نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

الركن الثاني : السلطة التنفيذية

القوانين بشكل مجرد ، عبارة عن كلمات مدونة على الورق ، ولا تظهر قيمتها الحقيقية إلّا بعد أن تصل إلى مرحلة التطبيق العملي ، وهي بالضبط تشبه وصفة الطبيب ، التي مهما كانت دقيقة وصحيحة في تشخيصها للداء والدواء ، لن يكون لها أدنى تأثير يذكر على حالة المريض إلّابعد أن يُعمل بها ، إذ إنّ تشخيص المرض ، والقيام بجميع التحليلات وبدقة ، والمعرفة الصحيحة بكمية ونوعية الأدوية كلها على حدة ، والتطبيق العملي لها ، على حدة ، بل إنّ الركن الأساسي يتمثل بالجوانب العملية.

إنّ أي قانون مهما كان مثالياً وقيّماً ، لن يكون له أدنى تأثير مالم نتحرك نحو تطبيقه ، ف «السلطة التنفيذية» هي التي تحفظ ماء وجه السلطة التشريعية.

وبالرغم من أنّ هذه المسألة تعدّ من الواضحات ، إلّاأنّ القرآن الكريم لديه إشارات غنيّة المعنى بشأنها ، ومن ذلك :

١ ـ عندما بُلّغ النبي موسى عليه‌السلام بالرسالة في جانب الطور في الوادي الأيمن ، وأخذ الأمر بالتصدي لفرعون وانقاذ بني اسرائيل والدعوة إلى التوحيد والحق والعدالة ، طلب من الله تعالى أن يعينه على تنفيذ ذلك وقال : (وَاجْعَلْ لِّى وَزِيْرَاً) (١) مِنْ أَهْلى * هَارُونَ اخى * اشْدُدْ (بِهِ ازْرِى* وَاشْرِكْهُ فى امْرِى). (طه / ٢٩ ـ ٣١)

٢ ـ ونطالع في قصة «بني اسرائيل» و «طالوت» : عندما انتفض بنو اسرائيل من ظلم

__________________

(١) يقول «الماوردي» في الأحكام السلطانية : من الممكن أن يكون وزير من مادة «وزر» اي مشتق من الثقل ، ذلك انه يتحمل المسؤولية ، أو من مادة وزر بمعنى الملجأ والملاذ (لانه ملجأ الناس) ، «أومن» مادة «أزر» بمعنى السند (لأنّ السند الرئيسي هو الله تعالى. (الأحكام السلطانية ، ص ٢٤).

١٠١

«جالوت» : ، ذلك الرجل الذي أخرجهم من ديارهم وأسّر أبناءَهم ، فخططوا لقتاله وخوض الحرب ضده ، ولتطبيق هذه الخطة ، لابدّ من قائد خبير وجدير ، ومدبّر من جميع الجوانب ، ومن أجل اختيار مثل هذا الرجل ، قصدوا نبي زمانهم «اشموئيل» وقالوا له : (ابْعَث لَنا مَلِكَاً نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللهِ) (البقرة / ٢٤٦)

فأوحى إليه الله تعالى بأن يختار طالوت ، ذلك الشاب المؤمن الواعي والشجاع ، وقال : (إِنَّ اللهَ قَد بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلكِاً). (البقرة / ٢٤٧)

٣ ـ ونقرأ في قصة النبي يوسف عليه‌السلام كذلك : عندما تنّبأ بسنين عجاف من الناحية الاقتصادية لأهل مصر ، ووضع لهم برنامجاً حكيماً لتجاوز هذه السنين الصعبة ، اختار سلطان مصر النبي يوسف عليه‌السلام لتنفيذ ذلك البرنامج والاشراف عليه ، وتمّ ذلك الاختيار باقتراح من النبي يوسف عليه‌السلام ، إذ يقول القرآن الكريم بهذا الشأن : (قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الأرْضِ إِنّىِ حَفْيِظٌ عَلِيمٌ). (يوسف / ٥٥)

وتمكن النبي يوسف عليه‌السلام بما يمتلكه من القدرة الجيدة والإدارة الرشيدة ، أن يعبر ببلاد مصر من تلك السنين العجاف ويحافظ عليها.

٤ ـ ممّا لا شك فيه أنّ الأرض شهدت قيام حكومة النبي سليمان عليه‌السلام والتي تعدّ من أكبر الحكومات التي قامت على وجه البسيطة ، ولغرض دفع عجلة تطور المجتمع البشري إلى الأمام ، ونشر العدالة فيه ، لجأ النبي سليمان عليه‌السلام إلى الاستفادة القصوى من جميع الوسائل والسبل الممكنة ، وبدرجة عالية من الحنكة الإدارية والضبط العالي ، وبعبارة أُخرى ، فقد سخّر الله تعالى له كل الامكانيات اللازمة لتحقيق تلك الأهداف ، وتمكن هو أيضاً ومن خلال الاستفادة من هذه الوسائل ، أن يحقق اهدافاً هامّة وسامية.

ويشير القرآن الكريم في سورة النمل المباركة في شرح قصة حكومة داود وابنه سليمان عليهما‌السلام ، إلى العلم الواسع والجم الذي يتمتعان به عليهما‌السلام إذ يقول تعالى :

(وَلَقَدْ آتَيْنا دَاوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً ...) ثم يضيف قائلاً : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِيَنا مِنْ كُلِّ شَىءٍ). (النمل / ١٥ ـ ١٦)

١٠٢

ويتحدث القرآن الكريم في سورة سبأ المباركة عن الأب وابنه عليهما‌السلام إذ يقول تعالى :

(وَلَقَدْ آتَينَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَالَنَّا لَهُ الحَديدَ* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فىِ السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنّىِ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير* وَلِسُلَيْمانَ الرِّيْحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَواحُهَا شَهْرٌ وَاسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِاذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ* يَعْمَلُون لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَّحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ). (سبأ / ١٠ ـ ١٣)

إنّ القوّة الإدارية التي كان يتمتع بها سليمان عليه‌السلام وشدة انضباطه في الأمور التنفيذية وإدارة البلاد ، كانت إلى درجة أنّه عندما قضى فيها نحبه وهو متكيء على عصاه (ولهذا السبب مات واقفاً) ، كان عماله من الجِن يؤدّون واجباتهم بمنتهى الدقة ، حتى أكلت دابة الأرض منسأته وسقط على الأرض ، كما جاء ذلك في القرآن الكريم :

(فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيهِ المَوتَ مَادَلَّهُم عَلَى مَوتِهِ إِلَّا دابَّةُ الأَرْضِ تَأكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ). (سبأ / ١٤)

وكل هذه الامور تحكي عن مدى الإدارة المحكمة والقوية لسليمان عليه‌السلام وشدّة التزامه وانضباطه في العمل.

وكما يلاحظ في عالم الخلقة من أنّ المكلّفين من قبل الله تعالى بتنظيم وإدارة العالم في مختلف المجالات والمشار إليهم في القرآن الكريم : (وَالْمُدَبِّراتِ أَمْرَاً). (النازعات / ٥)

ووردت الكثير من الإشارات الاخرى أيضاً بشأن أعمال الملائكة في هذا المجال ، ففي عالم البشرية أيضاً لا يمكن اشاعة النظام وتنفيذ القوانين بدون جهازٍ تنفيذي قوي ومنظّم ومعتبر يتمّ فيه تقسيم الأعمال وتوزيع المسؤوليات.

ويتضح هذا الأمر بشكل جلي في كتاب الإمام علي عليه‌السلام لمالك الاشتر رضى الله عنه الذي يضم النموذج الكامل للنظام التنفيذي من حيث كيفية ادارة الدولة.

فبعد أن يشير الإمام علي عليه‌السلام في هذا الكتاب إلى مسألة المستشارين ينتقل للإشارة إلى

١٠٣

واجبات مالك الاشتر رضى الله عنه باعتباره حاكم بلاد مصر ، إذ يأمره عليه‌السلام ويقول : «اختر وزراءك من الأفراد ذوي السيرة الحسنة والأذكياء».

ومن ثم ينتقل إلى ذكر الامور والجوانب الإدارية والتنفيذية المختلفة للدولة ، فيشير في البداية إلى مسألة القوّة الدفاعية والجيش الإسلامي المقتدر ، ومن ثم يشير إلى الموظفين والعمال الحكوميين ، وبعد ذلك يشير إلى القضاة ، ثم ينتقل إلى التجّار والامور التجارية والصناعية والاقتصادية ، وأخيراً يتناول المسائل المتعلقة بالمحتاجين ، والمعوزين في المجتمع ، ويتطرق إلى شرح وواجبات ومسؤولية كل منهم في هذا المجال من خلال شرح مستفيض ودقيق ، ويذكر في ذلك أدق الامور وأظرفها.

إنّ هذا العهد الذي يعدّ في الواقع مستخلصاً من آيات القرآن الكريم والروايات النبوية الشريفة ، تمّ تنظيمه بالشكل الذي لم تتمكن فيه القرون الأربعة عشر أن تغطيه بغبارها وتجعل منه عهداً تقادمت عليه السنون فعادَ قديماً فحسب ، بل إنّ عظمته واشعاعه أصبح أكثر بهاءً بمرور الزمان عليه ، حيث بعدُ نموذجاً بارزاً من التخطيط الإسلامي في مجال الاصول التي ينبغي أن تسيّر الإدارة الإسلامية ، والنظام التنفيذي في الحكومة الإسلامية عليها.

* * *

النظام التنفيذي للحكومة الإسلامية في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

بالرغم من أنّ الحكومة الإسلامية على عهد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت بسيطة جدّاً في تكوينها ، إلّاأنّ كل ما تحتاجه الحكومة القوية والمقتدرة ، كان منظوراً في تركيبة تلك الحكومة ، إذ كان مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بما يعنيه من بساطة عجيبة ، يمثل القاعدة الأساسية للحكومة ونظامها التنفيذي.

فهو من جانب يمثل الجامعة الإسلامية ، ذلك لأنّه يمثل مهداً لتعلم الدين والقراءة والكتابة والتربية في الليل والنهار.

١٠٤

ويمثل من جانب آخر مقر الجيش الإسلامي ، ومركز القائد العام لهذا الجيش.

ومن جهة ثالثة يمثل محكمة القضاء أو كما يقال بيت العدالة.

ومن جهة رابعة يمثل مركز بيت المال وجمع الزكوات والغنائم الحربية ، وبالرغم من صغر حجمه وبساطته التي كان عليها فإنّه كان يسع لاستيعاب جميع هذه الامور!

وقد اختار النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لكل أمرٍ من هذه الأمور ، مسؤولاً أو عدداً من المسؤولين ، واستمر هذا الأمر بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله على هذا المنوال ، وخاصةً في عصر الإمام علي عليه‌السلام ، إذ اتخذ طابعاً جديداً وتنظيمات أوسع بموازاة توسّع رقعة الدولة الإسلامية وتطورها في العالم ، إذ تمّ توضيح قواعده في عهده عليه‌السلام لمالك الاشتر رضى الله عنه.

وكل ذلك يدل على أنّه لابدّ من النظر إلى مسألة النظام التنفيذي بعد مسألة الشورى ، إذ بدون ذلك يفقد أي قانون قيمته واعتباره.

* * *

صفات وشروط المسؤولين التنفيذيين :

تناول القرآن الكريم وبشكل صريح في ثلاثٍ من آياته المباركة ـ وعلى نحو الإشارة في العديد من الآيات الاخرى ـ صفات وخصائص العمال اللائقين في الحكومة.

نقرأ أولاً في قصة طالوت وبني اسرائيل : «عندما اعترض بنو اسرائيل على انتخاب طالوت من قبل نبيهم (اشموئيل) لقيادة الحكومة ، وقالوا بعدم جدارته بسبب عدم امتلاكه المال والثروة (وعدم انتسابه إلى احدى الاسر المعروفة في بني اسرائيل) ، خاطبهم نبيهم قائلاً : لقد أوتي اثنتين من الصفات : سعة العلم ، وقدرة في الجسم ، وبسبب هاتين الصفتين (العلم والقوة) اختاره الله تعالى» ، (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُم وَزَادَهُ بسَطَةً فِى العِلْمِ وَالجِسْمِ) (البقرة / ٢٤٧)

وبناءً على ذلك فقد عدَّ القرآن الكريم صفتي العلم والقوة على أنّهما يمثلان الشرطين الأساسيين لرئيس الحكومة الإسلامية أولاً ، ومن ثم يشمل ذلك جميع العاملين في تلك الحكومة أيضاً.

١٠٥

ويشير القرآن الكريم في قصة يوسف عليه‌السلام إلى شرطين آخرين أيضاً فيما يتعلق بالمدراء والموظفين في المستويات العليا للحكومة كالعاملين على حفظ بيت المال (وزير المالية) إذ يقول تعالى : (قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ انّىِ حَفِيظٌ عَلِيمٌ). (يوسف / ٥٥)

وفي قصة موسى وشعيب عليهما‌السلام أيضاً أشارَ القرآن الكريم على لسان بنات شعيب إلى شرطين آخرين أيضاً بخصوص العمال اللائقين : (قالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجَرْتَ الْقَوِىُّ الامِينُ). (القصص / ٢٦)

وبناءً على ذلك فإنّ القرآن الكريم يشترط العلم والوعي والعقل ، والقوة والقدرة ، والامانة والاستقامة في جميع المستويات ، بدءاً برئيس الحكومة ومروراً بالوزراء وحتى العاملين الصغار ـ مع تفاوت المناصب.

وقد تمّت الإشارة أيضاً في العديد من الآيات المباركة في القرآن الكريم ، إلى هذا المطلب ، وذُكر فيها بعض الشروط التي ينبغي توفرها في العاملين في الحكومة ، ومنها :

١ ـ اجتناب التعاطي مع المسرفين : (وَلَا تُطِيعُوا امْرَ المُسْرِفِينَ). (الشعراء / ١٥١)

٢ ـ اجتناب التعاطي مع السفهاء : (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ امْوالَكُمُ التَّى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامَاً). (النساء / ٥)

٣ ـ اجتناب اتخاذ المضُلِّين : (وَمَاكُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً). (الكهف / ٥١)

٤ ـ اجتناب المكذبين : (فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ). (القلم / ٨)

٥ ـ اجتناب الهمّازين والنمامين والمنّاعين للخير والمعتدين الآثمين والحاقدين والسيئين : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ). (القلم / ١٠ ـ ١٣)

٦ ـ عدم اتباع هوى النفس : (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا). (النساء / ١٣٥)

٧ ـ وأخيراً ضرورة اتباع المؤمنين والتعاون معهم وعدم الاستفادة من غير المسلمين في المناصب الحساسة

والذي يؤدّي إلى تسلطهم على المسلمين : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرينَ عَلَى الْمُؤمِنِينَ سَبِيلاً). (النساء / ١٤١)

١٠٦

وتمثل هذه بعض الشروط والصفات التي من الضروري مراعاتها لدى القائمين على أعمال الحكومة الإسلامية.

* * *

شروط القائمين على الحكومة في الأحاديث الإسلامية :

وردت في الاحاديث الإسلامية أيضاً شروط ثقيلة جدّاً وكثيرة للقائمين على الحكومة ، والتي لا يمكن بدونها تحقيق إقامة الحكومة الإسلامية بشكل كامل مطلقاً.

١ ـ العلم والوعي في أعلى مستوياتهما

نقرأ في حديثٍ عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَنْ أَمَّ قوماً وفيهم من هو أعلَمُ مِنه لم يَزَلْ أمُرهُم إلى السِّفال إلى يوم القيامة!» (١).

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «مَنْ دعى الناسَ إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه فهو مبدع ضالّ!» (٢).

٢ ـ سعة الصدر وانفتاح الفكر والاستعداد لتحمل الحوادث المختلفة

نقرأ في أحدى الكلمات القصار المعروفة للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«آلةُ الرياسة سعة الصدر» (٣).

٣ ـ الوعي بمسائل الزمان

نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

«العالمُ بزمانِهِ لا تهجُمُ عليهِ اللوابسُ!» (٤).

__________________

(١) الوسائل ، ج ٥ ، ص ٤١٥ (الباب ٢٦ من ابواب صلوة الجماعة).

(٢) سفينة البحار ، ج ٢ مادة (العلم).

(٣) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٧٦.

(٤) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ٣٧.

١٠٧

٤ ـ مراعاة العدالة وعدم التفريق بين الناس

ونقرأ في حديثٍ أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لعمر بن الخطاب :

«ثلاث إن حفظتهن وعملت بهنّ كفتك ما سواهنَّ ، وإِن تركتهنَّ لم ينفعك شيء سواهنَّ».

قال : «وما هُنَّ يا أبا الحسن»؟

قال : «إقامة الحدود على القريب والبعيد ، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط ، والقِسْمُ بالعدلِ بين الأحمر والأسود».

«فقال عمر : لقد أوجزْتَ وأَبلغت»! (١).

٥ ـ الاهتمام بمكافأة المحسنين والعفو عن المذنبين الذين يؤمل بتوبتهم وعودتهم عن ذنوبهم

نقرأ في حديثٍ عن الإمام الصادق عليه‌السلام :

«ثلاثة تجبُ على السلطان للخاصة والعامة : مكافأةُ المحسن بالاحسانِ ليزدادوا رغبةً فيه ، وتغمُّدُ ذنوب المسيء ليتوبَ ويرجع عن غيّه ، وتألفهم جميعاً بالاحسانِ والانصاف» (٢).

٦ ـ النظر لمصالح الناس ومصالحه بعين المساواة!

ومن بين الأوامر التي أصدرها الإمام علي عليه‌السلام لمحمد بن أبي بكر عندما اختاره لولاية بلاد مصر مايلي :

«أحِبَّ لعامة رعتيك ما تحبّ لنفسك وأهل بيتك ، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك ، فإنّ ذلك أوجبُ للحجة وأصلح للرعية» (٣).

٧ ـ الارتباط العاطفي مع الناس

لقد اعتبرت بعض الروايات الإسلامية السلطان العادل بمنزلة الوالد ، وأوصت الناس أن

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧٢ ، ص ٣٤٩ ، ح ٥٣.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٧٥ ، ص ٢٣٣.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٧٢ ، ص ٢٧.

١٠٨

يحترموه احترام الأب ، والمراد بهذا الحديث أنّه ينبغي للسلطان أيضاً أن ينظر للناس بعين الابوة ويعتبرهم بمنزلة ابنائه ، وبناءً على ذلك لابدّ من إقامة روابط عاطفية قوية بينه وبين الناس كما هو الحال بين الأب وابنائه ، ويقول الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام في حديثٍ ورد عنه :

«إنَّ السُّلْطانَ الْعادِلَ بِمَنْزِلَةِ الْوالِدِ الرَّحيمِ فَأحِبُّوا لَهُ ما تُحِبُّونَ لأنْفُسِكُمْ وَاكْرهُوا لَهُ ما تَكْرَهُونَ لأنْفُسِكُمْ» (١).

٨ ـ الابتعاد عن البخل ، والجهل ، والجفاء والظلم

يقول الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في هذا المجال :

«وَقَدْ عَلِمْتُمْ أنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الْوالي عَلَى الْفُرُوجِ وَالدِّماءِ وَالْمَغانِمِ وَالاحْكامِ وَامامَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ الْبَخِيلُ ، فَتَكُونَ فِي امْوالِهِمْ نَهْمَتُه ، وَلا الْجاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ ، وَلا الْجافي فَيَقْطَعهُمْ بِجِفائِهِ ، وَلا الخائِفُ لِلدُّوَلِ ، فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُوْنَ قَوْمٍ ، وَلا الْمُرتشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبُ بِالْحُقوقِ وَيَقِفُ بِها دُوْنَ الْمَقاطِعِ ، وَلا الْمُعَطِّلِ لِلْسُنَّةِ فَيُهْلِكَ الامَّةَ» (٢).

٩ ـ عدم المصانعة والتعاطي مع أهل الباطل

يقول إمامنا ومولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في كلماته القصار في نهج البلاغة :

«لا يقيم أمر اللهِ سبحانَهُ إلّامن لا يصانعُ ولا يضارعُ ولا يتبَّع المطامع» (٣).

١٠ ـ النظر بعين الامانة لمقامه ومنصبه

وهذه الملاحظة أيضاً جديرة هي الاخرى بالاهتمام ، وهي أنّ المناصب والمسؤوليات في الحكومة الإسلامية ، تمّ اعتبارها في العديد من الروايات أمانة إلهيّة ، دون اعتبارها

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٤٧٢ ، ح ١.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٣١.

(٣) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة ١٢٠.

١٠٩

وسيلة للتعالي والاستفادة منها للاغراض الشخصية ، حتى أنّه أُشير لهذا الأمر في بعض الآيات المباركة في القرآن الكريم ، قبل الروايات الإسلامية ، إذ نقرأ في قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤْدُّوا الامَانَاتِ الى أَهْلِهَا وَاذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ). (النساء / ٥٨)

وقد ورد في نهاية هذه الآية في كتب التفسير والحديث روايات متعددة على أن المراد بالامانة ، هو الولاية والحكومة ، وعلى رأس ذلك ولاية الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، ومن ذلك ما نقرأه في إحدى الروايات الواردة في تفسير الآية الآنفة :

«يعني الإمامة ، والإمامة الامانةُ»! (١)

وينقل في كتاب دعائم الإسلام أيضاً في حديثٍ عن الإمام عليّ عليه‌السلام أنّه كتب إلى «رفاعة» قاضي الأهواز مايلي :

«إعلم يا رفاعة ، أنَّ هذه الامارة أمانة ، فمن جعلها خيانةً فعليه لعنةُ الله إلى يومِ القيامةِ ، ومن استعملَ خائناً فإنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بريءٌ منه في الدنيا والآخرة» (٢).

وينقل في تفسير الدر المنثور عن الإمام عليّ عليه‌السلام أيضاً أنّه قال :

«حقّ على الإمام أن يحكمَ بما انزلَ اللهُ وأن يؤدّيَ الأمانةَ ، فاذا فَعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وان يطيعوا وأن يجيبوا إذا دُعوا» (٣).

ونطالع في نهج البلاغة أيضاً ، أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال في كتابه إلى والي آذربايجان :«وإنّ عملك ليس لك بطعمةٍ ولكنه في عنقك امانة» (٤).

ومن البديهي أنّ هذه الروايات لا تحجّم المفهوم الواسع للآية التي توصي بالمحافظة على جميع الامانات ، بل وكما هو واضح لدينا فإنّها تمثل المصداق الواضح للامانة الإلهيّة.

وممّا لا شك فيه أيضاً أنّ الذي ينظر إلى هذه المناصب بعين الأمانة الإلهيّة ، فإنّ اسلوبه

__________________

(١) نُقل في تفسير البرهان سبع روايات على الأقل في هذا المجال ، وتلاحظ في كتاب بحار الأنوار أيضاً في الجزء ٢٣ و ٦٧ ، و ١٠٢ (في الصفحات ٣٨٠ ، و ٢٨٠ ، و ٢٥٣ على التوالي) ، روايات متعددة بهذا الشأن.

(٢) دعائم الإسلام ، ج ٢ ، ص ٥٣١.

(٣) تفسير الدر المنثور ، ج ٣ ، ص ١٧٥.

(٤) نهج البلاغة ، الخطبة ٥.

١١٠

في التعاطي مع هذا الأمر يختلف كثيراً عن ذلك الذي ينظر إليها على أنّها ملك مطلق له ، وكذا الحال بشأن الأموال والثروات ، فإنّ القرآن الكريم يعبّر عنها أيضاً بأنّها عبارة عن أمانة إلهيّة بين يدي الناس ، موضحاً بأنّ المالك الأصلي لها هو الله تبارك وتعالى ، وهو الذي أودعها بأيدي الناس أيّاماً معدودات ، كما ورد في قوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَانْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ). (الحديد / ٧)

ومن المسلَّم به أن صرف الأموال المودعة بعنوان أمانة لدى الإنسان في الموارد الخاصة التي يجيزها صاحب تلك الأموال لا توجد فيه أية صعوبة ، في حين أنّ الإنسان لو كان هو المالك الأصلي لها ، فإن صرف تلك الأموال ليس سهلاً عليه.

* * *

١١١
١١٢

هيكلية السلطة التنفيذية

يتألف النظام التنفيذي عادةً من شبكة واسعة ، يقف على رأسها رئيس الحكومة ، ويليه الوزراء في المرتبة التالية ، ويأتي في المرتبة الثالثة منهم المديرون العامون والمحافظون ، ورؤساء الاقسام والنواحي التابعة ، وكل دولة سواء كانت كبيرة أم صغيرة ، فإنّها بحاجة إلى هذه التقسيمات ، سواء كانت بهذه المسميات أو بغيرها.

والواقع أنّ هذه الشبكة الواسعة تمتلك فلسفة واضحة ، تستمد قوتها من مسألة ضرورة تقسيم الأعمال.

وتمثل هذه المسألة في عالم التشريع والانظمة البشرية ، صورة واضحة عن تركيبة النظام التكويني ، فعندما ننظر إلى بدن الإنسان من حيث تشكيلاته الداخلية والخارجية ، نرى أنّ هذا «العالم الصغير» الذي انطوى فيه «العالم الكبير» ، يمتلك نظاماً تنفيذياً غايةً في الانسجام ، مع شبكةٍ واسعة لتقسيم الأعمال.

وعندما يقرر العقل أداء عملٍ ما ، ويصدر الأمر النهائي بذلك ، يبدأ كل جزء من أجزاء جسم الإنسان بأداء نشاطه الخاص به ، ويواصل تنفيذ ذلك العمل إلى مراحله النهائية بانسجام كامل.

وكمثال بسيط على ذلك ، عندما يشعر الإنسان بالخطر ، كأن يُدرك بواسطة العين أو الاذن ، وجود حيوان مفترس بالقرب منه (كأن يرى هيكله أو يسمع صوته) ، ولا يملك سلاحاً يدافع به عن نفسه ، وبالقرب منه ملجأ يمكن أن يلوذ به ، فإن أمر الفرار نحو ذلك الملجأ سيصدر له من العقل ، وسرعان ما تبدأ شبكات الاعصاب والعضلات بالعمل ، وتزداد

١١٣

ضربات القلب بشدّة عالية لإيصال المزيد من الدم إلى العضلات ، وتزداد سرعة عمل الرئتين لتنقية الدم وتصفيته ، وايصال المزيد من الاوكسجين اللازم لحركة العضلات ، وتزول جميع آثار التعب والكسل والنوم من الإنسان بشكل مؤقت ، ويراقب أوضاعه وحركاته بمنتهى الذكاء واليقظة ، وبعبارة اخرى ، يطير الكرى عن مقلتيه.

وينسى الإنسان فجأةً وبشكل لا إرادي جميع الامور التي من الممكن أن تشغل فكره وتعيقه عن أداء هذا العمل من قبيل الجوع ، والعطش ، والألم!

ويستنفر الجسم جميع طاقاته الكامنة فيه ، ويصبح مستعداً لأداء أصعب الاعمال وأكثرها مشقة ، ويبدي أحياناً عشرة أضعاف ممّا يبديه من الطاقة في الحالات الاعتيادية ، وجميع هذه الامور تتم بشكل تلقائي واتوماتيكي تماماً وبمستوى عالٍ من الدقة والظرافة ، بحيث أن مجرّد مطالعة هذا الموضوع لوحده يكفي للوقوف على علم الله تعالى وعجيب قدرته ، والاطلاع على حقيقة التوحيد.

وكلّ مجتمع بشري ينطبق عليه نفس الحكم الذي ينطبق على الجسم ، ولهذا السبب لا بد من تقسيم الأعمال فيه بشكل دقيق ، ومواصلة تأمين متطلباته الثقافية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، والمادية والمعنوية ، من خلال التخطيط الدقيق لذلك ، وبالرغم من الاختلاف الموجود بين كل منها ، فإنّ التناغم والتنسيق وإكمال كل منها للآخر يعدّ أمراً في غاية الضرورة.

ولهذا السبب أيضاً فإنّ جميع المجتمعات البشرية ـ سواء المتدينة أو البعيدة عن الدين ، شرقيّها أو غربيّها ، قديمها أو جديدها ـ رضخت لهذه القاعدة في حياتها الاجتماعية ، بالرغم من التفاوت الموجود فيما بينها في كيفية تقسيم الاعمال والمناصب والمسؤوليات ، إذ إنّ البعض منها بدائي جدّاً في ذلك والبعض الآخر تعمل بشكل دقيق للغاية.

النظام التنفيذي في عالم الوجود :

بالرغم من الله تبارك وتعالى قادر على كل شيء ، وكل مايريده يتحقق بارادته تعالى فوراً : (إِنَّما امْرُهُ اذَا ارَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (يس / ٨٢)

١١٤

وبالرغم من ذلك كله فإنّ الآيات المباركة في القرآن الكريم توضح وبشكل جلي ، أنّ الله تبارك وتعالى قسَّم الأعمال في هذا العالم ، إذ خلق طوائف من الملائكة ليقوم كل منها بانجاز إحدى الأعمال المهمّة في هذا العالم.

فيشير القرآن الكريم أحياناً بشكل عام إلى هذه المسألة وهو قوله تعالى :

(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً اولِى اجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ). (فاطر / ١)

ويقول في موضع آخر : (فَالْمُدَبِّراتِ امْراً). (النازعات / ٥)

وينقل في موضع آخر قول الملائكة : (ومَا مِنَّا الَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ* وَانَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَانَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ). (الصافات / ١٦٤ ـ ١٦٦)

وأحياناً اخرى يشير إلى طوائف خاصة منها لها وظائفها الخاصة ، إذ يمكن أن نشير فيما يلي إلى المجاميع التالية كنموذج على ذلك :

١ ـ الملائكة المبلغين للوحي والمنزلين للكتب السماوية :

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوْحِ مِنْ امْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). (النحل / ٢)

٢ ـ مجموعة حَمَلَةِ العرش :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ). (غافر / ٧)

٣ ـ مجموعة المراقبين لأعمال الناس :

(وَانَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِرَاماً كَاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ). (الانفطار / ١٠ ـ ١٢)

٤ ـ مجموعة جند الله الذين يعززون المؤمنين في الحروب وحوادث الحياة القاسية :

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ اذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَارْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً). (الاحزاب / ٩)

٥ ـ مجموعة حفظة الناس ازاء الكثير من الاخطار والحوادث :

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً). (الانعام / ٦١)

٦ ـ مجموعة المكلفين بقبض الأرواح :

(قُلْ يَتَوفَّاكُمْ مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ). (السجدة / ١١)

١١٥

وكذلك : (الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِيْنَ). (النحل / ٣٢)

٧ ـ الملائكة المكلفون بتقسيم الأرزاق :

(فَالْمُقسِّماتِ امْراً). (الذاريات / ٤)

إذ يقول البعض في تفسير هذه الآية الكريمة ، وجرياً مع تناسب الآيات الواردة قبلها : إنّها تشير إلى الملائكة الذين يقسمون الأرزاق بين العباد ، بينما يقول البعض الآخر : إنّها تشير إلى الملائكة المكلفين بتقسيم جميع الأعمال في عالم الوجود.

٨ ـ الملائكة المكلفون بنشر السحاب ونزول الأمطار والمكلفون بتشتيتها بعد هطول الأمطار :

(وَالنَّاشِرَاتِ نَشْراً* فَالْفارِقَاتِ فَرْقاً). (المرسلات / ٣ ـ ٤)

٩ ـ الملائكة المكلفون بدفع وساوس الشياطين عن قلوب المؤمنين ، والذين يصدون هجوم الشياطين عن افكار المؤمنين ، فيقضون على وساوسهم :

(فَالزَّاجِرَاتِ زَجراً) (١). (الصافات / ٢)

١٠ ـ الملائكة الذين ينزلون في ليلة القدر ، والمكلفون بإبلاغ تقديرات الله تعالى على مدى سنة كاملة ، تلك المقدرات التي تحُدد وفقاً لاستحقاق الأفراد وحسن أعمالهم ، وليس بدون حساب وبشكل اجباري :

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِاذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر). (القدر / ٤)

وكما تلاحظون فإنّ الله تبارك وتعالى وبالرغم من قدرته التامة على جميع الأعمال ، فإنّه يقسم تدبير أمور هذا العالم بين الملائكة ، وجعل لكل مجموعة منهم واجباً وتكليفاً محدداً.

* * *

ونلاحظ في الروايات الإسلامية أيضاً تعبيرات متعددة وبليغة بشأن أصناف الملائكة ، من حيث تقسيم المسؤوليات ، ومن جملة ذلك ماورد في نهج البلاغة في خطبة الأشباح :

__________________

(١) قيل الكثير من الأوجه في تفسير هذه الآية ، وأحد تلك المعاني ماجاء أعلاه.

١١٦

«ومنهم من هو في خلق الغمام الدُّيح ، وفي عظمِ الجبال الشمَّخ ... وفي فترةِ الظلامِ الأيِهمِ ، خَرَقت اقدامُهمُ تخومَ الارضِ السّفلى فهي كراياتٍ بيضٍ قد نفذت في مخارقِ الهواءِ ، وتحتها ريحٌ هفافة ، تحبسُها على حيثُ انتهت من الحدود المتناهيةِ ، قد استفرغتهم اشغالُ عبادتِهِ ، ووصلت حقائق الايمانِ بينهم وبين معرفته ... قد ذاقوا حلاوة معرفته ، وشربوا بالكأس الرويَّة من محبتِهِ!» (١).

ولدينا المزيد من الروايات الاخرى بشأن تقسيم المسؤوليات فيما بين الملائكة ، لو ذكرناها جميعاً لطال بنا المقال (٢).

ويمكننا أن نستخلص ممّا تقدم ذكره آنفاً المفهوم القرآني التالي : لو أرادت البشرية أن تساير نظام ربوبية الباريء جلّ وعلا في الوجود وتطبق نظام ادارته في عالم التكوين ، لابدّ لها أن تهتم وبكل دقة بمسألة تقسيم الأعمال والمسؤوليات في المجتمع الإنساني ، لكي تقترن حياة أفراد المجتمع بالموفقية والنجاح.

وبعبارة أخرى : نحن نعلم أنّ نظامي التكوين والتشريع يجب أن يعملا بشكل متناغم ، ولابدّ لحياة البشرية أن تستلهم فلسفتها من خلقة الباري جلّ وعلا وتصطنع بصبغة الله تعالى ، وأنّ كل ما هو حاكم هناك يجب أن يكون هو الحاكم هنا.

إنّ الاهتمام والالتفات إلى هذه الحقيقة يدعونا إلى مسألة تنظيم الامور التنفيذية.

* * *

النظام التنفيذي في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

بالرغم من أن الحكومة الإسلامية على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت بسيطة جدّاً ، إلّاأنّه في نفس الوقت كانت مسألة تقسيم المسؤوليات في النظام التنفيذي لهذه الحكومة ، واضحة جدّاً ومدروسة بشكل دقيق.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٩١ (خطبة الاشباح).

(٢) وللمزيد من الايضاح بشأن أصناف الملائكة عليكم بمراجعة بحار الأنوار ، ج ٥٩ ، ص ١٧٤ ومايليه.

١١٧

ومن ذلك أن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يختار للمعارك ـ التي لا يشارك فيها بشخصه ـ قائداً أو عدداً من القادة ، وحتى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أحياناً كان يعيّن خليفة للقائد الأول لتلافي الحوادث المحتملة الوقوع للقائد الأول ، وعلى سبيل المثال في معركة مؤته كان القائد الأصلي للجيش جعفر بن أبي طالب ثم أضاف قائلاً : لو حصل أمرٌ لجعفر فبعده «زيد بن حارثة» على الجيش ، ولو حصل له أمرٌ أيضاً «فعبد الله بن رواحة» على الجيش ، ولو حصل له أمرٌ ما أيضاً ، على المسلمين أن يختاروا شخصاً من بينهم عن طريق الشورى لقيادة الجيش(١).

وجاء في التواريخ أيضاً أنّه كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كتّاباً للوحي وللُامور الاخرى ، إذ يمكن أن نذكر من بينهم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وكذلك «زيد بن ثابت» ، و «علاء بن الخصري» و «أبي بن كعب» (٢).

واختار صلى‌الله‌عليه‌وآله بعض الأفراد لجمع أموال الزكاة والامناء على بيت المال ، إذ يمكن أن نذكر من بينهم «مهاجر بن أبي اميّة» المكلّف بجمع أموال بيت المال في صنعاء ، و «زياد بن لبيد» في «حضرموت» و «عدي بن حاتم» في قبيلة «طي» و «مالك بن نويره» في «بني حنظلة» ، و «زبرقان بن بدر» في قبيلة «بني سعد» و «العلاء بن الحضرمي» في «البحرين» (٣).

وعين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً بعض الخبراء لتحسين محصول بساتين النخيل لغرض دفع الزكاة ، ومنهم «عبدالله بن رواحة».

كما أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعين الأمراء للمناطق المختلفة ، ويمكن أن نذكر من بينهم عليّاً عليه‌السلام ، و «معاذ بن جبل» على اليمن ، و «عتاب بن اسيد» على «مكة» و «عثمان بن أبي العاص» على منطقة «بني ثقيف».

لقد كان للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، العديد من الرسل الذين أرسلهم للملوك ورؤساء البلدان المجاورة ، ومنهم «عبدالله بن حذاقة» الذي بعثه إلى «كسرى» ملك الساسانيين ، و «دحية

__________________

(١) سيد المرسلين ، ج ٢ ، ص ٤٤ ، ونقل بعض المؤرخين الأمراء الثلاثة بشكل آخر ، ولا يوجد بينهم وبين مرادنا اختلاف.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ٣١٣.

(٣) سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ٢٤٦.

١١٨

الكلبى» إلى «قيصر» ملك الروم ، و «حاطب بن أبى بلتعة» إلى «المقوقس» ملك مصر ، و «عمرو بن اميّة» إلى «النجاشى» ملك الحبشة (١).

وبهذا الشكل نشاهد أنّه في تلك الحكومة الخالية من أي نوع من أنواع التشريفات ، نجد نظاماً تنفيذياً منسجماً بشكل كامل ويتألف من اقسام مختلفة ، وقد اختار صلى‌الله‌عليه‌وآله لكل قسم منها مسؤولاً أو عدّة مسؤولين ، يحكمون فيها.

وهذا كله يوضّح لنا بشكل جلي ، أن مسألة تقسيم المسؤوليات والإدارات في الأقسام المختلفة للنظام التنفيذي للحكومة الإسلامية ، يعد أمراً مسلّماً به ولا يمكن اجتنابه.

كيفية انتخاب رئيس السلطة التنفيذية والمسؤولين الآخرين :

في النظرة الكونية الإسلامية التي تقول : إنّ الحكم لله ، وإنّ مصدر شرعيتها في المجتمعات البشرية تستند إلى الاجازة والتفويض الإلهي ، ومن الطبيعي أن يتمّ في الأنظمة التنفيذية تعيين المسؤولين في جميع المستويات من قبل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن ثم الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وبعدهم خلفائهم ونوّابهم أي الفقهاء العظام.

ولهذا السبب نجد أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما شرع ببناء الدولة الإسلامية في بداية الهجرة إلى المدينة ، وعمل على توسيعها فيما بقي من عمره الشريف ، كان يقوم صلى‌الله‌عليه‌وآله بتعيين الولاة وامراء الجيش والقضاة والسفراء بنفسه ، ومن المحتمل أنّه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله يقوم باستشارة أصحابه في الحالات المهمّة بشأن انتخاب أولئك الأشخاص.

ومن المؤكّد عندما يتحول الأمر إلى الفقيه الجامع للشرائط ، وخاصةً في عصرنا وزماننا ـ إذ تعتبر المشاركة الجماهيرية في أمر الحكومة من البديهيات ، ذلك أنّه بدون مشاركتهم لن تتوفر دواعي المساهمة والتعاون مع الحكومة مطلقاً ـ يجب أن تكون مسألة الشورى والمشاورة مع الناس على رأس البرنامج الخاص باختيار المستويات الرفيعة للسلطة التنفيذية.

وبعبارة أخرى : لابدّ أن يكون للناس المعرفة الكافية برئيس السلطة التنفيذية ، الشخص

__________________

(١) بيت النبوّة (خاندان وحي) ، ص ٢٦ بالفارسية.

١١٩

الأول في هذه السلطة ، والتعاون في هذا المجال ـ ومتى ما كان الفقيه الجامع للشرائط غير معنيًّ بهذا الأمر ، فإنّه يعرض مصالح المسلمين للخطر ويتسبب في زعزعة النظام الإسلامي ، وبناءً على ذلك فإنّه يفقد شرعية ولايته أيضاً.

وليس بوسع الولي الفقيه أن يقول : أنا خليفة المعصوم ، وأنا الذي أعين جميع المديرين التنفيذيين ورئيس الوزراء والوزراء ورئيس الجمهورية في الحكومة الإسلامية مطلقاً ، ذلك لأن هذا الأمر لا ينسجم مع مصالح الناس وغبطة المسلمين وشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويؤدّي إلى زعزعة دعائم الحكومة ، وتضعيف اسسها وقدرتها ، بل إنّ أساس مثل هذه الحكومة سرعان ما ينهار وتمحى من صفحة التاريخ والمجتمع.

إذن ، يجب عليه أن يحترم قاعدة الشورى القرآنية في هذا الأمر ، ويعطي الاهميّة لاختيار الناس ، ويدعوهم للمساهمة في هذا الأمر المهم ، وإحدى أفضل الطرق لذلك هو ما نص عليه دستور الجمهورية الإسلامية ، من أنّ انتخاب رئيس الجمهورية يتمّ في البداية من قبل الشعب ، ويكتسب دعمه الشعبي من خلال آرائهم ، ثم يصار في المرحلة النهائية إلى صدور الأمر بتنصيبه من قبل الفقيه الجامع للشرائط ، لكي يصار إلى تثبيت جنبته الشعبية من جهة ، ويضمن من جهة أخرى الجنبة الإلهيّة التي تشكل أساس هذا الانتخاب. (فتأمل).

وهذه الملاحظة هي الاخرى جديرة بالاهتمام ، وهي أنّ التجربة أثبتت أنّ انتخاب الناس في مجتمع مؤمن وملتزم متى ما تّم من خلال الإعداد الصحيح والمسبق والتدريب والمعرفة الكافيين ، غالباً مايكون صحيحاً.

بينما لو حصل في بعض الموارد خطأ معين في تشخيص الشعب وضمير الامة ـ وهذا قليل ونادر ـ فيجب على الفقيه الجامع للشرائط أن يستفيد من صلاحياته ، ويُعرض عن تنفيذ تنصيب مثل هذا الشخص ، ولكن بما أنّ الولي الفقيه منتخب هو الآخر من قبل الشعب ، (كما سنشير لذلك لاحقاً) ، فيجب أن يقوم بتنوير الأذهان من خلال التدبير والدراية الصحيحة وإرائة الوثائق والأدلة ، ويعمل على توعية الضمير الشعبي تجاه هذا الأمر ، ولو حصل خطأٌ معين فعليه أن يقف بوجهه ويتصدى له.

١٢٠