نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

ولكن كما قلنا إنّ هذا الأمر يحصل في موارد نادرة جدّاً ، خاصة وأنّ صلاحية المرشحين لهذا الأمر يجب أن تؤيد من قبل مجموعة من أهل الخبرة والدراية ، لذا من المستبعد أن تحصل مشكلة مهمّة في هذا المجال.

طبعاً من الممكن أن يتحقق اختيار الشعب بشكل غير مباشر ، بمعنى أن يختار الناس نوابهم لمجلس الشورى الإسلامي ، ومن ثم يقوم النواب بترشيح إحدى الشخصيات لمنصب رئاسة الوزراء ، وبعد المداولة اللازمة واحرازه الصلاحية يمنحونه رأي الاعتماد والثقة ، ولغرض تنفيذ هذا الحكم يراجعون الولي الفقيه بعد ذلك ، ومن ثم يقوم الولي الفقيه أيضاً ـ إما بشكل مباشر أحياناً ، أو بشكل غير مباشر (كما نشاهد ذلك بخصوص فقهاء مجلس صيانة الدستور) ـ بتأييد هذا الرأي والموافقة عليه وتنفيذه.

وبالرغم من أن رئيس السلطة التنفيذية ، أي رئيس الجمهورية في نظام حكم الجمهورية الإسلامية يتمّ انتخابه في الوقت الحاضر من قبل الشعب ، إلّاأن مسؤولي الدرجة الاولى أي الوزراء ، يتمّ تعيينهم بواسطة اقتراحه وانتخاب نواب الشعب في مجلس الشورى ، ، وبهذا الشكل فإنّ الشعب يشارك ويساهم عن طريقين في انتخاب الوزراء : أولاً : عن طريق نواب المجلس ، وثانياً : بواسطة رئيس السلطة التنفيذية ، والاثنان منتخبان عن طريق الشعب.

كما أنّ الفقيه الجامع للشرائط ، يشرف على هذا الأمر أيضاً عن طريق مجلس صيانة الدستور ، من خلال المصادقة على تنفيذ تنصيب رئيس الجمهورية أيضاً.

إنّ هذا الاسلوب غير المعقّد نسبياً يضمن من جهة ، تدخل الفقيه الجامع للشرائط في هذا الانتخاب طبقاً للموازين الشرعية ، ومن جهة أخرى ، مشاركة الشعب أيضاً ، وبهذا الشكل تتمّ مراعاة الجنبتين الشرعية والشعبية بشكل دقيق ، (فتأمل).

* * *

١٢١
١٢٢

الثقافة الحاكمة على الحكومة الإسلامية

هذا الجزء من المسائل المتعلقة بالحكومة الإسلامية يعد من أهم الأجزاء وأكثرها حيوية ، لأنّ من الممكن أن نفهم ممّا تقدم عن النظام التنفيذي في الحكومة الإسلامية ، أنّها تسير بنفس الاسلوب الذي يسير عليه الحكام غير الإسلاميين.

أي أن تقسيم المسؤوليات ، وتشكيل الوزارات وانتخاب الوزراء ، والمديرين الكبار والأدنى منهم ، ورئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء مطلوب هنا أيضاً ، وكذا الحال بالنسبة لمسألة الانتخابات الشعبية ، والاستناد إلى آراء وإرادة الشعب ، والانتخاب المباشر أو غير المباشر من قبل نواب الشعب في مجلس الشورى وامثال ذلك ، موجودة هي الاخرى أيضاً. وبناء على ذلك فإنّ الفرق الوحيد لهذه الحكومة مع سائر الحكومات ، يكمن في الاسم والعنوان فقط!

إلّا أنّ ذلك يعد خطأً فاحشاً ، لأنّ الشيء الاهم الذي يفرّق بين الشعوب والحكومات والجمعيات يكمن في الثقافة الحاكمة عليهم ، خاصة وأن الحكومة أو المؤسسات والجمعيات هي بمنزلة الجسم فقط ، وروحها يكمن في الثقافة الحاكمة عليها.

ولغرض الوقوف على الثقافة الإسلامية الحاكمة على هذه التنظيمات ، يلزمنا المزيد من البحوث ، وهي بحاجة إلى كتاب أو مجموعة من الكتب المستقلة ، وما تطالعونه هنا يمثل في الواقع فهرساً من تلك البحوث ، هذا الفهرس الذي بإمكانه أن يوضح للقراء الكرام الكيفية الاجمالية لهذه المسألة وأهدافها وأهميتها.

وبشكل عام فإنّ ثلاثة أصول أساسية تتحكم بنظام الحكومة الإسلامية. والتي تميّزها عن سائر الحكومات الشعبية :

١٢٣

١ ـ معرفة المسؤولين التنفيذيين بأنّهم المؤتمنون على أمر الله تعالى ، ويجب عليهم المحافظة على ما أودع بأيديهم من أمر الحكومة والمناصب الحكومية كوديعة وامانة إلهيّة ، وبأنهم بمثابة حلقة الوصل بين الله سبحانه وتعالى وعبادة ، وأن ينفّذوا بدقة كل ما أمر به تعالى بشأن عباده ، وليس بأمكانهم مطلقاً أن ينشغلوا بالتفكير في المحافظة على مناصبهم أو مصالحهم الشخصية أو مصالح جماعة معينة.

في حين أنّ الحكام الماديين يفكرون في كيفية المحافظة على مناصبهم ومصالحهم الشخصية أكثر من أي شيء آخر ، ومن الممكن أحياناً ان يعمدوا إلى صرف الملايين من أجل الوصول إلى أحد المناصب ، والمؤكد أنّهم وبعد استلام الحكم يقومون بتعويض ما أنفقوه ويزيدون عليه أضعافاً مضاعفة ، أو على الأقل يتعلق هؤلاء الأفراد بطبقة معينة من المجتمع ، ومن أجل المحافظة على مصالح تلك الطائفة التي ينتمون لها ، والتي رصدت مبالغ طائلة لإيصالهم إلى سدة الحكم ، يقومون بشتى الجهود ، من أجل أن تعود على تلك الطبقة بالمزيد من الفوائد والارباح المضاعفة.

ولذا فإنّ اختلاف هذا المنظار عن المنظار الذي يعمل بموجبه الحكام والمديرون الإسلاميون واضح جدّاً وفي جميع المجالات.

٢ ـ ينظر الناس إليهم كمبعوثين من قبل الله تعالى ، ذلك لأنّ طاعتهم تعد فرعاً من طاعة الله تعالى ، وأوامرهم بمنزلة أوامر الله.

ويعتبرون قوانين الحكومة الإسلامية ـ في حالة قيام تلك الحكومة على الاسس الصحيحة ـ بمنزلة قانون الله ، ويعتقدون بأنّ طاعتها توجب النجاة في الآخرة ، وأنّ مخالفتها يعد ذنباً ويوجب العذاب يوم القيامة.

هذه النظرة تختلف كثيراً عن النظرة السائدة في الحكومات الماديّة ، إذ يرى الناس أنّ الحكّام عبارة عن أفرادٍ مثلهم ، وهم غالباً في صدد المحافظة على مصالحهم الشخصية أو مصالح الحزب والجماعة التي ينتمون لها ، وإذا شعروا بأنّ النّاس غير راضين بالقوانين المشرعّة ، وأمنوا من العقاب ، فإنّهم سرعان ما يتخلّون عن واجبهم في تحمّل مسؤولياتهم.

١٢٤

٣ ـ في الحكومة الإسلامية وبشكل عام يجب أن تلقي الروح المعنوية والقيم الاخلاقية بظلالها على جميع الامور ، وأن تأتي المسائل الاخلاقية والإنسانية على رأس قائمة الاعمال ، ويجب أن تكون الدوافع أبعد بكثير من الدوافع الماديّة ، أوليس الهدف النهائي من تشكيل الحكومة والحياة الأفضل إنّما يتمثل في توفير المقدمات اللازمة للسير إلى الله والقرب من الباري وايجاد التكامل الروحي والمعنوي؟!

فهل يمكن أن تتساوى هذه الأهداف والدوافع مع أهداف ودوافع الشعب والعاملين في حكومة ماديّة؟

طبعاً لغرض الوصول إلى تحقق حكومة إلهيّة تامة وكاملة ، لابدّ أن نطوي طريقاً طويلاً وشاقاً ، ولابدّ من اعطاء دروس كثيرة للمجتمع ، ولكن مهما يكن الحال فإنّ محتوى هذه الحكومة قياساً للحكومات المادية ، من حيث العنصر الثقافي «متفاوت» للغاية بل و «متباين» أيضاً.

* * *

ومن خلال هذا التحليل ننتقل إلى الآيات القرآنية المباركة ، ومن ثم إلى الروايات الإسلامية ، لغرض الوقوف على الثقافة الحاكمة على المحاور المختلفة للحكومة الإسلامية ومناقشتها :

١ ـ نقرأ في قوله تعالى :

(فَبَما رَحْمةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَليظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمرِ فَاذِا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّليِنَ). (آل عمران / ١٥٩)

وبناءً على ذلك فإنّ الحاكم الإسلامي وبالاضافة إلى الحزم والعزم الشديدين ، فهو مطالب ومكلف بالعفو والصفح ، وحتى الاستغفار واللين والانسجام ، وأن يرى في الله تعالى السند والملاذ الأول والأخير في كل حال من الأحوال.

٢ ـ وفي سورة فصلت المباركة يأمر الباري تعالى بغسل العداوة والبغضاء بماء المحبة

١٢٥

والاحسان ، وتلافي مواجهة الأحبّة بالمثل كلما أمكن ذلك ، إذ يقول تعالى : (إِدْفَعْ بالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَاذِا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ). (فصلت / ٣٤)

إنّ سيطرة مثل هذه الثقافة على النظام الإسلامي التنفيذي والتي تقف على نقيض الثقافة المادية تضفي عليه نورانية وصفاءً ، وتعطي له معنىً ومفهوماً آخرين.

٣ ـ ويقول تعالى في سورة الكهف المباركة تجاه اصرار الذين يعتقدون بأنّ واجب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يُبعد الفقراء وإن كانوا مؤمنين ومخلصين ، ويقترب من الطبقات الغنية والمتنفذة ، إذ تقول الآية بكل صراحة وحزم :

(واصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدعُونَ رَّبّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْههُ وَلاتَعْدُ عَينَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدُّنيا وَلَا تُطِعْ مَنْ أغْفَلنْا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً). (الكهف / ٢٨)

وشتان بين هذا المنطق الذي يرى في الحب والإيمان بالله تعالى لدى هؤلاء الأفراد أثمن وأغلى شيء لديهم ، ويأمر بصد الأغنياء الغافلين عن ذكر الله ، وليس الفقراء المخلصين المؤمنين ، وبين منطق الذين يعلنون اليوم بكل صراحة في العالم ، بأنّ القيمة العليا تكمن في المصالح والمنافع المادية ، ويضحّون بجميع القيم الاخرى في سبيل تلك المصالح.

٤ ـ وتخاطب سورة ص وبلهجة حازمة وشديدة ، النبي داود عليه‌السلام :

(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله). (ص / ٢٦)

وكما نرى ، فإنّ الآية الكريمة تنذر هذا النبي المعصوم والقدوة للنّاس بأن يحذر وساوس النفس الأمارة ، لئلا تصبح سبباً لانحرافه عن طريق الحق والعدالة.

وعلى هذا الأساس ، يجب على الحاكم الأسلامي أن يراقب نفسه جيداً ويحذر من الأهواء والدوافع الدنيوية والحبّ والبغض أن تتحكم في أعماله وتصرفاته فيضيع بها حقاً أو يرتكب باطلاً ، وما أشد ما اختلف هذا الميزان للحاكم مع من يقول إنّ القاضي يعتبر

١٢٦

مسؤولاً فقط أمام القانون لا أكثر ، ذلك القانون الذي له أكثر من ألف طريقة للفرار والتبرير.

٥ ـ وفي سورة النساء يخاطب القرآن الكريم جميع المؤمنين ويذكّرهم بأصل مهم ، وهو تقديم الأصول والضوابط على الروابط ، ويقول :

(يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ للهِ وَلَوْ عَلَى انْفُسِكُمْ اوِ الْوالِدَيْنِ وَالاقْرَبِينَ انْ يَكُنْ غَنِيّاً اوْ فَقِيراً فَاللهُ اوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى انْ تَعْدِلُوا وَانْ تَلْوُواْ اوْ تُعْرِضُوا فَانَّ اللهَ كَانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً). (النساء / ١٣٥)

وبهذا لا ينبغي للروابط بين الأب والأم والأبن والأخ أن تكون حجر عثرة أمام تطبيق القانون وإجراء العدالة ، بل حتى المنافع الشخصية لابدّ من نسيانها وتركها في مقابل الحق.

ومن البديهي أنّ مثل هذه الكلمات يمكن أن تطرح في المحافل المادية ، ولكن مضافاً إلى عدم وجود الضمانات العملية في تطبيقها ، لا يمكن تصوّر مفهوم صحيح عنها ، ولهذا نجدهم يقدّمون المنافع الشخصيّة والحزبية دائماً على القيام بالعدل والقسط ، فالروابط حاكمة هنا على الضوابط ، وأحياناً يتم هذا المعنى من تجاوز القوانين علناً في التصرفات المتناقضة للحكّام الماديّين فيما لو تشابهت المفردات ، أحدهم يسير وفق المصلحة ، والآخر على نقيضه ، فهنا يتضح زيف الشعارات المتعلقة بالقسط والعدل وحقوق البشر ويثبت بطلانها.

* * *

هناك ملاحظات ملفتة للنظر في الروايات الإسلامية لبيان الثقافة الحاكمة على الحكومة الإسلامية يطول شرحها ، ولكن يمكن الإشارة إليها باختصار :

١ ـ رعاية الاصول الأخلاقية في حرب مع الأعداء

بالرغم من أن الحرب تمثل منتهى الخشونة لدى الإنسان ، وتكون مع الأسف ضرورية في بعض الأحيان مقابل من لا يدرك سوى منطق القوة ، مع ذلك نجد أنّ الإسلام في برنامجه الحربي قرن المسائل الإنسانية مع وحشية الحرب ، وأوجب على المسلمين رعاية الأصول

١٢٧

الأخلاقية في حربهم مع الأعداء الشرسين.

وعندما كانت مجموعات المجاهدين من جيش الإسلام تتوجه إلى ميادين القتال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعوهم إليه ويوصيهم بوصاياه ، ويقول :

«سِيرُوا بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ وَفي سَبيلِ اللهِ وَعَلى مِلَّةِ رَسُولِ الله لا تَغُلُّوا ، وَلا تُمَثَّلُوا وَلا تَغْدرُوا وَلا تَقْتُلُوا شَيْخاً فانِياً ، وَلا صَبِيّاً وَلا امْرَأَةً وَلا تَقْطَعُوا شَجَراً الّا انْ تَضْطَرُّوا الَيْها ، وَايُّما رَجُلٍ مِنْ ادْنَى الْمُسْلِمينَ اوْ افْضَلِهِمْ نَظَرَ الى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكينَ فَهُوَ جارٍ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ فَانْ تَبِعَكُمْ فَاخُوْكُمْ فِي الدِّيْنِ وَانْ ابى فَابْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ وَاسْتَعينُوا بِاللهِ عَلَيْهِ» (١).

ونقرأ في حديث آخر :

«نَهى رسُولُ اللهِ أنْ يُلقى السُّمُّ في بلادِ المشركين» (٢).

«ما بيّتَ رَسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عدوّاً قَطْ» (٣).

ونقرأ أيضاً في حديث آخر من وصايا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الحربية إلى الإمام علي عليه‌السلام عندما كان الإمام عازماً للتوجه إلى اليمن :

«لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه ، وأيم الله لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت» (٤).

* * *

٢ ـ الآداب الإسلامية في جمع الضرائب

ونقرأ في الآداب المتعلقة بجمع الزكاة والأموال لبيت المال أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام كلما بعث رجلاً لجمع الزكاة أوصاه بوصايا عديدة. منها ما يلي :

__________________

(١) فروع الكافي ، ج ٥ ، ص ٢٧ ـ ٢٨ ـ ح ١.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٨ ، ح ٢.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٨ ، باب وصية رسول الله ... ، ح ٢٣.

(٤) المصدر السابق ، ح ٤.

١٢٨

«انْطَلِقْ عَلى تَقْوَى اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ ، وَلا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً ، وَلا تَجْتازَنَّ عَلَيْهِ كارِهاً ، وَلا تَأخُذَنَّ مِنْهُ اكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللهِ فِي مالِهِ فَاذا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمائِهِمْ مِنْ غَيْرِ انْ تُخالِطَ ابْياتَهُمْ ، ثُمَّ امْضِ الَيْهِمْ بِالسَّكِيْنَةِ وَالْوَقارِ حَتّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ ، فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَلا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ، ثُمَّ تَقُولَ : عِبادَ اللهِ! ارْسَلني الَيْكُمْ وَلِيُّ اللهِ وَخَلِيْفَتُهُ لآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللهِ في امْوالِكُمْ فَهَلْ للهِ فِي امْوالِكُمْ مِنَ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ الى وَلِيِّهِ ، فَانْ قالَ قائِل : لا ، فَلا تُراجِعْهُ ، وَانْ انْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ انْ تُخِيْفَهُ او تُوَعِّدَهُ اوْ تُعَسِّفَه أو تُرهقه» (١).

وبعد هذه التعليمات ، يوصيه الإمام عليه‌السلام بوصايا مؤكدّة عن كيفية الإنتخاب العادل لزكاة بيت المال من بين الأموال الجيدة والسقيمة ، ورعاية الرفق والمداراة والمحبة ، وغير ذلك ممّا يعتبر نموذجاً واضحاً على حاكمية القيم الإسلامية في هذه الأمور في المعاملة مع الناس.

قد يتصور البعض أنّ طريقة المعاملة هذه في مسألة الضرائب الإسلامية توجب الضعف والفتور لدى الناس ، وتختلف كثيراً عمّا نشاهده اليوم من كيفية جمع الضرائب.

ولكن لا ينبغي الغفلة عن أنّ هذه التعليمات واردة في المجتمع الإسلامي الذي تربى أفراده تربية إسلامية وشعروا فيه بالمسؤولية.

كما أننا نجد الآن وفي بعض المجتمعات غير الإسلامية ، كثيراً من الأشخاص ـ وبسبب الثقافة الحاكمة هناك ـ يدفعون الضرائب عن طيب خاطر من دون أن يطالبهم أحد ، وأكثر من ذلك وأفضل ما يجري في مجتمعنا الإسلامي حيث تأتي الناس زرافاتٍ ووحداناً إلى مراجع الدين ليؤدوا ما عليهم من الخمس الواجب وبدقة متناهية حتى يحسبوا حساب عدّة كيلو غرامات من السكّر أو الشاي الموجودة في بيوتهم ممّا زاد عن مؤونة السنة ، حيث إنّ النّاس يشعرون جميعاً بالمسؤولية ، وهكذا بالنسبة لزكاة الفطرة وشعور الناس بالمسؤولية تجاهها.

وكلما انتشرت وتعمقت هذه الثقافة والشعور بالمسؤولية اتّضح الجواب عن هذا الإشكال كاملاً.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٢٥.

١٢٩

٣ ـ الإقتصاد في كلّ شيء

من مميزات الثقافة الإسلامية أيضاً الاقتصاد والدقّة في صرف أموال بيت المال بعنوان أنّه وديعة وأمانة إلهيّة بيد المسؤولين يحاسبون عليها يوم القيامة حساباً عسيراً ، والحادثة المعروفة التي وقعت لعقيل بن أبي طالب أحد الشواهد على ذلك حيث طلب من أخيه الإمام علي عليه‌السلام أن يفضله على الآخرين في العطاء ، فنجد أنّ الإمام عليّاً عليه‌السلام رفض وضع أدنى امتياز بين أخيه والآخرين حتىّ أنّه عليه‌السلام أحمى له حديدة وقربها من يده وحذّره من عذاب الله يوم القيامة.

وهناك موارد اخرى كثيرة ولا نظيرلها ستبيّن دقة المسؤولين ورجال الإسلام في هذا المجال ومن ذلك تعليمات الإمام علي عليه‌السلام إلى الكُتّاب في الحكومة الإسلامية حيث يقول عليه‌السلام :

«ادِقُّوا اقْلامَكُمْ وَقارِبُوا بَيْنَ سُطُورِكُمْ وَاحْذِفُوا عَنّي فَضُولَكُمْ ، وَاقْصُدُوا قَصْدَ الْمَعاني ، وَايّاكُمْ وَالاكْثارَ ، فَانَّ امْوالَ الْمُسْلِمينَ لا تحتمل الاضْرارَ» (١).

وقد بيّن الإمام الصّادق عليه‌السلام هذا المعنى بصورة كلية حيث قال :

«انَّ الْقَصْدَ امْرٌ يُحِبُّهُ اللهُ عَزَّوَجَلَّ وَانَّ السَّرَفَ يُبْغِضُهُ حَتّى طَرْحَكَ النواةَ فَانَّها تَصْلحُ لِشَيءٍ وَحَتّى صَبَّكَ فَضلَ شَرابِكَ» (٢).

وقد ثبت في هذا الزمان أن كل شيء لا ينبغي أن يطرح ، فيمكن الاستفادة حتى من القمامة والمواد الزائدة للمصانع وغيرها ، وحتى أنّ مياه المجاري مع قذارتها ورائحتها النتنة يتم تصفيتها من جديد وإرسالها إلى المزارع ، وكذلك يتم جمع القمامة فيصنعون منها منتوجات مختلفة ، ونختم هذا الكلام بحديث كريم من دعاء الصحيفة السجادية للإمام علي بن الحسين عليه‌السلام في هذا المجال حيث يدعو الله تبارك وتعالى ويقول :

«اللهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَالِهِ وَاحْجُبْنِي عَنِ السَّرَفِ وَالازدِيادِ ، وَقَوِّمْنِي بِالبَذْلِ وَالاقْتِصادِ ، وَعَلِّمْنِي حُسْنَ التَّقْدير ، وَاقْبِضْنِي بِلُطْفِكَ عَنِ التَّبْذِيْرِ» (٣).

__________________

(١) الخصال ، ج ٢١ ، الباب ٢٥ ، ح ٨٥ ؛ بحار الأنوار ، ج ٧٣ ، ص ٤٩ ، ج ١٠١ ، ص ٢٧٥.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٨ ، ص ٣٤ ، ح ١٠.

(٣) الصحيفة السجادية ، الدعاء ١٣٠ (دعاؤه في المعونة على قضاء الدين).

١٣٠

٤ ـ المعيار الفضيلة وليس العمر

لقدتم انتخاب عتاب بن أسيد من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أميراً على مكة المكرمة ، وكان شاباً شجاعاً ذكياً ، فكتب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتاب تنصيبه كلمات منيرة توضح الثقافة السامية للإسلام في المجال التنفيذي في الحكومة الإسلامية ونقرأ في بعض كلماته :

«فَهُوَلَنا خادِم وَفِي اللهِ اخ وَلَاوْلِيائِنا مُوالٍ ، وَلَاعْدائنا مُعادٍ ، وَهُوَ لَكُمْ سَماء ظَلِيْلَة ، وَأَرْض زَكِية ، وَشمس مُضِيْئَة وَلا يَحْتَجٌّ مُحْتَجٌّ مِنْكُمْ فِي مُخالَفَتِهِ بِصِغَرِ سِنّه ، فَلَيْسَ الَاكْبَرُ هَوَ الافْضَلَ ، بَلِ الافْضَلُ هُوَ الاكْبَرُ!» (١).

* * *

٥ ـ الرأفة الإسلامية

الإمام علي عليه‌السلام عندما أراد بيان الرأفة الإسلامية وشفقة الحاكم الإسلامي على سائر الرعية في عهده المعروف بعهد مالك الأشتر الذي يعتبر حقاً أفضل مرسوم إداري كتب لحد الآن ولم يصبه غبار النسيان على مرور الزمان ، كتب يقول فيه :

«وَاشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُطْفَ بِهِم ، وَلا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضارِياً تَغْتَنِمُ اكْلَهُمْ ، فَانَّهُمْ صِنْفان : إِمّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّيْن اوْ نَظيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ» (٢).

وفي الحقيقة أنّ الثقافة الإسلامية الحاكمة على العلاقات بين المسلمين وبين غيرهم تتلخّص في هذه الجملات المعدودة.

* * *

٦ ـ الإعتماد على الشعب

في مكان آخر من كتاب العهد هذا ، يوصي الإمام عليه‌السلام بأن يجعل الوالي اعتماده على

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢١ ، ص ١٢٣.

(٢) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

١٣١

الطبقة العامة والكادحة ، والإجتناب عن الطبقة المترفة وموالاتها ، والسعي دائماً لكسب رضا الطبقة الأولى دون الثانية ، يقول عليه‌السلام :

«وَلْيَكُنْ احَبَّ الامُورِ الَيْكَ اوْسَطُها فِي الْحَقِّ وَاعَمُّها فِي الْعَدْلِ وَاجْمَعُها لِرِضَى الرَّعِيَّةِ ، فَانَّ سُخْطَ الْعامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخاصَّةِ ، وَانَّ سُخْطَ الْخاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعامَّةِ ، وَلَيْسَ احَد مِنَ الرَّعِيَّةِ اثْقَلُ عَلَى الْوالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخاءِ وَاقَلُّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاءِ وَاكْرَهُ لِلِانْصافِ وَاسْأَلُ بِالالْحافِ وَاقَلُّ شُكْراً عِنْدَ الاعْطاءِ وَابْطَأُ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ ، وَاضْعَفُ صَبْراً عِنْدَ مُلِمّاتِ الدَّهْرِ مِنْ اهْلِ الْخاصَّةِ ، وإنّما عِمادُ الدّينِ وَجِماعُ الْمُسْلِمينَ وَالْعُدَّةُ لِلَاعْداءِ ، الْعامّةُ مِنَ الامَّةِ ، فَلْيَكُنْ صِغُوكَ لَهُمْ وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ».

ويأمر عليه‌السلام في محل آخر بأن يبتعد كل البعد عن أهل الحسد والذين يبحثون عن عيون الناس ، ويقول :

«وَلْيَكُنْ ابْعَدُ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَاشْنأُهُمْ عِنْدَكَ ، اطْلِبُهُمْ لِمَعايِبِ النّاسِ ، فَانَّ فِي النّاس عُيُوباً الْوالِي احَقُّ مَنْ سَتَرها ، فَلا تَكْشِفَنَّ عَمّا غابَ عَنْكَ مِنْها ، فَانَّما عَلَيْكَ تَطْهيرَ ما ظَهَرَ لَكَ وَاللهُ يَحْكُمُ عَلى ما غابَ عَنْكَ!».

* * *

٧ ـ الإتصال المستمر بالعلماء

التعاون والإتصال المستمر مع المتخصصين والمفكرين والعلماء من كل فن أحد النقاط المهمّة في الثقافة الإسلامية الحاكمة على الجهاز التنفيذي ، وقد جاء في عهد مالك الأشتر أيضاً :

«وَاكْثِرْ مُدارَسَةَ الْعُلماءِ وَمُناقَشَةَ الْحُكَماءِ فِي تَثْبيتِ ما صَلَحَ عَلَيْهِ امْرُ بِلادِكَ واقامَةِ مَا اسْتَقامَ بِهِ النّاسُ قَبْلَكَ» (١).

ويستفاد من هذه العبارة بصورة جيدة أنّ على المسؤولين والحكام الإسلاميين أن يكون لهم دائماً مستشارون في مختلف المسائل السياسية والاجتماعية ، ولا يتخذوا قراراً أو يبرموا أمراً في المسائل المهمّة من دون مراجعة هؤلاء المستشارين.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

١٣٢

٨ ـ الثقافة الحاكمة على الجهاز القضائي

يستفاد أيضاً من الصفات المذكورة للقضاة في هذا العهد نكات مهمّة جدّاً لم يُتطرق إليها بهذه الدقة في أي مذهب أو دين ، وتوضح جانباً من الثقافة الحاكمة على الأجهزة القضائية في الحكومة الإسلامية ، يقول عليه‌السلام :

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النّاسِ افْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الامُورُ ، وَلا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ وَلا يَتَمادى فِي الزَّلَّةِ ، وَلا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيءِ الَى الْحَقِّ اذا عَرَفَهُ ، وَلا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلى طَمَعٍ وَلا يَكْتَفي بِادْنى فَهْمٍ دُوْنَ اقْصاهُ ، وَاوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ ، وَاقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُراجَعَةِ الْخَصْمِ ، وَاصْبَرَهُمْ عَلى تَكَشُّفِ الامُورِ وَاصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضاحِ الْحُكْمِ ، مِمَّنْ لا يَزْدَهيهِ اطراء ، وَلا يَسْتَميلُهُ اغْراء وَاولئِكَ قَليل!» (١).

* * *

٩ ـ الإرتباط المباشر مع الناس

الارتباط المباشر مع الناس ارتباطاً واقعياً وصحيحياً لا ظاهرياً تشريفاتياً ، من النقاط المهمّة الاخرى التي استند إليها في هذا العهد ، حيث يأمر الإمام عليه‌السلام مالك الأشتر بعنوانه حاكماً مطلعاً على الثقافة الإسلامية بهذه الصورة :

«وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحاجاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فيه شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عامّاً فَتَتَواضَعُ فيه للهِ الَّذي خَلَقَكَ وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَاعْوانَكَ مِنْ احْراسِكَ وَشُرَطِكَ حَتّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَانّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ : «لَنْ تُقَدَّسَ امَّة لا يُؤْخَذُ لِلضَّعيفِ فيها حَقُّهُ مِنَ الْقَويِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ» (٢).

وقد أثبتت التجارب أنّ الارتباط غير المباشر بالشعب ، يكون سبباً لتزييف الواقع وعدم الإطلاع الكامل على الأوضاع الجارية ، غالباً ، وعدم حصول الضعفاء من النّاس على

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

(٢) المصدر السابق.

١٣٣

الأخص على حقوقهم ، مضافاً إلى أنّ الارتباط المباشر يوجب ازدياد المحبّة يوماً بعد آخر بين المسؤولين وبين أفراد الشعب.

* * *

١٠ ـ الإهتمام بالمحرومين

آخر نقطه مهمّة اخرى نذكرها كخاتمة في بحث الثقافة الحاكمة على الجهاز التنفيذي في الحكومة الإسلاميّة بالرغم من المطالب الكثيرة في هذا المجال ، وهي الأهميّة القصوى للاهتمام بالمحرومين في الثقافة الإسلاميّة ، ففي العهد المذكور لمالك الأشتر وعندما يصل الإمام علي عليه‌السلام إلى هذا الموضوع يتغيّر لحن كلامه كلّيّاً ، ويقول :

«ثُمَّ اللهَ اللهَ في الطَّبَقَةِ السُّفْلى مِنَ الَّذينَ لا حِيَلَةَ لَهُمْ مِنَ المَساكِينِ وَالْمُحْتاجِينَ وَاهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنى فَانَّ في هذِهِ الطَّبَقَةِ قانعاً وَمُعْتَرّاً وَاحْفَظْ للهِ مَااسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقَّهِ فيهِمْ ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مالِكَ ، وَقِسْماً مِنْ غَلّاتِ صَوافي الإِسْلامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ ، فَانَّ لِلأقْصى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنى ، وَكُلّ قَدْ اسْتُرعِيتَ حَقَّهُ فَلا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَر ، فَانَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْييعِكَ التّافِهَ ، لاحْكامِكَ الْكَثَيرَ المُهِمَّ ، فَلا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ» (١).

إنَّ هذا التّأكيد والإصرار الشديد الذي لا نظير له لأمير المؤمنين عليه‌السلام بالنّسبة إلى هذه الطبقة يعتبر من أوضح معالم العدالة الاجتماعيّة في الإسلام لحفظ حقوق النّاس وخاصّة الطبقة المُستضعَفة ، والأسلوب العملي الّذي اتّبعه الإمام عليه‌السلام في أيّام حكومته شاهد على هذا المدّعى.

* * *

النّتيجة :

ما تقدّم يعتبر جانباً من الثّقاقة الحاكمة على النّظام التنفيذي في الإسلام ونموذجاً من

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة ٥٣.

١٣٤

مجمل الثّقافة الإسلاميّة في هذا المجال يبيّن أبعاد هذه الحكومة الإلهيّة والشعبيّة ، وبواسطته يمكننا الوصول إلى هذه الحقيقة وهي أن ما يطرح فعلاً بعنوان الحكومة الإسلاميّة تفصله عن الشكل الأصلي لهذه الحكومة فاصلة واسعة بالرّغم من الحركة نحو ذلك الهدف المنشود :

* * *

١٣٥
١٣٦

كيفيّة انتخاب رئيس الجهاز التنفيذي

هناك طرق مختلفة في عالمنا المعاصر لانتخاب رئيس السلطة التنفيذيّة والمسؤولين من الدّرجة الاولى ، فتارة عن طريق الانتخاب المباشر ، وأخرى الإنتخاب غير المباشر ، وثالثة تنصيبه من قبل مسؤولٍ أعلى.

وأمّا بالنسبة لمن ينصبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فتارة يكون تنصيبه أمراً إلهيّاً وأُخرى يكون التنصيب عن طريق النبي نفسه ، وهذا ما لاحظناه في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

وبالنسبة لمن ينصبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق الأمر الالهي فذلك أمر واضح ، وقد أشارت إليه الآيات التالية :

١ ـ (النَّبِىُّ أَولَى بِالمُؤمِنينَ مِن أَنفُسِهِم). (الأحزاب / ٦)

٢ ـ (يَا أيَّهُا الَّذِين آمنَوُا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاولىِ الأَمرِ مِنْكُمْ). (النّساء / ٥٩)

٣ ـ (فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمّوُكَ فِيَما شَجَر بَينَهُمْ ، ثُمَّ لَايَجِدُوا فِى أَنفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً). (النّساء / ٦٥)

٤ ـ (فَليَحذَرِ الَّذِين يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيَبهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ). (١) (النّور / ٦٣)

ومن الواضح أنّ الإطاعة المطلقة للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الواردة في هذه الآيات الشّريفة ملازمة لتنصيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله قائداً للمجتمع الإسلامي.

__________________

(١) ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ ، الضمير في (أمره) يعود إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والبعض الآخر ذهب إلى رجوعه إلى الله تعالى ، ولكن الأوفق لمحتوى الآية الشّريفة هو المعنى الأول ، وإليه ذهب صاحب الميزان.

١٣٧

وهناك آيات اخرى في القرآن الكريم تؤيّد هذا المعنى أيضاً.

أمّا بالنّسبة إلى الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام فاعتقادنا أنّهم أيضاً منتخبون من قبل الله تعالى وتّم نصبهم بواسطة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهناك آيات من سورة المائدة تشير إلى ذلك (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِليَكَ ...). (المائدة / ٦٧)

الواردة في واقعة الغدير والمذكورة في التّفسير الأمثل بشرح كاف ، وكذلك روايات عديدة من مختلف الفرق الإسلاميّة حول انتخاب الإمام علي عليه‌السلام ونصبه خليفة واماماً بعد الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكذلك الرّوايات الواردة عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حول تعيين الأئمّة الإثنَي عشر ، والرّوايات الواردة عن الأئمّة والمعصومين عليهم‌السلام (تعيين كلّ إمام لما بعده) (وتمّ شرحها في الجزء التاسع من نفحات القرآن) كلّها شاهدة على هذا المدّعى ولا حاجة لنا إلى التّكرار.

هذا بالنسبة إلى النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام ، وامّا بالنسبة إلى من يأتي بعدهم وفي الفترة اللاحقة ، فيمكن للولي الفقيه الجامع للشرائط أن يعيّن شخصاً لذلك المقام ، لأنّ الولي الفقيه والصالح والذي تتوفر فيه سائر الشروط المعتبرة هو النائب عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام كما في بحث ولاية الفقيه والذي سنشير إليه فيما بعد ، ويجب على الحاكم الشرعي والفقيه الجامع للشرائط أن يضع نصب عينيه مصلحة الامّة في جميع الشؤون الاجتماعية والسياسية ، وبلاشك أن مصلحة الامّة توجب أن يكون انتخاب مسؤولي الجهاز التنفيذي بمشورة الناس ومشاركتهم حتى يتسنى لهم التعاون بينهم بشكل أفضل فيما بعد ، وهذا لا يكون إلّابانتخاب الشعب لهؤلاء المسؤولين ، سواء كان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وخاصة في عصرنا الحاضر الذي سادت فيه ثقافة مشاركة الشعب في الحكومة في المجتمعات البشرية.

وعلى هذا الأساس يُرشح عدّة أشخاص تتوفر فيهم الصلاحية الكافية والشروط اللازمة لإحراز هذا المنصب المهم والحساس طبقاً لتأييد مجلس الخبراء الصالحين ، ويتمّ عرضهم على الناس ، ثم ينتخب الشعب آخر هؤلاء الأشخاص ضمن برنامج انتخاب صحيح وسالم ، ومن المعلوم أنّ من يتمتع بشعبية أكبر وأوسع هو الذي سيفوز بالإنتخابات،

١٣٨

ومن خلال تأييد الناس له وتكاتفهم معه أكثر فسيكون هو الأصلح لهذا المنصب.

ثم تأتي النوبة لتنفيذ الحكم من قبل الولي الفقيه الجامع للشرائط لكي ينتهي بالأمر إلى الأئمة المعصومين عليهم‌السلام والنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث ينتهي في الواقع إلى إذن الله تعالى ورضاه.

ومن المعلوم أن تنفيذ حاكمية هذا الشخص والذي يتمتع بشعبية أكبر ، وتدلّ أكثرية الأراء التي حصل عليها على أنّه يتمتع بحماية أوسع من الشعب هي بصلاح الشعب ومصلحته ، وسوف لا يمتنع الولي الفقيه الموظّف برعاية مصالح الامّة من تنفيذ هذا الحكم.

النتيجة : هي أن الحكومة الإسلامية التي تطوي مسيرها من الأعلى ـ أي حكومة الله ـ إلى الناس ، يمكنها أن تتوافق بصورة كاملة مع موازين الحكومة الشعبية ، مع فارق بينهما ، وهو أنّ المرشحين لإشغال منصب رئاسة السلطة التنفيذية في الحكومة الإسلامية لابدّ أنْ تتوفر فيهم عدّة شروط من الإسلام والإيمان والامانة والتقوى ، بخلاف نظام الحكم غير الإسلامي الذي لا اعتبار فيه لهذه الشروط مطلقاً ، وهذا فارق مهم يفرق بين الحكومة الإلهيّة والحكومة المادية بالرغم من اشتراكهما في شكل الحكومة الشعبية.

كان هذا بالنسبة إلى المسؤول الأول للجهاز التنفيذي ، أمّا بالنسبة إلى المسؤولين الكبار من الدرجة الثانية فما فوق ، فيمكن أن تكون مشاركة الشعب في انتخابهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، مثلاً يمكن للشعب أن يدلي بأصواته للوزراء ، أو يتمّ ذلك عن طريق نوّابه في مجلس الشورى الإسلامي ، وفي كلا الصورتين يكون لرأي الناس ومشاركتهم دخل في انتخاب الوزراء ، ولكن في هذه المرحلة أيضاً لابدّ من توفر بعض الشروط كالإسلام والإيمان والأمانة في المنتخبين ، لأنّهم إنتخبوا من أجل إجراء أحكام الإسلام وتحقيق العدالة الاجتماعية ونشر الثقافة الإنسانية والفضائل الأخلاقية ، فلو كان لا يملكها فكيف يمكنه السعي إلى إيجادها ونشرها؟

١٣٩
١٤٠