نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

«إنَّ اللهَ وملائِكتَهُ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِها وَحتّى الْحُوتَ فِي الْبَحْرِ يُصَلُّونَ عَلى مُعَلِّمِ النَّاس الْخَيْرَ» (١).

وهذا المضمون ورد في أحاديث عديدة اخرى أيضاً.

وفي حديث آخر عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً :

«ألا أُخْبِرُكُم بأجودِ الأجْوَدِ؟ الله الأجْوَدُ الأجْوَدُ! وأنا أجْوَدُ وُلدِ آدم! وأجْوَدكُمَ مِنْ بعدي رَجُلٌ عَلَّمَ عِلْماً فَنَشَرَ عِلْمَهُ ، يُبعَثُ يومَ القيامة أُمّةً وَحْدَهُ!» (٢).

والتّعبير بالأُمّة ، يبين لنا بوضوح سعة وجود المعلمين في موازاة سعة انتشار تعليماتهم بين المجتمع البشري ، وكلمّا كان عدد تلامذتهم أكثر كانت سعة شخصيتهم المعنوية الاجتماعيّة أوسع ، حتّى تصل أحياناً إلى سعة أمَّة كاملة.

وقد بلغت أهمّية نشر العلم والمعرفة والثّقافة في الإسلام إلى درجة أنّه ورد في حديث معروف أنّ مجلس العلم روضة من رياض الجنّة (٣).

والملفت للنظر أنّ أي عمل في الإسلام يكون مقدمة لنشر العلم أو يتناسب معه ، يعد عبادة ، فقد ورد في حديث عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مُجالَسةُ العُلماءِ عِبَادَةٌ» (٤).

وفي حديث آخر عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «النّظرُ إلى وجهِ العالمِ حُبّاً لهُ عِبادةٌ» (٥).

وفي حديث آخر عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي ذر : «الجلُوسُ ساعةً عِندَ مُذاكَرةِ العِلْمِ

__________________

(١) كنز العمال ، ح ٣٨٧٣٦.

(٢) ميزان الحكمة ، ج ٦ ، ص ٤٧٤.

(٣) هذا الحديث وإنْ لم نعثر على نصّه في المصادر الإسلاميّة ، إلّاأنّه ورد في بعض الرّوايات عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «بادروا إلى رياض الجنّة ، قالوا : يا رسول الله وما رياض الجنّة؟ قال : حَلَقُ الذكر» ، وبعد أن ذكر المرحوم الفيض الكاشاني هذا الحديث في المجلد الأوّل من الوافي ، قال : والمراد من حلقة الذّكر هنا ، وكما ورد في أحاديث اخر في هذا الباب ، هو مجلس العلم (الوافي ، ج ١ ، ص ١٧٧).

ونقل الترمذي في صحيحه هذا الحديث بتفاوت بسيط «إذا مررتُم برياض الجنّة فارتعوا. قالوا : وما رياض الجنّة؟ قال : حَلَقُ الذكر» صحيح الترمذي ، ج ٥ ، ص ٥٣٢ ، باب ٨٣ ، ح ٣٥١٠).

(٤) بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٢٠٤.

(٥) المصدر السابق ، ص ٢٠٥.

٢٤١

خيرٌ لكَ مِن عبادة سَنة ، صِيامُ نهارها وقيامُ ليلها ، والنّظرُ إلى وجه العالم خيرٌ لكَ من عتق ألف رقبةٍ» (١).

والأحاديث الواردة في هذا المضمار كثيرة ومتنوعة ، يطول المقام بذكرها ونختصر الحديث هنا ونختم هذا البحث بحديث عن لقمان الحكيم ، الذي قُرِنَ كلامُه بكلام الله تعالى في القرآن الكريم ، يقول لقمان لولده : «يا بُنيَّ جالسِ العلماءَ .... فإنّ اللهَ عزوجل يُحيي القُلُوبَ بنورِ الحِكْمَة كما يُحيي الأرضَ بوابل السّماءِ» (٢).

وممّا ذكر ، يتضح جيداً أنّ مسألة التّعليم والتّربية ونشر العلم والثّقافة ، تتميز في المنهج الإسلامي عموماً وفي برنامج الحكومة الإسلاميّة بشكل خاص ، (ومن وظيفة الحكومة الإسلاميّة الإهتمام الفائق بأمر التّربية والتّعليم).

* * *

٥ ـ التّعليم المباشر وغير المباشر

ماذكر في البحوث المتقدمة ، كان في اطار التّربية والتّعليم بالطّرق المباشرة ، كتشكيل حلقات الدّرس ، والمدرسة وأمثال ذلك ، ولكن توجد في الإسلام طرق تعليم غير مباشرة كثيرة ، وتأثيرها من بعض الجهات أوسع وأعمق من تأثير الطرق المباشرة.

فالعبادات الإسلاميّة ، وخاصّة تلك التي تؤدّى بشكل جماعي كصلاة الجماعة والجمعة ومناسك الحج ، من جملة الأمور التي لها تأثير قويّ في التّعليم الجماعي للنّاس.

فصلاة الجماعة الّتي تقام خمس مرّات باليوم واللّيلة تُعَلِّم المسلمين درس الوحدة والإتحاد ورصّ الصفوف والمساواة والأُخوة ، فتجمع شرائح المجتمع المختلفة والتي قد لا تلتقي في السّنة مَّرةً واحدة في غير الصّلاة على أثر المشاغل والمسؤوليات المختلفة التي ينشغلون بها عن بعضهم ، فصلاة الجماعة تعلّم هؤلاء درس وحدة التّفكير ووحدة الهدف في المسائل الاجتماعيّة.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١ ، ص ٢٠٣.

(٢) المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٢٠٤.

٢٤٢

فصفوف صلاة الجماعة ، ومضافاً إلى روحانيتها الخاصة الحاكمة عليها واقترانها بنور المعنوية والصّفاء ، خير وسيلة لاطلاع عامة النّاس على المسائل المصيريّة للمجتمع الإسلامي.

لقد استطاع المسلمون الأوائل ومن خلال صلاة الجماعة ـ وهو لقاء يوفرلهم اللقاء صباحاً ونهاراً ومساءً ـ كسب الوعي الكافي ووحدة الصف والكلمة مقابل اعدائهم ذوى العدة والعدد ، حيث استطاعوا أن ينشروا برنامج الحكم الإسلامي وتعاليم الدين بسرعة فائقة. ففي صلاة الجمعة والجماعة ، وطبقاً للتعاليم الإسلامية ، فإنّ الإمام وحده هو الذي يقرأ الحمد والسورة نيابة عن الجميع ، وبهذه الطريقة يبعت الانضباط الاجتماعي في نفوس الناس التي تعتاد على الإدارة المقرونة بالروح والمعنى اللذين توفِّرهما مضامين السورتين اللتين يقرأهما إمام الجماعة.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ للإمام الحق أنْ ينتخب سوراً مختلفة وآيات متنوعة من القرآن لقراءتها بعد سورة الحمد بحسب المناسبات المختلفة ، وكلّ واحدة من هذه السور يمكنها أنْ تشتمل على دروس في المعرفة الإسلاميّة ، والأخلاق ، والتّربية السّياسية والاجتماعيّة ، فعندما يقرأها الإمام بشكل جذّاب والكلّ قائم يصغي لها بسكون عميق ، يكون لها أثرٌ تعليمي قوي منقطع النّظير في نفوس المأمومين ، يضطرهم إلى التّفكر والتّعمق في محتوى الآيات ، ويضاعف روحانيّة العبادة وتأثيرها ، ولو أنّ هذه المراسم العبادية تؤدّى بآدابها الإسلاميّة المقررة وحضور القلب وتمركز الحواس وهي الشرط الأساسي لقبولها ، لكانت مدرسة عظيمة لتربية المجتمع الإسلامي ، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذه المراسم تكون درساً تربوياً لأعداء الإسلام والأجانب ، وغالباً ما يلاحظ أنّ هؤلاء يقفون متأملين متفكرين في هذه العبادة عندما يشاهدون المسلمين في صفوف منظمة ومرصوصة يُقيمون الصلاة.

ومن هنا ورد عن الإمام علي بن موسى الرّضا عليه‌السلام أنّه قال :

«إنَّما جُعلتْ الجَمَاعَةُ لِئَلا يَكُونَ الإِخلاصُ وَالتُّوحِيدُ وَالإسْلامُ وَالْعِبادَةُ لله إِلّا ظاهِراً مَكْشوفاً مَشْهُوراً ، لأنَّ فِي إظْهارِهِ حُجَّةً عَلى أَهلِ الشَّرقِ وَالْغَرْبِ ... مَعَ مافيهِ مِنَ المُساعَدَةِ

٢٤٣

عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوى وَالزَّجْرِ عَنْ كَثيرِ مِنْ مَعاصِي اللهِ عَزَّوَجَلَّ» (١).

وخلاصة الكلام هي إنّ تأثير صلاة الجماعة في إيقاظ المسلمين وتربيتهم ، وتأثيرها في افشال مخططات الأعداء وكسر شوكتهم ، لا يخفى على أحد.

ولهذا فإنّ هذه العبادة العظيمة ، من أهَم وآكد العبادات الإسلاميّة ، وقد ذكر لها فضل عظيم وثواب جزيل في الرّوايات إلى درجة يبهت الإنسان لها.

ففي حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مَنْ مَشى إلى مَسْجِد يَطْلُب فيه الجَماعَة كانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ حَسَنَةٍ وَيُرْفَعُ لَهُ من الدّرَجاتِ مِثْلُ ذَلِكَ ، فَإِنْ ماتَ وَهُوَ عَلى ذلِكَ ، وَكَّلَ اللهُ بِهِ سَبْعينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَعُودُونَهُ فِي قَبْرِهِ وَيُبَشِّرُونَهُ وَيُؤنِسُونَهُ فِي وَحْدَتِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتّى يُبْعَثَ» (٢).

* * *

٦ ـ صلاة الجمعة وآثارها التّربويّة

وصلاة الجمعة هي الاخرى إحدى أهم الاجتماعات العباديّة السيّاسية الإسلاميّة ، والتي لها تأثير قوي في التّربيّة المباشرة وغير المباشرة.

فهذه الصّلاة الرائعة ، تقام كل أسبوع مرّة ومسلموا المدينة الواحدة مكلّفون بالإشتراك في صلاة واحدة فقط (٣).

ولصلاة الجمعة خطبتان قبل الصلاة ، تشتملان على مواعظ وعبر وأمرٍ بالتّقوى ، وخصوصاً على المسائل الاجتماعيّة السّياسية المهمّة للمجتمع ، فهي من جهة تُلَطِّفُ الرّوح والنّفس وتغسلها من أوساخ الذنوب والمعاصي ، ومن جهة أخرى تعلم النّاس الإطلاع على المعارف الإسلاميّة والأحداث الاجتماعيّة والسّياسية المهمّة ، وكيفية اتخاذ المواقف

__________________

(١) وسائل الشّيعة ، ج ٥ ، ص ٣٧٢.

(٢) المصدر السابق ، ح ٧.

(٣) هذا بحسب الفقه الشّيعي التّابع لأهل البيت عليهم‌السلام وهناك من الفرق الإسلامية السنيّة من يجيز إقامة العديد من صلوات الجمعة في المدينة الواحدة ، كصلوات الجماعة التي تقام في مساجد متعددة (الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ٣٨٥).

٢٤٤

الصّحيحة قبالها ، ومن جهة ثالثة توفر الجو المناسب للعمل الجماعي لحلِّ المشاكل في إطار تجديد الروح الإيمانية والنشاط المعنوي.

والخطبتان من واجبات الصّلاة ، وورد في الرّوايات الإسلاميّة والكتب الفقهيّة أن من آداب الخطبة هو أن يرفع الخطيب صوته بحيث يسمعه كلّ النّاس ، وأن عليهم أن يصغوا لكلامه ويراعوا السكوت التام ، وأن يستقبلوا الخطيب بوجوههم.

والأفضل أن يكون الخطيب رجلاً فصيحاً بليغاً مُطّلِعاً على أوضاع وأحوال المسلمين ، خبيراً بمصالحهم ، شجاعاً ، صريح اللهجة في بيان الحقّ ، مضافاً إلى حسن سيرته وسلوكه في المجتمع فيكون ذلك سبباً لنفوذ كلامه في قلوبهم وأن يُذَكِّر سلوكه النّاس بالله.

ولابدّ من بيان المسائل المهمّة المرتبطة بالدِّين ودنيا المسلمين في الخطبتين ، وكذا ما يحتاجه النّاس في داخل وخارج الدّول الإسلاميّة والمنطقة ، وطرح المسائل السيّاسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة المهمّة مع مراعاة الأولويات ، فيزود النّاس بالمعلومات اللازمة ويخبرهم عن مؤامرات الأعداء ، ويشير إلى البرامج القصيرة والبعيدة المدى لإفشال خُطَطِهم.

ولابدّ أن يكون الخطيب ذكيّاً جدّاً وفطناً ، مفكراً ، مطلّعاً على المسائل المعنوية والمادية في الإسلام ، وأن يستغل هذه الشعيرة العظيمة أفضل استغلال لتوعية المسلمين وتطوير الأهداف الإسلاميّة.

وفي حديث جامعٍ عن الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام ، يُبين فيه ضرورة خطبة الجمعة وأنّ ذلك لتعميم الفائدة وأنّ الله يريد أن يفسح المجال لأمير المسلمين ليعظ النّاس ويُرغبهم في الطّاعة ويحذرهم المعصية ، إلى أن يقول الإمام الرضا عليه‌السلام : «وَتَوْقِيفِهُمْ عَلى ما أرادَ مِنْ مَصْلَحَةِ دينِهِمْ وَدُنْياهُمْ وَيُخبِرُهُمْ بِما وَرَدَ عَلَيْهِمْ مِن الآفاقِ مِنَ الأَهْوالِ الَّتي لَهُمْ فِيها المَضَرّةُ وَالمَنْفَعَةُ».

ثُمّ يبين الإمام عليه‌السلام فلسفة وجود خطبتين فالأولى للحمد والثّناء والّتمجيد والتّقديس لله (والمسائل المعنوية والأخلاقيّة) ، والثّانية لبيان باقي متطلبات الوعي والإنذار والأدعية

٢٤٥

وغير ذلك من الأوامر والنّواهي والإرشادات المرتبطة بصلاح وفساد المجتمع (١).

والدّور الّذي تلعبه اليوم صلاة الجمعة في توعية النّاس في المسائل السياسية والاجتماعيّة غير خافٍ على أحد ، وكثيراً ما يتم إفشال مخططات الأعداء التي يبثونها من خلال وسائل إعلامهم على طول الأسبوع ومع كل إمكاناتهم وتجهيزاتهم ، في خطبة واحدة من خطب الجمعة المدروسة والدقيقة ، ولو أنّ المسلمين يعون أهميّة هذا البرنامج الأسبوعي المهم ، ويقيمونه كما أراد الإسلام ، وأن لا يمسخوا هوية هذه العبادة العظيمة كبعض الدول ضعيفة الإرادة أو المأجورة من قبل الاستعمار ، فإنّهم ـ أي المسلمون ـ سيستثمرون هذه الشعيرة الإسلاميّة ويتعرفون على عمق تأثيرها الثّقافي والتّربوي.

ولصلاة العيدين (عيد الفطر وعيد الأضحى) وهما تشابهان صلاة الجمعة كثيراً وخصوصاً من جهة الخطبتين اللتين يؤتى بهما بعد الصلاة هنا ، نفس آثار وبركات صلاة الجمعة.

* * *

٧ ـ الآثار الثّقافيّة لمؤتمر الحجّ العظيم

ومن العبادات الاخرى التي لها تأثيرٌ مهم في تربيّة المسلمين ونشر العلم والمعرفة ووحدة الصّفوف وقوة شوكة المسلمين هي مراسم الحجّ ، التي يجتمع فيها كل سنة الملايين من المسلمين من شتى بقاع الأرض في مؤتمر عظيم فيتعلمون في هذا المؤتمر شتى أنواع العلوم والمعارف وفي كلّ الجهات الماديّة والمعنويّة.

والنّكتة المهمّة هنا هي أنّ الإشتراك في هذا المؤتمر العالمي واجب على كلّ مُسلم يستطيع الحج مرّةً واحدة في العمر ، وأمّا باقي المرّات فهي مستحبة ، ولا فرق في هذا الحكم بين المسلمين ، فالحج واجب على الرّجل وعلى المرأة ، والشّاب والشّيخ ، والأبيض والأسود والمتعلم والجاهل ، ولهذا نجد كلّ سنة مجموعة عظيمة من كبار الشّخصيات

__________________

(١) وسائل الشّيعة ، ج ٥ ، ص ٣٩ ، ح ٦.

٢٤٦

العلميّة والثّقافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة من المسلمين بين صفوف الحجّاج يتشرفون بزيارة بيت الله الحرام ، وفي طول المدّة الّتي يقضونها في مكة والمدينة وسائر المشاهد والمواقف يلتقي بعضهم بالبعض الآخر فيتبادلون العلوم والمعارف والمعلومات والأخبار فيما بينهم.

وفي الآونة الأخيرة وبعد وقوف المسلمين على أهميّة هذا الاجتماع المعنوي العظيم نجد أنّ علماء الدّول الإسلاميّة المختلفة يعقدون المؤتمرات المصغرة والموسعة على هامش مؤتمر الحجّ العظيم ، فيلتقون ويتبادلون العلوم والمعارف والثّقافات عن هذا الطريق.

يذكر القرآن الكريم جملة مختصرة في بيان فلسفة الحجّ حيث يقول : (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ). (الحج / ٢٨)

وللمفسرين كلام طويل في تفسير معنى كلمة (منافع) ولكن من الواضح أنّهُ لا يوجد حدٌّ لمفهوم هذا اللفظ ، فيشمل كلّ المنافع والبركات المعنويّة والماديّة والنّتائج السّياسيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة.

وقد سأل الرّبيع بن خيثم الإمام الصّادق عليه‌السلام عن تفسير هذه الكلمة ، فبيّن له الإمام عليه‌السلام أنّها تشمل المنافع الدنيويّة والأخرويّة (١).

وفي رواية أخرى عن الإمام الصّادق عليه‌السلام يجيب فيها هشام بن الحكم عن فلسفة الحجّ ، فيشير الإمام عليه‌السلام إلى عدّة أبعاد مهمة ، منها تعرف مسلمي العالم بعضهم على البعض الآخر ، ثُمّ المنافع الاقتصاديّة ، ثُمّ إيجاد كثير من مجالات العمل في إطار موسم الحجّ ثم يشير عليه‌السلام إلى آثاره الثّقافيّة ويقول : «ولِتُعْرَفَ آثارُ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتُعْرَفَ أخْبارُهُ ويُذْكَرَ وَلا يُنْسى» (٢).

وعلى أيّة حال ، فلو أنّ أحداً دقّق وتأمل في جزئيات مراسم الحجّ ، وخاصة إذا شاهد تلك المراسم عن قرب ، فإنّه سيقف على أهمّية البعد الثّقافي والتّربوي للحجّ بنحو يقل نظيرُهُ.

__________________

(١) تفسير نور الثّقلين ، ج ٣ ، ص ٤٨٨.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٩ ، ح ١٨.

٢٤٧

نعم ، فالحجّ يمكن أنْ يكون مؤتمراً سنوياً ثقافيّاً عظيماً ـ بل مؤتمرات ـ فيلتقي العلماء من كل أنحاء العالم الإسلامي في الأيّام التي يتواجدون فيها في مكة المكرمة ، فتُتبادَل الأفكار والإبداعات الّتي يحملونها فيما بينهم مضافاً إلى آثار الحجّ المعنويّة الخاصّة.

وفي الفترات المظلمة لحكومة السّلاطين الظّالمين والطّغاة الّذين لم يفسحوا المجال لانتشار العلوم والمعارف الإسلاميّة ، كان المسلمون يستفيدون من الظّرف الّذي يتاح لهم في موسم الحجّ لحلّ الكثير من مشاكلهم ، وبالإلتقاء بائمّة الهدى عليهم‌السلام وكبار علماء الإسلام ، حيث كانوا يطّلعون على المعارف والقوانين الإسلاميّة وسنة النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعندما يعودون إلى بلادهم ، يعودون وهم يحملون رسالات مهمّة في الأخلاق والثّقافة وشتى العلوم.

* * *

٨ ـ تأثير المساجد والأماكن المقدّسة

من جملة المراكز التي يمكنها أن تشارك في نشر الثّقافة الإسلاميّة ، وتكون مؤثرة في زيادة اطلاع عامة المسلمين ، هي الأماكن المقدّسة التي يرتادها الزّائرون لزيارة مراقد قادتهم العظام حتّى يشدُّ هؤلاء الرحال من بلدانهم في سفر معنوي باتجاه تلك المشاهد الشّريفة ، وهذا بنفسه وسيلة جيدة لتبادل المعلومات والمعارف ، ومواجهة الهجمة الثّقافية المضادة للإسلام.

وهناك بعض المساجد الشّهيرة في الإسلام ، امرنا بشدِّ الرحال إليها ، لتسبح الروح ويغوصُ القلب في بحر متلاطم من الرّوحانيّة والمعنويات والنّور ، ولتقوية الارتباط بين المسلمين الذين يفدون من مناطق قريبة وبعيدة لزيارة تلك المساجد.

وقد ورد في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام قال : «لا يُشَدُّ الرّحال إلّاإلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجد الرّسول ومسجد الكوفة» (١).

__________________

(١) وسائل الشّيعة ، ج ٣ ، ص ٥٥٢ ، أبواب أحكام المساجد ، الباب ٤٤ ، ح ١٦.

٢٤٨

وهذا المعنى جاء أيضاً في كتب أهل السنّة المعروفة ، فقد رووا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّه قال : «لا تُشَدُّ الرِّحال إلّاإلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» (١).

ومن الواضح أنّ هذين الحديثين لا تنافي بينهما ، ومتى ما ضممناهما إلى بعضهما ، يكون المقصود أربعة مساجد ، كما أنّه من الواضح أنّ الهدف من بيان مثل هذه الأحاديث هو بيان أهميّة المساجد الثّلاثة أو الأربعة ولا يعني أنّ الإنسان إذا ماشدَّ الرّحال إلى مسجد آخر فإنّه يكون قد ارتكب مخالفة ، كما تصور بعض الجّهال ، إذ لو كان مفهوم هذا الحديث هو التّحريم ، فإنه يَحُرم كل سفرٍ مطلقاً إلّاإلى هذه الأسفار الثّلاثة في حين أنّ هناك أسفاراً مشروعة اخرى كثيرة.

(ولابدّ من الإلتفات إلى أنّ «لا تُشَدُّ الرّحال» مطلقة تشمل كلّ سفر).

وشبيه هذا المعنى ورد في بحار الأنوار مع تفاوت مختصر (٢).

فمثل هذه المساجد في الحقيقة ، تعتبر من المراكز الإسلاميّة الثّقافية وقد كانت لسنين عديدة في صدر الإسلام وما بعد ذلك محلاً لإقامة حلقات الدّرس والبحث العلمي ، وكان كبار العلماء يتواجدون فيها للتّدريس وتعليم العلوم والتّربية ، وكذلك اليوم فإنّ المسجد الحرام ومسجد النّبيّ غاصٌّ على طول السّنة بالطّلاب والأساتذة وحلقات الدّرس ، كما أنّ كثيراً من المساجد الإسلاميّة المهمّة في البلاد الاخرى كسورية وإيران والعراق تعتبر منتديات للتّربية والتّعليم ، حتّى أنّها تصير أحياناً مركزاً لأكبر حلقات الدّرس ، وقد يكون التّحفيز من قبل الرّوايات على شدِّ الرّحال إلى هذه المراكز إنّما هو لأجل ذلك ، مضافاً إلى كسب المعنويات والرّوحانيات في تلك المساجد ، والاستفادة من السّوابق العلميّة التّاريخية لهذه المساجد.

ونفس هذا المعنى متحقق في المراقد المقدّسة لأئمّة الدّين عليهم‌السلام ، حيث يكون صحن

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٠١٤ ، كتاب الحجّ ، باب ٩٥ ، ح ١٣٩٧.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٦ ، ص ٢٤٠ ، باب ٤٤ ، ح ٢.

٢٤٩

وروضة تلك المراقد مركزاً للدّرس والتّعليم ونشر العلوم والمعارف الإسلاميّة ، وأنّ زيارة تلك المراكز تكون عادة مقترنة بالاستفادة العلميّة.

وممّا يلفت النّظر هو أن بعض هذه المشاهد الشرّيفة كحرم الإمام عليّ بن موسى الرّضا عليه‌السلام يَغصُّ على طول السنّة بالزّوار حتّى يصل عددهم إلى ١٢ مليون زائر سنوياً ، ولذا فإن اجتماعات عظيمة تعقد على طول أيّام السنّة ، وتقام مؤتمرات وجلسات رائعة ، ولذلك كله تأثيره العميق في تربية المسلمين.

* * *

٢٥٠

دور الصحف والمجلات في الحكومة الإسلامية

تمهيد :

لاشكّ في أنّ الصحف والمجلات تعتبر اليوم من أهم وسائل التّربية والتعليم في العالم ، والتي انتشرت بفضل التّقدم العلمي وتطور التّكنولوجيا والصّناعة ، ولذا فهي عاملٌ مهم في تهذيب الأفكار العامة أو تخريبها وتضليلها ، وقد يصل عدد النّسخ المطبوعة لمجلة من المجلات أو صحيفة من الصحف ، إلى عدّة ملايين نسخة ، توزع في عدّة قارات من هذا العالم في نفس الوقت تقريباً ، فتؤثر في توجيه أفكار المجتمعات في العالم نحو جهة معينة.

ولاشك في أنّ دور الصّحف والمجلات لم يكن واسعاً ومؤثراً في السّابق كما هو عليه اليوم ـ كما في كثير من الأمور الاخرى أيضاً ـ ولكن وعلى أيّة حال ، كان للكتاب والمكتبات على طول التّأريخ أثرٌ بالغٌ في التربية والتعليم وانتقال العلوم من جيل إلى آخر وفي تكامل الثّقافة البشريّة.

وبعد هذه الإشارة الخاطفة ، نعود إلى القرآن الكريم ، ونتأمل في الأهميّة التي أوْلاها للكتاب والكتابة والتي كانت بلا شكّ مبرراً من مبررات الحركة العلميّة للمسلمين في صدر الإسلام.

وفي القرآن المجيد آيات كثيرة تتعرض لهذا الموضوع ، منها :

١ ـ (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ). (القلم / ١)

٢ ـ (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ* الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ). (العلق / ٣ ـ ٥)

٣ ـ (وَلْيَكْتُبْ بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلُيملِلِ الَّذِي عَلَيهِ الحَقُّ ...). (البقرة / ٢٨٢)

٢٥١

٤ ـ (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهيِدٌ). (البقرة / ٢٨٢)

٥ ـ (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا). (سبأ / ٤٤)

٦ ـ (ائتُونىِ بِكِتَابٍ مِّنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ اثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). (الأحقاف / ٤)

٧ ـ (رَسُولٌ مِّنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُّطَهْرَةً* فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ). (البينّه / ٢ ـ ٣)

* * *

جمع الآيات وتفسيرها

يستعمل القرآن الكريم في بعض الآيات صيغة القسم للتأكيد على أهميّة الموضوع الذي يريد بيانه ، والقسم تارة يكون بالذات الإلهيّة الطّاهرة ، وفي كثير من الموارد يكون بالموجودات المهمّة كالشّمس والقمر والأرض والسّماء وأمثال ذلك.

وفي الآية الأولى الّتي ذكرناها وهي أوّلُ آية من سورة القَلم ، يقسم عزوجل بالقلم ، وكل ما يكتبه القلم : (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ).

وفي الحقيقة أنّ ما وقع القسم به هنا ، وإن كان في الظّاهر موضوعاً صغيراً ، فهو قطعة خشب وقصبة بسيطة أو ما شابه ، وشيء من السّوائل الملونة ، وأسطرٍ على صفحات متواضعة ، إلّاأنّه في الواقع منبع ظهور الحضارات الإنسانيّة وتقدم العلوم والمعارف ويقظة الفكر وتصوير المذاهب والأديان بصورتها الحقيقية ، ومصدر التّربية والتعليم والهداية للبشرية.

ومن هنا ، فإنّ العلماء يقسّمون أدوار حياة الإنسان إلى دورين رئيسيين هما «مرحلة ما قبل التّاريخ» و «مرحلة ما بعد التّاريخ» ، ويقولون إنّ مرحلة ما بعد التّاريخ تبدأ من حين اختراع الخط والكتابة ، وعندما استطاع الإنسان أن يمسك القلم بيده ويكتب أحداث حياته على الصفحات ، وأمّا قبل ذلك فيسمى بمرحلة ما قبل التّاريخ.

ويجب أن لا نغفل عن أنّ هذه الآية نزلت في محيط جاهلي أكثر من أي محيط آخر ، حيث لم يكن هناك من يهتم بالقلم والكتابة ، ولم يصل عدد الذين كانوا يعرفون الكتابة في

٢٥٢

مكة ـ وهي أكبر مركز عبادي سيّاسي واقتصادي في الحجاز حسب قول بعض العلماء ـ إلى أكثر من عشرين شخصاً!

فالقَسَم بالقلم في مثل هذا المحيط له من العظمة والجلال الكبيرين مالا يخفى!

ومن فلسفة القسم في القرآن هو أنّه كان يحفز المسلمين على التأمل في الأمور التي يُقسَمُ بها ، وفي هذه الآية كان الأمر كذلك ، فصار ذلك سبباً في اتساع أمر القراءة والكتابة والتّأليف وترجمة كتب المجتمعات الاخرى ، وانتشار العلوم في العالم الإسلامي.

* * *

وتعتبر الآية الثّانية ، من أولى الآيات ـ طبقاً للرأي المشهور ـ الّتي نزلت على قلب النّبيّ الطّاهر في جبل النور في غار حراء ، وكانت أولى ومضات الوحي ، ولذا فإنّها إشارة إلى أَهم المسائل ، فعندما يأمر تعالى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتلاوة آيات القرآن ، يقول له : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ* الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الانْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ).

وبهذا فإن أوّل وصف لله تعالى بعد الرّبوبيّة والكرامة هو وصف التّعليم بواسطة القلم وهو منبع تعليم «مالم يعلم».

ومن هنا فإنّ بداية الوحي نشأت مع بداية الحركة العلميّة ، وهذا المعنى عميق ودقيق ومربٍّ لكل مسلم.

فمثل هذه العبارات ، حفّزت المسلمين باستمرار على الإهتمام بالكتاب والمكتبات وتعلم العلوم والمعارف ، وإذا كانت الرّوايات قد صرحت بأن «مداد العلماءِ أفضل من دماءِ الشُهداءِ» ، فإنّ ذلك من أجل أن أسس دماء الشهداء مبتنية على المعارف والعقائد التي تنبع أساساً من القلم ، كما أنّ سند بقاء دماء الشهداء هو مداد أقلام العلماء.

إنّ تفاهم النّاس فيما بينهم وانتقال الأفكار ينحصر في طريقين عادة : البيان والقلم ، مع تفاوت بينهما وهو أنّ البيان وسيلة للارتباط بين الحاضرين في مكان وزمان واحد ، أمّا الارتباط بالقلم فلا ينحصر في الحاضرين ، وإنّما يعتبر القلم وسيلة للارتباط بين أبناء

٢٥٣

الأجيال والعصور المختلفة وفي الأمكنة المختلفة ، فهو يربط أهل القرون السّابقة بالقرون السائدة واللاحقة ، ولذلك يقول أحد العلماء : «بيانُ اللِّسان تُدرِسُهُ الأعوام وما تُثبتُهُ الأقلام باقٍ على مرِّ الأيّام».

وكذلك قال بعض العلماء : «ينبغي أن لا تسقط برايا الأقلام تحت الأقدام ، فإنّها محترمة أيضاً!».

والنّكتة الملفتة للنّظر هي أنّه كما أنّ البيان من خصوصيات الإنسان ، فإنّ القلم أيضاً من مختصاته ، بل إنّ القلم أعقد بكثير من البيان باللِّسان ، وليس عبثاً أن يكون أمرُ تعليم الكتابة بالقلم من قبل الله نفسه ـ بشكل مباشر بواسطة أحد الأنبياء (آدم أو إدريس) أو بطريق غير مباشر ، أي منح موهبة وقابلية القراءة والكتابة للبشرية ـ من أكبر النعم الإلهيّة على الإنسان ، وأنّ الآيات القرآنية الأولى للوحي قد استندت إلى القلم ، وأشارت إليه بعد الإشارة إلى عظمة الله.

* * *

وفي الآية الثّالثة وهي مقطع من أطول آيات القرآن المجيد ، والنّاظرة إلى تنظيم العلاقات اليوميّة بين النّاس ، نجد اهتماماً خاصاً بمسألة القلم ، يقول عزوجل : (وَلْيَكْتُبْ بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) ثُمّ يضيف : (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلُيملِلِ الَّذِي عَلَيهِ الحَقُّ ...).

فهنا تعتبر الآية أنّ القدرة على الكتابة موهبة إلهيّة ، ويوصي أولئك الّذين شملتهم هذه العناية الرّبانيّة أن يعينوا أولئك الاميين لإحقاق حقوقهم ، فيستفيدوا من هذه القدرة ويكتبوا لهم.

* * *

٢٥٤

والظّريف هو أنّه جاء في بقية هذه الآية : (وَلَا يُضارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيْدٌ) أي لا ينبغي أن يتضرر كاتب أو شهيد ، فإن وسّعنا مفهوم هذه الآية الّتي وردت في مورد خاص (وهو كتابة وثيقة القرض) أي لو ألغينا الخصوصية وألحقنا بها الموارد الاخرى التي يمكن الاستفادة فيها من موهبة الكتابة لإعانة أفراد المجتمع ، وكذلك عدم إضرار الكتّاب ، وبعبارة أُخرى حفظ حرية القلم ، نصل إلى نكتة مهمّة وصلت إليها البشريّة بعد قرون من نزول هذه الآية ، مع أنّها تواجه مشاكل عديدة في تطبيق ذلك عمليّاً.

* * *

وفي الآية الخامسة ، يذّم القرآن المجيد أولئك الّذين يخالفون الآيات الإلهيّة ، ويحاججهم ويطالبهم بالمبررات المنطقية التي دعتهم إلى ذلك ، يقول عزوجل :

(وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَّذيرٍ).

وبالرغم من أن المراد من الكتب ، الكتب السّماوية ، ولكن ماذكر من موضوع الكتاب ودراسته وتعلمه في هذه الآية إلى جانب إرسال الأنبياء ، وأنّ الكتاب أحد الدليلين المعتبرين ، يكفي لمعرفة أهميّة ودور الكتاب ، ونظير هذا المعنى نجده في سورة القلم ، في مقام المؤاخذة وذم منكري الإسلام والقرآن ، حيث يقول تعالى : (أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ). (القلم / ٣٧)

وهذا إشارة إلى أنّ الكتاب يمكن أنْ يكون في عدّة موارد سنداً معتبراً يُستند إليه في الإحتجاج.

والحقيقة أنّ اعتماد القرآن المجيد على مسألة الكتاب والكتابة في مورد الكتب السّماوية للأنبياء سواءً في أمور الدّنيا ، أو في صحيفة الأعمال والمحكمة الإلهيّة ، كلها تبيّن أهميّة هذا الموضوع من وجهة نظر القرآن والإسلام.

* * *

٢٥٥

توضيحات

١ ـ أهميّة الكتاب والقلم في الرّوايات

وردت روايات كثيرة عن النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في بيان أهميّة الكتاب والكتابة ، وإليك نماذج من تلك الروايات :

١ ـ ورد في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال :

«قَيِّدوا العِلْمَ. فقيل : يا رسول الله ، وَما تَقْييدُهُ».

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كِتابَتُهُ» (١).

٢ ـ وفي حديث آخر عنه أيضاً : «اكْتُبُوا العِلْمَ قَبْلَ ذَهاب الْعُلَماءِ وَإنَّما ذَهاب العِلْمِ بِمَوتِ الْعُلَماءِ» (٢).

٣ ـ قال الإمام الصّادق عليه‌السلام لأحد أصحابه : «أُكْتُبْ وبُثَّ عِلْمَكَ فِي إخوتِكَ فإنْ مِتَّ فورِّثْ كُتُبَكَ بنيك ، فإنَّهُ يأتي على النّاس زَمانُ هَرَجٍ ما يأنسونَ فيه إلّابِكُتبِهِمْ» (٣).

٤ ـ وفي حديث آخر عنه أيضاً : «مَنَّ اللهُ على النّاس بَرِّهم وفاجِرِهِمْ بالكتاب والحسابِ ولولا ذلك لتغالطوا» (٤).

٥ ـ يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث رائع جدّاً ومختصر : «الكُتُبُ بَساتُينُ العُلَماءِ» (٥).

والبساتين لها هواء لطيف ، ولها مناظر خلّابة ، وفيها أنواع الثمار ، وفيها أنواع الأوراق والورود والأعشاب الطبيّة ، وفي الحقيقة ، فإنّ الكتاب له كلّ تلك الآثار.

٦ ـ وفي حديث آخر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورد بتعبير رائع جدّاً يُبِّين فيه أهميّة الكتاب والكتابة بطرز محيّر للعقول ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ثلاث تخرِقُ الحجبَ ، وتنتهي إلى مابين يدي الله : صريرُ أقلامِ العلماءِ ، وَوَطءُ أقدام المجاهدينَ ، وصوتُ مغازلِ المُحصَناتِ» (٦).

وفي الواقع ، كلّ واحدٍ من هذه الأصوات الثّلاثة خفيٌّ في الظّآهر إلّاأنّه في باطنه وواقعهِ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ١٥١.

(٢) كنز العمال ، ح ٢٨٧٣٣.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ١٥٠.

(٤) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ١٥٥.

(٥) غرر الحكم.

(٦) الشهاب في الحكم والآداب ، ص ٢٢.

٢٥٦

جوهري ، وكلّ واحدٍ منها إشارة إلى إحدى المسائل الاساسيّة في المجتمعات البشريّة «العلم والكتابة» «الجهاد والشّهادة» «السّعي والعمل»!

٧ ـ يقول الإمام الصّادق عليه‌السلام للمفضّل ضمن بيان نعم الله العظيمة على البشرية :

«وكَذَلِكَ الكِتابَةُ الَّتي بِها تُقَيَّدُ أخْبارُ الْماضِيْنَ لِلْباقينَ وَأَخْبارُ الْباقينَ لِلآتينَ وَبِها تُخَلَّدُ الْكُتُبُ فِي الْعُلُومِ وَالآدابِ وَغَيْرِها وَبِها يَحْفَظُ الإنْسانُ ذِكْرَ ما يَجْرى بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُعامِلاتِ وَالْحِسابِ ، وَلَوْلاهُ لانْقَطَعَ اخبارُ بَعْضِ الأزْمِنَةِ عَنْ بَعْضٍ ، وَأَخْبارُ الْغائبينَ عَنْ أوْطانِهِم ، وَدَرَسَتِ الْعُلُومُ وَضاعَتِ الآدابُ ، وَعَظُمَ ما يَدْخُلُ عَلَى النّاسِ مِنَ الْخَلَلِ فِي أُمُورِهِمْ وَمُعامِلاتِهِمْ ، وَما يَحْتاجُونَ إلَى النَّظَرِ فِيهِ مِنْ أمْرِ دِينِهِمْ وَما رُوِيَ لَهُمْ مِمّا لا يَسَعُهُمْ جَهْلُهُ» (١).

٨ ـ ونختم هذا البحث برواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تكشف الستار عن أهميّة بقاء الآثار العلمية بواسطة الكتابة ، وتدعو العلماء وتحفزهم وتشدُّهُمْ إلى ذلك ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«الْمُؤمِنُ إذا ماتَ وَتَرَكَ وَرَقَةً واحِدَةً عَلَيْها عِلْمٌ ، تَكُونُ تِلْكَ الْوَرَقَةُ يَوْم القِيامَةِ سِتْراً فيما بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّارِ وَأعْطاهُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِكُلِّ حَرْفٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْها مَدينَةً أوْسَعُ مِنَ الدُّنْيا سَبْعَ مَرّاتٍ» (٢).

* * *

٢ ـ وصايا مهمة للحكومات الإسلامية

من مجموع ما قرأناه في الآيات والرّوايات ، تتضح لنا هذه النّقطة ، وهي أنّ المسلمين في القرون الأولى لظهور الإسلام لما توجهوا للعلوم والفنون والمعارف ، وأوجدوا نهضة علميّة واسعة عمّت بركاتها وثمارها اوربا أيضاً ، فإنّ جذور ذلك موجود وكامن في الثّقافة الّتي علمهم إيّاها الإسلام ، ومن الواضح جدّاً أنّ على الحكومات الإسلاميّة أن تهتم بهذه المسألة

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥٨ ، ص ٢٥٧.

(٢) المصدر السابق ، ج ١ ، ص ١٩٨.

٢٥٧

الّتي تعتبر أساس حياتهم وتقدمهم في دينهم ودنياهم.

وفي هذا المجال ، فإنّ الحكومة الإسلاميّة وبالاستفادة ممّا ذُكر ، عليها أنْ تراعي القواعد والأمور التّالية.

١ ـ لابدّ أن تنتشر القراءة والكتابة بشكل واسع في كلّ طبقات المجتمع حتّى لا يبقى فرد جاهل بهما ، بل يتنعم الجميع بنعمة القراءة والكتابة ، وأي تقصير في هذا المجال تكون الحكومة الإسلاميّة مسؤولة عنه.

٢ ـ تأسيس المكتبات العامة والخاصّة لعامة النّاس ولخصوص المحققين والعلماء ، والمكتبات التي تضم مختلف الكتب في شتى العلوم من وظائف الحكومة الإسلاميّة أيضاً.

وكلّ جهد في هذا المجال ، فضلاً عن كونه مطلوب من قبل الشّارع المقدّس ، فمع ذلك سيكون سبباً في قوة واقتدار المسلمين ، ومواجهة النواقص والمفاسد الفردية والاجتماعيّة المختلفة ، وهو أيضاً سبب في تطور المجتمع الإسلامي ورقيه.

٣ ـ ينبغي أن لا تقتصر وسائل الإعلام العامة في الحكومة الإسلاميّة على الأخبار والمسائل السيّاسية وبرامج التّسلية ، بل لابدّ أن يخصص جزءٌ كبير منها لنشر العلوم والمعارف وبما يتناسب مع كل الأمزجة لجميع أفراد المجتمع ونشر آخر التطورات والإكتشافات العلميّة في أوّل فرصة ممكنة بشكل واسع في المجتمع الإسلامي ، للحدِّ من أي تخلف حضاري وعلمي عند المسلمين.

٤ ـ على الحكومة الإسلاميّة أن تشجِّع العلماء والمحققين والكتّاب على الاستفادة من كل الوسائل العلميّة الحديثة وأن توفر ما يلزم لتعزيز هذه القدرة عندهم ، وعليها من أجل إنتاج حصيلة علمية تشجيع الابداعات والإبتكارات العلميّة ، وتوزيع الجوائز والإمتيازات ، وإن تكرم العلماء والمحققين بنحو يحفز الآخرين على الجدّ والسعي في هذا المجال.

٥ ـ توسعة المدارس والجامعات وتعميق برامجها وتطويرها واستثمار الإبتكارات العلميّة للعلماء المسلمين ، وحتى المحققين الأجانب ، وفي هذا المجال لابدّ أن يكون ذلك على رأس برامج الحكومة الإسلامية ، وأن يتبلور ذلك طبقاً لما أراده الإسلام والذي

٢٥٨

انعكس في الآيات والروايات المذكورة وهي نموذج من تعاليم الإسلام.

والإطلاع على الصنّاعة والتّكنلوجيا ليس أمراً منفصلاً عن ذلك بحال ، لأننا نعلم أن تعلّم كل الأمور المهمّة بنحوٍ من الأنحاء لحفظ المجتمع الإسلامي ، واجبٌ عيني في الفقه الإسلامي ، ولا يحقّ لأي مسلم أن يغفل عنه.

* * *

٣ ـ تأسيس المكتبات

إحدى مسؤوليات الحكومة الإسلاميّة المهمّة فيما يرتبط بمسألة التّربية والتّعليم هو تأسيس المكتبات العامة ، وذلك لأنّ أكثر النّاس غير قادرين على شراء كتب مختلفة وعديدة ، في حين أنّهم يطلبون العلم ويريدون المعرفة ، وحتى لو كانوا قادرين على ذلك ، فإنّه لا يلزم أن تُجَمّد أموال طائلة في المنازل ، فالأفضل أن يتمّ تأسيس مكتبات عامة ليتم استغلال الثروات في أمور أخرى ، ولكي يتمكن الفقير والغني ومتوسط الحال والصغير والكبير من اقتناء الكتب المختلفة ومطالعتها ، سواءً الكتب الدينيّة أو العلميّة أو الأدبيّة أو التّاريخية والسياسية.

وفلسفة تشكيل المكتبات معروفة من قدم الدهر ، ولهذا نجد أن مكتبات عديدة قد اسست منذ آلاف السّنين في نقاط مختلفة من هذا العالم وإن كان بعضها بسيطاً وابتدائياً.

وفي المجتمع الإسلامي ، وللتأكيد الكبير الذي ورد في التعاليم الإسلامية على مسألة العلم والمعرفة نجد أنّ المكتبات العظيمة كانت قد اسست منذ القرن الثّاني للهجرة في البلاد الإسلاميّة ، حتّى أظهر المؤرخون غير المسلمين إعجابهم وتقديرهم لمثل تلك المكتبات.

ولجرجي زيدان ، المؤرخ المسيحي الشّهير ، بحث مفصل حول مكتبات بغداد والأندلس ومصر وسائر نقاط العالم الإسلامي ، الأمر الذي يُبيِّن انفتاح المسلمين العلمي العظيم في القرون الأولى للإسلام.

ومن جملة المكتبات العظيمة المهمّة التي يذكرها هي مكتبة بيت الحكمة في بغداد ،

٢٥٩

والتي يُحتمل وبشكل قوي أنّ هارون الرّشيد هو الّذي أسسها ، والتي جُمِعَ فيها كل الكتب المؤلفة في الطّبّ والعلوم الاخرى ، وكذا العلوم الإسلاميّة المدوّنة (١).

وقد قام كثير من رجال بغداد بتأسيس مكتبات أخرى تبعاً لمكتبة بيت الحكمة ، جمعوا فيها آلاف الكتب المختلفة.

ولقد كان المأمون العبّاسي ، من السّباقين في تأسيس المكتبات في الدّول الإسلاميّة ، وكان بعض حكام الأندلس قد اقتدوا به في هذا المجال.

ومن جملة من اهتم بهذا الأمر «المستنصر العبّاسي» في القرن الرّابع للهجرة ، حيث أسس مكتبة عظيمة في «قُرطبة» جمع فيها الكتب من أنحاء العالم ، وكان قد كلَّفَ جماعة من التّجار بالترحال والسّفر إلى نقاط الدنيا وشراء الكتب العلمية لتلك المكتبة ، حتى أنّ البعض قال إنّ عدد الكتب الموجودة في تلك المكتبة بلغ «أربعمائة ألف كتاب» (٢).

وهذا العدد كبير جدّاً بعد الأخذ بنظر الاعتبار أنّ كل الكتب حينذاك كانت مخطوطة ، وكانت كتابة الكتاب الواحد تستغرق أسابيع أو أشهر أو سنين.

وقد اقتدى به كثير من ملوك «الأندلس» فأسسوا مكتبات عديدة في سائر البلاد ، حتى قيل إنّ «غرناطة» كانت تضم سبعين مكتبة عامة ضخمة ، وكل ذلك إنّما هو لأجل الرغبة الشديدة واللهفة لطلب العلم والمعرفة عند النّاس ، حتى صار جمع الكتب وتأسيس المكتبات من علامات العظمة والشخصية ، فحتى الرؤوساء والملوك الذين لم يكونوا من أهل المطالعة ، كانوا يحاولون تأسيس مكتبة معتبرة خاصة في منازلهم!!

وفي زمن «الفاطميين في مصر» تأسست مكتبات كبيرة أيضاً ، كانوا يسمون بعضها «خزانة الكتب» ويصرفون أموالاً طائلة في جمع الكتب حتى أنّهم كانوا أحياناً يجمعون عدّة نسخ من الكتاب وبخطوط مختلفة وزخرفة متنوعة ، حتى ذكر التاريخ أنّ المكتبة التي أسسها «يعقوب بن كلس» كانت تضم ٣٤٠٠ نسخة مختلفة من «القرآن المجيد» و ١٢٠٠

__________________

(١) تأريخ الحضارة ، جرجي زيدان ، ج ٣ ، ص ٢٢٨.

(٢) تاريخ الحضارة ، جرجي زيدان ، ج ٣ ، ص ٢٢٨.

٢٦٠