نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

آداب الجهاد

أحد أفضل الطرق لمعرفة أصالة المدارس الفكرية هو دراسة كيفية سلوك أنصار تلك المدرسة مع العدو وخاصة في ميدان الحرب وما بعدها أي مع أسرى الحرب وما تفرزه تلك الحرب.

ودراسة الآيات القرآنية والرّوايات الإسلاميّة الواردة في آداب الحرب توضح هذه الحقيقة وهي أنّ الإسلام لم يتخلَّ عن الإهتمام بالمسائل الأخلاقيّة والإنسانيّة حتّى في أخشن لحظات الحياة ، يعني ميدان القتال ، فنجده قد عجن مورد الغضب باللطف والخشونة بالرحمة ، ولا شك أنّ على الحكومة الإسلاميّة أنّ تهتم بهذه الأخلاقيّة الرّفيعة التي لها أثر عميق في كيفية نظرة الأجانب للإسلام والتي يمكنها أن تكون وسيلة لاستقطاب هؤلاء وتأملهم في الدين الإسلامي علّهُمْ يرجعون.

وقد وردت تأكيدات كثيرة في آيات القرآن على رعاية العدالة وعدم تجاوز الحدود المعقولة والإنسانيّة في مقابل الأعداء.

من جملة تلك الآيات ، قوله تعالى :

(وَقَاتِلُوا فِى سَبيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَايُحِبُّ المُعتَدِينَ). (البقرة / ١٩٠)

ففي الآية إشارة إلى ثلاث نقاط ، الأولى هي أنّ الحرب لابدّ أن تكون لله وفي سبيل الله لا من أجل السلطة والإنتقام.

والاخرى هي أنّ الحرب لابدّ أنْ تكون ضد المعتدي ، أي مالم تُشنَّ الحرب عليكم ، لا تمدوا أيديكم إلى السلاح.

٢٨١

والنقطة الثّالثة هي عدم تجاوز الحدود في ميدان الحرب ، ورعاية الأصول الأخلاقية.

وعليه ، فإن وضع العدو سلاحه واستسلم ، فلا ينبغي قتاله ، وكذا الحال بالنّسبة لأولئك الذين لا يقدرون على الحرب والقتال كالعجزة والشّيوخ والأطفال والنّساء ، فلا ينبغي إلحاق الأذى بهم ، كما أنّ تدمير البساتين والمزارع وهدم الأماكن الّتي يمكن أن يستفاد منها ، واللجوء إلى استخدام الأسلحة ذات الدّمار الشامل ، كل ذلك من مصاديق التعدّي على الأبرياء والأساليب غير الإنسانيّة ، وهي ممنوعة في نظر الإسلام.

وفي نفس السورة (بعد تلك الآية بعدّة آيات) يؤكد تعالى مرّة أخرى على هذا المعنى ويقول :

(فَمَنِ اعتَدَى عَلَيكُم فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمثِلِ ما اعتَدَى عَلَيْكُم وَاتّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ). (البقرة / ١٩٤)

وفي هذا إشارة إلى أنّكم إذا أردتُم نصر الله لكم والإنتصار في الحرب ، فعليكم اجتناب التّعدي والّتمادي في القتال.

ونفس هذا المعنى أكدت عليه سورة المائدة بشكل آخر ، حيث تصرح الآية قائلة : (وَلَا يَجرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا). (المائدة / ٢)

(وتسيطر عليكم روح الإنتقام الناشئة من سلوك أعدائكم الخشن في الحديبية).

وفي الرّوايات الإسلاميّة أيضاً وردت تعبيرات مختلفة وإرشادات كثيرة في مورد رعاية الأصول الأخلاقيّة الإنسانيّة في ميدان الحرب وبعد الإنتهاء منها تجاه الأعداء ، وتتجلى في هذه الرّوايات العواطف الإنسانيّة وروح السّلم بشكل واضح.

كتب أرباب السّير في سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه متى ما أمرَ جيشاً بالسّير إلى حرب ، كان يستدعي الجيش وقادته ويعظهم ويرشدهم بمواعظ وإرشادات منها : «إذهبوا باسم الله تعالى ...» (١).

اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تعالى ، قاتلوا من كفر بالله ولا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثلّو ،

__________________

(١) منتهى الأمال ، ج ١ ، ص ١٦ ، في باب الفضائل الأخلاقية عند النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكر العلامّة المجلسي شبيه هذا المعنى في بحار الأنوار ، ج ٩٧ ، ص ٢٥.

٢٨٢

ولاتقتلوا وليداً ولا متبتلاً في شاهق ولاتحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ولا تقطعوا شجرة مثمرة ولا تحرقوا زرعاً وأنّكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه ولا تعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه إلّاما لابدّ لكم من أكله وكان ينهى عن إلقاء السم في بلاد المشركين ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفسه لم يتعامل مع الأعداء بغير هذا التّعامل الإنساني ، فلم يتوسل بالإغارة لتحقيق النصر ، وكان يرى جهاد النّفس مقدّم على كل شيء.

والتّدقيق في هذه الإرشادات الدّقيقة جدّاً ، يبيّن بوضوح أنّ الإسلام لم يغفل عن المسائل الأخلاقيّة المرتبطة بالحرب أبداً ، وإن شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعمل بها بحذافيرها تجاه العدو ، لا مثل الأشخاص الذين يدافعون عن حقوق الإنسان بألسنتهم فقط ، وأمّا أعمالهم فلا تشير إلى شيء من ذلك.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ التأكيد على أنّ جهاد النّفس أفضل الجهاد ، إشارة إلى أنّ المسلم الحقيقي هو المسلم الذي يراعي الأصول الإنسانية في ميدان الحرب.

وممّا ذكر يتّضح أنّ الإسلام يمنع من استخدام الأسلحة الكيميائية وكل سلاح ذي دمار شامل ، وعلى الحكومة الإسلاميّة أن تجتنب استخدام مثل هذه الأسلحة.

وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : «فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مُدْبِراً ولا تصيبوا مُعْوراً ولا تجهزوا على جريح ولا تهيجوا النّساء بأذى وإن شَتَمْنَ أعراضكم وسببنَ امراءَكُم» (١).

ومن خلال التأمل في حديث النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي ذكرناه وأوامره إلى الجيش وقادته قبل الحرب ، يتضح لنا أنّ هذه الإرشادات إنّما هي من متبنيات الإسلام الأساسيّة في الجهاد والحرب ضد الأعداء ، وعلى الحكومة الإسلاميّة أن تعمل كلّ ما بوسعها من أجل إحياء تلك المباني والمحافظة عليها.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ١٤.

٢٨٣

أقسام الجهاد :

الجهاد الإسلامي وإن قسَّمهُ المحققون إلى قسمين هما : الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي ، ولكل منهما فروع اخرى ، ولكن في الواقع حتى الجهاد الإبتدائي يعتبر جهاداً دفاعيّاً كما سيتضح لنا لاحقاً ، وبعد هذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن المجيد ، ونتناولها بالبحث والتحقيق :

١ ـ الجهاد الإبتدائي

ورد في سورة الحج ، والتي يعتقد بعض المفُسرين أنها أول آية نزلت في الجهاد : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِانَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِم لَقَدِيرٌ). (الحج / ٣٩)

ثُم يضيف تعالى في توضيح المطلب ويقول : (الَّذِينَ اخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ).

والتعبير (بالإذن) في الآية يناسب ما ذهب إليه القائلون بأنّها أول آية نزلت في الجهاد ، وتدلّ على عدم وجود مثل هذا الإذن قبل ذلك.

وعلى أيّة حال ، فهي تدلّ بوضوح على أنّ بداية تشريع الجهاد هو الجهاد الدّفاعي في مقابل العدو ، ذلك العدو الذي أجبر المسلمين على الهجرة وترك منازلهم بلا ذنب اقترفوه ، نعم إن كان لهم ذنب فهو الإعتقاد بالله تعالى وحده.

ويذهب البعض الآخر من المفسرين إلى أنّ أوّل آية في الجهاد هي قوله تعالى :

(وَقَاتِلُوا فِىِ سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ). (البقرة / ١٩٠)

وحتى لو قبلنا هذا الرأي فإنّ أساس الجهاد مبتنٍ على كسر هجوم العدو وعدوانهم ، وكلّ عاقلٍ يدرك أنْ السكوت على عدوان العدو السّفاك لا يتلائم مع أي منطق.

والتّعبير بـ «في سبيل الله» يدلُّ على أنّه حتّى الدّفاع الإسلامي ، إنّما يكون لله وعلى أساس الموازين الشّرعية الإلهيّة لا طلباً للتَّسلط والجاه والهوى.

٢٨٤

هذا أول شكل للجهاد في الإسلام ، ولكن لا ينبغي أن يُفهم من معنى «الجهاد الدّفاعي» أنّ الحكومة الإسلاميّة لابدّ أن تجلس مكتوفة الأيدي بلا حراك حتّى يدخل العدو بيتها ويغزوها في عقر دارها ، ثم تهب للدفاع ، بل على العكس من ذلك ، فبمجرّد أن تشعر باستعداد العدو للهجوم والقتال وأن غرضه هو الإعتداء على بلاد الإسلام ، عليها أن تأخذ بزمام المبادرة وتكسر شوكة العدو وقدرته في مهدها.

٢ ـ الجهاد لإخماد نار الفتنة

ورد في قوله تعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَاتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِميِنَ). (البقرة / ١٩٣)

وكما أشرنا فيما سبق فإنَّ في تفسير مصطلح «الفتنة» بين العلماء كلام ، ولكن مهما فسرنا «الفتنة» ، تارةً بإيجاد الفساد ، وإيذاء المؤمنين أو بالشّرك وعبادة الأوثان المقترنة بفرض هذا الإعتقاد على الآخرين ، أو كان بمعنى إضلال وإغواء وخداع المؤمنين ، كلّ ذلك أنواع من الهجوم من قبل العدو على المؤمنين ، ولذا فإنّ الجهاد في مقابل ذلك يأخذ شكلاً دفاعيّاً.

وجملة (فَإِنِ انتَهَوا فَلا عُدوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِميِنَ) تدل بوضوح على أن الهدف هو الحدُّ من ظلم الظّلمة الجائرين.

والملفت للنّظر أنّه ورد في الآية نفس السورة :

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَاخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيثُ اخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ). (البقرة / ١٩١)

فهذه الآية وبملاحظة الآية السّابقة الّتي تتحدث عن المشركين المهاجمين ، تدعو بصراحة إلى قتال ومحاربة أولئك الذين أغاروا على المسلمين وأخرجوهم من ديارهم ومنازلهم والذين لا يمتنعون من ارتكاب أي جريمة في حقّ المسلمين خاصّة من أجل تغيير عقيدتهم ، فكانوا يمارسون الضّغوط والتّعذيب الوحشي ضدّهم ، فالقرآن لا يجيز قتال هؤلاء فحسب ، بل إنّه يوجب ذلك عليهم.

٢٨٥

والفتنة وإن فُسَّرت في بعض الأحاديث وكلمات جمعٍ من المفسرين بالشّرك وعبادة الأوثان ، ولكن قرائن كثيرة في هذه الآية والآيات السّابقة واللاحقة تدلّ بوضوح على أنّه لم يكن المنّظور منها الشّرك أبداً ، بل أعمالٌ كأعمال مشركي مكّة الّذين كانوا دائماً يمارسون الضّغوط والتّعذيب ضدّ المسلمين لتغيير عقيدتهم ، ولذا ورد في تفسير «المنار» في معنى الآية قوله : (حتّى لا تكونَ لَهُم قوَّة يفتنونَكُم بها ويؤذونكُم لأجلِ الدّين ويمنعونكم من إظهارهِ أو الدّعوة إليه) (١).

ولا شكَّ في أنّ مثل هذه الفتنة وسلب الحريات والتّعذيب والضّغوط لتغيير العقيدة ودين الله أشدُّ من القتل.

وعليه فجملة «ويكون الدّينُ كُلُّهُ لله» إشارة إلى أنّ رفع الفتنة إنّما يكون في أن يعبد شخص خالقه بحرية ، وأن لا يخشى أحداً ، لا أنْ يكون المشّركون أحراراً في عبادة الأوثان فيبدلوا الكعبة إلى محل عبادة الأصنام ، ويُسلَبُ المسلمون حقّ قول «الله أكبر» و «لا إله إلّا الله» علناً.

وعلى أيّة حال ، فالآيات (١٩٠) و (١٩١) و (١٩٣) من هذه السّورة والمرتبطة بعضها مع البعض الآخر ، تدلّ جميعاً على أنّ إخماد نار الفتنة باعتباره هدفاً للجهاد الإسلامي له جنبة دفاعيّة في الواقع ، ويحفظ المسلمين في مقابل الهجمة الثّقافيّة والاجتماعيّة والعسكريّة لأعداء الإسلام.

٣ ـ الجهاد لحمايّة المظلومين

يدعو القرآن الكريم المسلمين إلى الجهاد من أجل حماية المظلومين وقتال الظالمين وتقول : (وَمالَكُمْ لَاتُقاتِلُونَ فِي سَبيلِ اللهِ والْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا اخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَليّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصيراً). (النساء / ٧٥)

__________________

(١) تفسير المنار ، ج ٢ ، ص ٢١١.

٢٨٦

ففي الآية أوّلاً دعوة للجهاد في سبيل الله ، ثُمّ تعقب مباشرة بالكلام عن المستضعفين والمظلومين الذين مارس الأعداء القساة معهم أشدَّ الضّغوط حتى أجلوهم عن وطنهم وديارهم ومنازلهم وأهليهم ، ويبدو أنّ هذين المعْنيين يعودان في الواقع إلى معنى واحد ، إذ إنّ نصرة مثل هؤلاء المظلومين مصداق واضح من مصاديق الجهاد في سبيل الله.

وينبغي أن لا نغفل عن الفرق الواضح بين «المستضعف» والضّعيف ، فالضّعيف يطلق على الشّخص العاجز ، أمّا المستضعف فهو الشّخص الذي أُضطهد على يد الظّلمة الجائرين ، سواءً كان اضطهاداً فكرّياً أو اجتماعيّاً أو اقتصادياً أو سياسيّاً (إلتفتوا جيداً).

ومن الواضح أنّ هذا الجهاد جهادٌ دفاعي أيضاً ، وهو الدّفاع عن المظلومين ضد الظّالمين.

والأهداف الثّلاثة المذكورة ، هي أهم أهداف الجهاد الإسلامي ، وبالرغم من تقسيمه إلى قسمين (الجهاد الابتدائي والجهاد الدّفاعي) إلّاأنّ حقيقتهما دفاعيّة ـ ولهذا لا نجد في تاريخ الإسلام مورداً واحداً يدلّ على استعداد الكافرين للعيش بصلح وسلام مع المسلمين ومواجهة ذلك بالرّد والرّفض من قبل الإسلام.

واليوم أيضاً ، ليس للحكومة الإسلاميّة هدف عدواني ضد أحدٍ ، ومالم تفرض عليها الحرب فإنّها لا تقاتل أحداً أبداً ، ولكنّها تعتقد أنّ الدّفاع عن المظلومين من أهم وظائفها ومسؤولياتها ، وأنّ حبّ الفتنة وإيجاد الرّعب والوحشة والتّضييق والضغوط وسلب الحريات من قبل أعداء الإسلام نوعٌ من أنواع إعلان الحرب ، ولذا تعتبر نفسها مسؤولة عن الدّفاع ضد المعتدين.

ونكرر ثانية ، إنّ مفهوم الدّفاع ليس أنْ يجلس الإنسان مكتوف الأيدي حتّى يُغزى في عقر داره ، بل عليه أنْ يتحرك إيجابياً ضدّ تحركات الأعداء ويحفظ قدرته العسكريّة القتاليّة وخاصة في الظرّوف الحسّاسة ، وأنْ يبادر بضرب الأعداء قبل أن يفاجئه العدو المتآمر.

* * *

٢٨٧
٢٨٨

الحكومة الإسلاميّة والسّلام

لا شك في أنّ الحرب وإراقة الدماء والتّخريب مضافاً إلى منافاتها للفطرة السليمة ، فإنّها لا تنسجم أيضاً مع قوانين عالم الوجود.

فالحرب ، هي نوع من المرض والانحراف واللجوء إلى العنف للوصول إلى الأهداف الظالمة ، وحتى الحروب المقدسة التي تتميز بصفة الدفاع عن الحق والعدالة ، إنّما تنشأ نتيجة انحراف مجموعة من النّاس عن الصّراط المستقيم ، وتارة تفرض على بعض الأفراد أو الأمم.

فحصيلة الحرب دائماً هي الدّمار وإزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وتخريب المدن وتعطيل الإعمار ، وتأصيل العداوات والبغضاء.

ولذا ينبغي اجتناب الحروب كلما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، واستغلال القوى البشريّة والمنح الإلهيّة في طريق بناء المجتمعات.

نحن نعرف أنّ جهاداً وقتالاً دائماً يدور في داخل وجود كلّ إنسان ، وهو الجهاد ضد الميكروبات الخارجية ، فكريات الدّم البيضاء الّتي تعتبر في الواقع جنوداً مدافعة عن الجسم في حالة قتال دائم ومرير مع أنواع الميكروبات التي ترد إلى الجسم عن طريق «الماء» والغذاء و «الهواء» و «الجروح».

وهذه الحرب في الواقع ، حرب دفاعيّة أيضاً ، فلو توقفت الميكروبات عن مهاجمة جسم الإنسان لتوقف دفاع كريات الدم ، وعندها فلا حرب.

يحاول بعض المفكرين الذين جنّدوا طاقاتهم لخدمة المستعمرين أنْ يصوروا الحرب

٢٨٩

على أنّها أمرٌ ينسجم مع الطبع البشري ، فيضفون الشّرعية على استخدام المستعمرين القوّة والعنف لتحقيق أهدافهم الخبيثة التّوسعية ، فهؤلاء يتوسلون بأصل الصّراع من أجل البقاء وهو أحد أصول (دارون) الأربعة ويقولون : «ينبغي أنْ تكون الحرب والصّراع بين البشر قائمة على قدمٍ وساق وإلّا عمَّ الخنوع والضّعف الأرض ، وتأخر نسل البشر إلى الوراء! وأمّا الصّراع والحرب فهو سبب لبقاء الأقوياء واضمحلال الضعفاء وزوالهم وبهذا تتحقق مسألة انتخاب الأصلح!!».

وقد يُستدل أحياناً ببعض آيات القرآن ـ التي يفسرونها تفسيراً محرّفاً بالإعتماد على الرأي ـ لإثبات هذا الموضوع.

ولكن هذا الاستدلال ضعيف جدّاً ، إذ على فرض قبول هذا الأصل ـ الصّراع من أجل البقاء ـ في خصوص الحيوانات المفترسة المتوحشة ـ وهو رأي مردود من قبل العلماء الذين نقدوا الأصول الدارونية ـ فلا يمكن أن نقبل ذلك في عالم الإنسانيّة ، إذ إنّ البشر يمكنهم أنْ يتكاملوا عن طريق التعاون البقائي والإستباق السّالم للرقي ، كما يفعلون ذلك في ميدان الصّناعة والسّياسة بين الأحزاب والجمعيات المتنافسة في دنيا اليوم ، وعلى هذا الأساس فإنّ حياة البشريّة اليوم مبتنية على أصل التّعاون من أجل البقاء لا الصّراع من أجل البقاء.

وعلى كل حال ، لا نجد أي دليل يمكنه توجيه الحرب وإضفاء الشرعيه عليها وخاصة في مثل حروب هذا العصر التي لا يمكن جبران الخسائر النّاجمة عنها في قرون ، سواءً الخسائر البشريّة أو الصّناعية والزّراعيّة وغيرها.

والفكر السّقيم المريض فقط هو الذي يمكنه تبرير مثل هذه الحروب.

وبعد هذه الإشارة نعود للقرآن المجيد ، ونحقق في روح السّلم في الحكومة الإسلاميّة :

١ ـ (يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ). (البقرة / ٢٠٨)

٢ ـ (وَانْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (الأنفال / ٦١)

٢٩٠

٣ ـ (فَانِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَالْقَوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً). (النساء / ٩٠)

٤ ـ (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغى حَتَّى تَفِىءَ إلَى امْرِ اللهِ فَانْ فَاءَتْ فَاصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَاقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (الحجرات / ٩)

٥ ـ (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ). (النّساء / ١٢٨)

٦ ـ (وَاذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ). (البقرة / ٢٠٥)

٧ ـ (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ الْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤمِناً). (النساء / ٩٤)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

تدعو الآية الاولى المؤمنين في كل العالم إلى الصّلح والسّلام والاستقرار ، وتعتبر الحرب من مؤامرات ومخططات الشّيطان ، يقول تعالى :

(يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).

فمن جهة تخاطب الآية المؤمنين ، وهذا يدلّ على أنّ السّلام والصّلح لا يتحقق إلّافي ظل الإيمان.

ومن جهة أخرى ، فإنّ الإعتماد على مصطلح «كافَّة» يدلّ على عدم وجود أي استثناء في قانون الصّلح ، وأنّ الحرب أمرٌ مخالف لتعاليم الإسلام والقرآن ، ولا يمكن تصورها إلّا بشكل مفروض.

ومن جهة ثالثة ، فإنّ التعبير «بخطوات» إشارة لطيفة إلى أنّ أسباب الحرب تنشأ بشكل تدريجي وأنّ شياطين الجنِّ والإنس يسوقون النّاس خطوة خطوة نحو

٢٩١

الإقتتال ، وكما ورد في المثل المعروف «بَدْو القِتال اللّطام» أي الصفعه ، ولذا ينبغي إخماد نار الحرب في مراحلها الأولى.

ومن جهة رابعة ، يستفاد من الآية أنّ كلّ عمل يؤدّي إلى عرقلة عملية السلام والصلح ، إنّما هو عمل شيطاني ، ولم لا يكون كذلك والحال أنّ الحرب نارٌ محرقة تأكلُ كلّ القوى والطّاقات الماديّة والمعنوية البشريّة وغير البشريّة وتحيلها إلى رمادٍ ، وخاصّة في مثل عصرنا الحاضر والذي تكون الحروب فيه أفضع وأكثر تخريباً وخسارة من الحروب السابقة ، وطبقاً للحسابات والاحصائيات فإنّ جبران الخسائر النّاجمة من بعض الحروب تستغرق أحياناً قرناً من الزمن ، وهذا بالنسبة إلى الخسائر المادية فقط ، أمّا الخسائر البشريّة فهي غير قابلة للتعويض والجبران أبداً.

وقد يكون ذلك هو السّبب في أنّ الملائكة اعتبروا أنّ من أهم العيوب في الإنسان هو إراقته للدّماء والحروب المدمرّة ، وذلك عندما قال تعالى : (إِنّىِ جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً) فكان جواب الملائكة : (قَالُوا اتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ). (البقرة / ٣٠) فيتضح أنّه لا عيب أقبح من هذا العيب.

وما ينبغي التّأمل فيه هنا هو أنّ أرباب اللّغة صرّحوا بأنّ «السِلم» و «السَلَم» كلاهما بمعنى «الصّلح» وقد اخذا من مادة «السّلامة» وإن أحد أسماء الله تعالى هو «السلام» ، وذلك لإنّ ذاته المنزهة هي مصدر الصّلح والإستقرار والسّلامة ، وطبقاً لما ورد في «التحقيق» فإنَّ مادة «سِلْم» في الأصل ما يقابل «الخصومة» ولازمها الخلاص من الآفات والبلايا والوصول إلى السّلامة والعافية ، وإنّما سُمي الإسلام (إسلاماً) لأنّه منشأ الصّلح والسّلامة في الدّنيا والآخرة ، (والسُلَّمْ) هو الآلة التي يصل بها الإنسان سالماً إلى النقاط العالية ثم يعود كذلك.

والعجيب أن بعض المفسرين الكبار فسّروا «السِّلْمَ» في هذه الآية بتفسيرات لا تتناسب مع ظاهر الآية.

* * *

وفي الآية الثّانية ، إشارة إلى جماعة من الّذين يحاربون المسلمين ، يقول عزوجل : (وَانْ

٢٩٢

جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

والمهم هنا هو أنّ هذه الآية في سورة الأنفال وردت بعد آية شريفة تأمر المسلمين بالإستعداد الدّائم وتهيئة كافة أنواع القوى لإخافة الأعداء.

أي أنّ الهدف الأصلي ليس هو الحرب ، بل من أجل تقوية دعائم الصّلح أيضاً ، إذ لو لم يكن المسلمون مستعدين تماماً ، لسيطرت الروح الاستعمارية والتسلط على تفكير العدو.

والنّكتة المهمّة الاخرى هنا هي استخدام لفظ «جَنَحُوا» المأخوذة من مادة (جَناح) بمعنى الخضوع والرّغبة والتّحرك نحو الشيء ، ومفهومها التّرغيب في قبول حتّى المحادثات الأوليّة للصّلح.

والتّعبير بـ «توكّل على الله» قد يكون إشارة إلى أنّ بعض المسلمين أخذ يروّج أنّ رغبة العدو في الصّلح إنّما هي خدعة منهم ، ولذا خالفوا ذلك ، أو على الأقل دبّت فيهم بعض الوساوس.

فالقرآن يخاطب الرّسول الكريم ويأمره بعدم الأخذ بآراء هؤلاء ووساوسهم إذا ما رغب العدو في الصّلح ، وإنّما عليه أن يتوكل على الله ويجنح للسّلم مع رعاية موازين الإحتياط اللازم.

فهذه الآية من الآيات التي توصي الحكومات الإسلاميّة باتخاذ الرّغبة في الصّلح أصلاً أساسياً في سياساتها ، وما قاله البعض من أنّ هذه الآية نسخت بآيات الجهاد (١) لا أساس له ، إذ لا دليل عليه ، حيث لا تنافي بين آيات الجهاد وهذه الآية ، فلا ضرورة للقول بالنسخ.

* * *

وفي الآية الثّالثة إشارة إلى مجموعة من الكفّار من أنصار الحرب ، حيث تقول : (فَانِ اعْتَزلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَالْقَوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبيِلاً).

وتعبير (فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) تأكيد كاملٌ على قبول دعوة الصّلح التي تقدم

__________________

(١) راجع تفسير الكبير ، ج ١٥ ، ص ١٨٧.

٢٩٣

بها العدو ، ذلك الصّلح العادل الحقيقي لا الصّلح الكاذب الذليل.

وذكر في سبب نزول هذه الآية ، إنّها تحكي عن طائفة «الاشجع» حيث جاء جمع منهم بزعامة مسعود بن رجيله إلى مقربة من المدينة ، فأرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ممثلين عنه إليهم للتّعرف على نواياهم من هذا السّفر ، فقالوا :

جئنا للتّعاقد مع محمّد على ترك المخاصمة (وأن نكون على حياد في نزاعكم مع الآخرين). فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذوا إليهم مقداراً من الّتمر بعنوان الهديّة ، ووقع على عقد ترك التّعرض معهم.

ومن البديهي أنّ مفهوم الآية قانون كلّي عام وخالد ، وإن كان سبب نزولها مورداً خاصّاً ، لإنّنا نعلم بأنّ سبب النّزول لا يحدد مفهوم الآيات العام.

* * *

وفي الآية الرّابعة ، حديث عن الحروب المحتملة في داخل الدّولة الإسلاميّة بين الاجنحة المتخاصمة ، أي طوائف من المؤمنين ، ففي الآية أمرٌ أكيد على إقرار الصّلح بينها ، فإن أُغلقت كلّ الطّرق إلّاقتال الفئة الباغيّة لتحقيق الصّلح والسّلام ، كان ذلك واجباً على المؤمنين ، يقول تعالى :

(وَإِنْ طَائِفَتانِ مِنَ الْمُؤمِنيِنَ اقْتَتَلُوا فَاصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) ثُمّ يضيف (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الاخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغى حَتّى تَفِىءَ إِلَى امْرِ اللهِ) ، وفي الختام يعود إلى مسألة الصّلح ويقول : (فَانْ فَاءَتْ فَاصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَاقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

فالمستفاد من صدر الآية هو أنّ ترك الخصام وإقرار الصّلح داخل الدّول الإسلاميّة أصل أساسي أيضاً ، ولذا فإنّ الشّارع جوّز القتال باعتباره آخر الحلول المتصورة لتحقيق هذا الهدف!

ويستفاد من ذيل الآية أنّ الصّلح لابدّ أن يكون عادلاً ومن موقع القوّة ، لا أنْ يكون جائراً ومن موقع الضّعف والإستسلام ، إذ إنّ مثل هذا الصّلح الأخير يكون دائماً متزلزلاً وغير ثابت ويُربّي في داخله نطفة الحرب.

٢٩٤

والنّكتة المهمّة هنا هو أنّه ورد التعبير في الآية بـ «العدل» أحياناً ، واخرى بتعبير «القسط» ، وعلى رأي الرّاغب الأصفهاني ، فالعدل لفظ يحمل مفهوم المساواة ، و «القسط» يعني «النّصيب العادل» (غاية الأمر ، إذا جاء هذا المصطلح بصيغة الثّلاثي المجرّد فإنّه يعني أخذ نصيب الآخرين ، وعليه فإنّه يعطي مفهوم الظّلم ، وتارة يستعمل على وزن أفعال ـ أقساط ـ ومفهومه إعطاء نصيب وسهم الآخرين ، وحينئذٍ يحمل معنى العدالة).

وطبقاً لهذا البيان ، وتعبيرات اخرى للراغب ، فإنّ كلمة «القسط» و «العدل» واحدٌ من حيث المعنى والمفهوم ، ولكن يمكن أنْ يكون بينهما فارق وهو أنّ مصطلح «القسط» و «الإقساط» يستعمل في الموارد التي يشترك فيها جماعة إذا اعطي لكل واحد منهم نصيبه الكامل فذلك القسط ، وإلّا فهو «الجور».

وأمّا «العدالة» التي يُقابلها «الظّلم» فإنّ لها مفهوماً أوسع من ذلك فهي تستعمل في موارد الشّركة وفي غير موارد الشّركة ، وعليه ، فإن كان مالٌ حقاً مُسَلَّماً لشخص ما ، وأُعطي ذلك الحقّ فتلك هي العدالة وإن أُخذ ذلك الحق منه فهو «الظلم» (١).

* * *

والآية الخامسة ناظرة إلى الخلافات الشخصية الخاصة ، فتأمر بإقرار الصلح بين الرجل والمرأة إذا برزت الخلافات بينهما ، يقول تعالى : (وإِنِ امرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَو إِعَراضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيِهمَا أَن يُصلِحَا بَينَهُمَا صُلحًا وَالصُّلحُ خَيرٌ).

وعلى الرّغم من أنّ مورد الآية هو الصّلح في الخلافات الزوجية ، ولكن مفهوم العبارة واسع جدّاً يشمل كل صلحٍ وصفاء بين شخصين أو مجموعتين أو شعبين ودولتين. (تأملوا جيداً).

والملفت للنّظر هو أن الصّلح الوارد في هذه الآيات المتعاقبة ورد في ثلاث صور هي :

__________________

(١) وفي الواقع أن النّسبة بينهما هي نسبة العموم والخصوص المطلق ، فللقسط مفهوم خاص يستعمل في موارد الشّركة فقط ، والعدالة مفهوم أوسع يشمل غير موارد الشّركة.

٢٩٥

الصّلح بين المسلمين وأعدائهم الّذين يرغبون في الصّلح.

والصّلح بين المجاميع المتخاصمة من المسلمين أنفسهم.

والصّلح بين فردين متنازعين.

إنّ الصّلح العادل الشّريف مطلوب بكل أشكاله ، حيث الإسلام يدافع عن مثل هذا الصّلح ، ومسئوولية الحكومة الإسلاميّة هي تقويّة أُسس الصّلح في هذه المراحل الثّلاثة أيضاً.

* * *

والآية السّادسة التي لا تشير إلى مسألة الصّلح بشكل مباشر ولكنّها تحمل رسالة بيّنةً بشكل غير مباشر في هذا المجال ، إذ إنّها تقول في ذم بعض المنافقين (إنّ له ظاهراً خادعاً) وعندما يخرج من عندك : (وَاذَا تَوَلَّى سَعَىَ فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَايُحِبُّ الْفَسَادَ).

وفي الآية اللاحقة في نفس هذه السّورة يُهددَّ أمثال هؤلاء الأشخاص بالعذاب الإلهيّ الأليم ، ومن الطّبيعي ، فإنّ الحروب لا تثمر إلّاالفساد في الأرض وهلاك الحرث والنّسل والأموال سواءً المزارع وحقول تربية الحيوانات وغير ذلك ، ولذا فإنّها منفورة في نظر الإسلام ، ومالم يكن هناك موجب ومسوغ مشروع للحرب ، ينبغي الإنتهاء عنها ، وبعبارة اخرى (الصّلحُ أصلٌ والحرب استثناء).

* * *

النَّتيجة :

من مجموع ما جاء في الآيات الآنفة الذكر ، يُستفاد أنّ أساس الحكومة الإسلاميّة قائم على الصّلح والصّفاء والصّداقة ، وقد اعتبر القرآن الكريم ذلك أصلاً ثابتاً في كلّ الأحوال سواء في مورد الأعداء ، أو في مورد الاصدقاء والأحبّة ، وحتى في داخل الأُسرة الواحدة

٢٩٦

وآحاد النّاس ، وإذا لم يكن هناك مبرر وموجب لفرض الحرب ، فلا يرجح القرآن الحرب أبداً.

ولكن هذا لا يعني أنْ يفقد المسلمون استعدادهم العسكري فيرغب الأعداء في الهجوم عليهم ، كما أنّه لا يعني أنْ يقبل المسلمون الصّلح غير العادل ومن موقع الضّعف ، إذ إنّ هذين الأمرين من عوامل الحرب ، لا الصلح العادل الثّابت.

وكذلك الرّوايات الإسلاميّة فإنّها تؤكد على ضرورة السّعي والجدّ في إقرار السّلام والصّلح في المجتمعات البشريّة ، حتّى ورد في الحديث :

«أجْرُ المُصْلِح بين النّاس كالمجاهدِ في سبيلِ الله» ، أي لا تتصوروا أنّ كلّ ذلك الثَّواب العظيم المذكور «للمُجاهِدينَ فِي سَبيل اللهِ» لا يشمل «المُصلحين» ، بل إنّ السّاعين إلى إقرار السّلام حالهم حال المجاهدين المترصدين للعدو في المتاريس ، وورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال :

«من كمال السّعادة السّعي في صلاح الجمهور» (١).

ويمكن أن يكون لهذا الحديث مفهوم أوسع يشمل كلّ صلاح اجتماعي ، ولكنه بلا شك يدل على الصّلح في قبال الحرب.

وجاء في عهده عليه‌السلام لمالك الأشتر الذي يعتبر أفضل مصدر للأبحاث المرتبطة بالحكومة الإسلاميّة ، حول إقرار الصّلح :

«ولا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دعاك إليه عَدُوُّكَ ولله فيه رضى فإنَّ في الصّلح دَعَةً لجنودك وراحة من همومك وأمناً لبلادك».

فالإمام عليه‌السلام يبيّن هنا فلسفة الصّلح في ثلاث ثمرات : الأمن للنّاس ، وفرصة لتجديد قوى المقاتلين ، وراحة لفكر رئيس الدّولة.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ الإمام عليه‌السلام لا يعتبر كل صلح مفيد ، بل ذلك الصّلح الّذي فيه

__________________

(١) غرر الحكم ، نقلاً عن ميزان الحكمة ، ج ٥ ، ص ٣٦٣.

٢٩٧

رضى لله تعالى ، أي ، ذلك الصّلح الذي يكون سبباً في عزَّة المسلمين ونشر العدل ، ولكنه يحذّر مالكاً من العدو بعد عقد الصّلح ويقول :

«ولكنّ الحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ من عَدُوِّك بعد صُلْحِه فإنّ العَدو رُبّما قاربَ ليتغَفَّلَ فَخُذْ بالحَزْم واتَّهِمْ في ذلك حُسْنَ الظَّنِّ» (١).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

٢٩٨

أسرى الحرب

تمهيد :

يقع عادةً في أكثر الحروب عددٌ من الأسرى ، وذلك لحصول ظروف قاهرة في أثناء الحرب لم يَعْد بإمكان المقاتلين الاستمرار بالقتال أو التّراجع إلى الخلف ، كأن تنفذ معداتهم أو ينفذ طعامهم أو يحاصروا من قبل القوات المعادية ، حتّى يصبح القتال بالنّسبة لهم نوعاً من الإنتحار ، ولذا يضطرون إلى التّسليم.

والعقل والمنطق يحكمان بعدم جواز قتل هؤلاء ، بل ينقلوا إلى الخطوط الخلفية للجبهات ، ويحبسون في أماكن محروسة ، إلى حين الاستفادة منهم في تبادل الأسرى ، أو الاستفادة منهم في ممارسة الضّغط على العدو والحرب النّفسية لإجباره على الكفِّ عن الاستمرار بالقتال أو كسب امتيازات معينة حين الصّلح.

والأهم من هذا كله ، فإن إراقة الدّماء تحتاج إلى مسوغٍ ومبرر ، وفي حالة استسلام العدو لا يبقى وجه لذلك.

ولذا فإنّ مسألة وقوع الأسرى في الحروب أمرٌ عاديّ وكذلك الحال في الإسلام ، ونلاحظ أنّ الإسلام قد شرّع أحكاماً عديدة ومهمّة بالنسبة للاسرى ، ينبغي على الحكومة الإسلاميّة العمل بها وتطبيقها مع الاسرى الذين يقعون في حوزتها.

وبعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن لنرى أحكام أسرى الحرب من وجهة نظره :

١ ـ (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا اثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإمَّا فِدَاءً). (محمّد / ٤)

٢٩٩

٢ ـ (مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْرَى حَتّى يُثْخِنَ فِى الارْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (الأنفال / ٦٧)

٣ ـ (يَا ايُّهَا النَّبِىُّ قُلْ لِّمَنْ فِى ايْدِيكُمْ مّنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِى قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمّا اخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). (الأنفال / ٧٠)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

تخاطب الآية الأولى المسلمين وتذكِّرهم باستعمال الشدّة والحزم في الحرب ، فتقول أوّلاً : (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ).

وواضح أنّ كلمة «لقيتُم» هنا مأخوذة من «اللقاء» بمعنى الحرب لا كلّ لقاء ، وخير دليل على ذلك هو ذيل الآية حيث تتحدث عن أسرى الحرب.

وبعد التأمل فيما مرَّ من أنّ الحرب في الإسلام كانت دائماً دفاعية ومفروضة على المسلمين ، تتضح منطقية الأمر أعلاه وذلك لأنّ المسلمين إذا لم يظهروا الشدّة والحزم قبال هجوم الأعداء ، فإنّ الفشل سيكون حليفهم لا محالة ، فكل إنسانٍ يواجه عدواً سفاكاً للدماء ، إذا لَم يوجه الضربات المهلكة له ، فإنّ ذلك يعني الهزيمة أمامه.

ثُمّ تضيف الآية : (حَتَّى إِذَا اثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ).

وأكثر المفسرين قالوا : إنّ هذه الجملة تعني التّشديد على العدو والإكثار من قتلهم ، ولكن وبعد الإلتفات إلى أنّ هذه الجملة مأخوذة من مادة «ثخن» بمعنى «الغلظة» والصّلابة فإنّه يمكن حينئذٍ تفسيرها بالنّصر والغلبة التّامّة على العدو والسّيطرة الكاملة عليه ، أي ينبغي أن يستمروا بالقتال بقوّة واقتدار حتّى يغلبوا العدو (وعليه فليس الهدف هو إراقة الدّماء وإنّما الهدف هو الغلبة على العدو).

وعلى أيّة حال ، فإنّ الآية الاولى ناظرة إلى أمرٍ عسكري مهم وهو وجوب متابعة الحرب وعدم إيقافها مالم يتمّ التّغلب على العدو وكسره وأخذ الأسرى ، لأنّ إيقاف الحرب يكون

٣٠٠