نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

الركن الثالث : السلطة القضائية

تمهيد :

إنّ القضاء والحكم لحلّ الاختلافات ورفع المشاجرات موجود بين الناس من قديم الأيام. حتى في المجتمعات البدائية كان هناك نوع من التحكيم لحلّ الاختلاف من قبل رئيس القبيلة أو بعض أقربائه أو يتم تعيين شخص لهذا الغرض ، وفي الحقيقة أنّه من العسير أن يذكر تاريخ بداية القضاء ، سوى أن نقول أن عمره يتزامن مع عمر المجتمعات البشرية.

والدليل على ذلك ، لأنّه كما نعلم أنّ حياة الإنسان هي حياة اجتماعية ، وبدون شك فإنّ هذا النوع من المعيشة بالرغم من الإيجابيات يعتبر ميداناً خصباً لنشوء الاختلاف والتضاد ، وبعبارة اخرى ، إنّ هذه الحياة الاجتماعية وبالرغم من أنّها تعتبر مصدراً لمنافع كثيرة وبركات للمجتمعات البشرية وتؤدّي إلى التطور المادي والمعنوي ، إلّاأنّها تحتوي أيضاً على نقاط سلبية ومشكلات عديدة ، وتتلخص في الصراعات التي تظهر دائماً لدفع الاعتداء وإرجاع الحق إلى أهله ، فلولا وجود الجهاز القضائي الصحيح لحلّها ، لتبدلت المجتمعات البشرية إلى ميدان للصراع الدائم والدامي يحرق الأخضر واليابس.

ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الصراع والاختلاف والذي يكون تارة بين اثنين أو أكثر من الأشخاص ، وتارة اخرى بين قبيلتين أو دولتين ، ليس من الضروري أن يكون نابعاً من روح العدوان والأنانية واتباع الهوى. بل لو فرضنا وجود مجتمع يكون مصداقاً تاماً للمدينة الفاضلة ، وكان جميع من فيها على أعلى مستويات الإيمان والأخلاق والتقوى والثقافة الإنسانية ، فمع ذلك يمكن لاختلاف الأذواق وعدم الإطلاع على جزئيات الحقوق

١٤١

الاجتماعية والقوانين الموضوعة أن تكون سبباً لظهور الخلافات في تشخيص الحقوق المُستَحقّة للأفراد.

على هذا الأساس يكون وجود السلطة القضائية على كل الأحوال جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات الإنسانية وبدونها لا يمكن العيش في مختلف السطوح والمستويات الثقافية والفكرية.

ومن البديهي أنّ السلطة القضائية تتوسع وتتعمق بموازاة توسع المجتمعات البشرية ، لأنّه مضافاً إلى زيادة التعداد الكميّ وكثرة الصراعات بسبب كثرة الروابط ، نلاحظ زيادة في كيفية الصراعات وتنوعها ، فلو لم تتوسّع السلطة القضائية بموازاة توسع المجتمع لكان الجانب الاجتماعي مهدداً بالخطر بسبب الاختلافات العميقة والخطرة.

وخلاصة الكلام : إنّ من الضروري وجود جهاز قضائي مقتدر مع ضمانات كافية لأجراء الأحكام وتعميم العدالة الاجتماعية ومنع الظلم والفساد ، ووضع نهاية للصراعات والمنازعات والتنفيذ الصحيح للقوانين ، وكذلك الرقابة الدقيقة على الأجهزة التنفيذية ، وتعريف المسؤولين في مختلف المراتب بوظائفهم ، وبذلك أعطى الدين الإسلامي أهميّة بالِغَة لهذه المسألة ووضع لها المقررات الكثيرة والمتنوعة ، لأنّه دين الحياة الحقيقية للبشرية بمضمون قوله تعالى :

(يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ ولِلْرَسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحييكُمْ). (الأنفال / ٢٤)

نكتفي بهذه الإشارة ونرجع إلى القرآن الكريم حيث أشار إلى هذا الموضوع في عدّة آيات ، منها :

١ ـ يقول القرآن الكريم مخاطباً النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

(انَّا انْزَلْنَا الَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا اراكَ اللهُ وَلَا تَكُنْ لِّلْخائِنيِنَ خَصِيماً). (النّساء / ١٠٥)

٢ ـ ويقول في موضوع آخر مخاطباً الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنسبة إلى التحكيم لغير المسلمين :

١٤٢

(وَانْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ انَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (المائدة / ٤٢)

٣ ـ ويقول في مكان آخر مخاطباً جميع المؤمنين :

(انَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ انْ تُؤَدُّوا الأَمانَاتِ الَى اهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ انْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ انَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ انَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً). (النساء / ٥٨)

٤ ـ ومن جهة اخرى يوصي المؤمنين بالخضوع والتسليم لحكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم إظهار التبرم لا في الظاهر ولا في الباطن ، والقبول بالحق والعدل بالروح والبدن مهما كان الحق مرّاً ، ويقول :

(فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى انْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّموا تَسْلِيماً). (النساء / ٦٥)

٥ ـ ويقول أيضاً :

(انَّما كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ اذَا دُعُوا الَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ انْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَاطَعْنَا وَاولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (النور / ٥١)

٦ ـ ويؤكد القرآن الكريم حتى على مسألة الشهادة في المحاكم والتي هي أحدى المقدمات المهمّة في القضاء بالحق والعدالة ، ويخاطب جميع المؤمنين قائلاً :

(يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ اقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ انَّ اللهَ خَبِير بِما تَعْمَلُونَ). (المائدة / ٨)

فعلى هذا الأساس لا يمكن لأي شيء أن يخلّ بالحق والعدل في المجتمع الإسلامي ، فالشهادة ينبغي أن تكون عادلة سواءً في حق الصديق والعدو ، والقضاء يجب أن يدور حول محور العدالة ويكون الأقرب والأبعد بالنسبة إليه على حد سواء.

* * *

١٤٣
١٤٤

من يكون له حق الفصل والقضاء؟

تمهيد :

كما أن حق الحكومة والحاكمية يعود إلى الله تعالى على أساس أصل «التوحيد الأفعالي» المسلّم به ، كذلك حق القضاء أيضاً يعود إلى من له الإذن من الله تعالى.

«التوحيد الأفعالي» يقول : إنّ كل الأفعال تعود إلى الله تعالى ، و «توحيد الخالقية» يقول : إنّ كل شيء في هذا العالم خُلق منه و «توحيد الحاكمية» الذي هو فرع توحيد الخالقية يقول : إنّ الحكومة لله تعالى خالصة ، وهذا هو السبب في كون القضاء في محيط حكومته من اختصاصه تبارك وتعالى ومن يأذن له بذلك.

من جانب آخر يقول توحيد الطاعة : إنّ الأمر المطاع والمقبول إنّما هو أمر الله تعالى ومن يعود أمره إلى أمر الله تعالى ، فعلى هذا الأساس لابدّ أنّ يكون الحكم القضائي المقبول أيضاً بإذن منه تعالى.

لو نظرنا إلى المجتمع البشري من هذه الزاوية فسوف نجد أنّ مبدأ القضاء واضح جدّاً ، فلا نقع في حيرة في تشخيصه مطلقاً ، لأنّ أنظارنا متوجهة إلى نقطة واحدة وهي التي صدر منها الوجود ، وانبعثت منها الخلائق ، والأمر النافذ في كل شيء هو أمره ، إذن فلابد أن نسعى كي تكون محاكمنا القضائية خاضعة لأمره ومصطبغة بصبغة إلهيّة كي نحصل بذلك على مشروعيتها.

نعود بعد هذا التمهيد إلى القرآن الكريم لنكتشف مسألة انحصار القضاء والتحكيم بالله تعالى :

١٤٥

١ ـ نقرأ في قوله تعالى :

(انِ الْحُكْمُ الَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِيْنَ). (الأنعام / ٥٧)

وقد جاء صدر هذه الآية الشريفة (انِ الْحُكْمُ الَّا لِلَّهِ) في سورة يوسف الآية ٤٠ كذلك. ويمكن أن يكون ما جاء في سورة يوسف له مفهوم أوسع بحيث يشمل الحكومة والقضاء ، ولكن ما جاء في الآية المذكورة فيه إشارة أقوى إلى القضاء وحل الاختلافات بقرينة ذيل الآية الكريمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى مجموعة من المفسرين :

أمثال الطبرسي في مجمع البيان والفخر الرازي في التفسير الكبير (١).

٢ ـ نقرأ في قوله تعالى :

(وَمَنْ لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا انْزَلَ اللهُ فَاولَئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... فَاولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ... فَاولَئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ). (المائدة / ٤٤ ـ ٤٥ ، ٤٧)

فهم كفّار لأنّهم خرجوا عن جادة التوحيد (توحيد الحاكمية) ، وظالمون لأنّهم ظلموا أنفسهم والآخرين وحُرموا من مصالح الأحكام القطعية وغرقوا في دوّامة مفاسد الأحكام الجاهلية ، وفاسقون لأنّهم خرجوا عن دائرة الطاعة ، والفسق كما تعلم هو الخروج عن طاعة المولى ، وهذه الآيات الشريفة لها مفهوم واسع كذلك بحيث يشمل الفتوى في الأحكام الإلهيّة ، ومسألة القضاء والتحكيم ، ومسألة الحكومة أيضاً ، فيجب أن تكون في كل من الأبعاد الثلاثة موافقة ومطابقة لحكم الله تعالى (لاحظ جيداً).

٣ ـ القرآن الكريم يعتبر كل حكم غير إلهي حكم طاغوت ، واتِّباعه يمثل السير على خطى الشيطان ، فيقول :

(الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ انَّهُمْ آمَنُوا بِمَا انْزِلَ الَيْكَ وَما انْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُريدُونَ انْ يَتَحَاكَمُوا الَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ امِرُوا انْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُريدُ الشَيْطانُ انْ يُضِلَّهُمْ ضَلالَا بَعيداً). (النساء / ٦٠)

٤ ـ القرآن الكريم يعتبر أيضاً الأحكام التي تصدر عن مبدأ غير إلهي أحكاماً جاهلية،

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٣١٠ ؛ التفسير الكبير ، ج ١٣ ، ص ٧.

١٤٦

ويعبّر عن الأشخاص الذين يريدون أحكاماً غير إلهيّة (كبعض اليهود الذين اختلفوا فيما بينهم فجاؤوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا يريدون منه أن يصدر حكماً مطابقاً لرغبتهم) بقوله :

(افَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ احْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَّوْمٍ يُوقِنُونَ). (المائدة / ٥٠)

٥ ـ يقول القرآن الكريم في مكان آخر معلماً للنّبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يقول :

(افَغَيْرَ اللهِ أَبتَغِى حَكَماً وَهُوَ الَّذِى انْزَلَ الَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً). (الأنعام / ١١٤)

٦ ـ ويأمرنا القرآن الكريم بحل اختلافاتنا بواسطة تحكيم الله تعالى ، بقوله :

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىءٍ فَحُكْمُهُ الَى اللهِ). (الشورى / ١٠)

* * *

يستفاد من مجموع هذه الآيات وآيات اخرى بصورة واضحة أنّ نظرية القرآن في هذا الموضوع تقضي بأنّ الحاكم والقاضي هو الله تعالى ، وكذلك من جعله الله تعالى قاضياً وحاكماً من قبله ، وما سوى ذلك فهو حكم الشيطان والطاغوت والجاهلية.

وعلى هذا لابدّ في سلسلة مراتب القضاة في الحكومة الإسلامية أن تنتهي إلى أمر وإذن الله تعالى وتكتسب المشروعية منه ، فالرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حصل على هذا المنصب من الله تعالى ، والأئمّة المعصومون عليهم‌السلام أيضاً قد انتخبوا لهذا المقام من قبل الله تعالى وبواسطة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والقضاة الإسلاميون يكتسبون مشروعيتهم من الأئمة عليهم‌السلام.

وقد بيّن القرآن الكريم هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى :

(وَاللهُ يَقْضِى بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَايقضُونَ بِشَىءٍ). (المؤمن / ٢٠)

إذن فقضاء الله تعالى وأوليائه هو المقبول والصحيح ، لا التحكيم الجاهلي وغيرالإلهي.

وهذا المعنى أيضاً ورد بصراحة أكثر في الروايات الإسلامية في أبواب القضاء منها :

١ ـ ورد عن الإمام الصّادق عليه‌السلام قوله :

«اتَّقُوا الْحُكُومَةَ فَانَّ الْحُكُومَةَ إِنَّما هِيَ لِلِامامِ الْعالِمِ بِالْقَضاءِ الْعادِلِ فِي الْمُسْلِمينَ ، لنَبيِّ أو وصيّ نبيٍّ» (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، أبواب صفات القاضي ، باب ٣ ، ح ٣.

١٤٧

٢ ـ وفي حديث آخر ورد عن الإمام الصّادق عليه‌السلام بأن الإمام علي عليه‌السلام قال لشريح القاضي :

«يا شُرَيْحُ قَدْ جَلَسْتَ مَجْلِساً لا يَجْلِسُهُ الّا نَبيّ ، اوْ وَصِيّ نَبيٍّ اوْ شَقيّ» (١).

٣ ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أيضاً أنّه قال :

«وَالْحُكْمُ لا يَصِحُّ الّا بِاذْنٍ مِنَ اللهِ وَبُرْهانِهِ» (٢).

* * *

وهكذا نجد أنّ الأدلة العقلية الناظرة إلى التوحيد الأفعالي وتوحيد الحاكمية والمالكية تثبت اشتراط القضاء بالإذن الإلهي ، وكذلك الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال ، وما يقال إنّ المجتهد الجامع للشرائط (الولي الفقيه) له ثلاثة مناصب : منصب الإفتاء ، ومنصب القضاء ، ومنصب الولاية ، فهوناظر إلى هذا المعنى.

والآن نبحث صفات القاضي في الإسلام ، وكذلك آداب القضاء ، والفرق بين القضاء في الإسلام والقضاء في الثقافة الغربية ومسائل اخرى في هذا الباب.

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ابواب صفات القاضى ، باب ٣ ، ح ٢.

(٢) مصباح الشريعة ، ص ٤١ (إنّ اعتبار هذا الكتاب مشكوك عند العلماء ، وبالاخص فإنّ مؤلفه لم يُعرف لحدّ الآن).

١٤٨

صفات القاضي

ذُكرت في المصادر الإسلامية شروط صعبة للقاضي لعلّنا لا نجدها في أي مدرسة ودين آخرين ، وإن اختلف في عددها علماء الإسلام وفقهاء الشيعة والسنّة.

ولمّا لم يكن هذا الكتاب كتاباً فقهياً استدلالياً ، فسنشير فقط إلى المجمع عليه منها عند فقهائنا ، ثم نستعرض استعراضاً خاطفاً تلك الشروط التي وقعت محل بحث ونقاش بين العلماء والتي اعتبر البعض اشتراطها والبعض الآخر كونها أموراً كمالية في القاضي.

أمّا الشروط المتفق عليها بين فقهائنا ، وكما عبرّ عنها الفقيه الماهر صاحب الجواهر رضوان الله عليه : «لا خلافَ أجِدُه فِي شيء منها» ، وكما عدّها المرحوم الشهيد الثاني من موارد الاتفاق ، فهي سبعة :

١ ـ البلوغ : فلا يقبل قضاء الصبي الذي لم يبلغ ، ولا حكومته حتى لو كان يتمتع بدرجة عالية من التقوى والعلم والاطلاع ، لأنّ غير البالغين غير مكلفين بالأحكام الإلهيّة ، ولذا فهم خارجون عن دائرة القوانين والأوامر الإسلامية ، وبهذا الدليل لا يعتمد على قضائهم وحكومتهم.

٢ ـ كمال العقل : فلا يحق للمجنون ولا لناقص العقل ومن يفقد التعادل الروحي ، أن يجلس على مسند القضاء ، ودليله واضح.

٣ ـ الإسلام والإيمان : فلا تقبل حكومة الخارج عن زمرة المسلمين ومن لم يعتقد بمباني مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ودليله واضح أيضاً.

٤ ـ العدالة : وهي مرحلة عالية من التقوى تمنع صاحبها من ارتكاب الكبائر والاصرار

١٤٩

على الصغائر ، والحق أنّ من لا يتمتع بمثل هذه الدرجة من التقوى ، لا يُتوقع أن يقضي قضاءً صحيحاً.

٥ ـ العلم والإطلاع على القوانين الإلهيّة : في موارد حقوق الناس والحدود والديات والقصاص والمعاملات ، وكذلك مقررات العدالة الإسلامية. فهل ينفذ حكم من يفقد مثل هذا الشرط (الاجتهاد المطلق أو على الأقل المتجزىء) أو غير المجتهد المطلع على كل المسائل الحقوقية ومقررات العدالة الإسلامية؟ فيه بحث ونقاش بين العلماء والفقهاء ، وإن كان المشهور بينهم اعتبار الاجتهاد ، حتى أنّ بعضهم اشترط أعلميته على كل علماء مدينته ، ولكن هذا الشرط ضعيف.

وعلى كل حال ، فإنّه وفي حالة عدم الحصول على العدد اللازم من المجتهدين ـ المجتهد المطلق ـ فلا مناص من الاعتماد على غير المجتهدين ، والمطلعين منهم على كل المسائل عن طريق التقليد.

٦ ـ طهارة المولد : وبعبارة أخرى ولد الحلال ، لأنّ ولد الحرام وإن لم يكن له ذنب في كونه ولد حرام ، إلّاأنّه غير مقبول في المجتمع الإسلامي ، فلا تكون كلمته نافذة ، ولا شك في ضرورة نفوذ كلمة القاضي وقبولها ـ مضافاً إلى ذلك ، فإنّ احتمال الانحراف والذنب في مثل هذا الإنسان أكثر من احتمالهما في غيره وإن لم يكن مجبوراً على الذنب والانحراف ، (لاحظوا ذلك بدقة).

٧ ـ الذكورة : المشهور والمعروف بين علماء الإسلام أنّ القاضي لابُدَّ أن يكون رجلاً ، وإن خالف وترددّ بعض فقهاء العامة كأبي حنيفة في هذا الحكم (١).

ومن الواضح أن سيطرة العواطف والاحاسيس عند المرأة لايسمحان لها بالقيام بوظيفة فيها شدّة وصرامة كمسألة القضاء والحكومة ، مضافاً إلى أنّ هذا الموضوع مورد اتفاق وإجماع علماء الشيعة.

__________________

(١) نقل عن أبي حنيفة قبول قضاء المرأة في الأموال ، ولكن حكي عن الطبري جواز ذلك بقول مطلق. (بداية المجتهد ، ج ٢ ، ص ٤٦٠ ، كتاب الاقضية).

١٥٠

وهنا ثلاثة شروط وقع البحث في شرطيتها بين العلماء :

٨ ـ الحرّية (وعليه لا يمكن أن يكون العبد قاضياً) ولكن الكثيرين لم يقبلوا هذا الشرط.

٩ ـ البصر.

١٠ ـ السمع.

والواقع ، لا يوجد اي دليل على اشتراط هذه الثلاثة ، وعليه فلا فرق في صلاحية القضاء عند الحر والعبد (ومن حسن الحظ أنّ موضوع الرقيّة منتفٍ في زماننا).

وأمّا في خصوص السمع والبصر ، فإنّ لم يكن القضاء في الموارد التي يحتاج فيها إلى الإبصار أو إلى السمع ، فلو كان القاضي أعمى ولكن كان بإمكانه الاستماع والقضاء بدقّة ، أو كان أصماً ولكن كان بإمكانه النظر وقراءة ملف الدعوى والقضاء بشكل صحيح ، فلا مانع من حكومته ، وإن كان الأغلب هو أنّ الأعمى أو الأصمّ لا يمتلك القدرة الكافية للقضاء في كل الموارد ، وعليه تكون رعاية هذين الشرطين واجبة غالباً من باب المقدمة.

وما ذكرنا هنا من الشرائط السبعة ولزومها ، وعدم لزوم الشرائط الثلاثة الأخيرة ، كان في الواقع بنحو الإشارة ، وأمّا تفصيل الكلام في ذلك فموكول إلى الكتب الاستدلالية الفقهية (١).

الشرائط الكمالية :

وبالاضافة إلى الشرائط العشرة الانفة ، فقد قلنا في البحث السابق أنّ هناك شروطاً وصفاتٍ اخرى اعتبرت في الروايات الإسلامية للقاضي والتي لابدّ من عدّها من شروط الكمال ، وقد وردت إشارة إلى القسم المهّم منها في عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى مالك الاشتر (في ضمن الشروط الواجبة) ، وهي :

١ ـ «ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنِ النّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ».

٢ ـ «مِمَّنْ لا تَضيقُ بِهِ الأُمُورُ».

__________________

(١) يمكن في هذا المجال مراجعة من كتاب الجواهر ، ج ٤٠ ، ص ١٢ ـ ٢٣.

١٥١

٣ ـ «ولا تُمَحِّكُهُ الخُصوم» ، سعة الصدر.

٤ ـ «وَلا يَتمادَى في الزَّلَّةِ» ، عدم اللجاجة.

٥ ـ «ولا يحْصُر مِنَ الفيء الى الْحَقِّ اذا عَرَفَهُ» ، التسليم للحق.

٦ ـ «ولا تُشرِفُ نفسُهُ عَلى طَمَعٍ».

٧ ـ «وَلا يَكْتَفي بِادْنى فَهْمٍ دُونَ أقْصاهُ» ، عدم الاكتفاء بالتحقيق السطحي.

٨ ـ «وَأَوقَفُهُمْ في الشُّبُهاتِ».

٩ ـ «وآخَذُهُمْ بِالحُجَجِ».

١٠ ـ «وأقلُّهُمْ تَبرُّماً بِمُراجَعَةِ الخَصْمِ».

١١ ـ «وأصْبَرُهُمْ عَلى تَكَشُّف الأُمُورِ».

١٢ ـ «وأصْرَمُهُمْ عِنْدَ اتَّضاحِ الْحُكْمِ».

١٣ ـ «مِمَّنْ لا يَزْدَهِيه اطْراء وَلا يَسْتَميلُهُ إغْراء».

١٤ ـ «وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ ما يُزيلُ عِلَّتَهُ وتَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إلى النّاس» (١) ، ينبغي أن يكون مكتفياً من بيت المال.

ومضافاً إلى ذلك فقد وردت بعض الإرشادات في الروايات الإسلامية في القاضي والتي يمكن عدَّها من جهة ما ، شرائط كمالية منها : عدم قبول دعوة الناس إلى طعام ، عدم قبول الهدية وأن لا يذهب بنفسه للسوق لشراء حوائجه ، وأن لا يدعو احد طرفي الدعوى إلى ضيافته ، والورع عن كل الامور التي قد تؤدي إلى تاثير الناس في حكمه وتغيير قناعاته فيحكم بغير الحق عالماً أو جاهلاً.

* * *

القرآن وصفات القاضي :

لم ترد الصفات والشروط بشكل مفصل ومبسوط في القرآن الكريم ، ولكن وردت

__________________

(١) نهج البلاغة ، عهد الإمام عليّ عليه‌السلام لمالك الاشتر.

١٥٢

تعبيرات جمعت فيها أكثر الشروط المذكورة.

١ ـ ففي موضع نجد القرآن الكريم يعتبر أنّ اتّباع الهوى يمنع من الحكم بالعدل ، حيث يقول تعالى :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَولَى بِهِما فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا). (النساء / ١٣٥)

٢ ـ ونفس هذا المعنى جاء بشكل آخر في قصه حكومة وقضاء داود عليه‌السلام ، حيث خوطب داود بقوله تعالى :

(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ). (ص / ٢٦)

وبذلك يعتبر القرآن أنّ الورع عن «أمِّ المفاسد» ـ وهو اتباع هوى النفس ـ يمثِّل أحد الشروط الأساسيّة للحكومة بالحق ، والنقطة المقابلة لها ، هي الدرجة العالية من التقوى والمانعة من الانحراف عن مسير العدالة والحق ، إلى درجة أنَّ أقوى العواطف الإنسانية كالعلاقات الأُسرية لا تستطيع أن تؤثر سلباً في تلك التقوى.

٣ ـ وفي موضع آخر من القرآن ـ نجد أنّه يعتبر الحكم بما أنزل الله من شروط الإيمان والعدالة (١) ، ويؤكد على نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يكون حكمه مطابقاً لما علّمه الله (إِنَّا أَنْزَلَنَا الَيكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ بِمَا أَراكَ اللهُ). (النساء / ١٠٥)

٤ ـ وفي موضع آخر نجد القرآن الكريم يُحذّرُ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من اتباع أهواء الناس ، فيقول : (وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ الَيْكَ). (المائدة / ٤٩)

٥ ـ كما ويحذرهُ من أن تؤثر العداءات الشخصية في القاضي فيحكم بغير عدل ، بل لابدّ أن يكون الحكم والشهادة مطابقين دائماً للعدل والحق ، سواءً كانا في حق الصديق أو كانا

__________________

(١) المائدة ، ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٧.

١٥٣

في حق العدو ، يقول تعالى : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَومٍ عَلَى الَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقْوَى). (المائدة / ٨)

النتيجة :

من خلال الآيات المذكورة والروايات الإسلامية وفتاوى كبار الفقهاء في الصفات اللازمة للقضاء والشهادة ، وكذلك الصفات الكمالية في القاضي ، يمكن أن نستفيد هذه النتيجة وهي : أنّ الإسلام اعتنى عناية خاصة بهذهِ المسألة ، وتابع بدقة فائقة قضية العدالة القضائية ، وألزم معتقديه بها بشكل يمنع عن أدنى درجة من الانحراف عن الحق والعدالة في القاضي مهما كانت قليلة حتى أنّه اهتم بأصغر الامور التي قد تؤثر في عدالة حكم القاضي وتحرفه عن الحق ، وحذّر منها.

ومتى ما اضفنا الشرائط الآتية في الفصل اللاحق حول «آداب القضاء» سيتضح لنا أكثر فاكثر اهتمام الإسلام بهذا الأمر بشكل تتصاغر معه شعارات العدالة التي ترفعها المدارس الاخرى.

* * *

آداب القضاء في الإسلام :

المسألة المهمّة هي : إنّ الأديان الإلهيّة قد تقدمت على المدارس المادية بخطوات كثيرة في مجالات القضاء والحكومة والقواعد التي تقتضيها المجالس القضائية ، بل لا يمكن المقارنة بينهما في هذا المجال ، وما ذاك إلّامن أجل الاسس الأخلاقية القوية التي تمتكلها الأديان الإلهيّة في تلك المجالات.

ففي هذه الأحكام نجد لطائف ودقائق كثيرة ، وعلى الرغم من أن بعضها مرتبط بالزمان السابق وقد لا يكون له اليوم مورد ، ولكنّها من وجهة النظر الاصولية تمتاز بمفهوم قيِّم بالنسبة للمسائل القضائية.

١٥٤

ويكفينا للاستشهاد على ذلك ماجاء على لسان «المحقق الحلي» في كتاب الشرائع في بحث آداب القضاء والذي يعتبر في الواقع عصارة ما ورد في الروايات الإسلامية وكلمات الفقهاء.

حيث يقول : يستحب للقاضي رعاية عدّة امور :

١ ـ أن يطلب من أهل ولايته من يسأله عمّا يحتاج إليه في أمور بلده (أي يتعرف على عادات الناس واوضاعهم الاقتصادية ، وأن يتعرف على العلماء والصالحين وحتى القضاة السابقين ليحصل على بصيرة كافية في عمله ، إذ إنّ الاطلاع بأوضاع المنطقة والمحل والثقافة الحاكمة على الناس ، له تأثير بالغ في مسألة القضاء والحكومة العادلة).

٢ ـ أن يسكن عند وصوله في وسط البلد حتّى ترد الخصوم عليه وروداً متساوياً.

٣ ـ وأن يُنادى بقدومه إن كان البلد واسعاً ولا ينتشر خبره فيه إلّابالنداء.

٤ ـ أن يجلس للقضاء في موضع بارز ، مثل رحبة أو فضاء ليسهل الوصول إليه (لا خلف الأبواب المغلقة محاطاً بالحرس).

٥ ـ أن يبدأ بأخذ ما عند الحاكم المعزول من حاجات الناس وودائعهم ، لأن نظر الأول سقط بولايته. (وقد كانت العادة في تلك الأزمنة أن يودع الناس ودائعهم عند الحاكم ، وكذا الأموال المتنازع فيها).

٦ ـ لو حكم في المسجد ، صلّى عند دخوله تحية المسجد ، ثم يجلس مستدبراً القبلة ليكون وجوه الخصوم إليها (ليستشعر الخصوم أنّهم في محضر الله).

٧ ـ ويسأل عن أهل السجون ، ويثبت أسماءهم وينادي في البلد بذلك ليحضر الخصوم ويجعل لذلك وقتاً فإذا اجتمعوا أخرج اسم واحد واحد ، ويسأله عن موجب حبسه ، وعَرَض قوله على خصمه ، فإن ثبت محبسه فوجب اعادته ، وإلّا اشاع حاله بحيث إن لم يظهر له خصم اطلقه.

وكذا يسأل عن الأوصياء على الأيتام ، وأمناء الحاكم ، والحافظين لأموال الأيتام (الذين يليهم الحاكم) فيعزل الخائن ، ويستبدل به الصالحين بحسب ما يقتضيه رأيه.

١٥٥

٨ ـ أن يحضر من أهل العلم من يشهد حكمه ، فإن أخطأ نبّهوه.

٩ ـ أن لا يتولى البيع والشراء بنفسه (حذراً من مراعاة الناس لحاله فيبيعونه بأقل من القيمة السوقية ، فيتأثر بذلك).

١٠ ـ أن لا يقطب وجهه في مجلس القضاء ، فيخاف الناس من بيان مطالبهم بصراحة ، وأن لا يكون ليّنا فيتجرأ الخصوم.

١١ ـ أن لا يضع فوارق بين الشهود (أن يكون الشهود سواءً الذين يعرفهم أم الذين لايعرفهم ، القريب والبعيد سواسية أمام القضاء).

١٢ ـ أن يجمع الدعاوى المقدمة في كل اسبوع مرّة ، ويرتبها ويحفظها ، وكذا ينظم الدعاوى المقدمّة في كل شهر وكل سنة ، فينظمها بتواريخها (أو يصدر أوامرهُ بهذا الصدد).

ويقول هذا الفقيه الكبير البارع في بحث وظائف القاضي وما يلزم عليه مراعاته :

في وظائف القاضي وهي سبع :

١ ـ المساواة بين الخصمين في السلام والجلوس والنظر والكلام والانصات والعدل في الحكم ، (بمعنى أنّه إذا سلّمَ على أحدهما سلاماً مميزاً بالاحترام فعليه أن يسلّم على الآخر بنفس الكيفية ، وكذا في ردِّ السلام دونَ أن تؤثر فيه العلاقات الاجتماعية والمقامات الاجتماعية ، وإذا نظر إلى أحدهما بلحاظات معينة فعليه أن ينظر للآخر بنفس الكيفية وحتى إذا استمع إلى كلام احدهما بدقة فعليه أن يستمع لكلام الآخر بنفس الدقة ، والحاصل أنّ عليه مراعاة المساواة الكاملة في مجلس القضاء والحكومة في كل الجوانب حتى التشريفات والاحترامات الجزئية ، وما ذاك إلّاللحدّ من الانحراف الكلي الكبير).

٢ ـ لا يجوز له أن يُلقِّنَ أحد الخصمين مافيه حذر على خصمه ولا أن يهديه لوجوه الإحتجاج.

٣ ـ إذا سكت الخصمان ، استحبَّ أن يقول لهما تكلّما ، أو ليتكلم المدّعي.

٤ ـ إذا ترافع الخصمان وكان الحكم واضحاً ، لزمه القضاء ، ويستحب له ترغيبهما في

١٥٦

الصلح ، فإن أبيا إلّاالمناجزة ، حكم بينهما.

٥ ـ إذا ورد الخصوم مترتبين ، بُدء بالأول فالأول ، فإن وردوا جميعاً ، قرع بينهم.

٦ ـ إذا قطع المدّعى عليه دعوى المدّعي بدعوى ، لم تسمع حتى يجيب عن الدعوى وينهي الحكومة ثم يستأنف.

٧ ـ إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولى (١).

ونكرر هنا إنّ البحث الجامع والمستدل حول هذه المسائل موكول إلى كتب الفقه الاستدلالية ومصادر الحديث المعروفة ، وما ذكرناه هنا عصارة ما جاء في تلك الكتب ليتضح النظام الحاكم على المؤسسات القضائية الإسلامية ، وليتضح الفرق بينه وبين سائر المدارس الوضعية.

والنقطة الاخرى المهمّة هنا هي أن الروايات الإسلامية أوصت القاضي بأن لا يجلس مجلس القضاء حال الغضب (٢).

كما ينبغي عليه أن لا يقضي بين الناس وهو عطشان أو جائع أو حال النعاس (إذ قد تؤثر تلك الامور في قضائه سلباً) (٣).

تفاوت كيفية القضاء في الإسلام عن المدارس المادّية :

توجد اليوم في العالم مجالس قضائية كثيرة وهي جذابة بظاهرها ولكن متى ما قارّنا محتوى تلك المجالس القضائية مع المجالس القضائية الإسلامية ، نجد بأنّ تلك المجالس المادية خاوية وسخيفة وسوف نجد اختلافات واضحة وبينة فيها ، ومن جملتها :

١ ـ ينبغي على القاضي الإسلامي أن يكون صاحب نظر ورأي ، ولا يقتصر على مواد القانون فقط ، بل لابدّ أن يكون عارفاً بجذورها ومبانيها ، مجتهداً فيها ، وبعبارة أخرى الاجتهاد في القضاء شرط من شروطه ، بينما لا نجد مثل هذا الاشتراط في دنيا اليوم

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٤٠ ، ص ١٣٩ ـ ١٤٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٥٦.

(٣) كنز العمال ، ج ٦ ، ص ١٠٣ ، ح ١٥٠٤ ؛ اللمعة الدمشقية ، كتاب القضاء.

١٥٧

ومجالسها القضائية حتى يكتفي بمعرفة مواد القانون فقط والاقتصار على تلك المواد ، وهذا فرق واضح بين هذه المجالس والمجالس القضائية الإسلامية.

وبتعبير أوضح ، أنّ الاطلاع على الأحكام التي جاءت في تحرير الوسيلة (مثلاً) قد يكون عن طريق التقليد وقد يكون عن طريق الاجتهاد ، وإن كانت وظيفة القاضي على أي حال تطبيق هذه الأحكام في موارد الدعوى وتشخيص صاحب الحق عن غيره ، ولكن هناك فرق واضح بين ما إذا كان مطلعاً على أحكام تحرير الوسيلة عن طريق التقليد ، أم عن طريق الاجتهاد وتتبع جذور تلك الأحكام ومبانيها من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، فالإسلام يوحي بالطريق الثاني.

٢ ـ في النظم القضائية الحديثة ، يُكتفى بلياقة القاضي في حدود القضاء والحكومة فقط ، أمّا في الإسلام فإنّ هذا المقدار غير كافٍ ، بل لابدَّ أن يكون القاضي نزيهاً في كل المجالات ، إذ إنّ العدالة تعني الورع عن كل أنواع الذنب سواءً كان في دائرة المسائل القضائية ، أم في دائرة غير القضاء.

ومن الواضح أن هناك فرقاً كبيراً بين من يكون ورعاً في كل المجالات عن الذنب وبين من يكون ورعاً في مجال معين ودائرة ضيقة ، فاحتمال انحراف الثاني أكثر من احتمال انحراف الأول.

٣ ـ إذا قضى قاضي المجالس القضائية الحديثة بالحق دون أن يكون مطلعاً ، فإنّه لا يكون مسؤولاً ، بينما وكما أشرنا آنفاً فإنّ مثل هذا القاضي مسؤول أمام الله في نظر الإسلام ، فالوصول إلى الحق لا يكفي وحده لعدم تحمل المسئولية ، بل لابدّ أن يكون عن تحقيق واطلاع.

٤ ـ يعتبر الارتشاء في نظام القضاء الإسلامي ليس من الذنوب الكبيرة فحسب ، بل طبقاً لبعض الروايات فإنّه في حدِّ الكفر والشرك ، قال الإمام الصادق عليه‌السلام : «أمّا الرُّشا فِي الْحُكْمِ فَهُوَ الْكُفْرُ بِاللهِ» (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٦٣ ، باب تحريم الرشوه ، ح ٨.

١٥٨

فالإسلام يمنع القاضي حتى من قبول الهدية (بطبيعة الحال الهدايا التي تقدم له باعتبار أنّه في مقام القضاء ، سواء قبل الحكومة والقضاء أم بعده) وقصّة الأشعث بن قيس معروفة ، حيث جاء ليلاً بهدية إلى دار الإمام عليّ عليه‌السلام وهي طبق من الحلوى اللذيذة ، فقال له الإمام عليّ عليه‌السلام ما هذا؟

فقال : هدية جئت بها إليك! فغضب الإمام عليه‌السلام وصاح به :

«هَبَلَتْكَ الْهَبُول أَعَنْ دِيْنِ اللهِ أَتَيْتَني لِتَخْدَعَني»؟!

أي تريد أن تعطيني الرشوة باسم الهدية (١).

والملفت للنظر هو أنّ الإسلام يلعن الراشي والمرتشي والواسطة بينهما ، وقد ورد في حديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لَعَنَ الله الرّاشِي والْمُرْتَشي وَالرّائشَ الَّذي بَيْنَهُما» (٢).

وقد وردت آيات من القرآن الكريم وبشكل مكرر تشير إلى مسألة الرشوة وتذمها ، منها قوله تعالى :

(وَلَا تأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وتُدْلُوا بِهَا الَى الْحُكَّامِ لَتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ امْوال النَّاسِ بِالأِثْمِ وَانْتُمْ تَعْلَمُونَ). (البقرة / ١٨٨)

وللفخر الرازي هنا تعبير جميل وهو أنّ «الادلاء» مأخوذ من «الدلو» وهو الإناء الذي يستخرج الماء من البئر بواسطته ، «والرشاء» بمعنى «الحبل» فكما أنّ الإنسان يستخرج الماء الموجود في الدلو بالحبل ، فكذلك الراشي يأكل أموال الناس بواسطة الرشوة التي يعطيها للقاضي.

نعم ، فالتعبير بـ «ولا تدلوا بها إلى الحكّام» تشبيه وإشارة لطيفة لهذا الموضوع.

ويستفاد أيضاً من سورة المائدة بأنّ علماء اليهود حرّفوا الأحكام الإلهيّة لمنافعهم الخاصة ، وقد ذمّ القرآن الكريم هذه الظاهرة ، فقد قال تعالى :

(وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَاولِئكَ هُمُ الْكافِرُونَ). (المائدة / ٤٤)

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٤٤.

(٢) ميزان الحكمة ، ج ٤ ، ص ١٣٥.

١٥٩

فمن هذهِ الآيات يمكن الاستنتاج بأنّ القضاء والحكومة لله بالدرجة الاولى ، ومن ثمَّ نقلت منه إلى من يرى فيه المصلحة ، وبتعبير آخر :

إنّ غير الله يأخذ مشروعية أحكامه وقضائه من الله تعالى ، وهذا ما يقتضيه التوحيد الأفعالي وحاكمية الله أيضاً.

* * *

١٦٠