نفحات القرآن - ج ١٠

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ١٠

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-004-1
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٤٧

المراد هو الضرب الخفيف الذي لا يؤدّي إلى الجرح ولا إلى احمرار واسوداد الجسم ، حتى قال بعض المفسرين في توضيح الآية : ضرب كضرب اليد بالسواك! أو ما شابه ذلك ممّا يؤدّي إلى ايلامها ، ولكن ينبغي أن لا يكون شديداً فيجرحها.

«ثانياً» : يجب أن لا ننسى أنّ النساء على أربعة أقسام :

القسم الأول : النساءٌ المؤمنات الصالحات ، الواقفات على مسؤوليتهنَّ في الأسرة وذلك على أثر اللياقات الذاتية والتربوية المكتسبة عندهُنَّ ، ومثل هؤلاء النسوة لابدّ من احترامهن من قبل أزواجهن على أتمِّ وجه ، وهُنَّ مصداق الآية : (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمعَرُوفِ). (النساء / ١٩)

والقسم الثاني : أولئك النسوة اللاتي يتخلفن عن أداء وظائفهنَّ في محيط الأسرة ، فيتسبَبْنَ في ايذاء أزواجهنَّ ، ولكن تخلفهن ليس عميقاً وفاحشاً ، بل يمكن أن يتأثرن بالوعظ والنصيحة خوفاً من الله ، ويرجعن إلى الحق لتقواهُنَّ ، فهؤلاء مشمولات بقوله : (فعِظوهُنَّ) في الآية المذكورة.

والقسم الثالث : النسوة اللاتي يكون نشوزهُنَّ عميقاً ، ولا ينفع معهن الوعظ ولكن ولأرواحهنَّ الشفافة يؤثر فيهن الهجر ، فانّهن لا يرغبن إلّافي العيش بصلح وصفاء ، فهؤلاء يشملهنّ : (وَاهجُرُوهُنَّ فىِ المَضَاجِعِ). (النساء / ٣٤)

فيبقى (القسم الرابع :) فقط من النساء اللاتي يتمردنَّ على أزواجهن ويمتنعن عن أداء وظائفهنَّ ، ويتمادَين في غيهن وعنادهنَّ ، ولجاجتهنَّ ، فلا تقوى عندهن فتمنعهن عن ذلك ، ولا وعظ ينفع ويؤثر فيهن ، ولا هجر في مضجع يكدِّر أرواحهن ، فلا سبيل إلّاالشدّة ، ومن هنا فإنّ الإسلام في هذا المورد فقط يجيز للزوج أن يؤدب زوجته بالضرب الخفيف ويعزّرها ، وهذا الأمر رائج حتى في المجتمعات الشرقية والغربية المعاصرة ، حتى أنّ المعترضين على هذا القانون الإسلامي يمارسون ذلك بأنفسهم أيضاً في مثل هذهِ الظروف والحالات ، فمع تلك الظروف التي بيّناها لا يُعدُّ هذا الأمر عجيباً لا يتلائم مع احترام كرامة الإنسان.

١٨١

«ثالثاً» : هذا الأمر لا يختص بالنساء ، بل يشمل الرجال إذا ما نشزوا وامتنعوا عن أداء وظائف الزوجية ، وبنفس تلك المراحل المذكورة ، ففي البدء لابدّ من وعظهم ونصيحتهم ، فإن لم يؤثر ذلك ، فالتعزير المعنوي كالهجر وعدم الاكتراث بهم في المجتمع حتى يرجعوا عن غيهّم ، فإن لم يؤثر ذلك ، فلابدّ من اتباع سبيل الضرب وأمثاله من العقوبات ، ولكن وكما قلنا سابقاً : بما أنّ هذا العمل لايمكن للنساء القيام به وأنّ سلطة الرجل تحول دونه ، أرجع الأمر إلى الحاكم الشرعي فهو المكلف بايقاف هؤلاء الرجال عند حدّهم.

وبالالتفات إلى النكات الثلاثة السابقة ، لا نظن أن منصفاً يعترض على هذا الحكم ويدعي أنّه خلاف كرامة الإنسان.

ولابدّ من التنبيه إلى أنّه ورد في ذيل هذهِ الأحكام الثلاثة مباشرة قوله تعالى : (فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً). (النساء / ٣٤)

* * *

١٨٢

أحكام السجن في الإسلام

تمهيد :

كما ذكرنا في بحث التعزيرات ، فإنّ «السجن» من أنواع «التعزيرات» والوسائل الرادعة للمتخلفين والمجرمين ، مضافاً إلى أنّه لا مفر من الحبس ، والتوقيف في بعض الأحيان وذلك للحد من فرار المتهمين ، أو الضغط والتضييق على المدينين لاجبارهم على أداء ديونهم ، ولهذا فإنّ أحكام السجن لها موقع خاص في الفقه الإسلامي ، وسنشير هنا ببعض الإشارات لتكميل البحث المرتبط بالحكومة الإسلامية ، وإن كان أداء حق هذا البحث يتطلب تأليف كتاب أو كتب مستقلة ، وبعض المحققين قد كتب أيضاً في هذا المجال بعض الكتب (١).

١ ـ تأريخ السجن

لا يتأتى لأحد أن يحدد تاريخاً دقيقاً لتاسيس أول سجن في تاريخ البشرية ، لأنّ هذهِ المسألة تعود تقريباً إلى بدايات الحياة الاجتماعية للبشرية ، ومنذ ذلك اليوم الذي وجدت فيه الحكومات فالسجون كانت موجودة ، بل وحتى غير الحكام كالملّاك الجبّارين والاقطاعيين الظالمين ، قد اعدوا بعض الأمكنة لسجن عبيدهم ورعيتهم ، حتى أنّ بعضهم كان يحبسهم في اصطبلات الحيوانات!

وأمّا في خصوص تاريخ تأسيس السجن في الإسلام ، فقد اتفق المؤرخون تقريباً على

__________________

(١) من جملتها كتاب «أحكام السجون» للدكتور الشيخ أحمد الوائلي ، وهو أحد المصادر التي اعتمدنا عليها في بحثنا هذا.

١٨٣

أنّه لم يكن في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سجن بشكل رسمي ، لا لأنَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن يُجوِّز ذلك ، بل لعدم اتساع المجتمع حينذاك وخاصة في بداية الإسلام حيث كان الناس يلتزمون بالقوانين الإلهيّة ، وقلّما كان يوجد شخص متخلف عن تلك القوانين.

ولذا لا نرى في القرآن الكريم عبارة أو جملة واحدة تدل على وجود السجن في ذلك العصر مطلقاً.

ولكن وفي نفس الوقت كانوا يستعينون بطرق اخرى بالنسبة إلى المجرمين الذين لابدّ من توقيفهم حتى يتعين التكليف فيهم ، أو المَدينين الذين يمتنعون عن أداء ديونهم مع امتلاكهم المال اللازم لذلك ، أو الأسرى الذين يؤسرون في حروب المسلمين ، ومن جملة تلك الطرق :

١ ـ كان المجرمون يحبسون أحياناً في المسجد ، ولّما لم يكن في ذلك الوقت قفلٌ وقيدٌ ونحو ذلك ، كانوا يوكلون شخصاً لمراقبة ذلك السجين كي لا يفَّر من المسجد ، أو أنّهم كانوا يخطُّون دائرة حوله ويوصونه بعدم اجتياز ذلك الخط المستدير ، وإلّا فهو مسؤول عن ذلك! والمتهم أيضاً ولأسباب اجتماعية خاصة ولأجل أن لا يتضاعف عقابه ، لم يكن يتخطى ذلك الخط المرسوم حوله ، ولعلَّ التعبير «بالترسيم» في بعض الروايات إشارة إلى هذا المطلب.

٢ ـ الحبس في دهليز المنازل إذ إنّ أكثر المنازل كان لها دهليز طويل بين باب الدار وباحتها وفي أكثر الأحيان كان لها باب يفصلها عن باحة الدار ، فلو اغلقت البابان تحوّل الدهليز عملياً إلى سجن.

٣ ـ نفس المنازل كانت نوعاً آخر من السجون ، وكما ورد في القرآن الكريم الأمر بحبس النساء في المنازل ، يقول تعالى : (وَالَّلَاتِى يَأْتينَ الْفَاحِشَةَ مِن نَّسَائِكُمْ فَاستَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ اربَعَةً مِّنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَامْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمُوتُ اوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً). (النساء / ١٥)

ولا يخفى أنّ هذا الحكم كان قبل نزول حدِّ الزنا ، وعندما نزل ، نسخ الحكم المذكور.

١٨٤

٤ ـ «الملازمة» وهي شكل آخر من السجون ، وتكون بهذا الترتيب مثلاً ، بأن يلازم الدائنُ المدين المتمكن ولا ينفصل عنه حتى يأخذ حقه.

٥ ـ مسألة «استرقاق الأسرى» تعتبر أيضاً قائمة مقام السجن ، وقد وردت أحكامها مفصلاً في الفقه الإسلامي.

هذه أشكال بدائية وبسيطة للسجون ، وقد تغيرت وتعقّدت بمرور الزمن واتساع المجتمع الإسلامي وتعقيد الحياة وزيادة عدد المجرمين ، وأصبح السجن على شكل بناء مخصص ، وإن كان السجن موجوداً وبشكل كامل في بلدانٍ اخرى وقبل قرون من الزمن.

* * *

أولُ سجن أُسّس زمن عمر بن الخطاب :

على الرغم من اصرار بعض المؤرخين على عدم وجود سجن بمعنى المحل الخاص لحجز المجرمين في زمن الخلفاء الثلاثة الأُوَل ، وإن السجن بُني في زمن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، إلّاأنّ هذا الادّعاء مخالف لكثير من الروايات التي ورد فيها أنّ «عمر» كان أول من أقدم على تأسيس السجن في الإسلام.

والشاهد على هذا الأمر هو ما ذكره «ابن همان» في كتاب «شرح فتح القدير» المصنف في الفقه الحنفي حيث يقول :

«لم يكن السجن موجوداً في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا زمن خلافة أبي بكر ، بل كان المجرمون يُحجزون في المسجد أو في دهليز المنازل ، حتى جاء «عمر» فاشترى بيتاً في مكة بأربعة آلاف درهم وجعله سجناً (١).

وقد ذكر هذا المطلب في كتب أخرى أيضاً ككتاب «النظم الإسلامية» وكتاب «الجنبات المتحدة بين القانون والشريعة» ، فقد صرّح هؤلاء أنّ «عمر» اشترى تلك الدار من «صفوان بن أميّة» أحد زعماء مكة ، وقد ذكر هذا المطلب أيضاً في كتاب «المهذب» لأبي إسحاق

__________________

(١) شرح فتح القدير ، ج ٥ ، ص ٤٧١.

١٨٥

الشيرازي ، المصنف في الفقه الشافعي ، وأنّ عمر اشترى تلك الدار وبدّلها إلى سجن (١).

ومن هنا نجد أنّ بعض الشعراء في زمن الخليفة الثاني قد ضمنوا أشعارهم ببعض الأبيات التي لم ترق للخليفة أو أنّها كانت مخالفة للشرع فكان عمر يأمر بحبسهم في تلك السجون ، ولذا نظم بعضهم بعض الأبيات معتذراً ومبيناً براءته من التهمة ، ومن مجموع هذه الأمور يتضح الشاهد الحي على وجود السجن في زمن خلافة عمر.

ومن جملة هؤلاء الشعراء ، «الحطيئة» الذي حبسه عمر فانشد هذين البيتين وأرسلهما إلى عمر :

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

حُمرِ الحواصِل لا ماءٌ ولا شجرُ!

ألْقَيتَ كاسِبَهُمْ في قَعرِ مُظلمةٍ

فارحَمْ عليك سلامُ الله يا عُمَرُ!

ومن تعبيره «قعر مظلمة» بالخصوص يستفاد أنّ ذلك السجن كان عميقاً ومظلماً فكأنّه كان طامورة.

وهناك قرائن اخرى تدل على وجود مثل هذا السجن في زمن عمر ، إذ مع اتساع رقعة العالم الإسلامي يزداد عدد الجرائم والمجرمين لا محالة ، فلا يمكن تصور عدم وجود سجن ومحبس للمجرمين.

السجن في زمن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

والوجه الوحيد الذي يبقى للجمع بين كلام أولئك الذين نفوا وجود السجن في زمن عمر وبين كلام أولئك الذين يصرّون على وجوده هو أنّ عمر لم يقدم على بناء السجن وإنّما اكتفى بشراء دار «صفوان بن أميّة» بأربعة آلاف درهم واستفاد منه في هذا المضمار.

وأمّا في عصر أمير المؤمنين علي عليه‌السلام فإنّه أقدم شخصياً على بناء السجن (لكي تراعى المسائل الإنسانية بشكل أفضل في حق المسجونين ، وللحِّد من فرارهم).

والظريف في هذا المقام هو أنّ التواريخ نقلت أنّ الإمام عليه‌السلام بنى أولَّ سجن من «البواري»

__________________

(١) المهذب ، ج ٢ ، ص ٢٩٤.

١٨٦

لتوفير الاضاءة والتهوية الكافيتين وسمّاه «النافع» (ولعلّ هذه التسمية لأنّ الحبس كان من أجل تربية المجرمين وإصلاحهم) ، ولكن وللاسف فإنّ بعض المجرمين استغلَّ شفقة الإمام عليه‌السلام وأساء الاستفادة من هذا السجن ، فقام بعض اللصوص بثقب حائط ذلك السجن وهربوا منه ، فاضطر الإمام عليه‌السلام إلى بناء سجن محكم من الطين وسمّاه «المخيَّس».

وكما أشرنا آنفاً فإنّ الدولة الإسلامية كانت قد اتسعت رقعتها في زمن عمر بن الخطاب بشكل لا يمكن معه إدارة المجتمع دون وجود سجن للمجرمين ، والظاهر أنّ الاصرار على انكار هذا الموضوع يعود إلى الأوضاع السياسية والتوصيات القومية ، وإلّا فإنّ التاريخ يشهد هو الآخر على هذا الأمر مضافاً إلى قرائن الأوضاع والاحوال.

وعلى أيّة حال كان السجن في ذلك الوقت مجرد محلٍّ لحجز المجرمين والمدينين والسارقين وأمثال هؤلاء ، ولم يكن ذلك السجن محلاً للمخالفين السياسيين أبداً ، فلو صار وجودهم مضراً في المجتمع فإنّهم كانوا يرسلون إلى المنفى كما هو الحال في قضية أبي ذر الغفاري التي نقرأها في التاريخ ، حيث إنّ عثمان وحاشيته لم يتحملوا صراحة لسان أبي ذر الذي كان على الدوام يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فاضطروا إلى نفيه إلى أرض وعرة بلا ماء ولا كلأ باسم «الربذة» وبقي هناك إلى أن ودّع دار الفناء وانتقل إلى جوار ربّه ، ولكن سنرى أنّ السجن قد تغيّر جدّاً في عصر بني أمية وصار مقراً لاعتقال الخصوم السياسيين والمعارضين المؤمنين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

* * *

٢ ـ فلسفة وأقسام السجون

ينبع عشق الإنسان للحرية من عشقه الملتهب للتكامل والرقي ، ولا يمكن لأي موجود سجين أن يستمر في سيره التكاملي ، وحتى الحيوانات تتغرب في أقفاصها مهما تهيأت لها ظروف العيش في تلك الأقفاص ، فهي ترجح الحرية على أسر القفص وإن كانت الأخطار تهددها خارج القفص.

١٨٧

ولهذا ، فإنّ الحيوانات الاسيرة في الأقفاص لا تبدي أي مظهر من مظاهر الفرح والراحة كالتغريد واللعب إلّاإذا كانت قد ولدت في نفس تلك الأقفاص ولم تذق طعم الحرية.

وإذا كان ذلك غريزة كامنة في الحيوانات ، ففي الإنسان يتلاحم هذا الشعور العاطفي مع الإدراك العقلي ، فيطلب الإنسان بالدليل والبرهان حريته ، ولهذا الدليل نفسه يعتبر السجن وسلب الحرية منه نوعاً من أنواع العقاب الصعب والمُرِّ.

ولا شك في أنّ أكثر السجون على طول التاريخ كانت تعبر عن أبشع صور الظلم من قبل الطغاة والحاقدين للوصول إلى مقاصدهم الدنيئة اللامشروعة ، ولكن ذلك لا يمنع في أن يكون للسجن فلسفة وأهميّة واقعية ، وآثار إيجابية في إصلاح الأفراد ومحاربة الفساد الاجتماعي.

فالاعتقال وسلب الحرية ، يُعدُّ وسيلة ثقيلة للضغط على المسجونين لتحقيق أحد الامور العشرة التالية التي تشكل فلسفة الحبس.

١ ـ السجن الايذائي

هذا النوع من السجن يكون عادة للأشخاص الذين يرتكبون المخالفات ، فالسجن يسلبهم الحرية ليقفوا على قبح أفعالهم ، ويردعهم عن تكرارها في المستقبل ، ولكي يعتبر الآخرون بذلك. وهذا السجن موجود منذ القدم وحتى الآن ، وكل حكومة لها مثل هذا السجن (إلّا في بعض الموارد الاستثنائية).

٢ ـ السجن الإصلاحي

وهذا السجن يستفاد منه لحبس الأفراد الذين يعتادون على الامور السيئة (كالمعتادين على المخدرات) والذين لا ينفع معهم النصح والإرشاد ، فلا مهرب من حبسهم في هذا السجن وعزلهم عن المجتمع لمدّة قصيرة أو طويلة ، لإصلاحهم واجبارهم على ترك ما اعتادوا عليه.

١٨٨

٣ ـ السجن الاحتياطي

كأن تحدث حادثة مهمة كمقتل نفس محترمة ، ولم يُعرف القاتل ولكن يُتهم البعض بالقتل ، وحينئذٍ لابدّ من التحقيق للتعرف على القاتل ، ولمنع هروب المتهمين وعدم التمكن من القبض على القاتل بعد ثبوت الأدلة الكافية ، لابدّ من توقيف المتهمين فترة التحقيق المؤقتة ، فمن ثبتت براءته قدّم الاعتذار إليه وأُطلق سراحه ، ومن ثبت جُرمه عوقب بالعقاب الذي يستحقه.

وهذا النوع من السجون كالأنواع السابقة كان ولا يزال موجوداً في كل مكان تقريباً ، ومن الطبيعي أنّ التحقيقات لابدّ أن تتمّ على وجه السرعة ، إذ قد يكون المتهم بريئاً في الواقع ، فينبغي أن لا يبقى فترة طويلة في الحبس.

٤ ـ السجن التأديبي

وهذا السجن يُستفاد منه عادة في حق الأطفال الذين لا تشملهم القوانين ، والذين لو اطلق عنانهم لأساءوا استغلال الحرية الممنوحة لهم وسلكوا طريق الانحراف ، ومن هنا كان لابدّ من ايداعهم في مثل هذا السجن في مقابل ارتكابهم بعض الذنوب. ليتم تأديبهم وتربيتهم.

٥ ـ السجن السياسي

يطلق لفظ «السجين السياسي» على أولئك الأشخاص الذين يقومون بنشاطات سياسية معارضة لمصلحة المجتمع والنظام الحاكم ، وقد تكون تلك النشاطات أحياناً غير معارضة لمصلحة المجتمع ، بل قد تكون في مصلحته ولكنها مخالفة لمطامع الحكم المتسلط على رقاب أبناء المجتمع (كالسجناء السياسيين في أكثر البلاد هذا اليوم ، حيث يتمّ حبس هؤلاء الأفراد حتى لو كان الحق معهم).

٦ ـ السجن الاستحقاقي

ونقصد بالاستحقاق هنا ، أخذ الحق ، فمثلاً ، لشخص على آخر دينٌ يمتنع عن أدائه إليه

١٨٩

مع أنّه متمكن من الأداء ، فهنا قد يحبس المدين حتى يضطر إلى دفع ما عليه للدائن ، ولكن هنا لابدّ من الافراج عنه فوراً بمجرد أن يقبل دفع حق الدائن إليه ، لأنّ فلسفة الحبس تنتهي بهذا المقدار.

٧ ـ سجن الحفظ

وهذا السجن قد يوجد ولكن بندرة ، وهو مورد بعض الأشخاص الذين اشتد غضب الناس عليهم إلى درجة أنّ وجود هؤلاء الأشخاص في المجتمع يشكل خطراً على حياة الناس ، في حين أنّهم على فرض ارتكابهم ذنباً فإنّهم لا يستحقون الاعدام ، ومن هنا تضطر الدولة وهي الحافظة لمصالح الناس إلى نقل هؤلاء الأشخاص إلى سجن معين حتى تهدأ ثائرة المجتمع ضدهم ، ومتى ما عادت الأوضاع إلى حالتها الطبيعية اطلق سراح هؤلاء الأشخاص ، وكما قلنا فإنّ مثل هذا السجن نادر التحقق ، وقد تحققت مصاديقه في حالات الثورات والانتفاضات الشعبية والحركات الاجتماعية.

ما ذكرناه من الاقسام السبعة أعلاه ، فلسفة معقولة يمكن تصورها للسجن.

* * *

وفي قبال هذه الفلسفة المعقولة ، توجد أهداف ومبررات لا معقولة وظالمة كانت العامل الأصلي لكثير من السجون في دنيا الأمس واليوم ولا تزال ، ويمكن هنا ذكر عدّة أنواع منها :

١ ـ السجن الانتقامي

سجن ليس له هدف معقول اطلاقاً ، إلّاأنّ الجبّارين والظلمة والاقطاعيين وللانتقام من الاحرار والرعية حيث يحمل هؤلاء الجبّارون حقداً أعمى في قلوبهم على الناس ، فيلقون بهم في السجون ، وكم من شاهد من التاريخ أنّ بعض هؤلاء الناس يبقون في تلك السجون حتى يموتوا وتتهرأ أجسادهم؟

١٩٠

٢ ـ السجون المعدة لقمع التحرر

يحاول الجبّارون كسر روح المقاومة المعنوية أو الجسدية عند المناضلين الثائرين ضدهم ، فيلقون بهم في السجون لأجل ذلك ، وأحياناً يكون الحبس توأماً مع الاهانة والتعذيب الروحي والجسدي ، ومن الواضح أنّ الأفراد المقاومين الصامدين سيخرجون من هذه الحلبة سالمين غانمين ، بل يزدادوا أحياناً صلابة وتجربة وعزيمة كالفولاذ الذي يصهر في الحرارة فيصير أكثر صلابة ونقاءً ، ولكن قد يؤثر هذا السجن سلباً في بعض الأشخاص الضعفاء أو ممن هم في مستوى متوسط من الإيمان والعزيمة ، فنراهم بعد التحرر من السجن يغيرون مسيرحياتهم ويتركون نضالهم ، وقد ينحرف بعضهم ويعمل ضمن أجهزة القطاع الظالم ، وذلك للضغوط التي واجهوها في السجن.

٣ ـ السجن لعزل القيادة عن القاعدة

هذه السجون خاصة بقادة الدين والقادة السياسيين ، حيث إنّ الجبّارين وعندما يضيقون ذرعاً بجهاد هؤلاء يحاولون التفكيك بينهم وبين قواعدهم ومؤيديهم ، فيلقون بالقادة في السجون ، والملفت للنظر أنّ هذه السجون يكون لها في أكثر الموارد نتيجة معكوسة بحيث تؤدي إلى زيادة الانسجام والتآلف بين القواعد والقيادات ، فتعزر مكانة القادة في قلوب مؤيديهم ، وتزيد من جماهيريتهم.

٤ ـ السجن لرفع المضايقات

أحياناً يكون وجود العالم ، المخترع ، القائد ، أو أي فرد لائق ، مزاحماً لوجود الحكام الجبّارين ، فما يكون من الجبّارين إلّاأن يودعوا هؤلاء في السجون ليرتاحوا من مضايقاتهم ومزاحمتهم ، ويستمروا في تسلطهم وتجبّرهم دون مزاحم.

حتى أنّ التاريخ نقل لنا أنّ بعض الجبّارين قام بسجن أزواج نساء جميلات من دون ذنب سوى السيطرة على نسائهم!

١٩١

٥ ـ السجن بسبب النزاهة

ومن أعجب أنواع السجن على طول التاريخ ، السجن الذي يبتلى به بعض الأشخاص بسبب نزاهتهم وبراءتهم ، ولابدّ من الإلتفات إلى النزاهة والطهارة تعدُّ جُرماً في المحيط الملوث بالذنوب والآثام!! لأنّ ذلك يؤدّي إلى افشال مخططات هؤلاء الملوثين ، فكم من يوسفٍ على مرِّ التاريخ أودع السجن بذنب الطهر والعفة والرغبة عن الذنوب.

كما في يوسف الذي دخل السجن بسبب طهارته وعفته.

ومن الواضح أنّ مثل هذه السجون التي ليس لها أية فلسفة عقلية وشرعية خارجة عن موضوع بحثنا ، وإنّما أشرنا إليها للتوضيح والضرورة.

* * *

٣ ـ السجن من وجهة نظر القرآن الكريم

لا شك في أنّ كثيراً من الامور التي ذكرت في فلسفة السجن أمور معقولة ، وفي الواقع يعتبر السجن تبعاً لتلك الامور ضرورة اجتماعية ، سواء كان لمعاقبة المجرمين أو كان لإصلاحهم وتأديبهم ، أو كان لقطع خطرهم أو قطع جذور الفساد وغير ذلك من المسوغات ، وقد وردت إشارات عديدة لهذا المعنى في القرآن المجيد.

ولا يخفى أنّ الألفاظ التي تدل على مفهوم «السجن» كثيرة في لغة العرب وقد استعملت في القرآن والسنّة الشريفة ، وبعض تلك الألفاظ بشكل واضح الدلالة على هذا المعنى ، وبعضها قابل للبحث والنقاش.

ومن جملة المصطلحات ، لفظة «السجن» التي وردت في تسعة موارد في آيات القرآن الكريم في سورة يوسف بمناسبة حبس هذا النبي الكريم الطاهر «بنفسها أو بمشتقاتها». واستعملت في مورد واحدٍ في قصة فرعون في سورة الشعراء حيث خاطب فرعون موسى عليه‌السلام مهدداً ايّاه بالسجن وحكى هذا القول القرآن الكريم بقوله تعالى : (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ الَهاً غَيْرِى لَاجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ). (الشعراء / ٢٩)

فمن هذه التعبيرات يُستفاد أنّ السجن بمعناه الواقعي كان موجوداً في عصر موسى وفرعون ، وحتى قبل ذلك أي في زمن يوسف وعزيز مصر ، فكانوا يودعون المذنب والبريء

١٩٢

في السجن بحيث إنّ بعض السجناء كان يبقى سنوات عديدة حتى يأتي عليه النسيان.

والمصطلح الآخر هو «الحبس» الذي استعمل في القرآن الكريم في موردين ، ولكن ليس في معنى السجن ، وإنّما استعمل في هذا المعنى في الأحاديث الإسلامية كثيراً (١).

مصطلح «الإمساك» الذي استعمل في مورد واحد في القرآن المجيد بمعنى السجن ، وهو مورد النساء اللاتي يأتين الفاحشة ، وذلك قبل نزول حكم حدِّ الزنا (الجلد) ، وقد ورد هذا التعبير في الآية ١٥ من سورة النساء وسيأتي تفصيل الكلام عنه لاحقاً.

مصطلح «النفي» عن «الأرض» الذي ورد في الآية ٣٣ من سورة المائدة وفسّره البعض بالسجن.

وكذا مصطلح «الإرجاء» الذي ورد في سورة الأعراف الآية ١١١ في قصة موسى وفرعون ، حيث يعتقد البعض أنّه بمعنى السجن ، وذلك عندما اقترح ملأ فرعون عليه أن يرجيء موسى وأخاه هارون حتى يجمع السحرة ، قال تعالى : (قَالُوا ارْجِهْ وَاخَاهُ وَارسِلْ فِى الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ).

ولكن أغلب المفسرين لم يفسر الإرجاء بهذا المعنى ، بل قالوا إنّ معناه التأخير ، وبالالتفات إلى المعجزات التي جاء بها موسى أمام فرعون ، واستعداد فرعون لنزال السحرة مع موسى ، يستبعد جدّاً أن يكون فرعون قد حبس موسى وهارون عليهما‌السلام.

وعلى أيّة حال ، فإنّ المتيقن أنّه يوجد في القرآن المجيد مورد واحد على الأقل من موارد حكم السجن ، وكما أشرنا آنفاً فإنّه ذكر بعبارة «الإمساك» حيث يقول عزوجل : (وَالَّلاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسائِكُمْ فَاستَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَربَعَةً مِّنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَامْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوفَاهُنَّ الْمَوتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً). (النساء / ١٥)

والمعروف بين المفسرين هو أنّ هذه الآية ناظرة إلى عقاب النساء اللاتي يرتكبن الزنا ، قبل نزول حكم حدِّ الزنا وهنا ذكر حكمهن وهو السجن المؤبد ، وإن تبدل هذا الحكم فيما بعد إلى حكم الجلد أو الرجم.

__________________

(١) راجع كتاب ميزان الحكمة ج ٢ ص ٢٤٦ ـ ٢٥١ للاطلاع على تلك الأحاديث ، حيث ذكرت أبواب مختلفة فيمن يجوز حبسه ومن يحكم عليه بالحبس المؤبد وكذلك حقوق المحبوسين وموارد حرمة الحبس.

١٩٣

وجملة (أَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَى يَتَوفَاهُنَّ الْمَوتُ) ، وإن لم يذكر لفظ السجن فيها ، ولكن الإمساك في البيوت إلى آخر العمر أمرٌ شبيه بالسجن.

وهذا هو المورد الوحيد المتحقق في القرآن حول حكم السجن.

٤ ـ موارد السجن في الروايات الإسلامية

وردت في الروايات الإسلامية موارد متعددة للسجن المؤبد وغيره ، من جملتها :

١ ـ في مورد الإعانة على القتل

إذا أمسك شخص شخصاً آخر فقتله ثالث ، فحكم القاتل هو الإعدام ، وحكم المعاون هو السجن المؤبد ، وهذا الحكم مورد اتفاق وإجماع فقهائنا ، وقد وردت روايات كثيرة في المصادر المعتبرة تدل عليه.

ففي حديث عن الإمام علي عليه‌السلام في رجلين أمسك أحدهما بثالث فقتله الثاني ، قال عليه‌السلام : «يُقتل القاتل ويحبس الآخر حتى يموت غمّاً كما حَبَسه حتى مات غمّا» (١).

٢ ـ الأمر بالقتل

يرى الفقه الإسلامي أنّ الشخص إذا أمرَ آخراً بقتل ثالث بريء ، لا يحق للمأمور أن يقتل ذلك البريء حتى لو هدده الآمر بالقتل إذا لم يفعل ، إذ لا تقية في الدماء وما يقال من أنّ المأمور معذور لا أساس له من الصحة.

فلو أنّ شخصاً لم يعتقد بهذا الحكم الإسلامي ، فقتل بريئاً حفظاً لنفسه من تهديد الآمر الظالم ، فحكمه في الإسلام هو القتل وحكم الآمر هو السجن المؤبد!

قال الإمام الباقر عليه‌السلام في حقّ مثل هذا الشخص : «يُحبَسُ الآمر بقتله حتى يموت» (٢).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٣٥ ، ح ١ ، الباب ٧ من أبواب قصاص النفس.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٢ ، ح ١ ، الباب ١٣ من أبواب القصاص.

١٩٤

٣ ـ في مورد تكرر السرقة

يحكم في مورد تكرر السرقة في المرّة الثالثة بالسجن المؤبد على السارق ، وقد نقل هذا الحكم بعض كبار أصحاب الإمام الباقر والصادق عليهما‌السلام عنهما (١).

٤ ـ في مورد المرتدة الفطرية :

إذا لم تتب ، حيث يحكم عليها بالسجن المؤبد ، وقد جاء في حديث عن الإمام الباقر والإمام الصّادق عليهما‌السلام :

«والمرأةُ إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت فإن تابت وإلّا خُلِّدَتْ في السجن» (٢).

وقد ذكرت موارد أخرى للسجن المؤبد ، لابدّ من مطالعتها في كتب الفقه المطولة.

وتختلف السجون المؤقتة التي لها جنبة تعزيرية ، ويرتبط ذلك بميزان «الجرم» و «مقدار تحمّل المجرم» وشرائط أخرى.

والمتهمون بالقتل في صورة خوف فرارهم ، ومن يساعد القاتل على الفرار بعد ثبوت جرمه ، والمرأة الحامل التي يثبت عليها الزنا والتي يحتمل فرارها والتي ينبغي أن تسجن حتى تضع حملها ، والسارق من غير حرز ، والمدين الذي يمتنع عن أداء دينه مع تمكنه من ذلك ، وشهود الزور ، ومن يكفل مجرماً فيسجن حتى يحضر المجرم إلى المحكمة ، وكل من يرتكب منكراً ولا يتركه إلّاأن يحبس ، كل هؤلاء من المساجين المؤقتين.

* * *

٥ ـ التعامل الإنساني مع المساجين

كما أشرنا سابقاً ، فإنّه على الرغم من سوء استغلال موضوع السجن بشكل واسع وعلى مرِّ التاريخ ، فإنّ السجن من وجهة النظر الاجتماعية والإنسانية ، أمرٌ ضروري لمكافحة الجرائم والجنايات وتربية النفوس المريضة ، ولكن بحدود وشروط معينة ومحسوبة!

أحد تلك الشروط ، هو مراعاة المعاملة الإنسانية مع السجناء ، فلابدّ من التعامل معهم على أساس أنّهم بشر ، فينبغي ترك المضايقات الظالمة ، وأن لا يحبس أحدٌ بذنب غيره ، وأن

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٤٩٢ ، الباب الخامس من أبواب حدِّ السرقة.

(٢) المصدر السابق ، ص ٥٤٩ ، الباب الرابع من أبواب حدِّ المرتد ، ح ٦.

١٩٥

لا يعاقب أحدٌ أكثر ممّا يستحق حتى لساعة ، ولابدّ أن تكون كل البرامج في سبيل تعليم وتربية السجين ، وبتعبير آخر ، ينبغي أن يكون السجن مركزاً للتربية والتهذيب لا مركزاً لتخريج المجرمين والحاقدين ، فلابدّ أن يتصف السجن بمواصفات درس التربية.

ومن قصة النّبيّ يوسف عليه‌السلام ومدّة سجنه في مصر ، يستفاد بشكل جيد أنّ تلك السجون كانت على درجة عالية من الظلم والإضطهاد بحيث أنّ بعض السجناء كان يبقى طيلة عمره في السجن ، وفقط بعض المصادفات أو الحوادث غير المترقبة هي التي كانت تلفت انتباه الظلمة والحكام إلى السجناء ، ولو لم تقع تلك الحادثة لبقي السجين إلى آخر عمره في السجن ، بالضبط كما حصل ليوسف حيث إنّ الملك لو لم يرَ تلك الرؤيا ولو لم يعرف يوسف تفسير الأحلام ، لما التمس عزيز مصر تفسير رؤياه من يوسف ولما بعث خلفه ولبقي يوسف ، إلى آخر عمره في السجن ، في حين أنّه لم يرتكب أي ذنب ، وذنبه الوحيد هو طهارته وتقواه وعدم انصياعه لرغبات وأهواء زوجة عزيز مصر (زليخا) ، وبطبيعة الحال فإنّ هذه التقوى والطهارة ليست ذنباً صغيراً في قاموس مثل هذه البيئة المنحطة المتسافلة!

والقرآن الكريم يحدثنا كيف أن يوسف الصديق حاول أن يحوّل بيئة السجن إلى محيط للتربية والتعليم والإصلاح ، فكان يعلم السجناء درس التوحيد وعبادة الله وهو أصل كل طهارة وحسن ، فمتى ما سُئل يوسف عن مسألة بسيطة ، أو طلب منه تفسير رؤيا عابرة ، كان يطرح المعارف الإلهيّة ويبين المسائل التربوية للسجناء.

قال تعالى حكاية عن لسان يوسف :

(يَا صَاحِبَىِ السِّجْنِءَارْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ امِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ* ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ الَّا اسْماءً سَمَّيْتُمُوهَا انْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا انْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطانٍ انِ الْحُكْمُ الَّا للهِ امَرَ الَّا تَعْبُدُوا الَّا ايَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ). (يوسف / ٣٩ ـ ٤٠)

فصحيح أنّ يوسف عليه‌السلام كان سجيناً من السجناء ، ولكن عمله ذلك كان دليلاً على أنّه لو كان على رأس السلطة لكان يمارس نفس العمل التربوي مع السجناء في محيط السجن بالأولوية ، ولحوّل بيئة السجن إلى مركز للتعليم والتربية الإلهيّة ، ولبذل كل جهده من أجل

١٩٦

استغلال الفرصة التي يمتلكها السجناء في السجن لإعادة النظر في تصرفاتهم السابقة وإعادة حساباتهم لبناء أنفسهم من جديد ، وتبديل سلوكهم المنحرف إلى سلوك قويم.

وقد أثبتت لنا التجارب أنّ كثيراً من السجناء الأشرار الملوّثين بالذنوب والجرائم سرعان ما يتمّ إصلاحهم إذا ما وجدوا قريناً صالحاً يرشدهم إلى الطريق الصحيح ، إذ إنّهم خارج السجن لم يكن لديهم الفرصة الكافية من أجل التفكير والتأمل في تصرفاتهم الفائتة وإعادة حساباتهم للمستقبل ، فالسجن توفيق إجباري لمثل هؤلاء.

ونلاحظ في الروايات الإسلامية اهتمام الدين بحقوق السجناء ومنحهم الإجازات للاشتراك في صلاة الجمعة والإلتقاء بذويهم وأصدقائهم.

ومن جملة ذلك ماورد في حديث عن الإمام الصّادق عليه‌السلام حيث يقول :

«عَلى الإمام أنْ يُخرجَ المُحْبسِين فِي الدّين ، يَومَ الْجُمعَة إلى الجُمعَة ، وَيَومَ العِيدِ إلى العِيد فَيُرسلُ مَعَهُم فَإذا قَضَوا الصّلاة وَالْعِيد رَدَّهُم إلى السِجن» (١).

وينبغي الإلتفات إلى أنّ لكلٍّ من صلاة الجمعة والعيد خطبتان ولهما أثر بالغ في التربية.

وفي حديث آخر يتوسع أكثر من نطاق الأول ، حيث ورد فيه : «إنّ علياً عليه‌السلام كان يخرج أهل السجون ـ مَنْ حُبِسَ في دَيْنِ ، أو تُهْمَه ـ إلى الجمعة فيشهدونها ويُضمنهُمْ الاولياء حتى يَردُّوهمْ» (٢).

كما ويستفاد من حديث آخر أنّ علياً عليه‌السلام كان كل جمعة يتفقد السجن والسجناء بنفسه ، فيجري الحدَّ على أولئك الذين ينتظرون إجراء الحدِّ عليهم (ويطلقهم) ويطلق من ليس عليه حدَّ (٣).

ومن خلال الآيات والروايات والأحكام الواردة في هذا المجال يمكن استنباط وتنظيم إرشادات جامعة ، من نماذجها :

١ ـ عندما القي القبض على عبد الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي عليه‌السلام وأودع السجن ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٢٢١ ، باب من يجوز حبسه ، ح ٢.

(٢) المستدرك ، ج ١٧ ، ص ٤٠٣ ، ح ١.

(٣) ميزان الحكمة ، ج ٢ ، ص ٢٥.

١٩٧

أوصى الإمام عليه‌السلام بمداراته والإهتمام به ، ومن جملة وصاياه لأولاده في حق ابن ملجم ، قال : «أطعموه واسقُوه وأحسنوا أسارَهُ» (١).

والمعروف هو أنّ الإمام عليه‌السلام بعد أن ضربه ابن ملجم على رأسه الشريف فشقّه ورقد الإمام عليه‌السلام في الفراش يغمى عليه أحياناً ويفيق أحياناً ، ناوله الإمام الحسن عليه‌السلام قعباً من لبن ، فشرب منه قليلاً ثم نحّاه عن فيه وقال : إحملوه إلى أسيركم ، ثم قال للحسن عليه‌السلام : بحقّي عليك يا بني إلّاما طيبتم مطعمه ومشربه ... (٢).

ويروي العلّامة المجلسي حديثاً آخر ، وذلك عندما جيء بابن ملجم إلى الإمام علي عليه‌السلام فتكلم معه الإمام بكلام ثم قال لولده الإمام الحسن عليه‌السلام : «ارْفِقْ يا وَلَدى بِاسيرِكَ وَارْحَمْهُ وَاحْسِنْ الَيْهِ وَاشْفِقْ عَلَيْهِ ، الا تَرى الى عَيْنَيْهِ قدْ طارَتا الى امِّ رَأْسِهِ وَقَلْبُهُ يَرْجِفُ خَوْفاً ورُعباً وَفَزَعاً ، فَقالَ لَهُ الْحَسَنُ عليه‌السلام يا اباهُ! قَدْ قَتَلَكَ هذَا اللَّعينُ الْفاجِرُ وَافْجَعَنا فيكَ وَانْتَ تَأْمُرُنا بِالرِّفْقِ بِهِ؟! فَقالَ لَهُ نَعَمْ يا بُنَيَّ نَحْنُ اهْلُ بَيْتٍ لا نَزْدادُ عَلَى الذَّنْبِ الَيْنا الّا كَرَماً وَعَفْواً وَرَحْمَةً وَالشَّفَقَةُ مِنْ شيمَتِنا لا مِنْ شيْمَتِهِ ، بَحَقّي عَلَيْكَ فَاطْعِمْهُ يا بُنَيَّ مِمّا تَأْكُلُهُ ، وَاسْقِهِ مِمّا تَشْرَبهُ وَلا تُقَيّدْ لَهُ قَدَماً ، وَلا تَغُلَّ لَهُ يَدَاً» (٣).

٢ ـ يقول المرحوم الشيخ الطوسي في كتاب الخلاف : من أمسك بصبي صغير وحبسه ، فسقط عليه جدار ، أو قتله حيوان مفترس ، أو لدغهُ عقرب أو ثعبان فمات ، فهو ضامن لدمه ، ثم يقول الطوسي بعد ذلك : «دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» (٤).

فمن هذه العبارة يستفاد ضرورة كون السجن مأموناً ونظيفاً فلو مات السجين بسبب عدم تحقق ذلك فدمه مضمون.

٣ ـ ونقل المرحوم الشيخ الطوسي في كتابه «المبسوط» عن بعض الفقهاء ، لو سجن شخصاً في غرفة واغلق عليه الباب فاختنق ومات فهو ضامن لديته (٥).

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤٢ ، ص ٢٣٩.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٤٢ ، ص ٢٨٩.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٨٧ ـ ٨٨.

(٤) كتاب الخلاف ، ج ٣ ، ص ٩٤ ، (كتاب الجنايات ، المسألة ١٩).

(٥) أحكام السجن في الإسلام ، ص ٢٦٣ (فارسي).

١٩٨

ونفس هذا الكلام قيل في مورد الجوع ونحوه.

ومن مجموع ذلك يستفاد تأمين الغذاء ومراعاة التهوية الكافية في السجن كي لا تتعرض حياة السجين وسلامته للخطر.

٤ ـ ذكر كثيرٌ من الفقهاء في بحث آداب القاضي ، أنّ على القاضي إذا دخل المدينة أن يطالع أحوال السجناء وملفاتهم ويحقق فيها ويدرسها بشكل جيد ، ليطلق من انتهت فترة محكوميته أو حُبس بلا دليل كافٍ ، فوراً.

وصرح بعض الفقهاء أنّ على القاضي حين وصوله إلى المدينة أن يعلن للملأ بأنّه سيدرس قضايا السجناء في موعدٍ يعينه لهم ليتسنى لذوي السجناء الحضور ساعة التحقيق ، وعندما يحضر أطراف النزاع يقرأ أسماء السجناء واحداً بعد الآخر.

ويسألهم عن علة حبسهم ، ثم يسأل من طرف الدعوى الآخر ، فإن كان عنده دليل مقنع على حبسه ، ردّه إلى السجن ، وإن لم يكن هناك مدعٍ ، أعلن عن إسمه ليأتي من يدعي عليه شيئاً ويطرح دعواه عند القاضي ، وإلّا أطلق صراحه (١).

٦ ـ الطرح التّاريخي لأبي يوسف لحماية السّجناء

يعتبر العصر العباسي من فترات التّاريخ الإسلامي المظلمة ، واحد الشّواهد الحيّة على ذلك هو ازدياد عدد السّجون والضّغط الشدّيد على السّجناء ، واعتقال الأبرياء بتهم واهية ، وتعذيب القرون الوسطى.

لقد تسربت أخبار هذه السّجون الرهيبة إلى الخارج على الرّغم من التعتيم الشّديد من الحاكم في ذلك العصر ، حتى تعالت صرخات النّاس من هنا وهناك ، وطالبت العلماء في ذلك الوقت للتدّخل في الأمر لوضع حد لهذا الإرهاب والظّلم.

ومن جملة الأمور الايجابية التي تحققت في هذا المجال ، الطرح الذي قدمّهُ أبو يوسف الفقيه السّني المعروف وتلميذ أبي حنيفة ، حيث إنّ هارون الرّشيد ومن أجل أنْ يكمَّ أفواه

__________________

(١) جواهر الفلاح ، ج ٤ ، ص ٧٤.

١٩٩

المعارضين طلب من أبي يوسف أنْ يكتب طرحاً في كيفية التعامل مع السّجناء من وجهة النّظر الإسلاميّة والفقه الإسلامي ، وقد أكدَّ هارون الرّشيد على كيفية التعامل مع السّارقين والأشرار والمخالفين عندما يلقي عليهم القبض ، وإنّه هل يجب تهيئة الطّعام لهم؟ وإن كان واجباً فهل يجب أخذه من مورد الزكاة أم من محل آخر؟ وكيف يتعامل معهم بنحو كلي؟

ومن الواضح أنّ هارون الرشيد لم يكن يهمه أمر السّجناء وإنّما اضطره الضّغط الجماهيري لذلك.

فكتب أبو يوسف طرحاً مفصلاً وموسعاً في هذا المجال وأرسله إلى هارون الرّشيد وكان طرحه متسماً

بالصّراحة والشّجاعة في عدّة موارد من فقراته ، وقرن ذلك بالإنتقاد الشّديد للوضع الرّاهن حينذاك من دون أن يحدد الإجابة بالموارد التي أرادها لهارون الرّشيد ، لإنّه كان يعلم جيداً بأنّ أكثر سجناء الحكم العباسي هم من السّياسيين!

وتتلخص هذه الرّسالة التّاريخية بإثنتي عشرة فقرة نذكرها هنا :

١ ـ إذا لم يكن للسجناء شيء ممّا يأكلون منه ، فيجب أن يُصرف عليهم من الزكاة أو «حق الفقراء» أو من بيت المال أو من «الأموال العامة».

٢ ـ يجب أن يصرف على أي من السجناء مبلغ من بيت المال وذلك لتأمين قوتهم ، ويحرم عدا ذلك.

٣ ـ واعلم أنّ الأسير من أسرى المشركين لابدّ وأن يُطعم ويُحسن إليه حتى يحكم فيه ، فكيف برجل مسلم قد أخطأ أو أذنب أيترك ليموت جوعاً؟

٤ ـ ولم تزل الخلفاء ، يا أيّها الخليفة تجري على أهل السجون ما يقوتهم في طعامهم وكسوتهم في الشتاء والصيف ، وأول من فعل ذلك الإمام على بن ابي طالب عليه‌السلام وحذا من جاء بعده حذوه.

وحدثنى بعض الرواة ، حيث قالوا : إنّ عمر بن عبدالعزيز كتب إلينا ما نصه : لا تدعن في سجونكم أحداً من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلي قائماً ، ولا يبيتن في قيد إلّا رجلاً مطلوباً بدم.

٢٠٠