نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

الحدود والتعزيرات في الإسلام

في معرض البحث عن النظام القضائي في الإسلام ، لابدّ من الإشارة السريعة إلى مسألة «الحدود والتعزيرات» (وتفصيل ذلك موكول إلى كتاب أو كتب مستقلة) وهذا البحث في الحقيقة مكملُ لأبحاث القضاء في الإسلام ، لأنّ وظيفة القاضي هي «احقاق الحقوق» و «اجراء الحدود» ليردع المجرمين ، ويحذّر المنحرفين والذين تلوثت أيديهم بالاجرام ، وهنا لابدّ من بحث وتسليط الضوء على عدّة مواضيع.

١ ـ فلسفة الحدود والتعزيرات في الإسلام

لا شكّ في أنّ تشريع الأحكام الإلهيّة إنّما هو من أجل دعوة الناس إلى القسط والعدل ، وهداية المجتمع إلى طرق الأمن والامان ، ليتمكن الناس من كسب الفضائل والتخلص من الرذائل ، والسير إلى الله ومقام القرب الإلهي والذي هو أعلى مقصد للخلق.

ولما لم تكن الأحكام الإلهيّة بمفردها مؤثرة في كل النفوس ، كان من اللازم أن تقترن بالانذار والتبشير من أجل خلق الدافع لدى الناس للتحرك باتجاه العمل بها.

ولمّا لم تكن الانذارات والبشارات الاخروية كافية لردع بعض الناس من ارتكاب المخالفات وداعية لقيامهم بالواجبات والوظائف الفردية والاجتماعية ، كان من اللازم تعيين مجازات دنيوية لاولئك الذين يتجاوزون الحدود الإلهيّة المرسومة ، ويسحقون الحق والعدالة باقدامهم ، لتكون تلك المجازاة ضامناً لإجراء هذه الأحكام بين أولئك الذين لم يتربوا تربية دينية كافية والذين يفتقدون التقوى الدينية.

١٦١

ولا شكّ في أنّ النظام الإسلامي يختلف في هذا المضمار عن النظم المادية ، إذ لا يوجد في تلك النظم أي ضامن إجرائي غير تلك المجازاة الدنيوية والمادية ، ولذا فإنّ كل حكم فاقدٍ لمعاقبة المتخلف لا يعدُّ في نظر تلك النظم قانوناً وحكماً ، وإنّما يعتبر في نظرهم توصية أخلاقية فحسب.

وأمّا في النظم الإلهيّة ، فإنّ الاعتقادات القلبية ، والإلتزامات المعنوية والإيمان بمحكمة العدل الالهي العظيمة يوم القيامة والاعتقاد بمراقبة الله في الدنيا ، كل ذلك يعتبر من الدوافع المهمّة وضامناً إجرائياً قوياً ، ولكن لما لم يكن ذلك الداعي موثراً في كل النفوس لوحده ، كان من الضروري أن يكون إلى جنبه ضامناً إجرائياً ماديّاً ، وعقوبة دنيوية.

واهتمام الشارع المقدس بإجراء الحدود والمجازاة ضد المتخلفين وصل إلى حدٍّ بحيث ورد في الروايات المتعددة :

«حدٌّ يُقام في الأرض أزكى من مطر أربعين ليلة وأيّامها».

وهذا الحديث مروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن الإمام الباقر عليه‌السلام والإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً ، وفي بعض النصوص وردت كلمة «أفضل» أو «أنفع» بدلاً عن كلمة «أزكى» (١).

ونقرأ في حديث عن الإمام السابع موسى بن جعفر عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى (يُحيي الأرض بعد مَوْتِها) قال عليه‌السلام : «لَيْسَ يحييها بالقَطر ولكن يَبْعَثُ الله رجالاً فَيُحيونَ العَدْلَ فتحيى الأرضُ لاحياء العَدْلِ ثمَّ قال عليه‌السلام : ولإقامَةُ الحَدّ فَيه أَنْفَعُ في الأرضِ من القَطر أربعين صباحاً».

وكيف لا يكون إجراء الحدِّ «أنفع» و «أفضل» و «أزكى» من قطر أربعين صباحاً ، وسلامة وأمن المجتمع إنّما هي في ذلك الأصل ، وأنّ جذور كل خير وبركة في إجراء الحدود ، إذ إنّ الأحكام المباركة التي تجلب الخير والنعمة والمنافع الاقتصادية لا تفيد بلا وجود أمن وأمان في المجتمع ، كما أنّ أمن المجتمع لا يحصل بدون إجراء الحدود واحقاق الحق ، ولولا ذاك لعمَّ الفساد والظلم في المجتمع ولقتل الناس بعضهم بعضاً وخُرِّبت المدن واستضعف

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، باب ١ من أبواب مقدمات الحدود ، ح ٢ ، ٣ ، ٤.

١٦٢

عبادالله ، ولهذا فإنّ أول ما طلبه إبراهيم الخليل عليه‌السلام من ربّه عندما بنى الكعبة ، هو أن يجعل ذلك البيت آمناً فقال : (رَبِّ أجْعَل هَذَا بَلَداً آمِنَاً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ). (البقرة / ١٢٦)

وبذلك طلب نعمة الأمن قبل الأرزاق الاخرى ، لأنّه كان يعلم أنّ فقدان الأمن يمنع من الاستفادة من المواهب الاخرى.

٢ ـ معنى الحدِّ والتعزير

«الحدود» : جمع «حدّ» وهو لغةً بمعنى «المنع» ، وانتخاب هذا الاسم لقسم من المجازاة الشرعية هو لأنّها تمنع الناس من ارتكاب بعض المخالفات القانونية الشرعية. وهي في الاصطلاح الشرعي في عبارات الفقهاء ، مجازاة خاصة تجرى في حق المكلفين لارتكابهم بعض الذنوب.

وأمّا «التعزير» في اللغة فهو بمعنى «التأديب» وقد يأتي أحياناً بمعنى «التعظيم» أو «النصرة» و «المنع» ، وفي الاصطلاح بمعنى المجازاة والاهانة ، حيث لم يرد فيها مقدار معين في الشرع وإنّما أوكلت إلى نظر القاضي ، فهو الذي يحدد مقدار ونوع التعزير طبقاً «لميزان الجرم» الذي يرتكبه المذنب و «مقدار تحمله».

وعلى هذا فالفارق بين «الحدِّ» و «التعزير» هو أنّ مقدار الأول ثابت ومحدد ، وأمّا التعزير فهو في الأغلب غير معين ، وقلنا (في الأغلب) لأنّ بعض التعزيرات ورد فيها مقدار معين في الروايات الإسلامية ، وتفصيل ذلك في كتاب الحدود ، ومع ذلك وقع الخلاف في أنَّ تعيين المقدار في تلك التعزيرات هل هو معيّن قطعي أم أنّه مذكور من باب المثال والمصداق؟

وتوجد بعض الفوارق الاخرى بين الحدِّ والتعزير ، حتّى عَدَّ الشهيد في كتاب «القواعد» عشرة وجوه للاختلاف بينهما ولامجال هنا لتفصيل الكلام فيها (١).

__________________

(١) القواعد ، الشهيد الأول ، ج ٢ ، ص ١٤٢.

١٦٣

٣ ـ تعداد الحدود الإسلامية

ورد في الإسلام عشرة حدود أساسية لعشرة ذنوب كبيرة ، وذكرت أربعة منها في القرآن المجيد صريحة ، واستفيدت الستة الباقية من السنّة الشريفة.

١ ـ حدُّ الزنا

جاء في قوله تعالى :

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُما مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأَفَةٌ فِى دِيْنِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُما طَآئِفَةٌ مِّنْ المُؤمِنِينَ). (النور / ٢)

ففي الآية إشارة إلى حد زنا المرأة والرجل ، ولم يرد فيها «الاستثناءات» و «الجزئيات» الاخرى مثل أحكام زنا المحصن والمحصنة والزنا بالمحارم والامور الاخرى من هذا القبيل والتي بيّنتها السنة والروايات الإسلامية بشكل مفصل.

٢ ـ حدُّ السرقة

جاء في قوله تعالى :

(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (المائدة / ٣٨)

ويوجد في هذا المورد أيضاً بعض الشروط والاستثناءات في قطع يد السارق التي وردت في السنّة والروايات الإسلامية ، ونحن نعلم بأنّ القرآن الكريم يذكر غالباً أصول المسائل فقط ويترك التفصيل والشرح للسنّة.

٣ ـ حدَّ القذف

ورد في قوله تعالى فيما يرتبط بنسبة الأعمال المخالفة للعفّة للأشخاص المنزهين عنها ، ما يلي :

(وَالذَّيِنَ يَرْمُونَ الُمحصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلَدةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ). (النور / ٤)

١٦٤

فهذه المجازاة الثلاثية للقاذف ، ذكرت لتطهير المحيط الاجتماعي وحفظ احترام وكرامة الناس ، وللحد من اشاعة الفحشاء والفساد ، كما أنّ هناك بعض الشروط والخصوصيات والاستثناءات ذكرت في الروايات الإسلامية.

٤ ـ حدُّ المحارب

وردت في القرآن المجيد مجازاة ثقيلة لأولئك الذين يحاولون الاخلال بأمن المجتمع ، وأولئك الذين يتعرضون بالأسلحة لأنفس وأموال وأعراض الناس ، وهذهِ الشدَّة والصرامة في المجازاة إنّما هي لردع الأشرار ، يقول تعالى :

(إِنَّما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرضِ فَسَادَاً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصلَّبوا أَو تُقَطَّعَ أَيْديِهمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (المائدة / ٣٣)

والمقصود من المحارب ، وكما أشرنا أيضاً ، هو الشخص الذي يحمل السلاح ويتعرض لأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم بالسلاح ، سواء أكان ذلك من قطّاع الطرق أو من أهل المدن أو من الأشقياء الذين يتعرضون للناس بالسكّين والأسلحة الباردة فيعتدون على أنفس الناس وأموالهم ونواميسهم ، والملفت للنظر أنّ القرآن عدَّ هولاء من المحاربين لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهذا دليل على اهتمام الإسلام الفائق بالحريات والأمن الاجتماعي وحقوق الناس.

وهناك كلام بين الفقهاء والمفسرين في أنّ هذه الأنواع الأربعة من الحدود المذكورة في المحارب ، هل هي على التخيير وبإمكان القاضي أن ينتخب أيّها شاء ، أم أنّها معينة ولكنها تختلف باختلاف الجناية التي يرتكبها المحارب؟ فمثلاً المحارب الذي يقتل الأبرياء ، جزاؤه الاعدام ، والذي يتجاوز على أموال الناس فجزاؤه أن تقطع أصابعه ، وإن ارتكب الجنايتين معاً فجزاؤه الاعدام والصلب لاعتبار النّاس ، وإن شهر السلاح فقط في وجه الناس وأرعبهم بدون أن يرتكب جناية أخرى ، فإنّ جزاءَهُ النفي عن بلده ، ولا مجال

١٦٥

هنا لبيان اختلاف الفقهاء والمفسرين بشكل مفصل ، ومن أراد التفصيل فليراجع كتب الفقه المطولة (كتاب الحدود بحث «حدّ المحارب») وتفاسير القرآن ومن جملتها «التفسير الامثل» (١).

هذهِ الحدود الأربعة وردت في القرآن المجيد ، وأمّا الحدود الستّة التي وردت الإشارة إليها في السنّة فهي كالآتي.

٥ ـ حدُّ المرتد

والمراد به ، الشخص الذي يعتنق الإسلام ثم يعود إلى الكفر ويعلن كُفره ، وقد ذكر الإسلام له حدّاً شديداً (ولذلك فلسفة خاصة سنشير إليها فيما بعد).

في القرآن الكريم وردت الإشارة فقط إلى ذمِّ هولاء المرتدين بشدّة وتوعدهم بالعذاب الإلهي العظيم ، بدون أن يتعرض إلى الجزاء الدنيوي لهم ، قال تعالى :

(مَن كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالايمانِ ، وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (النحل / ١٠٦)

ويقول عزوجل في موضع آخر :

(كَيْفَ يَهدِى اللهُ قَوماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيْمَانِهِمْ وشَهدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّناتُ وَاللهُ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِين* أُولئِكَ جَزَائُهُمْ أَنَّ عَلَيهِمْ لَعنَةَ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). (آل عمران / ٨٦ ـ ٨٧)

وكما أسلفنا فإنّه لم ترد إشارة في القرآن الكريم إلى حدِّ الارتداد ، ولكن العذاب العظيم الذي وعِدَ به المرتد يحكي عن الجزاء الدنيوي الثقيل أيضاً.

والمشهور بين الفقهاء هو أن المرتدّ إن كان فطرياً (وهو الذي انعقدت نطفته من أب وام مسلمين أو على الأقل أحدهما مسلم) فحدُّه القتل ولا تقبل توبته (إذا كان رجلاً) ، وإن كان

__________________

(١) التفسير الأمثل ، ذيل الآية مورد البحث.

١٦٦

مرتداً ملياً ، وهو الذي ولد من أب وام كافرين ، يستتاب فإن تاب وإلّا قُتل ، ومن جملة من يلحق بالمرتد ، الشخص الذي يسبّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ نعوذُ باللهِ ـ ويهينهُ ، ويلحق بالنبي والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وفاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وفي الحقيقة أنّ هذا العمل يعد من جملة أسباب الارتداد ، وعليه فلا داعي لذكره كحدٍّ مستقل ، وإن عنونه بعض الفقهاء في كتاب الحدود في الفقه الإسلامي بعنوان حدٍّ مستقل ، وتوجد بعض الروايات الخاصة في اباحة دم مثل هذا الشخص ، وردت في المصادر الإسلامية (١).

لماذا كلُّ هذه الصرامة في المرتدّ؟

الملاحظ هو أنّ الإسلام لم يتعامل بشدّة مع أولئك الذين لم يقبلوا الإسلام أصلاً ، وإنّما يدعوهم إلى الإسلام بالاعلام والتبليغ المنطقي ، فإن لم يقبلوا الإسلام وقبلوا العيش مع المسلمين بشرائط الذّمة فإنّه لا يكفّ عنهم فحسب بل يتكفل برعاية أموالهم ومنافعهم المشروعة وأنفسهم.

وأمّا بالنّسبة إلى أولئك الذين اعتنقوا الإسلام ثم ارتدوا فإنّه يتعامل معهم بشدّة ، وما ذلك إلّالأنّ الارتداد عن الإسلام يؤدّي إلى زعزعة المجتمع الإسلامي ويعدُّ نوعاً من الانتفاضة ضد الحكومة والنظام الإسلامي ، ويكون غالباً دليلاً على سوءُ نوايا المرتدّين.

ولذا وكما سبقت الإشارة فإنّ مثل هذا المرتد الذي انعقدت نطفته من أب أو امٍ مسلمين ، وعدل عن الإسلام وأعلن ذلك وثبت ارتداده في المحكمة الإسلامية ، فإنّ الإسلام يهدر دمه ، وتقسم أمواله على أقربائه المسلمين وتنفصل عنه زوجته ولا تقبل توبته ظاهراً ، أي أنّ هذه الأحكام الثلاثة تجري عليه على أيّة حال.

وأمّا إذا كان نادماً حقاً فإنّ توبته تقبل مابينه وبين الله (هذا في الرجل أمّا في المرأة فإنّ توبتها تقبل ولا تقتل) ، وأمّا إذا لم يندم ولم يتب ، ولكنه لم يتفوه ظاهراً بما يدل على ارتداده ، لم يتعرض له أحد باذى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ج ١٨ ، ص ٤٥٨ ، كتاب الحدود الباب ٢٥ ، ح ١ ـ ٤.

١٦٧

وإذا لم يكن المرتد عن الإسلام مولوداً من مسلمين أو من مسلم من طرف واحد فإنّه يؤمر بالتوبة ، فإن تاب قبلت توبته ولم تجر عليه تلك الأحكام ، وأمّا إذا لم يتب جرت عليه (ويكفي في ذلك التوبة الظاهرية ، ولم نؤمر بالتّحقيق في حقيقة أمره).

ومن وجهة النظر السياسية قد يبدو أنَّ حكم المرتد الفطري نوع من الارهاب العقائدي والفكري ، خصوصاً لأولئك الذين لم يطلعوا على حقيقة محتوى هذهِ الأحكام ، ولكن الانصاف أننا إذا لاحظنا أنّ هذهِ الأحكام غير مرتبطة بأولئك الأشخاص الذين يعتقدون بامور لم يظهروها للملأ ، وإنّما هي مختصة بالمرتدين الذين يعلنون ارتدادهم ، فهم في الحقيقة يعلنون عن ثورتهم ضد الحكم الإسلامي ، وعليه فمن الواضح أنّ هذه الصرامة والشدّة في حقهم ليست خالية من الدليل ، كما أنّها لا تتنافى أبداً مع حرية الرأي والعقيدة ، فكم من دولة شرقية وغربية تجري قوانيناً شبيهة بهذا القانون مع اختلافات بسيطة حيث إنّها تهدر دم كل من يحاول التعرّض والثورة ضد الحكومة.

وينبغي الالتفات إلى هذه النكتة وهي أنّ قبول الشخص للإسلام لابدّ أن يكون طبقاً للمنطق والعقل ، خصوصاً أولئك الذين ولدوا من أبوين مسلمين وترعرعوا في محيط اسلامي ، فإنّه من البعيد جدّاً أنّهم لم يتعرفوا على محتوى الإسلام ، وعليه فإنّ ارتدادهم عن الإسلام أقرب ما يكون إلى سوء النيّة والخيانة منه إلى الاشتباه وعدم درك الحقيقة ، فمثل هذا الشخص يستحق جزاء الارتداد.

ورد في القرآن الكريم الآية ٧٢ ، ٧٣ من سورة آل عمران ، الحديث عن طائفة من المتآمرين على الإسلام الذين يظهرون الإسلام أولاً ثم يظهرون الكفر بعد ذلك ليوهموا الآخرين أنّهم لم يجدوا في الإسلام من عناصر القوة شيئاً يدفعهم إلى البقاء على اعتناق الإسلام ، ولذا فإنّهم عدلوا عنه ، وهدفهم من ذلك زلزلة اعتقاد المسلمين بإسلامهم وإيمانهم ، فقد ورد في قوله تعالى :

(وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِى انْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ). (آل عمران / ٧٢)

١٦٨

وخلاصة الكلام : أولاً : إنّ حكم توبة المرتد الفطري مختص بالرجال المتولدين من مسلمين ، وقبلوا الإسلام أولاً ثم رجعوا عنه ، فمن لم يقبل الإسلام عند بلوغه ، لا تشمله تلك الأحكام!

ثانياً : الأشخاص الذين لازالوا في حال التحقيق والفحص ، غير مشمولين بهذا الحكم حتى لو كانت نتيجة تحقيقهم هي الرجوع عن الإسلام واعتناق عقيدة أخرى ، لكن بشرط أن لا يظهروا خلافهم وعداءهم للإسلام بالقول ، فلا يتعرض لهم حينئذٍ أحدٌ ، ويعفون عن تلك العقوبات.

ثالثاً : متى ما سُكِتَ عن المرتدين ، خيف على الإسلام من التآمر عليه يومياً من قبل جماعات (كاليهود في صدر الإسلام) وخيانة المسلمين وزلزلة اعتقادات الناس والثورة ضد الحكومة الإسلامية عن طريق اظهار الارتداد ، ومن هنا يعمّ الهرج والمرج العظيمين في المجتمعات الإسلامية ، خاصة وإن مثل هذهِ الأعمال التخريبية لها آثار سريعة وخطيرة ، ولذا فإنّ الإسلام تعامل معها بشدّة وصرامة.

٦ ـ حدّ شرب الخمر

بحثت مسألة شرب الخمر وآثارها الوخيمة في عدّة آيات من القرآن الكريم ، ولكن لم يرد في القرآن حدُّ شرب الخمر ، وإنّما ورد ذلك في الروايات الإسلامية ، وحدّ شرب الخمر هو ثمانين جلدة ، فقد ورد في حديث عن بريد بن معاوية عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال :

«إنَّ فِي كِتابِ عَلِيّ يُضْرَبُ شارِبُ الْخَمْرِ ثَمانِينَ وَشارِبُ النَّبيذِ ثَمانينَ» (١).

(والخمر هو الشراب المتخذ من العنب ، والنبيذ : الشراب المتخذ من التمر وقد يطلق أحياناً على معنى أوسع).

وقد ورد في بعض الروايات تعليل هذا الحدّ بأنّ شارب الخمر يسكر فاذا سكر افترى وتعرض بالقذف (لناموس الناس ، ومن هنا كان حدُّه حدِّ القذف) (٢).

__________________

(١) مرآة العقول ، ج ٢٣ ، ص ٣٣٠ ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٣١ ، ح ٧.

١٦٩

٧ ـ حدُّ اللواط

لقد بيّن القرآن الكريم قبح هذا العمل وعظمة هذا الذنب حين استعرض قصة قوم لوط عليه‌السلام ، وباعتقاد بعض المفسرين فإنّ إشارة إجمالية وردت في بيان حدِّه في قوله تعالى :

(وَالَّذَانِ يَأتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَاعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً). (النساء / ١٦)

وهذا مبني على أنّ «اللّذان» إشارة إلى الرجلين وأنّ الضمير في «يأتيانها» إشارة إلى اللواط ، في حين أنّ هذا الضمير يعود إلى كلمة «الفاحشة» التي وردت في الآية السابقة على هذهِ الآية إشارة إلى «الزنا».

وعلى أيّة حال فإنّ حدّ اللواط طبقاً للروايات الإسلامية هو الاعدام ، في صورة تحقق الادخال ، فإن لم يتحقق فالجلد وقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام (١).

٨ ـ حدّ المساحقة

وللمساحقة في الإسلام حدُّ شديد ، وهو طبقاً للمشهور ، كحدِّ الزنا ، مائة جلدة ، ولا فرق فيه بين المحصنة وغيرها.

وهذا المطلب ورد في روايات عديدة عن أئمّة الدين (٢).

ولا يوجد في القرآن الكريم ما يدلُّ بصراحة على هذا الحكم ، ولكن بعض المفسرين يرى أنّ في سورة النساء إشارة إلى ذلك ، يقول تعالى :

(وَاللَّاتى يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِنْ نِّسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنْكُم فَإِنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً). (النساء / ١٥)

ولكن أغلب المفسرين عدَّ هذهِ الآية إشارة إلى حكم الزِنا قبل نزول حكم الجلد في سورة النور ، والقرائن الموجودة في هذهِ الآية والآية التالية لها تؤيد هذا المعنى أيضاً.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٤١٦ أبواب حدّ اللواط.

(٢) المصدر السابق ، ص ٤٢ ، أبواب حدّ السحق والقيادة.

١٧٠

٩ ـ حدّ القيادة

القيادة أو الوساطة بين النساء والرجال الذين يرتكبون الأفعال المنافية للعفّة ، لها حدٌّ ثابت ومعين في الإسلام أيضاً (وأن لم يُذكر ذلك الحدُّ في القرآن) ، وطبقاً للمشهور فإنّ حدّ القيادة هو الجلد ٧٥ جلدة ، أي ثلاثة أرباع حدِّ الزنا (١).

١٠ ـ حدّ الساحر

يذمُّ القرآن المجيد السحر والسحرة بشكل واضح ، حيث نقرأ في قصة موسى وفرعون ، على لسان موسى عليه‌السلام : (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أتَى). (طه / ٦٩)

وفي قصة هاروت وماروت (المَلَكَيْن) ورد ذمُّ شديد ، حيث عدّت الآيات القرآنية الواردة في هذِهِ القصة السحر كفراً ، حيث جاءت في سورة البقرة ، الآية ١٠٢.

ولكن لم ترد إشارة في القرآن الكريم إلى حدِّ الساحر ، وإنّما ورد في الروايات الإسلامية إنّ حدَّ الساحر القتل (٢).

وهناك خلاف بين الفقهاء في أنَّ هذا الحدَّ مطلق وبدون قيد وشرط أم أنّه خاص بأولئك الذين يحلّون السحر ويفعلونه أو بتعبير آخر «المرتدين»؟

كما أنّ هناك كلام بين العلماء في حقيقة السحر ، وإنّه هل للسحر واقعية أم أنّه نوع تخّيل؟ أم أن بعضه واقعي وبعضه تخيّل؟

ومن هنا ، بحثت مسألة السحر بشكل مطول في الكتب الفقهية (٣).

وما ينبغي معرفته هنا هو أنّ شدّة الإسلام وصرامته في مسألة السحرة قد يكون باعتبار أنّ هؤلاء السحرة وقفوا بوجه الأنبياء وحاربوهم كما هو واضح من قصة سحرة فرعون ،

__________________

(١) راجع كتاب جواهر الكلام ، ج ٤١ ، ص ٤٠٠ ؛ وكتاب وسائل الشيعة ، أبواب حدّ السحق والقيادة ، الباب ٥ ، ج ١٨ ، ص ٤٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ج ١٨ ، ص ٥٧٦.

(٣) وهذا البحث تارة عنون في المكاسب المحرمة في مبحث تحريم السحر ، وتارة في كتاب الحدود ، في مبحث حدِّ الساحر.

١٧١

وأحياناً يقوم هؤلاء السحرة بدور إغواء الناس البسطاء فيحرفونهم عن الاعتقاد بمعاجز الأنبياء ، وهذا ذنب عظيم يستوجب عقاباً شديداً.

* * *

كان ذلك ، فهرسة للحدود الإلهيّة في الإسلام ، الهدف منها تطهير المجتمع والحدّ من انتشار الفساد والمنكرات وضياع الأمن بين الناس.

ومضافاً إلى هذهِ الحدود ، وكما أشرنا سابقاً ، فإنّ بعض العقوبات الاخرى مقررة في الإسلام ، سمّاها الفقهاء «التعزيرات» (والتعزير ياتي بمعنى المنع ، التأديب ، التعظيم والاحترام والنصرة أيضاً كما بينا ذلك سابقاً ، وكل هذهِ المفاهيم تجتمع مع التعزير بمعنى «العقاب» ، وذلك لأنّ التعزير يمنع المجرم والمذنب من الذنب ، ويؤدبه ، ويبعث على احترامه وتعظيمه في المستقبل ، وينصره على هواه ونفسه الأمارة).

قلنا بان «التعزيرات» هي العقوبات التي تجري في الذنوب التي لم يرد فيها حدُّ معين.

وتوضيح ذلك :

إنّ كل قانون لابدّ من ضامن لتنفيذه ، بمعنى السند الّذي يوجد دافعاً عقلائياً لاجرائه ، فإن خلى القانون من هذا السند تبدل إلى توصية أخلاقيّة بحتة ، وخرج عن النطاق العملي.

صحيح أنّ الدوافع الإلهيّة والثواب والعقاب يوم القيامة ، من الدوافع القوية عند المؤمنين ، ولكن الإسلام لم يكتف بهذهِ الحوافز الاخروية وإن كان يحترمها ويقدسها ، ولكنه أضاف إليها دوافع دنيوية ومادية ، ليعمل من كان ضعيف الإيمان والذين لا تؤثر فيهم الوعود الاخروية كثيراً ، على رعاية تلك القوانين خوفاً من العقاب على أقل التقادير ، كي لا يتحول المجتمع إلى ميدان يجول ويصول فيه المفسدون الفاسدون عديمو أو ضعيفو الإيمان.

ولما كانت الذنوب يختلف بعضها عن البعض الآخر ، كما ويختلف المرتكبون لها من جهة الاطلاع والعمر والسوابق الاخلاقية ، وكذا المكان والزمان ، وقدرة تحمل تلك

١٧٢

العقوبات ، اختلفت التعزيرات أيضاً ، فأوكل تعيينُها إلى نظر القاضي فيراعي فيه الشروط بدّقة من كل الجهات فيعين ما يراه مناسباً للمجرم.

وفي الحقيقة ، إنّ كل العقوبات الإسلامية متفاوتة ـ ماعدا بعض الموارد التي ادرجت في الحدود المعينة ، فيؤثر في التعزير ومقداره أحوال المجرم وكيفية وكميّة الذنب الذي يرتكبه ، ولذا فتعيين مقدار التعزير موكول إلى نظر القاضي.

عدّة نكات مهمّة في التعزيرات الإسلامية :

١ ـ وحدة القرار

إنّ حرّية القضاة في تعيين مقدار التعزير وإن كانت امتيازاً ونقطة قوة مضيئة تمنحهم إمكان تعيين التعزيرات المناسبة للمجرمين كلٌ بحسب جرمه ، ولكن هذه المسألة تصير سبباً أحياناً في اختلاف القضاة في المناطق المختلفة في كمية التعزيرات للجرم الواحد ، وهذا الأمر لم يكن يشكل مشكلة في الزمن الماضي حيث كانت المناطق متصلة بعضها عن البعض الآخر ، ولكن اليوم وبالالتفات إلى الاتصالات السريعة والواسعة بين المناطق المختلفة ، يشكل ذلك مشكلة حقيقية.

ولهذا الدليل ، فلا مانع من أن يجلس أهل النظر والقضاة البارعون في جلسات مشتركة لتعيين حدود للتعزيرات ، ولكن ينبغي أن لا تكون تلك التعزيرات معينة وإنّما كحدٍ أعلى وحدٍّ أدنى كالحبس والغرامة المالية والعقوبات الإسلامية وامثال ذلك لتكون التعزيرات على نسق واحد في المناطق المختلفة.

وهذا الأمر ينسجم تماماً مع الموازين الإسلامية ، وعلى أقل تقدير يمكن الاستدلال على مشروعيته بالعناوين الثانوية.

٢ ـ عدم اقتصار التعزير على الجلد

التعزير ـ وكما أسلفنا ـ له معنى واسع يشمل كل ردع وتأديب ، ولا يوجد أي دليل على

١٧٣

أنّ هذا المعنى قد تغيّر في الشرع الإسلامي المقدس أو في اصطلاح الفقهاء (وبالاصطلاح ليس له حقيقة شرعية أو متشرعية) ، كما أنّه لم ينقل إلى معنى جديد في اصطلاح الفقهاء ، وإن كان كثير من الفقهاء وتبعاً للروايات اعتمدوا على مصداق خاص منه (الجلد) ، ولكن بيان هذا المصداق المعروف لا يُعدُّ دليلاً على انحصار مفهوم التعزير بالجلد ، وإن توهّم بعضٌ أنّ التعزير مساوٍ للضرب والجلد.

ولكن التحقيق والتدقيق في كلمات الفقهاء يثبت بطلان هذا التصور.

يقول العلّامة الحلّي ـ قدس سرّهُ الشريف ـ في «التحرير» بعد أن يبيّن أنّ التعزير ورد للجنايات والذنوب التي لم يرد فيها حدٌّ معين :

«وَهُوَ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَالحَبْسِ وَالتُّوبِيخِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ وَلا جَرْحٍ وَلا أَخْذِ مالٍ» (١).

ويقول في كتاب «الْفقه على المذاهب الأربعة» بعد نقل كلام «ابن القَيِّم» وإن ظاهر عبارته أن الحاكم له تعزير المجرمين بأي طريقة يرى فيها الصلاح ـ سواءً الحبس أو الضرب ـ : «وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ التَّعزِيرَ باب واسع يُمْكِنُ لِلْحاكِمِ أنْ يَقْضي بِه عَلَى كُلِّ الْجرائم الَّتي لَمْ يَضَعِ الشّارِعُ لَها حدّاً أَوْ كَفّارَةً عَلَى أنْ يَضَعَ العقُوبَة المُناسِبَةَ لكلِّ بَيئةٍ ولكلِّ جَرِيْمَةِ مِنْ سَجْنٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ نَفيٍ أَوْ تَوبيخٍ أَوْ غَيْرِ ذلِك» (٢).

هذهِ مقتطفات من كلمات فقهاء الخاصة والعامة.

ومضافاً إلى ذلك ، فإنّ روايات كثيرة وصلتنا في ابواب مختلفة من الفقه ، تدلُّ بوضوح على سعة معنى مفهوم ومصداق التعزير يطول المقام بذكرها هنا ، ومن رغب في الوقوف عليها لابدَّ له من مراجعة بحث التعزير في كتاب الحدود والتعزيرات.

ومن مجموع ماورد في كتب «اللغة» و «كلمات الفقهاء» و «الروايات الإسلامية» في أبواب الفقه المختلفة ، يمكن الاستنتاج بوضوح أن الحاكم الإسلامي غير مقيد بانتخاب نوعٍ معين من أنواع التعزير ، والموارد ادناه كلها من جملة التعزيرات ، بشرط رعاية حال المجرم

__________________

(١) التحرير ، ج ٢ ، ص ٢٣٩.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ٥ ، ص ٤٠٠.

١٧٤

والمحيط الاجتماعي وكمية وكيفية الذنب وسائر الجهات :

١ ـ الضرب باشكال مختلفة.

٢ ـ الحبس بكيفية وكمية متفاوتة.

٣ ـ الغرامة المالية ، أي أخذ مقدار من المال ، وتوقيف أموال المجرم لمدة معينة (كحجز سيارات المتخلفين عن قوانين المرور).

٤ ـ التوبيخ العلني والسرّي.

٥ ـ النفي إلى منطقة اخرى لمدّة طويلة أو قصيرة ، وترك المراودة ، أو ترك التعامل مع المجرمين.

٦ ـ المنع من السفر إلى خارج البلدة ، أو الدولة ، أو حتى الإقامة الجبرية في المنزل.

٧ ـ المنع من التكسب والاشتغال لمدّة معينة.

٨ ـ حرمانه من العمل في بعض المناصب ، والحقوق الاجتماعية.

٩ ـ التشهير بالمجرم عن طريق وسائل الاعلام بشكل محدود أو موسع.

١٠ ـ حرمانه من بعض الامتيازات ، كمنعه من ارتداء زي الروحانيين ، بالنسبة إلى الأفراد الذين يرتدون ذلك الزي.

وامور اخرى يمكنها أن تردع المتخلفين والمجرمين ، وتحدَّ من تكرار تلك الذنوب من قبلهم ومن ارتكابها من قبل الآخرين.

٣ ـ معنى تخيير الحاكم في التعزيرات

هناك كلام طويل بين الفقهاء في مقدار التعزيرات التي يُخيّر فيها القاضي ، ولكنهم متفقون على أن التعزير لابدّ أن يكون اقلَّ من الحدِّ وإن اختلفوا في الحدِّ الذي لابدّ أن يكون التعزير أقلَّ منه ، وهل هو حدُّ الزنا ، أم أقل الحدود ، أم أنّه يتناسب مع الذنب المرتكب؟

وما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أنّ المراد من تخيير القاضى في انتخاب كمية وكيفية التعزير ، لا يعنى أنّه يتبع ميوله الشخصية في ذلك ، بل المراد في التخيير هو فسح المجال

١٧٥

للقاضي لكي يأخذ بنظر الاعتبار مناسبات «الجرم» و «الجريمة» من كل الجهات ، فالقاضي وإن كان ظاهراً مخيرٌ في تعيين التعزير إلّاأنّه في الحقيقة ليس مخيراً ، لأنّه يُعيّن لكل جرم مقداراً من العقوبة يتناسب مع ذلك الجرم ، بمعنى أنّ الجرم إذا كان يقتضي الحبس لمدة شهر من الزمان ، أو عشرين جلدة فلا يمكنه زيادة تلك المدّة أو عدد الجلدات حتى يوماً واحداً أو جلدة واحدة ، أو فلساً واحداً في الغرامة المالية.

٤ ـ التعزيرات في القرآن الكريم

ذكرت في القرآن الكريم بعض موارد التعزير يمكن أن تكون نموذجاً للحكم الكلي الإسلامي :

أ) قصة المتخلفين عن غزوة تبوك

وتوضيحه : نقرأ في قوله تعالى :

(وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى اذَا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الارْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا انْ لَّامَلْجَأَ مِنَ اللهِ الَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا انَّ اللهَ هُوَ التَّوابُ الرَّحِيمُ). (التوبة / ١١٨)

فقد بُيِّنَ في هذه الآية بنحو الإشارة ، وفي الروايات والتفاسير بنحو التفصيل ، التعزير العجيب الذي مارسه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق أولئك النفر الثلاثة الذين تخلفّوا عن غزوة تبوك (والذين لم يأتمروا بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتركوا الجهاد بدون عذر وجيه).

وهؤلاء الثلاثة طبقاً لتصريح بعض الروايات هم «كعب بن مالك» و «مرارة بن ربيع» و «هلال بن اميّه» ، ومع أنّهم لم يكونوا من المنافقين ولكنهم تخاذلوا عن الجهاد في تبوك ، ثم انتبهوا إلى أنّهم ارتكبوا ذنباً عظيماً ، وندموا على ذلك.

وعندما رجع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة تبوك ، جاء هؤلاء الثلاثة إليه وقدموا الاعتذار ، ولكن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكِّلمْهُمْ وأمر المسلمين بأن لا يكلّموهم ، فلم يكلّمهم أحدٌ

١٧٦

وقاطعهم الناس حتى أنّ نساءهم وأولادهم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلبوا منه الرخصة في الانفصال عنهم ، فلم يسمح لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالانفصال التامِّ عنهم وإنّما أمرهم بعدم مقاربتهم.

وعندما وجَدَ هؤلاء المتخلفون أنفسهم في حصار اجتماعي رهيب وضاقت عليهم الآفاق على سعتها اضطروا إلى ترك «المدينة» هرباً من الفضيحة والذلّ ، والتجأوا إلى الجبال في أطراف المدينة ، فكان أهلوهم يأتونهم بالطعام ولكن كانوا لا يكلمّونهم حتى بكلمة واحدة!

وحينئذٍ قال أحدُهم لصاحبيه : والآن وقد قاطعنا الناس تعالوا ليقاطع أحدُنا الآخر ، فلعلَّ الله يقبل توبتنا!

وتحقق هذا الاقتراح عملياً ، وبعد خمسين يوماً من التضرع والتوبة إلى الله ، قبلت توبتهم ونزلت الآية الآنفة الذكر (١).

وبمختصر تدقيق في هذه الحادثة التاريخية العجيبة ، يتضح لنا أنّ هذا الأمر في الواقع نوع مهمّ من التعزير ، وإنّه سجن معنوي شديد مقترن بالتحقير والتشهير والطرد المؤقت من المجتمع ، وقد ترك أثراً بليغاً في نفوس المسلمين وفي نفوس هؤلاء المجرمين الثلاثة ، وصار سبباً في ترك مثل هذهِ الذنوب في المستقبل.

وهذهِ القصة شاهد حيٌّ آخر على عمومية مفهوم التعزير وعدم اختصاصه بالجلد بالسياط ، وتدلّ أيضاً على أنّ بعض أنواع التعزيرات لها تأثير أقوى وأبلغ بكثير من الجلد بالسوط ، وإنّه يكون موجباً للنهي عن المنكر بشكل أوسع في المجتمع.

ب) قصة ثعلبة

والمورد الآخر هو قصة أحد الأنصار (ثعلبة بن حاطب) والتي ورد ذكرها في الآيات وهي قوله تعالى :

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ؛ وتفسير روح الجنان ، ذيل الآية مورد البحث ؛ وسفينة البحار.

١٧٧

(وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَولَّوْا وَّهُمّ مُعرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوْهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الغُيُوبِ). (التوبة / ٧٥ ـ ٧٨)

يعتقد كثير من المفسرين أنّ هذهِ الآيات نزلت في شأن أحد الأنصار واسمه «ثعلبة بن حاطب» ، لقد كان هذا الرجل فقيراً ، يأتي إلى المسجد دائماً ويطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يدعو الله أن يعطيه مالاً كثيراً ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول له : «قليلٌ تؤدّي شُكْرَهُ خيرٌ من كثير لا تُطيقُهُ» ، ولكن ثعلبة كان يصرُّ ويلِحُّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويُقسم بأنّه سيؤدّي كل ما عليه من حقوق فيما لو أعطاه الله المال الكثير ، فاضطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أن يدعو الله أن يعطيه مالاً كثيراً.

لم تمض فترة طويلة إلّاومات ابن عمّ ثعلبة وكان غنيّاً ، فورث ثعلبة ثروة طائلة ، وكانت ثروته تزداد يوماً بعد آخر ، فصار يملك قطعاناً من الأنعام.

وعندما حان موسم الزكاة بعث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الجباة لجمع الزكوات ، فلم يمتنع ثعلبة الذي ذاق لتوّه لذَّة المال عن دفع الحق الإلهي فحسب ، بلْ أخذ يُشكل على أصل تشريع الزكاة أيضاً! وادّعى أنّها «شبيه الجزية» التي تؤخذ من أهل الكتاب! (عاد مأمور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله صفر اليدين ، فنزلت الآيات المذكورة أعلاه في ذمِّ ثعلبة وبخله ونفاقه ونقضه العهد!).

نزول هذهِ الآيات بنفسه يُعدُّ تعزيراً شديداً في حقه ، لأنّها فضحت افعاله القبيحة.

وطبقاً لبعض الروايات فإنّ ثعلبة ومن أجل استعادة حيثيته وجبر هذهِ الخسارة الاجتماعية الفادحة ، جاء بنفسه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعلن عن استعداده لدفع زكاة أمواله ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رفض قبولها منه!

رَحَل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جوار ربّه ، فجاء ثعلبة ثانية إلى الخليفة الأول ليؤدّي زكاة ماله ، فلم يقبلها منه الخليفة الأول!

وفي زمن الخليفة الثاني والثالث جاء ثعلبة ليدفع زكاة أمواله ، فكان جواب كل منهما له

١٧٨

هو : لا نقبل منك لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يقبل منك ، ومات ثعلبة في آخر أيّام خلافة عثمان (١).

ففي الآيات الآنفة الذكر ، وإن لم يُصرَّح بمسألة التعزير ، ولكن نفس هذا الأمر (نزول الآيات في ذم فعل ثعلبة وفضحه ، ومعاملة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء لثعلبة بتلك الكيفية) ، يعتبر من مصاديق التعزير ، وقد ترك ذلك أثراً عميقاً في نفسه ونفوس الآخرين ، ولا يراد من التعزير إلّاردع المذنبين سواءً بالعقاب المادي أو المعنوي.

ج) آية الايذاء

وكما أشرنا سابقاً ، فإنّ القرآن قد أمر بمعاقبة الرجال والنساء (الذين لا أزواج لهم) ويرتكبون الزنا ، حيث يقول تعالى : (والَّذَانِ يَاْتِيَانِهَا مِنكُم فَآذُوهُمَا ...). (النساء / ١٦)

فإن كان المراد من الايذاء هنا هو نفس الحدّ الشرعي الوارد في الآية ٢ من سورة النور : (الزَّانِيَةُ والزَّانى ..) ، فحينئذٍ لا علاقة له ببحث التعزيرات بل يدخل في بحث الحدود ، ولكن متى ما قلنا أنّ المنظور من «الايذاء» هو العقاب بنحو مطلق والذي ليس له حدُّ وحدود معينة مذكورة وإنّه يرتبط بما قبل نزول حدِّ الزِنا ـ كما قاله جمع من المفسرين ـ فإنّه حينئذٍ سيرجع إلى التعزيرات ، لأنّه عقاب غير معين في حق الزناة غير المحصنين كان موجوداً في الإسلام قبل تشريع حدّ الزنا.

وقد ذكر المرحوم «الطبرسي» في مجمع البيان معنيين لجملة «آذوهما» كلاهما يتلائم مع التعزيرات ، الأول : هو أنّ المراد منها توبيخهما بالألفاظ وضربهما بالنعل! والثاني : هو أنّ المراد منها توبيخهما بالكلام فقط (٢).

د) آية النشوز

نلاحظ في القرآن الكريم حكماً يرتبط بالنساء الناشزات ، ويعتبر هو الآخر من مصاديق

__________________

(١) القسم الأول من هذهِ الرواية نقله كثير من المفسرين ، والقسم الأخير منها ذكر في تفسير الكبير ، ج ١٦ ص ١٣٨ ؛ وتفسير روح الجنان ، ج ٦ ، ص ٧٤.

(٢) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٢١.

١٧٩

التعزيرات ، مع أنّ الأزواج قد امروا بمراعاة الاحتياط في إجراء هذا الحكم ، يقول عزوجل : (وَالَّلاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَانْ اطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً). (النساء / ٣٤)

والمراد بالناشزات أولئك النسوة اللاتي يمتنعن عن أداء وظائف الزوجية ، واللاتي تظهر فيهنَّ علامات عدم الوئام المختلفة (١).

ففي الآية أعلاه ، ذكرت ثلاثة أنواع من التعزير لمثل هؤلاء النسوة ، الأول : الوعظ والنصيحة (ويجب أن لا ننسى بأنّ الوعظ في كل مورد يعدُّ من مراتب التعزير ، لما له من الأثر الرادع) ، الثاني : الهجر والابتعاد عنهُنَّ في المضاجِع ، الثالث : العقاب البدني ، وكل من المرحلتين الثانية والثالثة إنّما تجري مع عدم نجاح المرحلة السابقة لها في التأثير.

فإن سُئلنا : هل يجري ذلك في الرجل إذا نشز وطغى؟

قلنا في الجواب : نعم! ولكن لما كان مثل هذهِ العقوبات خارجة عن طاقة النساء ، فإنّها أوكلت إلى الحاكم الشرعي ، فيكلف الحاكم بمعاقبة الرجال الناشزين بوعظهم ونصيحتهم أو ضربهم في موارده.

وقصة الرجل الذي أجحف بحق زوجته ولم يقبل الرضوخ إلى الحق فأجبره الإمام عليّ عليه‌السلام على التسليم بكل الطرق حتى اضطر إلى تهديده بالسيف ، معروفة.

ومن هنا يتضح الجواب عن السؤال الذي قد يخطر في أذهان الكثير من الناس عند ذكر هذهِ الآية وهو : كيف يمكن أن يسمح الإسلام للرجال بضرب نسائهم ، في حين أنّ هذا الأمر يسيء إلى كرامة الإنسان وخصوصاً شريك الحياة ، وذلك :

«أولاً» : أنّ المراد من الضرب والعقاب البدني هنا ليس أن يأخذ الرجل السوط وينهال على زوجته ضرباً حتى يختلط لحمها بدمها ، ولا أن يضربها بكفّه على وجهها حتى يسودّ وجهها ، فإنّ كل ذلك غير جائز في شرع الإسلام المقدس ، بل وعليه الدّية لو فعل ذلك ، بل

__________________

(١) «نشوز» من مادة «نشز» على وزن «نذر» وفي الأصل بمعنى الأرض المرتفعة ، وإذا اطلق على أحد الزوجين كان معناه طغيان ذلك الزوج وامتناعه عن أداء وظيفته تجاه زوجه.

١٨٠