً مِّنْ عِبَادِنَا آتينَاهُ رَحمَةً مِّنْ عِنْدِنَا وعَلَّمنَاهُ مِنْ لَّدُنَّا عِلْماً). (الكهف / ٦٥)

ثم يذكر في الآيات اللاحقة ثلاثة نماذج لهذه العلوم وهي ليست من العلوم الدينيّة ، بل مرتبطة بتدبير الحياة.

٨ ـ ورد في سورة النمل الحديث عن اطلاع سليمان عليه‌السلام وعلمه بحديث الطير ومنطقه ، ويعتبر ذلك من الأمور التي كان سليمان يفتخر ويتباهى بها ، يقول تعالى :

(وقَالَ يَا أَيُّها النَّاسُ عُلِّمنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ). (النمل / ١٦)

٩ ـ وفي أواخر سورة الكهف وفي قصّة ذي القرنين ، ورد الحديث عن بنائه السّد وإنّه حادثة مهمّة حتى أنّها تبيّن بعض الجزئيات في عملية بناء ذلك السّد وكيفيّة تدبير أمر بناء سدٍّ محكم قوي حديدي للحدِّ من هجوم القبائل الفاسدة والمفسدة (يأجوج ومأجوج) ، يقول تعالى :

(آتُونِى زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَينِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتونىِ أُفْرِغْ عَلَيهِ قِطْراً). (الكهف / ٩٦)

١٠ ـ وفي سورة لقمان أيضاً ، وردت آيات في بيان وصايا لقمان لابنه ، حيث نرى مجموعه من الإرشادات لها جنبة اجتماعيّة وإداريّة ، يعتبر رعايتها والاهتمام بها من الأمور المهمّة في حياة كلّ فردٍ ، من جملتها إنّه قال :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية ٨٠ من سورة الأنبياء عليهم‌السلام ولكن هناك قرائن في الآية تشير جميعها إلى أنّها إشارة إلى الدّرع.

٢٣٣

(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمشِ فِى الأَرضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُختَالٍ فَخورٍ* وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ). (لقمان / ١٨ ـ ١٩)

هذا في حين أنّ الله تعالى كرَّم لقمانَ لعلمه وحكمته ومعرفته ، حتى قرن كلامه بكلامه تعالى!

١١ ـ وفي سورة سبأ وفي بيان أحوال سليمان عليه‌السلام ورد الحديث عن برامجه العمرانية والفنيّة المتشعبة والتي كان الجن يقومون بها تحت إشرافه :

(يَعملُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ). (سبأ / ١٣)

وفي الآية السابّقة لهذه الآية ، وردت إشارة إلى تعلم سليمان إذابة الفلزات ، حيث يقول تعالى : (وَاسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ). (سبأ / ١٢)

١٢ ـ يقول تعالى في سورة البقرة ، في ما يرتبط بحكومة داود النّبيّ :

(وَقَتَلَ دَاوَدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللهُ المُلكَ وَالحِكمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ). (البقرة / ٢٥١)

ومن الواضح ، فإنّ العلم والحكمة هنا ، هي المعرفة اللازمة بتدبير المُلك والمملكة وإن كان لها معنى أوسع من ذلك ، فإنّها بلا شكّ تشمل هذا القسم من العلوم وهو المرتبط بالحكومة وإدارة الدّولة.

* * *

ومن مجموع الإشارات التي وردتْ في الآيات المذكورة والبعض الآخر من آيات القرآن المجيد ، يمكن الإستفادة بوضوح أنّه وخلافاً لتصور البعض أنّ القرآن الكريم قد اهتم فقط بالعلوم الدينيّة والمعارف الإلهيّة ، وأنّه لم يتعرض لأهميّة العلوم الاخرى ، يتبين لنا أنّ القرآن الكريم قد اهتمَّ بتعلّم وتعليم هذه الأقسام من العلوم وعدَّها من المواهب الإلهيّة العظيمة ، وهو يحفِّز المسلمين على تعلُّمها وتعلُّم كلّ علم مفيد ونافع في الحياة المادية والمعنوية.

* * *

٢٣٤

٣ ـ تعلّم العلوم المفيدة في الرّوايات الإسلاميّة

وفي الأحاديث الإسلاميّة أيضاً (وتبعاً لآيات القرآن المجيد) فلم تكتف بالحث والتّرغيب لتعلم العلوم الدينيّة فقط ، بل نجد أنّ الرّوايات قد اهتمت بالترّغيب لتعلم العلوم المفيدة في الحياة المادية والمعنوية مضافاً إلى العلوم الدينية ، وإليك نماذج من تلك الرّوايات الشّريفة :

١ ـ ورد في حديث معروف عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«اطلبُوا العِلمَ ولو بالصّين فإنّ طَلَب العِلم فَريضَةُ عَلى كُلّ مسلمٍ» (١).

وينبغي الإلتفات إلى أنّ الصيّن في ذلك الوقت كانت أبعد دولة معروفة ، وعليه فإنّ المراد من ذكر الصين هو التمثيل للبعد في المسافات في هذا الحديث.

ومن البديهي ، فإنّ ما كان في الصّين من العلوم لم يكن من العلوم الدينيّة والمعارف القرآنيّة ، إذ لم تكن الصين مركزاً من مراكز الوحي ، بل كان المراد هو العلوم الدنيوية المفيدة.

٢ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام ، قال : «الحِكْمَةُ ضالةُ المؤمنِ فاطلُبوها وَلو عِنْدَ المُشرِك» (٢).

ومن الواضح ، أنّ ما عند المشركين ليس من العلوم الدينيّة ومعارف التوّحيد ، بل كان عندهم بعض العلوم المفيدة الاخرى النافعة في الحياة.

ومن مثل هذه الأحاديث ، يتداعى إلى الذّهن الشّعار المعروف «العلم ليس له وطن» ويؤكد على أن العلم ضالة المؤمن ، وقد ورد في حديث آخر : «كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيثُ وَجَدها فهو أحقُّ بها» (٣).

٣ ـ وفي حديث معروف عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «العلمُ عِلْمان عِلمُ الأديانِ وعِلْمُ الأبدانِ» (٤) (فالعلم الأول أساس سلامة الرّوح والثّاني أساس سلامة جسد الإنسان).

٤ ـ وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال :

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ١٨٠ ؛ وكنز العمال ، ح ٢٨٦٩٧.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٣٤.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ١٩٩ ، ح ٥٨.

(٤) بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٢٢٠ ، ح ٥٢.

٢٣٥

«العِلْمُ ثلاثَة : الفِقْهُ للأديان والطِّبُ للأبدان والنّحو للِّسان» (١).

فهنا يبيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أقسام مهمة من العلوم الإلهيّة والبشريّة ، وهي العلوم الدينيّة وعلم الطّب والنحو الذي هو مفتاح العلوم الاخرى.

٥ ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

«العلُوم أربَعَةٌ الفقه للاديانِ والطّبُّ للأبدان والنّحو للَّسان والنّجوم لمعرفة الأزمان» (٢).

٦ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه‌السلام يقول فيه :

«وكذلك أعطى (الإنسانَ) علم ما فيه صلاح دُنياه كالزّراعة والغِراس واستخراج (٣) الأرضينَ واقتناء الأغنامِ والأنعام واستنباط المياه ومعرفة العقاقير التي يُستَشفى بها من ضروب الأسقام ، والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر ، وركوب السَّفن والغوصِ في البحر ... والتصرُّف في الصّناعاتِ ووجوه المتاجرِ والمكاسبِ» (٤).

وبهذا ، يعتبر الإمام الصّادق عليه‌السلام أن جميع هذه العلوم من المواهب الإلهيّة وأنّه يحفِّز ويرغب النّاس على تعلّمها.

٧ ـ وفي حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ضمن بيان حقوق الأبناء على الآباء ، قال :

«ويُعَلِّمُهُ كتابَ اللهِ ويُطَهِّرَهُ ويَعلِّمَهُ السِّباحَةَ» (٥).

فمن هذا الحديث ، يستفاد بوضوح أن تعليم فنِّ السباحة أيضاً اخذ بنظر الاعتبار لدّى مشرع الإسلام ، وأوصى بتعليمه للأبناء.

٨ ـ وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام : «وبَعْدَ عِلْمِ القرآنِ ما يكون أشرفَ من علم النّجوم وهو علم الأنبياء والأوصياءِ وورثة الأنبياءِ الذّين قال الله عزوجل : وعلاماتٍ وبالنّجم هم يهتدون» (٦).

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٤٥ ، ح ٥٢.

(٢) المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢١٨.

(٣) بما أنّ استخراج المعادن ذكر في الفقرات اللاحقة ، فلا يبعد أن المقصود من استخراج الأرضين هو تحضيرالأراضي الموات لزراعتها.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٨٣.

(٥) وسائل الشّيعة ، ج ١٥ ، ص ١٩٩ ، باب ٨٨ ، ح ٧.

(٦) بحار الأنوار ، ج ٤٧ ، ص ١٤٦.

٢٣٦

فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات المذكورة ، وروايات أخرى يطول المقام بذكرها جميعاً ، هو أنّ الإسلام أسَّس نهضة علمية واسعة ، وأنّ هذه النهضة المباركة نمت وترعرعت خلال قرنين أو ثلاثة وتشعبت تلك الشّجرة المباركة حتى عمَّت غصونها كلّ العالم الإسلامي ، وأثمرت في فترة وجيزة ثماراً كثيرة منها الكتب الكثيرة التي أُلِّفتْ وصُنِّفتْ في مختلف الفروع العلميّة كالمعارف الإلهيّة والفلسفيّة والطّب والصّحة والجغرافيا والفيزياء والكيمياء وغير ذلك ، وتُرجِمَ بعضها وحققّ البعض الآخر ونشرت بصورة تحقيقات جديدة لعلماء الإسلام.

العلماء الذين بحثوا تاريخ الحضارة الإسلاميّة وكتبوا كتُباً في ذلك ، ومنهم علماء الغرب خصصوا فصلاً مهما من تاريخ الحضارة الإسلاميّة للنهضة العلميّة عند المسلمين ، وعدّدوا فروع علوم مختلفة انتشرت وإتخذت رونقاً خاصاً عندهم مع ذكر روّاد تلك العلوم المسلمين فرداً فرداً.

والنكتة المهمّة هنا هي اعتراف المؤرخين الغربيين الصّريح بأن النّهضة العلميّة في أوربا قد استندت إلى نهضة المسلمين العلميّة وأنّ الأوربيين مدينون في نهضتهم لعلماء الإسلام!

ففي كتاب «تاريخ الحضارة الغربية ومبانيها في الشّرق» والذي كتب من قبل مجموعة من علماء الغرب ، جاء : «عندما نطالع خدمات البيزنطينيّة (١) والمسلمين للثّقافة الغربيّة يمكننا القول بأنّ نوراً عظيماً أشرق من الشرق على الغرب»!

يقول الدكتور ماكس يرهوف في كتاب «ميراث الإسلام» : «لقد كانت علوم العرب (المسلمين) كالقمر المنير الذي يضيء ظلمات ليالي أوربا القرون الوسطى ، ولما ظهرت العلوم الجديدة خفت نور ذلك القمر ، ولكن كان ذلك القمر هو الذي هدانا في تلك الليالي الظلماء حتى وصلنا إلى هذا المستوى ، ويمكننا القول بأنّ نور ذلك القمر لا زال معنا» (٢).

ونقرأ في ذلك الكتاب أيضاً : «.... والخلاصة ، وبهذه الوسيلة (ترجمة كتب علماء

__________________

(١) «البيزنطينيّة» ، إمبراطورية روما الشّرقية وعاصمتها البيزنطينيّة وهي الآن تشمل قسماً من تركية ، وتعتبرإسطانبول الفعلية محلاً لعاصمتها البيزنطينيّة.

(٢) ميراث الإسلام ، ص ١٣٤.

٢٣٧

الإسلام) هطلت علوم الشّرق كمطر الرّحمة على أرض أوربا القاحلة ، فحولتها إلى أرض خصبة مثمرة ، وشيئاً فشيئاً تعرّف الأوربيون على علوم الشرق!».

ويقول هذا الكاتب في مذكرات تحت عنوان «العلوم الطبيعيّة والطّب» : «إنّ ما اكتشف في السنين الأخيرة كان نوراً جديداً على تاريخ علوم العالم الإسلامي القديم ، ولا شكَّ في أنّ هذه الإكتشافات ليست كافية لحد الآن ، وأنّ العالم سيقف أكثر فأكثر على أهميّة العلوم الإسلامية في المستقبل» (١).

وفي مقالة اخرى عن البروفسور «كيب» أستاذ اللغة العربية في جامعة لندن ، تحت عنوان «نفوذ الأدب الإسلامي في أوربا» يقول :

«عندما نلقي نظرة على الماضي نلاحظ بأنّ علوم وأدب الشرق كان بمنزلة المادة الأولية للحضارة العربية بنحو أضاءت معنويات وأفكار الشرق ، الروح الكدرة لأهل القرون السّالفة الغربيين ، وهَدَتْهُم إلى عالم أوسع» (٢).

وكتب «جرجي زيدان» المؤرخ المسيحي المعروف في كتابه «تاريخ الحضارة الإسلاميّة» في مبحث تأثير الإسلام في العلوم والمعارف التي وردت دائرة الإسلام من الخارج ، قائلاً : «عندما وصلت الحضارة الإسلاميّة إلى مرحلة الكمال ، وانتشرت العلوم الأجنبية في بلاد المسلمين ، بدأ المسلمون بتعلُّمِ تلك العلوم ، فاستفاد بعض (علماء الإسلام) من نبوغهم وسبقوا أهل تلك العلوم الأصليين ، وأضافوا إليها آراء واكتشافات جديدة ، وبهذا تنوعت العلوم وتكاملت وانسجمت مع الثّقافة والآداب الإسلاميّة ، واتخذت شكل الحضارة الإسلاميّة.

وعندما نهض الغربيون لاستعادة علوم اليونان ، أخذوا أكثر هذه العلوم بنفس ذلك اللون الإسلامي من اللغة العربية!» (٣).

ويقول في موضوع آخر : «وممّا قلناه حول دور التّعليم في الحضارة الإسلاميّة ، يمكن

__________________

(١) ميراث الإسلام ، ص ١١١.

(٢) المصدر السابق ، ص ١٨١.

(٣) تاريخ الحضارة ، جرجي زيدان ، ج ٣ ، ص ١٩٦.

٢٣٨

الجزم بأنّ العلم والمعرفة نشأتا في جهات مختلفة عند المسلمين ، وأنّ العلماء والفقهاء والأطباء والفلاسفة قد أبدَوا نبوغهم وإبداعهم في هذا المجال» (١).

وخلاصة الكلام ، إنّ الكتب التّاريخية العالميّة العامّة ، أو تلك الخاصّة بتاريخ الحضارة الإسلامية ، قد ذكرت بوضوح اعترافات مؤرخي الشرق والغرب بتأثير النهضة العلميّة عند المسلمين على تأريخ وعلم وثقافة المجتمع البشري على المدى البعيد أو القصير ، وتفصيل الكلام في ذلك يحتاج إلى كتاب مستقل ، وما ذكر إنّما هو جانب مختصر من ذلك.

٤ ـ مقام المُعَلِّمِ في الإسلام

كما نعلم فإن التعلّمِ في نظر الإسلام واجب عيني ، وقد يكون في بعض العلوم واجباً كفائياً ، أي أنّ بعض العلوم يجب على الجميع تعلّمها ، وأمّا ذلك القسم الذي يتميز بميزة تخصّصية وتعلّمة ليس ميسوراً للجميع ، فهو واجب كفائي.

وكذلك الكلام في تعليم العلوم ، فقسم من العلوم لابدّ أنْ يتم تعليمه للجميع من قبل الذين يحملون تلك العلوم ، في حين أنّ تعليم البعض الآخر ، واجب كفائي.

فعلى كل حال ، فإنّ تَعلُّم وتعليم كلّ العلوم التي يرتبط بها قوام المجتمع البشري مادّياً ومعنويّاً لازم وضروري ، سواءً كان واجباً عينيّاً أو كفائيّاً ، ولهذا فإنّ أي مسلم لا يحق له أن ينفصل عن التّطورات العلميّة الحديثة ، بل عليه ومن أجل تقوية أركان الحكومة الإسلاميّة ، أنّ يبذل كل ما بوسعه لتعلّم وتعليم تلك العلوم ، ولا شك في أنّ المسلمين لو قصّروا في هذا المجال وصاروا سبباً في تأخر الدّول الإسلاميّة عن المجتمع البشري ، فإنّهم سيكونون مسئولين أمام الله!

يعتبر القرآن المجيد أنّ المعلم الأوّل هو الله عزوجل ، وأنّ التّلميذ الأوّل هو آدم عليه‌السلام ، وأوّلُ عِلمٍ تعلمه آدم هو ، علم الأسماء «ويحتمل قوياً أنّ المراد من ذلك هو الإطلاع على أسرار الخلقة وموجودات الكون».

__________________

(١) تاريخ الحضارة ، جرجي زيدان ، ج ٣ ، ص ٢٢٢.

٢٣٩

وآدم لم يكن الوحيد الّذي تعلَّم من الله عزوجل ، بل عَلَّمَ الله يوسف الصّديقَ أيضاً عِلْمَ تفسير الأحلام : (وَعَلَّمتَنِى مِن تَأوِيلِ الأَحَادِيثِ). (يوسف / ١٠١)

وعلَّمَ سليمان لغة الطيور وقال : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيرِ). (النّمل / ١٦)

وعلَّمَ دواد عليه‌السلام صنعة الدّروع : (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ). (الأنبياء / ٨٠)

وعلّم الخضر علْماً واطلاعاً كثيراً : (وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَّدُنّا عِلْماً). (الكهف / ٦٥)

وعلَّمَ الملائكة علماً جمّاً : (سُبْحَانَكَ لَاعِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمتَنَا). (البقرة / ٣٢)

وعلَّمَ البشر النّطق والبيان : (عَلَّمَهُ البَيَانَ). (الرحمن / ٤)

وفوق كلّ ذلك فإنّه علَّمَ نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله علوماً ومعارف لا يمكن تحصيلها عن طرق طبيعية (وَعَلَّمَكَ مَالَم تَكُنْ تَعْلَمُ). (النساء / ١١٣)

كما أنّ المَلَك العظيم سفير الوحي جبرئيل قد علَّمَ النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله علوماً كثيرة (عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى) (١). (النجم / ٥)

والأنبياء عليهم‌السلام بدورهم يُعتبرون في زمرة أكبر معلمي العالم حيث إنّهم علَّموا البشريّة علوماً ومعارف كثيرة في مجالات الدّين والدّنيا ، يقول القرآن الكريم في نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أعظم الأنبياء : (ويُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ). (الجمعة / ٢)

ونفس هذا المنهج سلكه كلّ نبيّ من الأنبياء عليهم‌السلام مع أمّته وعلَّمهم علم الدّين والدّنيا.

والعلماء وهم ورثة الأنبياء ، جلسوا مقعد التعليم بعد الأنبياء وعلّموا النّاس العلم والمعرفة ، ولذا فإنّ مقامهم في نظر القرآن شامخ وعظيم حتّى قال تعالى فيهم : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتِ). (المجادلة / ١١)

وأمّا مقامُ المعلِّم في الرّوايات الإسلاميّة فإنّه شريف وعظيم حتّى أنّ الله وملائكته وكل الموجودات ـ حتّى النملة في جحرها والحيتان في البحار ـ تصلّي عليهم كما ورد في الحديث المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال :

__________________

(١) أكثر المفسرين ، فسروا «شديد القوى» بأنّه جبرئيل ، ولكن البعض يرى أنّ المقصود (بشديد القوى) هو الذات الإلهيّة المقدّسة.

٢٤٠