نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

ونعود هنا ثانية إلى القرآن الكريم لنتأمل في النداء العام للقرآن بدعوة الامّة الإسلامية للثورة في وجه الظالمين والدفاع عن المظلومين وبسط القسط والعدل.

نقرأ في قوله تعالى : (وَمَا لَكُم لَاتُقَاتِلونَ فِى سَبيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِجَالِ وَالنّسَاءِ وَالوِلدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجنَا مِنْ هَذِهِ القَريَةِ الظَّالِمِ أهلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِنْ لَّدُنكَ وَلِيّاً واجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً). (النساء / ٧٥)

لا يخفى أنّ هذه الآية ونظائرها التي تتحدث حول إقامة القسط والعدل أو الدفاع عن المظلومين ومقارعة الظالمين لا تنحصر بزمان ومكان معينين ، وأنّها من الاصول المهمّة للإسلام ، وأنّه كلما توفرت الفرص والمقدّمات لهذا الهدف المقدس فلابدّ من الإقدام على ذلك فوراً.

* * *

٦١
٦٢

أركان

الحكومة الإسلامية

١ ـ السلطة التشريعية

٢ ـ السلطة التنفيذية

٣ ـ السلطة القضائية

٤ ـ التربية والتعليم

٥ ـ الدفاع (القوات المسلحة

٦٣
٦٤

أركان الحكومة الإسلامية

المقدّمة :

نحن نعلم أنّ أية حكومة بحاجة إلى ثلاثة أركان أساسية ، ليس بمقدورها مواصلة السير والبقاء بدونها :

١ ـ ركن التقنين (وضع القوانين).

٢ ـ ركن التنفيذ.

٣ ـ ركن القضاء.

فلابدّ أولاً من توفّر القوانين القادرة على معالجة مشاكل المجتمع ولتنظيم علاقات النّاس بعضهم بالبعض الآخر ، والعمل على تحريك عجلات المجتمع على طريق الرقي والتكامل ، سواءً كان مصدر سنّ القوانين الوحي الإلهي ، تارة ، وتارة ، بأمر أحد الأفراد على من تسلط عليهم ، وأحياناً بمجالس سنّ القوانين ، الّذي سنتحدث عنه لاحقاً.

وحتى المجتمعات الّتي تُدار وفق القوانين الإلهية ، والّتي تستمد قوانينها من مصدر الوحي ، تحتاج هي الاخرى أيضاً إلى سلطةٍ مقننة كي تعمل على تطبيق القوانين الإلهيّة العامة لإدارة حياتهم اليومية ، وتعمل أيضاً على تطبيق المسائل الجزئية واحتياجات كل زمان الّتي يعرض عليها التغيير والتبديل بمرور الزمان على المسائل الّتي هي محل ابتلاء ، أو كما يصطلح على ذلك «ردّ الفروع إلى الأصول» أو بتعبير آخر ، تقوم بعملية «التقنين الموضوعي».

٦٥

وبعد أن تُكتب نصوص القوانين وتجعل موضع التنفيذ والعمل ، يجب أن يوكل أمر تنفيذها بيد مجموعة من الأفراد يقومون بتطبيقها على المجتمع ، فلو كانت هذه القوانين بحاجة إلى مقررات تنفيذية ، يقوم هؤلاء بتدوين هذه المقررات ، وإن لم تكن هناك حاجة إلى ذلك ، ينتقلون مباشرة إلى مرحلة التطبيق ، وهذا ما يُعمل به في عالم اليوم والمسمى بـ «السلطة التنفيذية» أو «الحكومة».

وللدول أيضاً رئيس يُعبّر عنه أحياناً برئيس الجمهورية ، وأحياناً رئيس الوزراء ، وأخرى بالصدر الأعظم ، وهؤلاء أيضاً يقومون بدورهم بتعيين الوزراء والمديرين العامّين ، والمديرين من الدرجة الأولى ، ورؤساء الأقسام والشعب ، إذ يقسّمون بينهم الواجبات التنفيذية ، ويطبّقون من خلالها برامجهم الحكومية.

وفي هذا الخضم يحتمل حدوث مشاكل واختلافات بين النّاس ، أو بين دوائر الدّولة ، أو بين الدولة والنّاس في المسائل الحقوقية المختلفة ، والسلطة الّتي تأخذ على عاتقها تشخيص الظالم من المظلوم وصاحب الحق من المدّعي الفاقد له ، تسمى بـ «السلطة القضائية» ، ولا شك في أنّ الحكم الصادر من قبل هذه السلطة ، يحتاج بعد صدوره أيضاً إلى السلطة التنفيذية لغرض تنفيذه ، والّتي يجب أن تنفذ هذه الأحكام بشكل دقيق.

وفي هذا المجال توجد أقسام أخرى في النّظام ، قد نتصور أحياناً بأنّها تشكل أركاناً مستقلة بحد ذاتها ، ومن الممكن أن ينظر لها على أنّها تمثل الركن الرابع والخامس و... ، كالشرطة والإستخبارات ، وكذلك التربية والتعليم والمؤسسات الخبرية والقوات العسكرية وقوى الأمن الداخلي وما شاكل ذلك.

إلّا أنّه من الواضح أنّ هذه الأمور تُعد جزءً من السلطة التنفيذية وبمنزلة الأداة بيدها إذ تستخدمها لغرض تنفيذ القوانين بأفضل الطرق وأكثرها تأثيراً.

وتقوم الإستخبارات بكشف النقاب عن المؤامرات السريّة ، وتضع المعلومات الوافية عن الحوادث الّتي تقع هنا وهناك بين يدي المسؤولين التنفيذيين ، ليتسنى لهم أحباط تلك المؤامرات ، والوقوف على ما يضر المجتمع وما ينفعه لاتخاذ الموقف المناسب ، وفي الوقت

٦٦

المناسب أزاءَها ، وكذلك تقوم المراكز التعليمية والمؤسسات الخبرية بمساعدتهم للوصول إلى أهدافهم من خلال الطرق الثقافية ، سيّما وأنّ أفضل الطرق لتطبيق القانون هو الطريق الثقافي ، الّذي يدفع المجتمع إلى تطبيق القوانين بشكل ذاتي وآلي ، ويصبح المجتمع بالتالي مصداقاً لقوله تعالى : (لِيَقومَ النَّاسُ بِالْقِسْط) ، وكذا الحال بالنسبة للمراكز الّتي ذكرت آنفاً.

وبعد هذه الإشارة المختصرة نعود إلى القرآن المجيد ونبحث عن كلٍ من هذه الأركان الثلاثة في آيات القرآن الكريم.

* * *

٦٧
٦٨

الركن الأول : السلطة التشريعية

تمهيد :

طبقاً للرؤية القرآنية وأحاديث المعصومين عليهم‌السلام وعلماء الإسلام ، فإنّ مسألة تشريع القوانين تختص بالله تعالى ، والواقع أنّ مسألة التقنين (سنّ القوانين) تعد شأناً من شؤون التوحيد في الأفعال ، فكما أنّ الله تبارك وتعالى هو الحاكم المطلق على جميع عالم الوجود وعالم البشرية ، فإنّه كذلك حاكمٌ على نظام التشريع أيضاً.

وهذه المسألة فضلاً عن كونها وردت بشكل صريح في الآيات المباركة والروايات الإسلامية ، فهي مؤيدّة أيضاً بدليل العقل ، لأنّ المقنّن الواقعي هو الّذي يجب أن يمتلك الصفات التالية :

١ ـ يجب أن يكون مطلعاً على حقيقة الإنسان وملمّاً بجميع خصائصه من حيث الجسم والروح ، بحيث يكون خبيراً كاملاً بالإنسان ، وعارفاً بجميع أسراره ، وعواطفه ، وميوله ، وغرائزه وشهواته ، ومسائله الفطرية ، ومطلعاً أيضاً على جميع القابليات والكفاءات الكامنة في الفرد والمجتمع ، والكمالات المتيسرة له بالقوة ، وبعبارة أخرى : يجب أن لا يخفى عليه أي شيء في تركيبة الإنسان وكيانه.

٢ ـ يجب أن يكون عالماً بآثار وخواص جميع الأشياء في الوجود من حيث انسجامها وتناغمها مع وجود الإنسان أو عدم انسجامها ، وبشكل أدق يجب أن يعلم فوائد ومفاسد جميع الأعمال الفردية والاجتماعية وآثارها ونتائجها.

٣ ـ أن يكون خبيراً بجميع الحوادث الّتي يمكن وقوعها في المستقبل البعيد أو القريب،

٦٩

والتي تلعب دوراً مؤثراً بنحوٍ أو آخر في مصير الإنسان.

٤ ـ المقنن أو المشّرع الحقيقي هو الذي يكون مصوناً من كل خللٍ أو ذنبٍ أو خطأ ، وأن يكون قوي الإرادة شجاعاً في الوقت الذي يكون فيه رؤوفاً رحيماً ، وأن لا يداخله الخوف من أي قوةٍ في المجتمع.

٥ ـ يجب أن لا تكون له أية مصلحةٍ أو منفعةٍ في المجتمع البشري ، لئلا يتّجه محور أفكاره أثناء سنِّة للقوانين ـ من حيث يعلم أو لا يعلم ـ نحو الجهة الّتي تحافظ على مصالحه الشخصية ، ويضحي بمصلحة المجتمع لحساب مصالحه الشخصية.

فهل تتوفر هذه الصفات في غير ذات الله تعالى؟ وهل بإمكانكم العثور على من يقول : أنا عالمٌ بالإنسان وبجميع خصائصه؟ في حين أنّ أعاظم العلماء ، يبدون عجزهم عن الإجابة عن هذا السؤال ، بل إنّهم يقولون علناً إنّ الإنسان يُعدّ كائناً مجهولاً ، حتى أنّهم اختاروا هذا العنوان لكتبهم ومؤلفاتهم؟

وهل هناك من هو خبيرٌ بالماضي والمستقبل والروابط الدقيقة فيما بينها وبين زماننا الحاضر؟

وهل هناك من يكون عارفاً بآثار وأسرار جميع الموجودات ، ومصاناً من كل نوع من أنواع الإنحراف والذنب والخطأ؟

من المسلَّم أنّ هذه الصفات والخصائص لا تتحقق إلّافي الله تعالى وأنبيائه الكرام.

ونخلص من هذه الإشارة القصيرة إلى نتيجة طيبة ، وهي أن المشرّع الحقيقي هو الله تعالى الذي خلق الإنسان وأطّلع على جميع أسرار خلقته ، ويعلم أسرار جميع الموجودات ، وخبيرٌ بحوادث المستقبل والماضي وعلاقتها بأحداث الحاضر على أحسن ما يرام.

ولا طريق لأي خطأ أو زلل إلى ذاته الطاهرة المقدّسة ولا يخشى أحداً ، ولا حاجة له أو مصلحة شخصيّة لكي يشبعها عن طريق القوانين الموضوعة ، بل إنّه تعالى يلاحظ منفعة الإنسان فقط في تشريعاته المقدّسة.

وفضلاً عن ذلك كله فإنّ الوجود بأسره ضمن دائرة حكومته وسلطته ، ولا معنى لأن يقوم

٧٠

غيره بإصدار أحكامه في هذه الدائرة ، بل إنّ الخضوع لأحكام الآخرين والإعتراف بقانونٍ غير قانونه جلّ وعلا يعدّ نوعاً من الشرك والضَّلال.

وبهذه الإشارة نعود مرة أخرى إلى القرآن الكريم ، ونستعرض الآيات الّتي نؤكّد على أنّ مسألة التشريع وسنّ القوانين مختصة بالله تعالى.

١ ـ (مَالَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلىٍّ وَلَا يُشرِكُ فى حُكمِهِ أَحَداً). (الكهف / ٢٦)

٢ ـ (وَمَا اختَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىءٍ فَحُكمُهُ إِلَى اللهِ). (الشورى / ١٠)

٣ ـ (وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ). (المائدة / ٤٤)

٤ ـ (وَمَن لَّم يَحكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (المائدة / ٤٥)

٥ ـ (وَمَن لَّمْ يَحكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ). (المائدة / ٤٧)

٦ ـ (وَأَنِ احكُمْ بَينَهُم بِمَا أنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهوَاءَهُم وَاحذَرْهُمْ أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ ما أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ). (المائدة / ٤٩)

٧ ـ (افَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحسَنُ مِنَ اللهِ حُكماً لِّقُومٍ يُوقِنُونَ). (المائدة / ٥٠)

٨ ـ (إِنَّما كَانَ قَولَ المُؤمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحكُمَ بينَهُم أَن يَقولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعنَا وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ). (النور / ٥١)

٩ ـ (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتفَّرقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ). (الأنعام / ١٥٣)

١٠ ـ (اليَومَ أَكْملتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلَامَ دِيناً). (المائدة / ٣)

جمع الآيات وتفسيرها

في الآيات السبع الأولى من هذه الطائفة يدور الحديث على أنّ الحكم هو حكم الله فقط وعلى الجميع إطاعة أحكامه تعالى.

صحيح أن «الحكم» يأتي بمعنى «المنع» (١) أساساً ، ولكن بما أنّ الأمر والنّهي يصبح سبباً

__________________

(١) يرجى الرجوع إلى كتاب مصابيح اللغة ، ومصباح اللغة ، ومفردات الراغب.

٧١

لمنع وقوع المخالفات والأعمال الخاطئة ، سُمّي بـ «الحكم» ، وسميت العلوم والمعارف لهذا السبب بـ «الحكمة» إذ إنّها تمنع وقوع الأعمال الجاهلة وغير العقلائية.

والملاحظة الاخرى الجديرة بالإهتمام أيضاً ، هي أن مصطلح «الحكم» في القرآن الكريم ، يأتي أحياناً بمعنى التحكيم والفصل ، وأخرى بمعنى الأمر والنّهي ، وعندما يأتي بمعنى التحكيم ، يُعدُّ أيضاً نوعاً من الأمر والنّهي الّذي يصدر عن القاضي.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار ما تقدم ذكره ، نعود مرّة اخرى إلى الآيات المباركة ، إذ إنّ الآية الأولى ، تصرح بأنّ الحاكمية والحكومة ، والأمر والنّهي وكذلك الولاية ، مختصة بأجمعها بالله تعالى إذ تقول : (مَالَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلىٍّ وَلَا يُشرِكُ فِى حُكمِهِ أَحَداً).

والواقع أنّ صدر الآية وذيلها هما بمنزلة العلّة والمعلول ، لأنّه عندما تختصّ الولاية بالله تعالى ، فمن الطبيعي حينئذٍ أن يقتصر الحكم والقانون أيضاً به تعالى ، ومن الواضح ، أنّ «الحكم» يشمل هنا الأمر والنّهي وكذلك القضاء والحكومة أيضاً ، لأنّ كل هذه الأمور تعدّ بمثابة فروع الولاية ، وبما أنّ الولاية منحصرة به تعالى ، إذن فالحكم من شأنه أيضاً ، بل يعتقد البعض أنّ ولاية الله تعالى تشتمل حاكميته التكوينية على عالم الخليقة أيضاً ، لإنّ ولايته في عالمي التشريع والتكوين ثابتة ، إذن فحاكميته تمتاز بالشمول والعمومية.

* * *

ويدور الحديث في الآية الثانية عن حكم الله وقضائه : (وَمَا اخْتَلَفتُم فِيهِ مِن شَىءٍ فحُكمُهُ إِلى الله).

ويقول تعالى في نهاية الآية : (ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وإِليهِ انيبُ).

وبما أنّ كل شيء (وخاصة الحكم والقضاء) بيده تعالى ، إذن يجب أن يكون التوكّل عليه والإنابة إليه فقط.

وطالما أنّ التحكيم والقضاء غير منفصلين عن الحكم والقانون (بمعنى أنّ الكثير من موارد النزاع هي من قبيل الشبهة الحكمية ، وليس الشبهة الموضوعية) ، نصل إلى أنّ الحكم والأمور والقانون أيضاً بيده تعالى فقط.

٧٢

أمّا الآيات الثالثة والرابعة والخامسة ، فقد تحدثت عن الذين لا يحكمون بما أنزل الله تعالى ، ولا يعيرون لذلك أهميّة تذكر ، أو بعبارة أخرى ، يحكمون بغير حكم الله ، فقيل عنهم في إحداها أنّهم «كافرون» وفي الآية الاخرى «ظالمون» وفي الثالثة أنّهم «فاسقون» وهو قوله تعالى : (وَمَن لَم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكافِروُنَ ... فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون ... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ).

فهم كافرون بسبب إعراضهم عن أحد فروع التوحيد الافعالي ، أي التوحيد في حاكمية الله ، حيث يؤكّد هذا الفرع من التوحيد أنّه : ليس لغيره سبحانه الحق في الحكم وإصدار الأوامر ولا في الحكومة ، ولا في القضاء والتحكيم ، لذا من المسلَّم به أن من ينحرف عن هذه النظرية ، فقد ابتُليَ بنوع من الشرك.

«وهم ظالمون» : بسبب ممارستهم الظلم بحق أنفسهم والآخرين ، وتركهم جانباً الأحكام الّتي تمثل أساس سعادتهم وسبب رقي مجتمعهم ، وأخذهم بأحكام قليلة الأهميّة أو فاقدة لها تماماً ، والتي لا تأخذ بنظر الاعتبار سوى مصالح محدودة وقليلة.

«وهم فاسقون» : لكونهم تجاوزوا حدود العبودية وخرجوا عنها ، لعلمنا بأنّ معنى الفسق هو الخروج عن الواجب والأمر.

هذه التعابير الثلاثة المختلفة (الكافرون والظالمون والفاسقون) في الآيات الثلاث الآنفة دقيقة جدّاً ، ومن الممكن أن تكون إشارة إلى الأبعاد الثلاثة للقانون الإلهي ، لأنّ «القانون» ينتهي في أحد جوانبه بـ «المقنن» «الله تعالى» ، إذ تعتبر مخالفته «كفراً» ، ومن ناحية أخرى ينتهي بعباد الله تعالى ، إذ تعد مخالفته «ظُلماً» ، والثالثة ، ينتهي بشخص الحاكم والقاضي من البشر ، إذ يعد حكمه ـ «عندما يكون مخالفاً لحكم الله» ـ «فسقاً».

* * *

والآية السادسة تأمر النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن يحكم بينهم بما أنزل الله ولا يتبع في ذلك أهواءهم ويحذرهم لئلا يفتنوه عن بعض الأحكام الّتي أنزلها الله عليه ، وهو قوله تعالى :

٧٣

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).

إن المقارنة بين «الحكم بما أنزل الله» و «إتباع الهوى» يبين لنا أن الذي يعرض بوجهه عن حكم الله تعالى ، سيسقط في وادي الهوى المرعب ، وقول الآية : (واحْذرهم أَنْ يَفْتِنُوكَ) تأكيد آخر ومكرر على اتباع أحكام الله تعالى ، والوقوف بوجه الوساوس وعدم الإعتراف بغيره ، وممّا لا شك فيه أنّ النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليفتتن بهم إطلاقاً بسبب تمتعه بمقام العصمة الرفيع ، إلّاأن التعبير أعلاه يُعدّ درساً لسائر النّاس ، لكي يحذروا مكائد الأعداء وألاعيبهم من أجل حرف المؤمنين وإبعادهم عن الإمتثال للاحكام الإلهيّة ومع الأخذ بنظر الاعتبار سبب نزول هذه الآية والّذي ذكره المفسرون ، فإنّ الآية الآنفة تتعلق بمسألة القضاء والفصل في الإختلافات والمنازعات ، وكلمة «بينهم» أيضاً تعبّر عن هذا المعنى ، ولكن من المسلّم به هو أنّ الفصل يجب أن يكون مستنداً إلى حكمٍ وقانون ، ومفهوم هذه الآية يشير إلى أن مستند القضاء والفصل يجب أن يكون ما أنزل الله فقط.

* * *

والآية الّتي تأتي بعد الآية السابقة مباشرة في القرآن الكريم ، تقول : (أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَومٍ يُوقِنُونَ).

وهنا تصرح هذه الآية الكريمة بأنّ الأحكام غير الإلهيّة إنّما هي أحكام جاهلية ، تلك الأحكام النّابعة من الجهل وعدم المعرفة ، وأحياناً عن الهوى والوساوس الناجمة عن الجهل ، ولو تأملنا في هذه الآية جيداً ، لوجدنا أنّ هذا المعنى لا يختص فقط بعصر النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ونهضته في العصر الجاهلي للعرب ، بل إنّ كل حكم غير إلهي ـ وكما أشرنا إلى ذلك آنفاً ـ لا يمكن أن يكون منزّهاً من الجهل ، لأنّ علم الإنسان محدود يقيناً ، إذ إنّه لا يملك معرفةً كاملة بجميع خصائص وزوايا وجوده ، ولا يملك اطلاعاً كاملاً على أسرار الموجودات والحوادث الماضية والحالية والمستقبلية ، التي تلعب دوراً مؤثراً في نوعية

٧٤

الأحكام سلباً وإيجاباً ، مضافاً إلى أنّ لكل فرد في المجتمع ميولاً ومصالح معينة ، ولا يمكنه أن يُبعد نفسه تماماً عن تلك المصالح أثناء سنّ القوانين ، والله تبارك وتعالى وحده العالم بكل شيء والغني عن عباده.

يقول «البرسوئي» في تفسيره روح البيان ، في تبيين معنى «الجاهلية» : «وهو كل ما لا يستند إلى الوحي والكتاب السماوي» (١).

ونقرأ في تفسير «في ظلال القرآن» (٢).

ونقل في تفسير «مجمع البيان» عن بعض المفسرين المتقدمين قولهم :

«إنّ هذا النوع من التمييز والإزدواجية المطبّقة أيضاً في عصرنا هذا ، والقوانين الّتي تطبق على الضعفاء فقط سواء داخل الدول أو في العلاقات الدولية أيضاً ، والتي غالباً ما يستثنى منها الأقوياء ، دليل بارز على وجود المجتمعات الجاهلية!».

والملفت للنظر أن الكثير من الآيات الآنفة الذكر والتي صرّحت باختصاص حق التقنين والتشريع بالله تعالى موجودة في سورة المائدة ، والمعلوم لدينا أن سورة المائدة وكما هو معروف هي آخر سورة ، أو من أواخر السور التي نزلت على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ إنّ الكثير من المسائل الإسلامية الهامة ومنها المسائل المتعلقة بالحكومة التي تعدّ من أركان الإسلام المهمّة وردت في هذه السورة ، وتمّ التأكيد في آيات عدّة من هذه السورة المباركة ، على أن «الحكم» و «الأمر» و «تشريع القوانين» مختصٌ بالله تعالى ، وهذه التأكيدات المتكررة في هذه السورة ذات مغزى عميق.

* * *

وتتحدث الآية الثامنة عن الإيمان والتسليم المطلق أمام حكم الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ تقول : (إِنَّما كَانَ قَولَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ).

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٢ ، ص ٤١٠.

(٢) في ظلال القرآن ، ج ٢ ، ص ٧٥١.

٧٥

ويتضح لنا من سبب النزول الوارد في بعض التفاسير للآيات التي تأتي بعدها ـ وهو أنّ جماعة من المنافقين لما شعروا بضعف موقفهم جاءوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقسموا على تسليمهم لأوامر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومن الواضح أنّ الآية أعلاه تتحدث عن المجموعة المقابلة لهذه المجموعة ، أي المؤمنين ، وتقول : إنّ التسليم المطلق لابدّ أن يكون أمام قوانين الله تعالى ، ولا عبرة بأي قانون غيره ، وإنْ كان المراد بالآية مسألة القضاء والفصل بين المنازعات فكذلك أنّها تدلل على ما قصدناه ، لإنّه وكما سبق وأن قلنا : إنّ مسألة التحكيم تقوم على أساس القانون أيضاً ، وبناءً على ذلك فإنّ التسليم لقضاء الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يعني التسليم ، التسليم أمام القانون الإلهي ، ولهذا نجد أنّ القضاة دائماً عندما يصدرون أحكامهم ، يستندون في ذلك إلى مادة واحدة أو أكثر من المواد القانونية ، يعني التسليم ، فعلى المؤمنين الإستناد إلى مواد القانون الإلهي فقط.

* * *

وقد وردت الآية التاسعة بعد أوامر إلهيّة عشرة جاءت قبلها (بخصوص الشرك ، والإحسان إلى الوالدين ، والكف عن قتل الاولاد ـ وبشكل عام ـ إهراق الدماء البريئة ، والأعمال القبيحة الاخرى) إذ يقول تعالى في نهاية هذه الطائفة من الأحكام : (وَأَنَّ هَذَا صِراطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَاتَتَبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

ومن هذا التعبير يتضح لنا جيداً أنّ «الصراط المستقيم» يعني حكم الله تعالى وقانونه وأوامره ، وكل ما هو دونه يعدّ من الطرق المعوجّة والمنحرفة والتي تبعد الناس عن صراط الله المستقيم ، ويستفاد من هذا التعبير أيضاً ، أن اتباع الطرق الاخرى تؤدي إلى بث التفرقة والتشتت والاختلاف ، والدليل على ذلك واضح أيضاً ، لأنّ رأي النّاس وحتى العلماء الكبار في تشخيص منافع ومفاسد الأعمال يختلف اختلافاً كبيراً عن بعضهم البعض ، ومتى ما احيلت مسألة تشريع القوانين إلى النّاس ، فإنّ الاختلاف والتشتت سوف يحكمان

٧٦

المجتمعات الإنسانية على الدوام.

ينقل «ابن مسعود» في حديثٍ عن النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خطَّ خطاً مستقيماً ، ثم قال (١) : «هذا سبيل الرشد ، ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطاً ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه؟ ثم تلا هذه الآية «وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه».

* * *

وفي الآية العاشرة والأخيرة ، وبالرغم من عدم تصريحها بإختصاص سنّ القوانين بالله تعالى ، إلّاأنّها تنطوي على تعبير معين يستفاد منه بشكل جيد عدم وجود أي مصدر للتشريع غير الله تعالى ، إذ تقول الآية المباركة : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً).

ونعلم أن «الدين» بمعناه الحقيقي يشمل جميع شؤون الحياة البشرية ، وبالنظر إلى أنّ الإسلام هو خاتم الأديان السماوية ، وسيبقى قائماً حتى قيام الساعة ، فإنّ مفهوم هذه الآية يعني أنّ جميع ما يحتاجه الإنسان من حيث القوانين قد أخذه الإسلام بنظر الاعتبار حتى قيام الساعة ، وبناءً على ذلك لا يبقى أيّ مجال لقوانين أخرى.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض هذه القوانين خاصّة وجزئية ، والبعض الآخر عامّة وكليّة ، وواجب علماء الدين والمشرّعين الإسلاميين ، القيام بتطبيق تلك الكليات على مصاديقها ، واستنباط القوانين والضوابط اللازمة منها.

* * *

وقد تمّ التأكيد مراراً على هذا المعنى في الروايات الإسلامية أيضاً ، وللإمام علي عليه‌السلام خطبة مؤثرة ومفصلة في ذمّ الذين يسمحون لأنفسهم بتشريع القوانين في المحيط الإسلامي معتبرين ذلك اجتهاداً ، إذ يقول عليه‌السلام في جانب من هذه الخطبة : «أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبحَانَهُ دِيناً

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ١٤ ، ص ٣.

٧٧

نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِم عَلَى إِتمَامِهِ ، أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيهِ أَنْ يَرْضَى» (١).

وهناك روايات متعددة تصرّح بأنّ كل ما تحتاجه الامّة الإسلامية إلى يوم القيامة مأخوذ بنظر الاعتبار في القوانين الإسلامية ، حتى دية خدش بسيط في بدن الغير ، على أنّه يجب أخذ هذه الأحكام من أهلها ، وهذه تبيّن وبشكل واضح أنّ التشريع في الإسلام مختصّ بالله تعالى ، ولا مجال لتشريع الآخرين ، وبناءً على ذلك فإنّ ما يحصل في المجالس التشريعية الإسلامية ، هي عملية تطبيق القواعد العامة لقوانين الإسلام على مصاديقها ومواردها.

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى لَمْ يَدَعْ شَيْئاً تحتاج إليه الامَّةُ إلّاأنْزَلَهُ في كِتابِهِ وبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ» (٢).

ونقرأ في حديث آخر ورد عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال :«ما مِنْ شَيء إِلّا وَفيهِ كتابٌ وَسُنَّة» (٣).

وورد في روايات أخرى أنّ جميع الأحكام والقوانين اللازمة ، شُرّعت للُامّة الإسلامية ، ومنها ماورد في حديثٍ عن الإمام الصّادق عليه‌السلام أنّه قال : «ما تَرَكَ عَلِيّ شَيْئاً إلّاكَتَبهُ حتى أَرشِ الْخَدْشِ» (٤). ولمزيد الإطّلاع على كثرة وسعه الأحاديث الواردة في هذا المجال يراجع المجلّد الأوّل الباب ٤ من كتاب جامع أحاديث الشيعة.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٨.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٥٩ ، ح ٢.

(٣) المصدر السابق ، ح ٤.

(٤) جامع أحاديث الشيعة ، ج ١ ، باب ٤ من أبواب المقدمات ، ح ٢٦.

٧٨

هل يمتلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله

والمعصومون حق التشريع؟

إنّ مسألة الولاية على التشريع ، أو بتعبير أبسط ، حق التشريع بالنسبة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام من المسائل المعقدة جدّاً ، إذ تناولت الأحاديث الإسلامية هذه المسألة مراراً وتكراراً.

فهل يمتلك الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الحق في أن يضع مايراه من المصلحة على شكل قانون للمسلمين حتى مع عدم نزول الوحي الإلهي بشأن تلك المسألة؟

لا شك في أنّ هذا الأمر ليس محالاً ، بشرط أن يمنحه الله تعالى مثل هذا الحق (أي حق التشريع) ، ومفاد الكلام هنا هل وقع مثل هذا الأمر ، وهل تشهد الأدلّة النقلية على ذلك أم لا؟ لدينا الكثير من الروايات (بعضها صحيحة السند والبعض الآخر ضعيفة) إذ تقول : إنّ الله تبارك وتعالى قد «فوض الأمر» إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأوصياء من بعده (والمراد من مسألة «تفويض الأمر» هنا حق التشريع).

وقد جمع المرحوم الكليني الروايات المتعلقة بموضوع «التفويض» في الجزء الأول من أصول الكافي ، وصنّفها في باب واحد ، إذ ينقل في هذا الباب عشرة أحاديث في هذا المجال ، ومن جملة هذه الأحاديث نقرأ في حديثٍ عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما‌السلام حيث قالا : «إنّ الله تَبَارَكَ وَتَعالى فَوَّضَ إلى نَبيّهِ أَمرَ خَلْقهِ لِيَنظُر كَيفَ طاعَتُهم ، ثمَّ تَلى هذِهِ الآية : وما آتاكُمُ الرَّسولُ فَخُذُوهُ وَما نهاكُمْ عنه فانتهوا» (١).

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٦٧ ، ح ٥.

٧٩

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصّادق عليه‌السلام :

«إنّ اللهَ عَزَّوَجَلّ أدَّبَ نَبيَّه عَلى مَحَبتهِ فقال : وإنَّك لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ ، ثمَّ فَوّضَ إليه فقالَ عَزَّوَجَل : وَما آتاكُم الرَّسولُ فَخذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنهُ فانْتهوا ، وَقَالَ عَزَّوَجَلْ : مَنْ يُطعِ الرُّسولَ فَقَدْ أطاعَ اللهَ ...» (١). فإذن ، القرائن الموجودة في العبارات الواردة في هذا الحديث توضّح بشكل جلي ما المراد من التفويض.

وقد جاء في بعض هذه الروايات أنّه بعد هذا التفويض الإلهي ، مارس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر التشريع وشرع بعض القوانين ، منها : أن الله تبارك وتعالى جعل الصلاة ركعتين وأضاف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ركعتين أخريين عليهما (في صلوات الظهر والعصر والعشاء) ، وركعة واحدة في المغرب ، وتشريع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هذا ملازم للفريضة الإلهيّة والعمل به واجب ، كما أضاف صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك (٣٤ ركعة أخرى (أي ضعف الفرائض) بعنوان صلاة النوافل ، وأوجب الله تعالى صيام شهر رمضان المبارك ، وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله باستحباب صيام شهر شعبان وثلاثة أيام من كل شهر ... (٢).

ويلاحظ في أحاديث أخرى واردة في أمر تفويض التشريع إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، نماذج أخرى من تشريعات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

وفيما يتعلق بالمراد من «تفويض الأمر» هناك عدة احتمالات بخصوص هذه المسألة ، منها :

١ ـ تفويض أمر التشريع للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كلياً.

٢ ـ تشريع جزئي في الموارد المحدودة ، وفيها أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قام بتشريع بعض الأحكام قبل نزول الأحكام الإلهيّة أو بعدها ، وأمضاها الله تعالى.

٣ ـ تفويض أمر الحكومة والتدبير والسياسة وتربية النفوس والمحافظة على النظام.

٤ ـ تفويض أمر العطاء والمنع (فيعطي من بيت المال لمن يرى فيه الصلاح ، ويمنع من لا يرى فيه الصلاح).

__________________

(١) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٢٦٥ ، ح ١.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٦٦ ، ح ٤.

(٣) للمزيد من التوضيح ودراسة جميع روايات التفويض عليكم بمراجعة كتاب أنوار الفقاهة ، ج ١ ، ص ٥٥٢.

٨٠