نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

٥ ـ أوصي بأنّ تدفعوا للسجناء دراهم في كل شهر ، فإنّك إن أعطيتهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة فلايصل إليهم شيء.

«وهنا كشف أبو يوسف اللثام عن فساد ولاة السجون في زمان خلافة بني العباس واوضح ذلك بكل جلاء».

٦ ـ ووَلَّ رجلاً من أهل الخير والصلاح يثبت أسماء مَن في السجن فتجري عليهم الصدقة وتكون الأسماء عنده ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر ، يقعد ويدعو باسم رجل رجل ويدفع ذلك إليه في يده ويكون للأجراء عشرة دراهم في الشهر لكل واحد.

٧ ـ سمعت أنّ بعض السجناء يغلون بالسلاسل كي يتصدق عليهم الناس ، فإنّ هذا عظيم أن يكون قوم من المسلمين قد أذنبوا واخطأوا وقضى الله عليهم ما هم فيه فحبسوا يخرجون في السلاسل يتصدقون ، وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بأسارى المسلمين الذين في أيديهم فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟

وإنّما صاروا إلى الخروج في السلاسل يتصدقون لما هم فيه من جهد الجوع فربّما أصابوا مايأكلون وربّما لم يصيبوا «وهذه من المصائب الكبرى».

٨ ـ ومن مات منهم ولم يكن له ولي ولا قرابة يغسل ويكفن من بيت المال ويصلى عليه ويدفن.

وقد بلغني وأخبرني به الثقات أنّه ربّما مات منهم الميت الغريب فيمكث في السجن اليوم واليومين حتى يستأمر الوالي في دفنه وحتى يجمع أهل السجن من عندهم وما يتصدقون ويكنزون لمن يحمله إلى المقابر فيدفن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة عليه ، فما أعظم هذا في الإسلام وأهله.

٩ ـ ولو أمرت بإقامة الحدود لقل أهل الحبس ولخاف الفساق وأهل الدعارة ولتناهوا عمّا هم عليه ، وإنّما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمرهم ، فأمُر ولاتك جميعاً بالنظر في أمر المساجين ، فمن كان عليه أدب أُدب وأُطلق ، ومن لم يكن له قضية خلي عنه.

١٠ ـ وعليهم أن لا يسرفوا في الأدب ولا يتجاوزوا بذلك إلى ما لا يحل ولا يسع ، فإنّه

٢٠١

بلغني أنّهم يضربون الرجل في التهمة وفي الجناية الثلاثمائة والمائتين ضربة وأكثر أو أقل ، وهذا ممّا لا يجوز ولا يحل في الإسلام ، فظهر المؤمن حمىً ولا يجوز أذيته.

١١ ـ كل من أتى بما يجب عليه الحد أو القصاص وقامت عليه البيّنة بذلك ، يجب أن تقام عليه الحدود الإسلامية ، فمن جُرح منهم جراحة في مثلها قصاص ، وقامت عليه البينة بذلك ، قِيسَ جرحُه واقتُصَّ منه إلّاأن يعفو المجني عليه ، فإن اقتُصَّ منه أو عَفا عنه صاحب الدم ، فيطلق سراحه ولا يبقى في السجن.

١٢ ـ إذا لم يستطع الجاني تحمل القصاص حكم عليه بالأرش واطيل حبسه حتى يحدث توبه ثم يخلى سبيله (١).

* * *

فهذه الرسالة التاريخية تحكي عن رؤية فقيه عاصر العباسيين عن أحكام الإسلام في السجناء ، ويمكن أن تكون نموذجاً صغيراً من مجموعة كبيرة من الشواهد والأدلة على التعليمات الإسلامية في هذا المجال.

* * *

__________________

(١) كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف ، ص ١٤٩ ـ بتصرُّف.

٢٠٢

الحسبة والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر

تمهيد :

إنّ قيمة أي قانون مرتبطة بميزان إجرائه ، فأفضل القوانين إذا لم تطبق على الأرض لا تعدو أن تكون مجرّد حبر على ورق ، ولا تحلُّ أي مشكلة من مشاكل المجتمع ، وبالعكس فإن أضعف القوانين إذا طبقت بشكل جيد ودقيق فإنّه يمكنها أن تحلَّ كثيراً من مشكلاته.

ولهذا ، وردت في الإسلام ، والحكومة الإسلامية برامج موسعة وكثيرة لضمان إجراء القوانين والحدّ من التّخلف عنها ، وهذه البرامج تشتمل على الأمور التّالية :

١ ـ الجهاز القضائي.

٢ ـ وظيفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

٣ ـ مسألة الحسبة.

وقد تكلمنا بالمقدار الكافي حول وظائف الجهاز القضائي وإجراء الحدود والتّعزيرات ، والآن نكرس الكلام للبحث في مسألة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وموضوع الحسبة.

يعتبر إجراء الحدود والحسبة في الواقع من فروع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، لإننا نعلم بأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر له ثلاث مراحل ، إثنتان منها وظيفة عامة النّاس بنحو الواجب الكفائي ، ومرحلة واحدة من وظائف الحكومة ، والمراحل هي :

١ ـ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بالقلب (أي أنْ يتأذى القلب من المخالفات والذنوب التي يرتكبها الآخرون ، ويميل إلى الخير والصلاح ، (وقال البعض أنّ المقصود من

٢٠٣

هذه المرحلة هو أن يظهر انزجاره أو ميله القلبيين بوجهه أو عمله بصورة قطيعة أو صلح للمرتكبين) وهذه وظيفة عامة الناس في قبال ترك الواجبات والإتيان بالمحرمات.

٢ ـ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باللسان ، ويكون إبتداءً بالكلمات اللطيفة اللينة الحبيبة والوعظ والحكمة ، ثم بالكلمات الحادّة الخشنة (وهي وظيفة عامة النّاس أيضاً).

٣ ـ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر باليد ، وبتعبير آخر اتخاذ الأجراءات العملية والقاسية أحياناً في قبال تاركي الواجبات ومرتكبي المحرمات سواءً عن طريق العقاب البدني أو الحبس أو الأعمال المشابهة الاخرى.

وكما قلنا في الابحاث الفقهيّة فإنّ هذه المرحلة من وظائف الحكومة الإسلامية ولا يمكن أن يسمح للناس بالقيام بها ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى وقوع الهرج والمرج وأنواع الفوضى الاخرى.

وهذا الأمر هو بالضّبط ما جاء بعنوان وظيفة الحسبة في الفقه الإسلامي وكلمات الفقهاء ومؤرخي الإسلام.

* * *

وبعد هذه الإشارة نرجع إلى الآيات القرآنيّة في هذا المضمون :

١ ـ (كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ). (آل عمران / ١١٠)

٢ ـ (وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ امَّةٌ يَدْعُونَ الَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (آل عمران / ١٠٤)

٣ ـ (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ اهْلِ الْكِتَابِ امَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَاولَئِكَ مِنَ الصَّالِحيِنَ). (آل عمران / ١١٣ ـ ١١٤)

٤ ـ (وَالْمُؤمِنُونَ والْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ اوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ

٢٠٤

وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللهَ ورَسُولَهُ اولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ انَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (التوبة / ٧١)

٥ ـ (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ). (التوبة / ١١٢)

٦ ـ (الَّذِين انْ مَّكَّنّاهُمْ فِى الارْضِ أَقامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَامَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الامُورِ). (الحج / ٤١)

٧ ـ (يَا بُنَىَّ اقِمِ الصَّلَاةَ وَأمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا اصَابَكَ انَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ). (لقمان / ١٧)

جمع الآيات وتفسيرها

خطوة مهمة في طريق إجراء الأحكام :

ما جاء في هذه الآيات هو أكثر ما جاء من آيات القرآن المجيد في خصوص فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر المهمّة ، والتي تبين أبعادها المختلفة.

فالآية الأولى تصوّر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بعنوان أمرٍ عام وتعتبره من خصائص الأمة الإسلامية ، لا بمعنى أنّه لم يوجد في الأمم السابقة أصلاً ، بل بمعنى أنّه يعدُّ أصلاً أصيلاً في الأمة الإسلاميّة وركناً ركينا فيها حيث يقول : (كُنْتُمْ خَيْرَ امَّةٍ اخْرِجَتْ لِلْنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ).

والملفت للنظر أنّها من جهة تعتبر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر خصوصيّة من الخصائص التي أدّت إلى أفضلية الإسلام على سائر الأديان وأنّ الأمّة الإسلامية هي الأمّة النموذجية المثلى ومن جهة أُخرى تقدم هذه الوظيفة على الإيمان بالله! وهذا يدل على أنّه إذا لم تؤدّ هذه الوظيفة على المستوى العام بصورة أصلين أساسيّين اجتماعيين ، فلا ضمان لاستمرار إيمان الناس.

نعم ، فهو كذلك ، فلو نُسِيتَ هاتان الوظيفتان ، ضعف الإيمان في القلوب ، وذبلت غصونه

٢٠٥

وأوراقه ، والنّتيجة هي اضمحلال الإيمان والإسلام.

ثُمّ إنّه من هذا البيان يتضح جيداً أنّ المسلمين إنّما يكونون أُمّة متميزة وممتازة ما داموا يدعون إلى الخير والصلاح ويجاهدون المنكر والفساد ، فإذا ما نسوا ذلك لم يعودوا خير أمة ولم يترشح منهم النفع للمجتمع البشري!

نعم .. فالمسلمون إنّما يمكنهم أن يكونوا قادة الأمم في العالم وأن تستفيد البشريّة جمعاء من وجودهم ، فيما لو طبقوا هاتين الوظيفتين الكبيرتين.

وبتعبير آخر : كل واحدٍ من أفراد الأمة الإسلاميّة ، لابدّ أن يشعر بالمسؤولية ، وخلافاً لما نراه اليوم حيث توكل مسؤولية مكافحة الفساد إلى مجموعة معينة من المأمورين الحكوميين ويبقى سائر أفراد المجتمع في حلٍّ من تحمل هذه المسؤولية الاجتماعيّة المهمّة فيبقون متفرجين على الممارسات الاجتماعية السلبية بلاحراك.

فالآية تؤكد على أنّ هذه المسؤولية مسؤولية عامة لابدّ أن يتحملها الصغير والكبير ، الشّاب والشّيخ والرّجل والمرأة والعالم والجاهل.

واستعمال كلمة «المعروف» و «المنكر» في الآية لنكتة مهمة أُخرى ، إذ هي من جهة ، تبيّن أنّ الواجبات والمحرمات امورٌ يدركها ويعرفها عقل الإنسان وروحه جيداً ، فهو يعشق الواجبات ، في حين أنّ المنكرات أُمور بعيدة عن ذوقه فهو يجهلها وينفر منها.

ومن جهة أخرى ، فإنّ من البديهي إننا لو نسينا هاتين الوظيفتين واعتاد المحيط على المنكرات والبعد عن الخير والمعروف ، صار المنكر معروفاً والمعروف منكراً في نظر الناس ، وهذه أكبر خسارة يمكن أن يتحملها مجتمع من المجتمعات ، وهذا البلاء هو الذي عمَّ اليوم كثيراً من المجتمعات العالمية ، حيث تبدل المعروف عندهم منكراً والمنكر معروفاً!

* * *

والآية الثانية ناظرة إلى قسم آخر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي تختص

٢٠٦

بها مجموعة من الامّة الإسلاميّة ، وبتعبير آخر هي مختصة بالحكومة وموظفي الحكومة حيث ورد فيها : (وَلْتَكُنْ مِّنْكُمْ امَّةٌ يَدْعُونَ الَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وعندما نضع هذه الآية في قبال الآية السّابقة نجد أنّ الآية السّابقة تتحدث عن مرحلة من مراحل هاتين الوظيفتين المهمتين غير المرحلة التي تتحدث عنها هذه الآية ، فتلك مرحلة القلب واللسان وهذه مرحلة استخدام القوة والشدَّة ، والملفت للنظر هو أنّ هذه الآية تحصر الفلاح بأولئك الأشخاص الّذين يؤدون هاتين الوظيفتين العظيمتين (إلتفتوا إلى أنّ جملة أولئك هم المفلحون تدل على الحصر) (١).

والتعبير بالأمَّة ، قد يكون إشارة إلى أنّ هذه الوظيفة لابدّ أنْ تؤدّى بصورة «جماعية» ، وأن تكون مقترنة «بمنهج تنظيم» ، ونحن نعلم بأنّ الأمور الّتي تحتاج إلى شدة والتي تؤدّى من قبل الحكومة لا تكون ممكنة بغير الشّرطين.

وذيل الآية يبيّن بوضوح أنّ كل فلاح ونجاح في الدّنيا والآخرة وفي الفرد والمجتمع ، لا يتحقق إلّافي ظل هاتين الوظيفتين.

* * *

وفي الآية الثّالثة ، إشارة إلى نكتة ظريفة اخرى في مجال هاتين الوظيفتين العظيمتين ، تتضح لنا من خلال دراسة سبب النزول.

فقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنّ مجموعة من علماء وأخبار اليهود كانوا قد أسلموا والتحقوا بصفوف المسلمين ، ممّا أدّى إلى غضب زعماء اليهود جدّاً ، فمن أجل إذلال وتحقير هؤلاء المؤمنين ادّعى زعماء اليهود أنّ ثلّة من أشرارهم قد اعتنقوا الإسلام وإنّهم لو كانوا صالحين ما تركوا دينهم!!

__________________

(١) ما قاله البعض من أنّ «من» التي وردت في الآية زائدة أو أنّها للبيان ، وأنّ مفهوم الآية شاملٌ لكل المؤمنين ، مخالف لظاهر الآية ، فالظاهر منها هو أنّ «من» تبعيضية ، أي أنّه يجب على مجموعة منكم فقط القيام بهذه الوظيفة. وكذلك فإنّ ما قاله البعض من أنّ «من» تبعيضية للواجب الكفائي ، مخالف للظاهر أيضاً ، لأنّ الواجب الكفائي واجب على الجميع ، غايته أنّ نوع الوجوب فيه يختلف عن نوع الواجب العيني (وتوضيح ذلك موكول إلى علم الأصول).

٢٠٧

فالآية المذكورة أعلاه تجيب هؤلاء وتقول : (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ اهْلِ الْكِتابِ امَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوف ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ وَاولَئِكَ مِنَ الصَّالِحيِنَ).

فالآية تلخص خصائص الصّالحين من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام في ثلاثة أمور : الإيمان بالمبدأ والمعاد ، ثُمّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وفي النّهاية المسارعة في الخيرات. وهذا يدل على أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يعدُّ من أبرز مظاهر الصّالحين بعد الإيمان بالله ويوم القيامة ، وأنّه أصل كل الخير.

* * *

وفي الآية الرّابعة ، يعتبر الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أول خصوصيّة من خصائص المؤمنين ، حتّى أنّ إقامة الصلاة وأداء الزّكاة وإطاعة الله والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جاءت بعدها ، وهذا يدل على أنّ هاتين الوظيفتين العظيمتين إذا لم تطبقاً ، فإنّ أساس العبادة والطّاعة وعبوديّة الله تتعرض للخطر.

يقول الله تعالى : (وَالْمُؤمِنُونَ والْمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُمْ اوْلَياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطيعُونَ اللهَ ورَسُولَهُ اولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ انَّ اللهَ عَزيزٌ حَكِيمٌ).

وقد احْتُمِلَت عدّة أمور في تفسير جملة (بَعْضُهُمْ اوْلِياءُ بَعْضٍ) ، من جملتها أنّ هؤلاء منسجمون في الإيمان بالله ومباني الإسلام ـ والآخر هو أنّ أحدهم ينصر الآخر في امور الدين والدنيا ، والثّالث هو أنّ هؤلاء بالتّعليم والتّربية يخرجون الآخرين صوب درجات الكمال العالية.

ومن الواضح أنّ هذه التفسيرات الثّلاثة لا منافاة فيما بينها ، ويمكن أن تجتمع في مفهوم الآية ، لأنّ الولاية في الآية جاءت مطلقة فتشمل ارتباط المؤمنين ببعضهم في أبعادٍ مختلفة.

* * *

٢٠٨

وفي الآية الخامسة وبعد ذكر التجارة المربحة التي يتّجر بها المؤمنون الحقيقيون مع الله ، أي الجهاد في سبيله ، حيث يشرون أنفسهم وأموالهم بالجنة الغالية ، وبعد بيان أنّ الله عزوجل يبارك لهم هذه المعاملة ويعدها فوزاً عظيماً ، يلخّص أوصاف هؤلاء في تسعة أمور ويقول : (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِينَ).

وفي الواقع فإنّ الأوصاف السّتة المذكورة أوّلاً ، إشارة إلى مراحل العبادة والطّاعة والعبوديّة في هؤلاء ، والأوصاف الثّلاثة الأخيرة (وهي الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وحفظ الحدود) إشارة إلى جهاد هؤلاء الاجتماعي في طريق إرساء مباني الحق والعدالة وإجراء الأحكام الإلهيّة ، وبعد هذه الأمور جاءت البشارة الإلهيّة لهم بشكل مطلق.

وبتعبير آخر ، فإنّ الأوصاف الستة الاولى ناظرة إلى علاقة الخلق بالخالق ، والثّلاثة الأخيرة ناظرة إلى علاقة الخلق بأنفسهم وهذه البشارة الّتي ذكرت في آخر الأمر تشمل سعادة الدّنيا وسعادة الآخرة معاً.

* * *

وفي الآية السّادسة ، إشارة إلى بُعدٍ آخر من هذه المسألة وهو البعد الحكومتي ، وبتعبير آخر تعتبر الآية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أحد وظائف الحكّام الإسلاميين المهمّة ، حيث يقول عزوجل :

(الَّذِينَ انْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الارْضِ أَقامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَامَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الامُورِ).

وفي الحقيقة فإنّ الوعد بنصر الله ، الوارد في الآية السّابقة لهذه الآية (ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) مختصة بمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين إذا ما تسلموا زمام القدرة والحكم في الأرض فإنّهم مضافاً إلى أدائهم الصّلاة وحدهم ، يقيمونها أيضاً في كل مكان ، ويؤتون الزكاة لمستحقيها ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

٢٠٩

هذا على الرّغم من أنّ البعض يتصور أنّ مراد الآية ، المهاجرون فقط ، ولكن من الواضح أنّ الآية الشّريفة لها مفهوم أوسع وتشمل الجميع حتى قيام القيامة.

والنكتة التي لابدّ من الإلتفات إليها أيضاً هي أنّ القرآن الكريم غالباً ما يعبر بلفظ «الإقامة» في خصوص الصّلاة إلّافي مورد المنافقين حيث عبر بالقيام بدل الإقامة ، حيث يقول واصفاً إيّاهم ، (وَإِذَا قَامُوا الَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالى). (النّساء / ١٤٢)

وهذا التعبير قد يكون إشارة إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يؤدّون الصلاة بأنفسهم فحسب ، بل إنّهم يحاولون إقامة الصلاة في كل المجتمع ، وقال البعض إنّ ذلك إشارة إلى أنّ هؤلاء المؤمنين ليس فقط يأتون بظاهر الصّلاة وصورتها بل إنّهم يحاولون إقامة الصلاة بكل محتواها الحقيقي وشرائط صحتها وكمالها (والجمع بين هذين التفسيرين ليس مشكلاً).

* * *

وفي الآية السّابعة والأخيرة نلاحظ نكتة اخرى حول الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وهي أنّ هذين الأمرين المهمين ليسا من مختصات الشريعة الإسلامية فقط ، بل إنّ هناك تأكيد شديد عليهما في الأمم السّالفة أيضاً (وإن كانتا قد أخذتا شكلاً موسعاً وأساسياً في الشّريعة الإسلاميّة).

فينقل لنا القرآن الكريم عن لسان لقمان ذلك الرّجل الحكيم العالم :

(يَا بُنَىَّ اقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى ما اصَابَكَ انَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الامُورِ).

فهنا اعتبرت الآية أنّ رمز انتصار الإنسان في أربعة أُمور :

إقامة الصلاة ، الأمر بالمعروف ، النّهي عن المنكر ، والصّبر.

وجملة (إِن ذَلِكَ مِنْ عَزمِ الأمُورِ) قد تكون إشارة إلى خصوص الصبر المذكور في الذيل ، وقد تكون شاملة للاصول الأربعة جميعاً.

ولابدّ هنا من التدقيق في هذه النّكتة وهي أنّ اقتران الصّبر بمسألة الأمر بالمعروف

٢١٠

والنّهي عن المنكر إشارة إلى الارتباط الوثيق بين هذين الأمرين ، إذ إنّ أداء هاتين الوظيفتين الإلهيتين المهمتين يقترن أحياناً بالمشاكل والصعوبات ، ولا يمكن تحقق الأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر إلّابالصّبر والإستقامة. كما أنّ هذين الأمرين على ارتباط وثيق أيضاً بالصلاة ، لإننا نعلم جيداً بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، أو بتعبير آخر هي الأساس الأصلي للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر (إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحشَاءِ والمُنكَرِ). (العنكبوت / ٤٥)

* * *

الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الروايات :

نلاحظ في الروايات أيضاً تأكيداً كبيراً على هاتين الوظيفتين المهمتين ، وتعتبرهما الضّامن لإجراء كلّ الفرائض الإلهيّة والسّبب الرئيس في الأمن والأمان وتحقيق العدالة.

١ ـ ورد في حديث عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ أمَرَ بالمعروفِ ونهى عن المنكرِ فهو خَليفَةُ الله في أرضِهِ ، وخليفةُ رسول اللهِ وخليفةُ كِتابِهِ» (١).

٢ ـ وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله نلاحظ تعبيراً أوضح ، حيث كان النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على المنبر فقام إليه رجل وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ خير النّاس؟» فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «آمَرَهُمْ بالمعروفِ وأنهاهُمْ عن المُنكر وأتقاهم لله وأرضاهم» (٢).

٣ ـ وفي حديث آخر عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لتأمُرْنَّ بالمعروف ولَتَنْهُنَّ عَن المُنكر أو لَيَعُمَنَّكُمْ عذابُ الله» (٣).

٤ ـ وفي حديث معروف أيضاً عن علي عليه‌السلام قال : «وما أعمال البرّ كلِّها والجهاد في سبيل الله عِنْدَ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إلّاكنفثةٍ في بحرٍ لُجيّ» (٤).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٤٨٤ ، ذيل الآية ١٠٤ من سورة آل عمران.

(٢) المصدر السابق.

(٣) وسائل الشّيعة ، ج ١١ ، ص ٤٠٧ ، ح ١٢ ، الباب ٣ من أبواب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

(٤) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ٣٧٤.

٢١١

٥ ـ وأخيراً نقرأ عن الإمام الباقر عليه‌السلام بياناً لفلسفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في كلام مختصر مفيد حيث يقول عليه‌السلام : «إنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنّهيَ عَنْ المُنكر فريضةٌ عظيمةٌ بها تُقامُ الفرائِضُ وتأمنُ المذاهبُ وتحلُّ المكاسبُ وتُردُّ المظالم وتعمُرُ الأرضُ ويُنتَصَفُ من الاعداء ويَستَقيم الأمر» (١).

والأحاديث الواردة عن أئمّة الدين الإسلامي عليهم‌السلام في هذا المجال كثيرة جدّاً إلى درجة أنّها لو جمعت لصارت كتاباً مستقلاً.

* * *

وهنا ينبغي الإلتفات إلى عدّة نكات ضرورية :

١ ـ إنّ أحسن أنواع الحكومات ، تلك الحكومة التي يشترك فيها كلّ النّاس ، وبتعبير آخر الحكومة التي يحمل أركانها أكتاف النّاس ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الواقع تصميم لمسألة الحكومة وتثبيت لاشتراك عامة الناس فيها ، إذ عن هذا الطّريق يمكن الحدّ من الكثير من المخالفات ، وتعريف النّاس بوظائفهم الفردية والاجتماعيّة ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار قلّة المأمورين الحكوميين (كالشّرطة وقوى الأمن الداخلي) قياساً إلى عدد المتخلفين ، تتضح لنا أهميّة هذه الوظيفة الإسلاميّة أكثر فأكثر ، إذ لا يمكن نظم المجتمع والحدِّ من وقوع المخالفات والجرائم إلّاعن هذا الطّريق.

وما قيل من أنّه لو كان في داخل البيت ولد مجرم فإن أباه وأُمّه مسؤولان تجاهه ، وأنّ الولد البالغ مسؤول عن أبيه وأُمهُ إذا ما ارتكبا ذنباً ، وأنّه إذا صدر ذنبٌ في شرق العالم وكان في غربه رجل يمكنه الحدَّ من ارتكابه ، فلم يفعل كان شريكاً له ، هذا القول ، له تأثير عميق بلا شك في الحدِّ من ارتكاب الذّنوب والمخالفات والدّعوة إلى القيام بالفرائض والمسؤوليات.

هذا في حين أنّ مجتمع اليوم والحكومات الالحادية ، قد أوكلت مسؤولية الحدّ من المخالفات والمفاسد على عهدة مجموعة صغيرة خاصّة فقط ، ولذا فإن نتاج هذه

__________________

(١) وسائل الشّيعة ، ج ١ ، ص ٣٩٥ ، الباب ١ ، ح ٦.

٢١٢

المجموعات محدود جدّاً وقليل.

ومن هنا يتضح لنا عظمة وأهميّة هذه الفريضة الإسلاميّة من جهة ، وجماهيرية الحكومة الإسلامية من جهة أخرى.

ولكن هذا لا يعني أن يتصرف جميع النّاس وكأنّهم رجال شرطة ، بل إنّ وظيفتهم على مستوى الدّعوة إلى الخيرات ومكافحة المنكرات والشّرور عن طريق النّصح والموعظة ، وأحياناً عن طريق قطع الرّوابط والعلاقات الاجتماعيّة مع الفاسدين والمفسدين.

٢ ـ قد أشرنا في بحث التعزيرات إلى أنّها قسمٌ من أقسام الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وهو نفس القسم الذي يجرى من قبل الحاكم الشرعي والذي لا يحق للآخرين التدّخل فيه ، وكما جاء هناك ، فإنّ التّعزير بمعنى المنع من ارتكاب الذنب أو الحدّ من الاستمرار على ارتكابه أو تكراره ، وفي هذه الطريق لابدّ من الإستفادة من قاعدة الاسَهَل فالأسَهل: أي ينبغي البدء بالمراحل البسيطة أولاً ، فإن لم تقع مؤثرة انتقل إلى المراحل المعقدة والخشنة.

فيبدأ بالتذكير الأخوي أو الأبوي ، ثّم العتاب الخفيف ، ثُمّ الشّديد ، ثُمّ عدم الإكرام وقطع الرّوابط ، وفي النّهاية الحبس والجلد والغرامات المالية والتوبيخات الاجتماعيّة وأمثال ذلك ، فهذه هي المراحل في طريق التعزير عن المنكر ، وبعبارة أُخرى المصاديق المختلفة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

ولهذا فإنّ العلماء يعتمدون على أدلة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الفقه عندما يبحثون الحدود والتّعزيرات لإثبات مشروعيتها.

٣ ـ لا يمكن إنكار تأثير فريضتي «الأمر بالمعروف» و «النّهي عن المنكر» في تأمين العدالة الاجتماعيّة وإجراء القوانين ومحاربة المنكرات والحدِّ من الجنايات وتقليل عدد السّجناء ، وتطوير الثّقافة الاجتماعّية ، وقد أثبتت التجارب أنّ المجتمعات التي تؤدّي هاتين الوظيفتين بشكل صريح وقاطع ومدروس ، تكون عادة مجتمعات نظيفة وسليمة ويعم الأمن والأمان فيها ، وبالعكس فإنّ المجتمعات الّتي نسيت هاتين الوظيفتين والتي وقفت

٢١٣

مكتوفة الأيدي قبال التخّلفات والمعاصي ، ابتليت بعواقب سيئة ، فدخل الفساد حتّى في المنازل والبيوت ، وفي هذا المجتمع لا يأمن أي فرد من أفراده من المخاطر ، وبالضبط كما ورد في الحديث الشّريف عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ البلاء والعذاب سيعم الجميع ، وكما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فيُولّى عليكُم شَراركم ثُمّ تَدعُونَ فلا يُستجاب لَكُمْ» (١).

٤ ـ إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، يبدءان عادة كما نعلم من العمل الثّقافي ، وعليه ، فإن كلّ أجهزة الإعلام الجماعيّة ، وكلّ مراكز الإذاعة والتلّفزيون لها دخل في رفع مستوى الإطلاع والثّقافة الجماهيرية وتوجيه النّاس نحو الخير والصلاح والطهر والأخلاق الإنسانيّة الرفيعة والفضيلة ، والتنّفر من الفساد والقبائح ، فلكلٍ من هؤلاء موقعه في دائرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وحتّى مراكز التّربية والتّعليم بمستوياتها المختلفة والّتي تُعرِّف الشُبّان والصّبيان أُصول العقائد الصّحيحة والموازين الإنسانيّة والقوانين والأداب الاجتماعيّة ، والتي تخطو من أجل التّعليم والتّربية الصّحيحين ، لها موقعها الخاص في تلك الدّائرة ، وذلك لأنّ كل هذه الأمور يمكن أنْ تساهم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وعليه فإنّ دور هذه المراكز في تحقيق هذين الأصلين الاجتماعيين المهمين ، واضح وجلّي.

والنّكتة المهمّة الاخرى هي أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وإنِ اعتبرا قسمين من فروع الدّين ، إلّاأنّهما من جهة أخرى ، بدرجة من السّعة والأهميّة بحيث يشملان قسماً عظيماً من أصول العقائد ، لأنّ تلك الأمور مؤثرة في هذا المسير وعن طريق تحكم أُسس الإعتقادات يمكن محاربة المفاسد الاجتماعية ، كما أنّ العبادات أيضاً تعتبر مقدمة لها.

٥ ـ خلافاً لما يراه البعض ، فإنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليسا وظيفة عبادية ، بل فلسفة عقلية واضحة (التفتوا جيداً).

وتوضيح ذلك :

بالإلتفات إلى العلاقات الاجتماعيّة ، وأنّ أي عمل خير أو شرّ في المجتمع الإنساني لا يتحدد بنقطة خاصة ، بل يسري بأي صورة إلى النقاط الاخرى ، فكل عمل قبيح يعتبر كالنار

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٤٧.

٢١٤

التي إذا لم تطفأ فإنّها ستسري وتحرق كل ما في طريقها وتحيله إلى رمادٍ ، فمحاربة الفساد حقٌ اجتماعي.

وأفضل تعبير عن هذا المطلب هو ما ورد في الحديث النبوي حيث يقول :

«إنّ مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة في البحر فاقتسموها فصار لكل واحد منهم (مكان) فعمد أحدهم الى مكانه لخرقه تعالى فقالوا أتريد أن تهلكنا فقال وما انتم من مكانى فإن تركوه غرقوا وغرق معهم وإن أخذوا على يديه نجوا ونجا فذلك مثل الفاسق» (١).

ومن هنا يتضح لنا ، أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، ليسا تدخلاً في حياة الآخرين الخاصّة ، فلا شك في أنّ الإسلام يعتبر التدّخل في حياة الآخرين والتجسس عليهم حراماً ، والقرآن الكريم تحدث عن هذه الحقيقة في (سورة الحجرات) ، ولكن حدود الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هي الإضطرابات والمفاسد الاجتماعيّة الفاضحة ، والتي لها مدخلية مباشرة في تحديد مصير المجتمع ، وأنّ مصير المجتمع معقود عليها ، والتّخلف والانحراف في كلّ فردٍ من أفراد المجتمع له أثر بالغ على المجتمع ككلّ.

وبناءً على هذا ، فإنّه لا يحق لأحد أن يعترض على أولئك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مثل هذه الموارد ويقول لهم : إنّ هذا الأمر لا يهمكم فلا تتدخلوا فيه ، فإن جواب هذا الشخص ، هو أنّ هذا الأمر يخصّنا جميعاً ، فإنّ مصيرنا مرتبط بنا جميعاً ، فهل يحق لأحد أن يعترض على الدولة إذا ما عينت مأمورين للتلقيح ضد الأمراض المسرية إذا ما سرت تلك الأمراض في المجتمع ويقول لمسؤولي الدولة : إنّ هذا الأمر لا يعنيكم؟ فأنا الذي أتمرّض وأنا الذي أعرّض نفسي للخطر فلماذا تتدخلون في حياتي الشخصية؟!

فلا شك في أنّ الجميع سيجيبون ذلك الشّخص بأنّ سلامتك ليست منفصلة عن سلامة المجتمع ، ومرضك سيسري إلى أفراد المجتمع الآخرين ، ولذا فإن الأمر يهمّ الجميع.

وعليه فلابدّ من الإذعان بأنّ هاتين الوظيفتين (الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر) تعتبران من أثار الحياة الاجتماعيّة للإنسان ومن الحقوق والواجبات الاجتماعية.

كان هذا ملخصاً لبحث الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، وأثرهما في تحقيق أهداف الحكومة الإسلاميّة.

__________________

(١) راجع تفسير روح الجنان ، ج ٣ ، ص ١٤٢ ؛ المعجم الاوسط ، ج ٣ ، ص ١٤٩.

٢١٥

جهاز الحسبة والمحتسب في الحكومة الإسلاميّة :

هذا البحث مرتبط تماماً ببحث الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وهو في الحقيقة فرع من فروعه ، إذ كما أشرنا فإنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر له شقّان ، شقّ عام يشمل جميع النّاس ، وشقّ خاص تختص به الحكومة الإسلاميّة ، ففي هذه المرحلة قد يلزم إبداء الخشونة والشّدّة وهذا ليس من شأن النّاس ، بل لابدّ أن يقوم مأمور الحكومة المدربون على القيام بهذه الوظيفة ، وهذا يشكل أساس «الحسبة» (١).

توضيح ذلك :

«الحسبة» : في اللغة ، إسم مصدر من مادة «إحتساب» ، وكما ذكر أرباب اللغة فإنّه بمعنى التّسليم والصّبر حيال المشكلات طلباً للأجر الإلهي ، وكذلك السّعي في أداء أعمال الخير لتحصيل الثّواب.

ولما كان هذا الشق من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر سعيٌ واجتهاد وجدٌّ في طريق إطاعة الله ومكافحة المنكرات لنيل رضا الله ، سُمي «حسبة».

يقول في كتاب «التّحقيق» حول معنى مادة «حسب» : الأصل في هذا المصطلح بمعنى التّحقيق والبحث والتّدقيق بقصد الإمتحان.

وهذا التعبير يناسب كثيراً شغل المحتسب الذي يستخبر عن شرائح مختلفة من المجتمع ويبحث ويحقق ويراقب حركاتهم ، فإن وجد انحرافاً نبههّم إليه ، فإن لم ينفع واجههم بشدّة.

وكانت دائرة «الحسبة» من الدوائر المعروفة في زمن الخلفاء وتشرف على نشاطات الكسبة والتجّار والفلاحين وشرائح المجتمع الاخرى من حيث المخالفات والمنكرات ، وكلما رأى المحتسبون مخالفة كانوا ينهون مرتكبيها لها ، فإن لم يؤثر فيهم النهي والتذكير والموعظة ، كانوا يعاقبون المخالف في نفس المكان مباشرة ، أو يقبضون عليه ويسلّمونه إلى القاضي فيأمر بحبسه.

__________________

(١) التّحقيق في كلمات القرآن الكريم ، ح ٢ ، مادة (حسب).

٢١٦

وباعتقاد البعض ، فإنّ جذور هذه المسألة تعود إلى عصر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يمارس عمل المحتسب بنفسه الشّريفة ، وتارة كان يوكل الأمر إلى شخص ينتخبه لهذا الغرض ، ولكن لابدّ من الإلتفات إلى أنّ استعمال هذا المصطلح لم يكن معمولاً به في ذلك العصر ، ولم يكن موجوداً في كلام الفقهاء المتقدمين ، ويبدو أنّ هذا المصطلح استعمل لأول مرّة ، في عصر خلفاء بني أُميّة وبني العبّاس ، حيث انتخب لهذا الشق من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

وعلى أيّة حال ، فإنّ الأخبار الواصلة عن عصر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تدل على أنّ كلمة «الحسبة» وإنْ لم تكن متداولة في ذلك العصر بمعناها ومفهومها المعهود اليوم ، ولكن مفهومها الواقعي أي ، النظارة على المسائل الاجتماعيّة من قبل الحكومة الإسلاميّة ، كان مراعىً تماماً حينذاك ، فتارة كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم بنفسه بهذه الوظيفة ، واخرى ، يوكلها إلى آخرين.

ومن جملة الشّواهد على ذلك ، ما ورد من أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمر سعيد بن سعيد بن العاص ـ بعد فتح مكة ـ بالاشراف على السّوق ، حيث ورد في الحديث : «استعملَ رَسولُ اللهِ سعيد بنَ سَعيد بن العاص بَعْدَ الفَتح على سُوق مكّة» (١).

حتى أنّ المستفاد من بعض الرّوايات ، أنّ بعض النّساء كنَّ يمارسن وظيفة الاشراف على المسائل النّسائية (كمسائل الحجاب وأمثال ذلك) ، ومن جملة تلك النّسوة امرأة باسم «سحراء» بنت نهيك (٢) الذي أدرك عصر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانت مأمورة بالقيام بتلك الوظيفة ، فكانت تدور في الأسواق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (وإن ذهب البعض إلى أنّها لم تقم بذلك الدور في عصر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّما كان ذلك في زمن عمر بن الخطاب) (٣).

وفي كثير من المواضع ، كان النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يتولى ذلك بنفسه ، خاصة في مسائل الإحتكار والغش والتدليس في المعاملة وأمثال ذلك ، ومن جملة ما ورد في ذلك : «إنّ

__________________

(١) التّراتيب الإدارية ، للكتاني ، ج ١ ، ص ٢٨٥ (ينقل الرّواية عن إبن عبد البرّ في الإستيعاب).

(٢) «نهيك» على وزن شريك ، وفي الأصل بمعنى الجمل القوي ، والسّيف القاطع ، ويقال للرّجال القاطعين الحازمين أيضاً.

(٣) المصدر السابق.

٢١٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرَّ بالمحتكرين فأمر بحكرتِهم أنْ تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظرُ الأبصار إليها» (١) ، فاقترح النّاس أن تُعيّن أسعارها ، فرفض النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك.

وفي حديث آخر ، أنّ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرَّ على رجل خلط طعاماً جيداً برديء ، فقال له النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك ، فقال الرجل : أردت أن أبيعه جميعاً فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ميِّزْ كُلَّ واحدٍ منهما على حِدة ، ليس في ديننا غشّ» (٢).

وجاء في عهد الإمام عليّ عليه‌السلام إلى مالك الأشتر :

«إمنَع من الإحتكار فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مَنَعَ مِنهُ ، وليكن البَيْعُ بيعاً سَمحًا بموازين عدلٍ ، وأسعار لا تجحِفْ بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارفَ حُكْرَةً بعد نهيك إيّاه ، فنكِّل به وعاقبهُ في غيرِ إسراف» (٣).

ونقرأ أيضاً في أحوال الإمام عليّ عليه‌السلام أنّه كان يتولى بنفسه الأُمور المرتبطة بالحسبة ، فكان أحياناً يمرُّ في سوق القصابين وينهاهم عن المخالفة (٤).

وكان عليه‌السلام يمرَّ تارة في سوق السّماكين وينهاهم عن بيع الأسماك المحرّمة (٥).

ولكن ، وبمرور الزّمان ، اتسعت مسألة «الحسبة» واتخذت تدريجياً صورة دائرة مهمّة من دوائر الدولة الإسلاميّة ، فكان المأمورون باسم «المحتسبين» يدورون في الأزقة والأسواق والشّوارع الكبيرة ليل نهار ويراقبون الأمور الاجتماعيّة ، المختلفة ، فيعاقبون المخالفين في محل ارتكاب المخالفة أحياناً ، وأحياناً أخرى يأخذونه إلى القاضي (كما في مأموري شرطة المرور هذه الأيّام).

واتّسعت دائرة «الحسبة» إلى درجة أنّ «جرجي زيدان» المؤرخ المعروف ذكر في كتابه «تاريخ الحضارة الإسلامية» يقول :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣١٧ ، ح ١ ، الباب ٣.

(٢) كنز العمال ، ج ٤ ، ص ١٥٩.

(٣) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

(٤) كنز العمال ، ج ٤ ، ص ١٥٨.

(٥) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٣٣٢.

٢١٨

«الحسبة» : وهي احدى المناصب الإسلامية ، شأنها شأن منصب القضاء وللمحتسب حق ردع الناس عن القيام بالمنكرات ، وله حق الاشراف على التعزير والتأديب ، وأمر الناس بضرورة رعاية المصالح في المؤن ، ومنعهم من الوقوف في الطرقات ، ومراقبة شؤون النقل ، ومنع أصحاب السفن من تحميل السفينة أكثر من طاقتها ، وذلك حفاظاً على أموال وأرواح الناس ، ويأمر بإقامة وتعديل الجدران المشرفة على السقوط وكل شيء من شأنه تعريض المارة للخطر ، وكل شيء يلحق بهم الضرر ، ويمنع الغش والتدليس في الكسب والعمل ، ويأمر بمراعاة المكيال والميزان والاشراف على منع كل ما من شأنه أن يلحق الاذى والاجحاف بالناس.

وكل ما ذكر هو مسؤوليات القاضي ، ولكن لكون القاضي لا يستطيع ممارسة كل هذه الأعمال بشكل عملى ، لذا فُصلت هذه المسؤولية من مهامه ، وأصبحت مستقلة.

المتصدي لهذا المنصب أو المسؤول يجب أن يكون فرداً صالحاً ومن ذوي الوجاهة ، لأنّ هذه المسؤولية تمثل خدمة دينية «ومن دون هذه الوجاهة لا يمكنه القيام بهذه المسؤولية».

ورئيس امور الحسبة يقوم بتعيين ممثلين عنه في كافة المناطق ويستطيع أن يجلس كل يوم في أحد المساجد المهمّة ، ويقوم مُمثِّلوه يقومون بممارسة الأعمال المختلفة الملقاة على عاتقهم في الاشراف على المشاغل المختلفة والسوق.

وفي مصر ، كان رئيس امور الحسبة يجلس يوماً في مسجد القاهرة ويوماً في مسجد الفسطاط ، ويرسل ممثليه إلى الشوارع والأزقة لكي يقوموا بالاشراف على وضع اللحوم ومراكز الطبخ والأغذية ، وكذلك الاشراف على الحمولة التي تحملها الحيوانات ، حيث لا يسمحون تحميلها أكثر من طاقتها ، ويأمرون سقاة الماء بأن يغطوا أوانيهم بقطع من القماش ، وأن يراعوا الموازين الصحية والإسلامية في أعمالهم.

ويحذرون معلمي المدارس والمكاتب بأن لا يضربوا تلامذتهم ضرباً شديداً إذا ما أذنبوا ، وإذا ما ضربوهم فليتجنبوا المناطق الحساسة والخطرة من الجسم.

٢١٩

والمحتسب له حق الاشراف على محل ضرب العملة لكي لا يحصل الغش أثناء ضرب السكة فتخرج عن العيار المطلوب.

وفي الأندلس كان يسمى هذا المنصب لاخطة «الاحتساب» والمسؤول عنه أحد القضاة ، ويقوم هذا الشخص بركوب مركباً والتجوال في الأسواق يحيط به أعوانه وموظَّفوه ، ويحمل معه ميزان ليزن به الخبز ، فاذا كان أقل مِمّا هو مقرر فيعاقب البائع.

ويجب على القصاب أن يعلق قيمة للحومة في دكانه ، وذلك لكي لا يتلاعب بالاسعار.

وفي بعض الأحيان يقوم المحتسب بإرسال طفلٍ أو امرأة لكي يشتريا من السوق ، ويقوم المحتسب بوزن ما اشترياه ، فاذا راى نقصاً في الوزن فيقوم بمجازاة البائع.

هؤلاء ، لديهم قوانين واسعة لها علاقة بالحسبة يقومون بتدريسها في مدارسهم ، كما يدرس فقهاء الإسلام دروسهم (١).

ومن مجموع هذا الكلام والمطالب الاخرى المذكورة في الكتب المصنفة في «الحسبة» ، يظهر أنّ «دائرة الحسبة» كانت تتولى كثيراً من الأمور التي تتولاها اليوم الدوائر الحكومية كأمانة العاصمة والقوى الدّاخلية ، وقوى التعزيرات والغرامات الحكومية ، والتّربية والتعليم ، والقضاة ، وأنّها أحد أركان الحكومة الإسلاميّة الفعالة ، وخاصة في دورها الواضح والبارز في محاربة المنكرات ، ولذا فإنّ قصائد الشعراء تضمنّت مصطلح «المحتسب» ووظائفه بشكل موسع.

والمستفاد من مجموعة من المصادر أنّ القيام بوظيفة «المحتسب» كان من الواجبات الكفائيّة بين المسلمين ، إذ كما قلنا فإنّ «الحسبة» فرع من فروع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، حتّى أنّ بعض النّساء كنَّ يُنتَخَبْنَ لهذه الوظيفة ليشرفن على تحركات النّساء الاجتماعيّة.

ونقرأ في «دائرة معارف دهخدا» (فارسي) في بحث «وظائف المحتسب» : «إنّ وظيفة المحتسب ، أوّلاً : الاشراف على إجراء المقررات الشّرعيّة والمنع من ارتكاب

__________________

(١) تاريخ الحضارة الإسلامية «جرجى زيدان» ، ج ١ ، ص ٢٥٢ ، مع التصرف.

٢٢٠