نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

تمهيد :

يتصور البعض أنّ إعجاز القرآن يقتصر على جانب الفصاحة والبلاغة فحسب وهي : المحسنات اللفظية والمعاني والبلاغة ، في حين أنّ أغلب أصحاب الخبرة والمحققين في عصرنا يذهبون إلى عدم صحة هذا الكلام ، لأنّ جوانب الاعجاز القرآني متنوعة ومتعددة ، حتى يمكن القول إنّنا مع مرور الزمان سنقف على جوانب جديدة من اعجاز القرآن لم تتضح معالمها لنا في الماضي.

ويمكن التعرف على الجوانب التالية للإعجاز القرآني في وقتنا الحاضر من خلال الشواهد الموجودة في القرآن نفسه :

١ ـ الإعجاز في الفصاحة والبلاغة وهو الظاهر الحسن والباطن العميق والبيان المتين المنزّه والصراحة والحدية والشمولية في المفاهيم ، وانسجام الألفاظ مع المعاني.

٢ ـ الإعجاز في المعارف والاطروحات العقائدية.

٣ ـ الإعجاز في طرح المسائل التاريخية.

٤ ـ الإعجاز في سن القوانين.

٥ ـ الإعجاز في العلوم العصرية والمفاهيم العلمية المجهولة في عصر القرآن.

٦ ـ الإعجاز في التنبؤات المستقبلية والأخبار الغيبية.

٧ ـ الإعجاز في عدم وجود الاختلاف بين الآيات القرآنية التي نزلت طيلة ٢٣ عاماً بالرغم من تغيّرات الظروف والأوضاع الزمانية والمكانية كافة.

ومع هذه الإشارة نعود إلى القرآن مرّة اخرى لنبحث كل واحدة من الصور المتقدمة بصورة مستقلة :

* * *

٨١
٨٢

١ ـ الاعجاز القرآني في الفصاحة والبلاغة

يقول علماء المعاني في تعريف البلاغة والفصاحة : إنّ الفصاحة تستعمل تارة لوصف الكلمة ، وتارة اخرى لوصف الكلام وهي : عبارة عن خلو الكلام من الحروف والكلمات الثقيلة غير المحببة ذات الايقاع الرديء غير المتجانس من العبارات الركيكة والضعيفة والمنفرة والوحشية والمعقدة والمبهمة.

وأمّا البلاغة فهي عبارة عن تناسب الكلام مع مقتضى الحال والانسجام التام مع الغاية المتوخاة من الكلام.

وبعبارة اخرى : الفصاحة ناظرة إلى كيفية الألفاظ والبلاغة ناظرة إلى كيفية المعنى والمحتوى ، أو بعبارة ثانية : الفصاحة تقتصر على الجوانب الشكلية والظاهرية للكلام والبلاغة تقتصر على الجوانب المعنوية والجوهرية.

ومما لا شك فيه أنّ هذين الأمرين ينطويان على جانب ذوقي واستحساني فضلاً عن الجانب العلمي والقانوني ، ولكن هذا الجانب الفني والذوقي نفسه يتفتح ويكتمل ويتسق في ظل التعليم والتربية والاعتماد على القواعد التي تستقى غالباً من كلمات الفصحاء والبلغاء. نظير الحس الشعري أو القابلية على الخط اللذين يتكاملان بالتعليم والممارسة والاستعانة بالمعلم.

وعلى كل حال يعتقد بعضهم أنّ اعجاز القرآن والدعوة إلى التحدي التي وردت في آيات مختلفة مستندة إلى هذا المعنى نفسه ، ويمكن الاستدلال على ذلك بالامور التالية :

١ ـ إنّ ما اشتهر به العرب في ذلك العصر والزمان هوفن الفصاحة والبلاغة ، بحيث بلغت

٨٣

أشعار الجاهلية أوج فصاحتها ، وكان أحد أهم برامجهم هو قراءة أجمل قصائد تلك السنة خلال التجمع الاقتصادي الذي يعقد في (سوق عكاظ) بالقرب من الطائف في كل عام.

وعندما يقع اختيارهم على أفضل هذه القصائد يعلقونها على جدار الكعبة بصفتها أثراً أدبياً قيّماً ، ومع مرور السنين علقت سبع قصائد عرفت فيما بعد باسم (المعلقات السبع).

وعلى هذا الأساس إذا أراد القرآن أن يدعوهم إلى التحدي والمعارضة فيلزم أن يكون في هذا المجال.

٢ ـ ولعل الاتهام الذي كان يوجهه المشركون العرب إلى القرآن بكونه سحراً وإلى النبي بكونه ساحراً يعود إلى التأثير السحري للقرآن ، حيث اشتمل ، على روعة الكلام والفصاحة.

٣ ـ نقرأ في الحديث الوارد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام في صدد انسجام معجزات الأنبياء مع العلوم والفنون المتطورة في أعصارهم : «إنّ الله تعالى لما بعث موسى عليه‌السلام كان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن في وسعهم مثله وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم وأنّ الله تعالى بعث عيسى عليه‌السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات (الآفات) واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيى لهم الموتى وأبرء الأكمه والأبرص باذن الله ، وأثبت به الحجّة عليهم وأنّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام (وأظنه قال : الشعر) فأتاهم من الله عزوجل بخطبه ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم» (١).

إنَّ جميع هذه القرائن تدل على أنّ الاعجاز القرآني كان ولا يزال متكئاً على جانب الفصاحة والبلاغة إلّاأنّ واقع الأمر هو أنّ الاعجاز في الفصاحة والبلاغة كان مورد اهتمام عميق وإن لم ينحصر به. خصوصاً أنّ الجوانب الاخرى من الاعجاز القرآني واضحة جلية.

__________________

(١) عيون اخبار الرضا ، (وفق نقل تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٣) ونقله أيضاً الكليني في الكافي والعلامة المجلسي في بحار الأنوار.

٨٤

وللحصول على معلومات كافية حول اعجاز القرآن فلابد من الالتفات إلى النقاط التالية :

١ ـ تقدمت الإشارة إلى أنّ عرب الجاهلية كانوا على جانب كبير من الفصاحة والبلاغة بحيث إنّ القصائد المتبقية من ذلك العصر ومن جملتها (المعلقات السبع) مازالت تعرف بالقصائد المنتخبة لدى العرب.

إلّا أننا نعلم بانّهم جمعوا قصائدهم كلها بعد نزول القرآن وانحنوا إجلالاً أمام الفصاحة القرآنية المنقطعة النظير ، وبالرغم من امتلاكهم كل الدوافع والحوافز الذاتية لمعارضة القرآن ومنازلته إلّاأنّهم أخفقوا في ابداء شيء ما.

ولقد اطلعنا على نماذج حية واضحة من تأثير القرآن في هذا المجال في البحث السابق لجاذبية القرآن.

٢ ـ يقف ثلة من الذين تعرضت مصالحهم اللامشروعة للخطر بوجه رجال الحق دائماً وعلى طول التاريخ ، ليوجهوا إليهم التهم والافتراءات ، وبالرغم من كونها كاذبة إلّاأنّها تحكي عن بعض الحقائق الموجودة في تلك البيئة.

فعلى سبيل المثال ، من ضمن الافتراءات والتهم التي وجهت إلى نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله هي مسألة السحر والساحرية ، التي كانت تستخدم ضمن نطاق واسع.

ويقول القرآن في الآيات (٢٤) و (٢٥) من سورة المدثر على لسان الوليد كبير المشركين : (فَقَالَ انْ هَذَا الَّا سِحْرٌ يُؤثَرُ* انْ هَذَا الَّا قَولُ البَشَرِ) (١) ، فالسبب الرئيس وراء هذه النسبة المفتعلة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هو النفوذ العجيب والخارق للآيات القرآنية التي استحوذت على القلوب من خلال فصاحتها وبلاغتها العجيبة ؛ بحيث لا يمكن أن يعتبروا هذا النفوذ أمراً عادياً ولذلك لم يجدوا لفظة مناسبة ينسبونها له سوى لفظة (السحر) ، التي تعني في اللغة كل عمل خارق للعادة ومجهول المنشأ ، فأولئك وإن أرادوا بهذه النسبة أن يسدلوا الستار على هذه الحقيقة الناصعة وينكروا الاعجاز الإلهي ، إلّاأنّهم اعترفوا بحديثهم هذا

__________________

(١) ورد في تفصيل قصة الوليد بن المغيرة وحديثه بصدد جاذبية القرآن في البحوث السابقة.

٨٥

بدون وعي منهم بعظمة القرآن وجاذبيته السحرية.

٣ ـ إنَّ من يتتبع آثار المؤلفين والادباء يجد أنّهم عادة ينقسمون إلى فئتين مختلفتين : فئة تعلق اهتماماً كبيراً على الجانب الفني للألفاظ ، وتجعل المعاني في بعض الأحيان ضحية للألفاظ. وبعكس ذلك فئة لا تولي اهتماماً كبيراً للألفاظ وإنّما تستخدم كامل قدرتها ونبوغها في النظر إلى عمق المعاني ولهذا السبب قسّم كتّاب تاريخنا الادبي والآثار القديمة للشعراء الكبار ، إلى اسلوبين مختلفين ، الاسلوب العراقي والاسلوب الهندي.

الشعراء الكبار الذين نظموا قصائدهم على النحو الأول ، استخدموا قابلياتهم الفنية في مجال التفنن بروعة الألفاظ وحسنها في حين أنّ اتباع النحو الثاني وجهوا اهتمامهم في الغالب إلى دقائق المعاني والملابسات المحيطة بها.

ومما لايقبل الانكار أنّ الذين أبدوا اهتمامهم بكلا الأمرين وخلفوا وراءهم آثاراً طيبة ، هم نزر يسير ، إلّاأنّ الحديث عن مدى نجاحهم في هذا المضمار حديث ذو شجون.

والدليل على هذا الكلام واضح ، لأنّ الألفاظ الجميلة العذبة لا تتحكم في واقع المعاني المطلوبة ، ولا تعكس حقائقها الدقيقة فيها ، ولهذا غالباً مايقف الشاعر والمتكلم على مفترق طريقين : جمالية اللفظ وجمالية المعنى ، ومن ثَمَّ يضطر إلى اختيار أحدهما ، ولذلك في كثير من النثر والنظم تذهب المعاني ضحية للسجع والقافية.

غير أنّ الذين اطلعوا على آداب العرب وتعرفوا على حقائق القرآن يفهمون جيداً أنّ هذا الكتاب الإلهي العظيم حافظ على الامتياز المهم وهو الاعجاز ، فألفاظه في منتهى العذوبة والحلاوة ، والجمل المحبوكة في غاية الدقة والجمال. والكلمات فيه ذات ايقاع ووزن عذب ، والمعاني قد اعطي حقها بكل خصائصها ودقتها ، وهذه هي احدى أبعاد اعجاز القرآن في الفصاحة والبلاغة.

إنّ القرآن لا يتكلف بأداء المعاني ويبين مراده بوضوح وفي الوقت نفسه يضفي على المعاني ألفاظاً عذبة وفي منتهى الجمال.

٤ ـ اشتهر الشعراء والخطباء بهذه الصفة : وهي أنّهم غالباً مايبالغون إلى حد الكذب في

٨٦

أحاديثهم من أجل التوصل إلى حلاوة البيان وطراوته ؛ وعلى سبيل المثال يجعلون الطبقات السبع للأرض ستاً ، والطبقات السبع للسماء ثمانياً. لتصاعد غبار حوافر خيل العسكر ، في الصحراء أو وضع تسعة مقاعد من الفلك تحت قدميه ليصل إلى طول ركاب (قزل ارسلان) ، أو يجعلون من القلب بحراً ، ومن الدم ومن دمع العين نهر (جيحون) حتى قالوا :

لا تراوغ في الشعر وفي فنه

لأن أكذبه هو أحسنه

وعلى هذا الأساس فإنّ اعذب الشعر أكذبه ويشير التعبير القرآني في صدد الشعراء إلى أنّهم غالباً مايستغرقون في تخيلاتهم وتشبيهاتهم الشعرية : (الَم تَرَ أَنَّهُم فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ). (الشعراء / ٢٢٥)

غير أننا حينما نقرأ جميع آيات القرآن فلا نرى فيها أي نوع من المبالغة الكاذبة ، بالرغم من وجود كل الدقّة والجمال في الالفاظ والمعاني والتي تشترك في تبيين الحقائق.

ولهذا السبب نشاهد أنّ القرآن يبرىء ساحة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله من تهمة الشاعرية ، وساحته أيضاً من تهمة الشعر (١).

نعم على الرغم من خلو القرآن من التخيلات الشاعرية والمبالغات والاستغراقات البعيدة عن الحقيقة الشعرية ، والتشبيهات والاستعارات الوهمية ، فلايحتوي إلّاعلى بيان الحقائق بصورة واقعية وقطعية ، بالرغم من كل ذلك نجده في عين الوقت في منتهى العذوبة والجاذبية بحيث استقطب البعيدين عن الإسلام بل حتى المخالفين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكرنا أمثلة لذلك في البحث السابق عن جاذبية القرآن.

ومن الجدير بالذكر أنّ ما نقله التاريخ من أن كثيراً من الشعراء العرب عندما اصطدموا بفصاحة القرآن ، ارتضوا الإسلام طوع أنفسهم ، ومن جملة الشعراء الذين أسلموا تحت تأثير جاذبية القرآن هو (لبيد) الذي كان له في زمن الجاهلية احدى المعلقات السبع (وهي

__________________

(١) ينقل القرآن هذه التهمة عن المشركين في ثلاث آيات في سور : الأنبياء ، ٥ ؛ والصافات ، ٣٦ ؛ والطور ، ٣٠ ؛ وينفيها الله سبحانه وتعالى عن نبيه بصراحة في آيتين من سورة يس ، ٦٩ ؛ والحاقة ، ٤١.

٨٧

سبع قصائد شعرية معروفة ومتميزة انتخبت وعلقت على جدار الكعبة).

وكذلك حسان بن ثابت وهو من الشعراء الأثرياء فقد أسلم تحت تأثير جاذبية القرآن. ومن الشعراء الذين دخلوا إلى الإسلام طواعية واستفادوا كثيراً من جاذبية القرآن هم : (الخنساء) الشاعرة والناقدة العربية ، و (الاعشى) الذي كان من نوادر الشعراء في عصر الجاهلية.

٥ ـ من الظواهر الاخرى للفصاحة والبلاغة القرآنية هو الايقاع الخاص الموجود في القرآن نفسه.

إنّ أحاديث الادباء عادة إما أنْ تكون شعراً أو نثراً ، أمّا القرآن فليس شعراً ولا نثراً عادياً ومعروفاً ، وإنّما هو نثر ذو ايقاع خاص به ، نثر حينما يتلوه قرّاء القرآن يقع غالباً في قالب موزون كامل.

وإذا كان لا يمكن استعمال كلمة (الموسيقى) فيما يخص القرآن لأنّه يمتزج في عُرفنا بالمفاهيم السلبية. إلّاأنّ بعض الكتاب العرب المعروفين نظير (مصطفى الرافعي). يقول في كتابه (اعجاز القرآن) : «الاسلوب القرآني يسبب ويوجد الحاناً تلفت اسماع كل مستمع إليها ، وهي نوع من الموسيقى الخاصة التي لم تكن في الكلام الموزون في ذلك الزمان وهذا الترتيب والنظم كان يلطف طباع العرب ويعرفهم اسلوباً جديداً في الكلام لم يكن موجوداً سابقاً».

ويقول (بولاتيتلر) أحد العلماء الغربيين في هذا المضمار : «من الخطأ أن نفكر بأنّ الفصاحة الإنسانية تستطيع أن تؤثر بمثل ما يؤثر القرآن لأنّه دائماً يسير باطرادٍ إلى الرفعة بدون أن يرى فيه أي ضعف وفتور ، وكل يوم يفتح لنا قمماً جديدة ، نعم إنّه معجزة يتضاءل أمامها اناس الأرض وملائكة السماء» (١).

ويضيف إلى ذلك عالم آخر اسمه (كنت هنري دي كستري) قوله : «إذا لم تكن في القرآن غير عظمة المعاني وجمال المباني لكان كافياً لأن يتسلط على كل العقول ويجذب جميع القلوب إليه» (٢).

__________________

(١) إثبات الهداة ، ج ١ ، هامش ص ٢٢٣.

(٢) المصدر السابق ، ص ٢٢٢.

٨٨

٦ ـ ومن الامور المهمّة أيضاً : إنّ أيَّ حديث يبعث الملل والسأم مع التكرار عادةً ، إلّا القرآن فإنّه في منتهى الروعة بحيث لو قرىء مئات المرات لاحتفظ بجاذبيته ورونقه ، الأمر الذي يدركه عشاق القرآن وغيرهم بوضوح.

وهذا ما نقرأه جلياً في الحديث المشهور عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام والذي جاء فيه بأنّ رجلاً سأل الإمام الصادق عليه‌السلام «ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلّا غضاضة ، فقال : لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة» (١).

ويقول علي عليه‌السلام في جملة مختصرة وبليغة أيضاً : «لا تُخلقُه كَثرة الرَدّ وَولوج السمعِ» (٢).

٧ ـ ومن دقائق الفصاحة والبلاغة في القرآن هو تجنب كثرة الألفاظ ومراعاة الاختصار ، مع ما يؤديه من وضوح المعنى وبيان تمامية المقصود ، وهو ما يسمى اصطلاحاً بترك «الايجاز المخل» و «الاطناب الممل».

وقد تمت مراعاة ذلك في آيات القرآن على أحسن وجه ، فنجد أحياناً آية واحدة من القرآن تبين معالم قصة طويلة بحيث إنّ كل جملة منها تتكلم عن مجال واسع من هذه القصة ، ونقف على هذا في أمثلة كثيرة من القرآن ، ومنها الآية المشهورة التي تقول : (وَقِيلَ يَا ارْضُ ابْلَعِى مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِىَ الامْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدَاً لِّلقُومِ الظَّالِمِينَ). (هود / ٤٤)

نعم هذه هي الآية نفسها التي جثى لها الأديب العربي المعروف (ابن المقفع) على ركبتيه عندما قصد القيام بمعارضة أحد أرباع القرآن حسب الاتفاق الذي عقده مع أصحابه ، وحينما وصل إلى هذه الآية أعرض عن ذلك وأقرّ في نفسه بالضعف والعجز الكامل.

ذلك لأنّها تروي قصة طوفان نوح عليه‌السلام باختصار بارع بكل تفاصيلها ونتائجها ، وبعبارات قصيرة وغنية بالمعاني ، وحسب قول أحد المحققين إنّها تشتمل على ٢٣ نكتة من

__________________

(١) بحارالأنوار ، ج ١٧ ، ص ٢١٣.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٦.

٨٩

النكات الأدبية ، من قبيل : (الإستعارة ، الطباق ، مجاز الحذف ، الإشارة ، الموازنة ، الجناس ، التسهيم أو الإرسال ، التقسيم ، التمثيل ، الارداف و ...) (١).

٨ ـ احدى خصائص القرآن من الناحية الادبية ، هي الصراحة القاطعة بما يقل نظيرها ، اضافة إلى اللطافة والدقّة في العبارات.

ومن المعلوم أنّ كل إنسان يستمتع بالنبرة الصريحة لأحد الفصحاء ، ذلك لأنّه يبيّن الحقائق بصدق وأمانة وبدون أي تشويه أو تشويش ، وليس هناك لذة تفوق لذة درك الحقائق.

إنّ التشدق والتحدث بأشكال متعددة ، يدل بوضوح (إلّافي الموارد الاستثنائية) على عدم إيمان المتكلم بأقواله ، أو على مخاوفه واحتراسه من حكم المستمعين له ، وفي كلتا الحالتين يحكي ذلك عن ضعف وعجز المتكلم.

وتقترن الصراحة والصدق القاطع بالخشونة في أغلب الأحيان والمهم في الأمر أنّ على المتكلم في الوقت الذي يكون صريحاً فيه أن يهتم بلطافة البيان أيضاً ، ونشاهد ذلك في آيات القرآن بشكل واضح.

ومن أهم الجبهات القتالية للإسلام هي جبهة التوحيد والشرك ، وقد استفاد القرآن من أعلى مراتب الصراحة والقاطعية في هذا المجال فتارة يقول : (انَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَانْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لَّايَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطلُوبُ). (الحج / ٧٣)

وتارة اخرى يقول رداً على عبدة الأوثان الذين احتموا بذريعة اتباع عقائد آبائهم وأشرافهم هروباً من المنطق الصاعق للقرآن : (بَلْ نَتَّبِعُ مَا الْفَيْنَا عَلَيهِ آبَاءَنَا اوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ). (البقرة / ١٧٠)

وفي موضع آخر يصعد من حدة قاطعيته في مقابل التوسل بآداب وتقاليد الأجداد بقوله على لسان إبراهيم عليه‌السلام : (لَقَدْ كُنْتُم انْتُم وَآبَاؤُكُم في ضَلَالٍ مُّبِينْ). (الأنبياء / ٥٤)

__________________

(١) أساليب اعجاز القرآن ، ص ٥٢.

٩٠

ويقول في صدد الإيمان بنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُم ثُمَّ لَايَجِدُوا في انْفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيَماً). (النساء / ٦٥)

وعلى هذا الأساس يعتبر الشرط الأساسي للإيمان الصادق التسليم ظاهراً وباطناً وسراً وعلانيةً ، إضافة إلى ايجاد الانسجام بين الرغبات الذاتية والأوامر النبوية الشريفة ، وبالرغم من كل هذه الصراحة والقاطعية نشهد اللطافة والدقة في العبارات بصورة كاملة أيضاً.

ونلاحظ هذه الحدية أيضاً بشكل واضح في المباحث الاخرى ، ذات العلاقة بالمبدأ أو المعاد ، والقوانين الاجتماعية ، أو المسائل المتعلقة بالحرب والصلح ، أو البحوث الأخلاقية ، والتي يتطلب شرح كل واحدة منها كتاباً مستقلاً.

٩ ـ المتانة والنزاهة في البيان : الأشخاص الاميون لا يعبأون بعباراتهم عادة وغالباً ما يستعينون بالجمل البعيدة عن الأدب والذوق من أجل التوصل إلى أداء مقاصدهم من الكلمات ، وبالرغم من أنّ القرآن ظهر في أوساط هذه الفئة من الناس ، إلّاأنّه لم يتأثر بتلك البيئة على الاطلاق ، وحرص على مراعاة منتهى المتانة والعفة في تعبيراته وهو ممّا أضفى على فصاحة القرآن وبلاغته طابعاً خاصاً.

وحينما يتصدى الخطباء والكُتّاب الكبار لحوادث العشق أو مسائل اخرى مشابهة ، فهم يضطرون لأن يطلقوا العنان لألسنتهم وأقلامهم كيفما شاؤا فيطرحون ألواناً كثيرة ومختلفة من التعابيرالمهيجة والمؤذية لرسم معالم الصورة الواقعية للأبطال الحقيقيين في القصة ، وإمّا أن يسدلوا ستار الغموض والإبهام على جانب من هذه الوقائع ـ مراعاةً للعفة والذوق العام ـ ويتحدثوا مع رقبائهم بشكل مغلق.

والجمع بين هذين الأمرين : أي رسم معالم الواقع بصورة كاملة ، وعدم تلوث القلم واللسان بكل ما يخدش العفة والآداب ، يعتبر أمراً في منتهى الصعوبة لا يؤديه إلّاالقليل.

فكيف يمكن أن نتصور شخصاً اميّاً ظهر في مجتمع متخلف متوحش يحدد المعالم الدقيقة كاملة للأوضاع القائمة ، ثم لا نجد في تعابيره أدنى معنى يخدش العفة والآداب ؛ وعلى سبيل المثال حينما يبدأ القرآن في وصف الوقائع الحساسة لقصة يوسف الواقعية وما

٩١

اشتملت عليه من معاني الحب والغرام الذي اشتعل في قلب تلك المرأة الجميلة المتهورة نجده يستفيد من جميع اصول الأخلاق والعفاف من دون أي تمويه وتعتيم على الحقائق ، أو إجمال الحوادث في جو من الابهام والغموض ، إنّه لا يدع أي شاردة وواردة في الحديث إلّا وذكرها ولكنه لا يتطرق إلى أدنى انحراف عن اصول العفة في البيان ، فعلى سبيل المثال يقول في صدد شرح قصة اختلاء زليخا بيوسف عليه‌السلام : (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَنْ نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الابْوابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ انَّهُ رَبِّى احْسَنَ مَثْوَاىَ انِّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). (يوسف / ٢٣)

ومن الجدير بالذكر استعمال القرآن لكلمة «راود» التي تستفاد في مورد الالحاح في الطلب من إنسان ما بشيء من الهدوء والمرونة ، وهي تنسجم تماماً مع أداء المعنى المقصود هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، لا يذكر اسم زليخا ولا زوجها عزيز مصر بل يقول : «الَّتي هُو في بَيْتِها» من أجل أن يبيّن مروءة يوسف وعدم خيانته لمولاه ، كما يبين في الوقت ذاته تقواه ، ومقاومته لمن يعيش في كنفه وتحت إمرته.

ومن جهة ثالثة تشير جملة (غَلَّقَتِ الابْوَابَ) التي تفيد معنى المبالغة بحكم مصدر باب التفعيل إلى مدى صعوبة الموقف وتلاطم الاحداث التي مرت بها هذه الواقعة.

ومن جهة رابعة توضح جملة (قَالَتْ هَيْتَ لَكَ) ذلك الحديث الأخير لزليخا الذي قالته لبلوغ وصال يوسف ، إلّاأننا نلاحظ هنا مدى رزانته وقوة سبكه المصحوبة بنزاهة البيان وسمو المعنى.

ومن جهة خامسة يشير كلام يوسف : (مَعَاذَ اللهِ انَّهُ رَبِّى احْسَنَ مَثْوَاىَ) راداً على زليخا مندداً بها وبصرامة ، بمعنى انني لا أقوم بخيانة صاحب البيت الذي أنعم عليَّ وقاسمته هموم العيش ، بالرغم من الأيّام القليلة لتي قضيتها في هذا البيت فما بالك أنت وقد قضيت هنا عمراً طويلاً.

وتوضح الآيات اللاحقة التي يطول شرحها هذه القصة بشكل رائع ، ومن ثم ترسم معالم المقاومة الخيرة ، لعواصف الهوى والتهور وتسليم الامور الذاتية بيد الله تعالى في هذه المشاهد بشكل ممتع وجميل.

٩٢

وفي آية اخرى عندما يصف أحاسيس نساء مصر ، حينما دعتهن زليخا إلى ضيافتها لتبرئة نفسها ، يقول في جملة مختصرة : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ اكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ ايْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً انْ هَذَا الَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ). (يوسف / ٣١)

ويدل تعبير (مَلَكٌ كَريمٌ) على مدى عفَّته ونقائه الفائقين فضلاً عن دلالته على مدى جماله المنقطع النظير ، وهذا مثل تعبيرنا عن عفة أحد الأشخاص عادة بأنّه مَلَك من الملائكة ، وكذلك توجد على أثر هذه الحوادث جمل تحتوي على قدر كبير من الفصاحة والجمال ، تدلل على عظمة ومقام يوسف بصورة كاملة ذلك المثل الأعلى في العفة والطهارة(١).

١٠ ـ أمثلة القرآن : يستخدم القرآن أمثلة كثيرة من أجل تبيان الحقائق وهي بأجمعها تجليات واضحة للفصاحة والبلاغة في هذا الكتاب الإلهي العظيم ، ممّا يبعث على اعتزاز الإنسان واعجابه الكبير ، وهي الادوات الدقيقة التي استخدمت في هذه الأمثلة والامور الصغيرة الجذابة الممتعة التي نلاحظها في كل واحد منها :

وممّا لا يقبل انكاره أساساً هو دور المثال في توضيح وتفسير البحوث ، ولهذا السبب لا يمكن الاستغناء عن ذكره في أي مبحث مهم ، لتوضيح الحقائق وتقريبها من الذهن.

فالمثال الجيد والمنسجم مع المعنى المقصود يمكن أن يؤدّي دور أحد الكتب أحياناً ، فيوضح المطالب المعقدة ويجعلها قابلة للفهم ، ولهذا يعتبر التمثيل من أحد الفنون التي يعتمد عليها الفصحاء والبلغاء والادباء والشعراء في العالم ؛ يقول الزمخشري في الكشاف في صدد (المثل) :

المثل في أصل الكلام معناه المِثْل ويعني النظير ... ولضرب الأمثال عندهم والتحدث بالأمثال والنظائر لدى العلماء شأن رفيع ذلك لأنّها ترفع الحجاب عن المعاني الخفية وتوضح النكات المبهمة بحيث يصبح الأمر المتخيل حقائق ويقع الشيء المتوهم مستيقناً في محله وتتجلى صورة الغائب على غرار صورة الشاهد ولهذه الجهة أورد الله تعالى أمثالاً كثيرة في كتابه القرآن المبين وسائر كتبه الاخرى (٢).

__________________

(١) لمزيد من الاطلاع يُراجع التفسير الأمثل ذيل الآية ٣١ من سورة يوسف.

(٢) أمثال القرآن ، ص ١٢٠.

٩٣

وللأمثلة فوائد عديدة ، منها أنّها تجعل المسائل العقلية حسية وتقرب الطرق البعيدة ، وتوصل فهم المسائل إلى جميع الناس وبصورة شاملة ، وتصعّد درجة الاطمئنان بالامور المطروحة ، ومن ثم المثال المناسب يعتبر رداً صاعقاً على منطق المعاندين ، وقد جمع بعض المحققين أمثال القرآن في كتاب درس وحلل فيه أكثر من مائة مثال قرآني.

إنّ أمثلة القرآن معجزة حقاً ، ويكفي من أجل الوصول إلى هذه الحقيقة ، أن نجعل قسماً منها مورداً للبحث.

مقتطفات من الأمثلة الاعجازية للقرآن :

حينما يريد القرآن رسم مشهد دقيق عن الحق والباطل يقول : (انْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ اوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدَاً رَّابِيَاً وَمِمَّا يُوْقِدُونَ عَلِيهِ فِى النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ اوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَامَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَامَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الارْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الامْثَالَ). (الرعد / ١٧)

لقد بيّن الله تعالى معالم صورة الحق والباطل على احسن وجه في هذا المثال الغزير بالمعاني والمشتمل على ألفاظ وعبارات موزونة ، وتجدر الإشارة هنا إلى بعض الحقائق المهمّة التي تضمنها هذا المثال :

١ ـ يحدث أحياناً أن تلتبس كثيراً عملية التمييزبين الحق والباطل ممّا يقتضي الرجوع إلى الأمثلة والأدلة.

٢ ـ الحق دائماً يعود على الإنسان بالخير والفائدة شأنه شأن الماء الصافي الذي هو مادة الحياة أو نظير المعدن الخالص الذي يستخدم للزينة أو لوسائل الحياة الضرورية.

٣ ـ الحق غني في ذاته قائم بنفسه دائماً ، أمّا الباطل فيستمد العون من مكانة الحق ويسعى إلى التلبس به والاستفادة من قيمه مثلما يستمد أي نوع من أنواع الكذب وجوده وشأنه من الصدق بحيث لو لم يظهر على مسرح الوجود كلام صادق لم يتصور أحد معنى الكذب ، وإذا لم يكن للحق وجود لما عُرف الباطل.

٩٤

٤ ـ إنّ استفادة أي موجود بحسب قابليته وقدرته كما يجمع الوادي من ماء المطر على قدر اتساعه واستيعابه.

٥ ـ الباطل يبحث دائماً عن سوق مضطرب ، مثله كمثل الماء المنحدر من قمة الجبل فانّه ينهمر بسرعة مصحوبة بهدير وتلاطم يعلوه الزبد ، أمّا عندما يصل إلى السهل فإنّ هديره وهيجانه سوف يهدأ وكذلك الزبد فانه يختفي ولا يبقى له أثر.

٦ ـ الباطل لايظهر في صورة واحدة وإنّما يظهر في كل لحظة بشكل معين ، مثلما يطفو الزبد على سطح الماء وعلى سطح المعادن في فرن صهر المعادن ، لذلك لا ينبغي الانخداع بتلك المظاهر المختلفة على الاطلاق ، ولابد من تحديد مقاييس لمعرفة الحق والباطل ، لتشخيص وفرز كل واحد منهما عن الآخر.

٧ ـ الصراع بين الحق والباطل مستمر استمرار الحياة ويتوارث من جيل لآخر فهذا ماء عذب فرات وهذا ملح اجاج ، يسري بين الخلائق حتى ينفح في الصور فكما أن تساقط الأمطار من السماء وذوبان المعادن في فرن صهر المعادن مستمر ودائم ، كذلك هذا الأمر مستمر ودائم أيضاً.

٨ ـ الباطل يميل إلى التعالي وجلب الأنظار ، لكنه خاوٍ من أي محتوى ، أمّا الحق فيمتاز بالتواضع والهدوء والمهارة في الفن.

وهناك نكات أخرى يمكن استخلاصها من هذه الأمثلة وفي مجالات مختلفة إذا ما دققنا النظر في الزوايا المختلفة لهذه الآية.

وهذه الآية تمثل نموذجاً من الأمثال القرآنية ، وهناك أمثال أخرى نظير المثل الذي يدعو الناس للانفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى ، ويشبه ذلك بالحبوب والسنابل ، كما ورد في الآية ٢٦١ من سورة البقرة ، وكالمثال الذي ورد في ذم الأعمال المقرونة بالرياء حيث صورها القرآن كالحجر الصلب الذي يعلوه التراب ، فاذا أصابه المطر أزال عنه التراب وتركه صلداً أملساً ، أما الأعمال الخالصة لوجه الله فقد شبهها المثل بالجنة على مكان مرتفع وأصابها المطر فآتت ثمارها ضعفين. كل ذلك ورد في الآيتين ٢٦٤ و ٢٦٥ من سورة البقرة.

٩٥

وكالذي ورد في صدد أعمال الكفار وتشبيهها بالرماد في مهب الريح (إبراهيم / ١٨) ، أو تشبيهها بالسراب (النور / ٣٩) ، أو بالظلمات المتراكمة في البحر عند قدوم الليل والسحب تغطي السماء (النور / ٤٠).

وكالذي ورد في صدد أعمال المنافقين وتشبيهها بالشخص التائه في صحراء مقفرة في الليل البهيم ، وقد هزمته صواعق الرعد والبرق وإذا به يرى لحظة واحدة أنّ أشعة البرق قد أضاءت ما حوله وحين يعقد العزم على التحرك في طريقه تعود الظلمة لتغطي كل ما يقع عليه نظره (البقرة / ١٩ و ٢٠).

وكالذي ورد في صدد تمسك عبدة الأصنام باصنامهم العديمة الشعور والقدرة وتشبيهها ببيت العنكبوت (العنكبوت / ٤١).

وما ورد في صدد تشبيه المغتابين بأولئك الذين يأكلون لحوم إخوانهم الموتى (الحجرات / ١٢) ومن ثم ما ورد في صدد الذات المقدّسة لله تعالى بأنّه نور السموات والأرض ، وتشبيه ذلك النور بالمصباح والخواص المتعلقة به المقترن بأنواع الظرافة والروعة (النور / ٣٥).

ويمكن إزاحة الستار في هذا القسم من الفصاحة والبلاغة القرآنية عن موارد اخرى كثيرة يستغرق الكلام عنها وقتاً طويلاً ، وهي بدورها تطلعنا على حياة مليئة بالقيم وأضدادها تواجهنا في حياتنا اليومية وتبين لنا عالماً من المعارف في حلة من الأمثلة البديعة.

* * *

٩٦

٢ ـ الاعجاز القرآني على صعيد المعارف الإلهيّة

بعد الكلام عن مسألة الفصاحة والبلاغة وصل بنا المطاف للحديث عن المضمون وقبل كل شيء نتعرض لمسألة المعارف ونحاول بيان المسائل المتعلقة بالمبدأ والمعاد والعقائد الدينية.

ومن الامور الأساسية هي أنّ بيان المسائل ذات العلاقة بالمبدأ والمعاد والنبوة والإمامة ، يُعدُّ أحد المعايير الفاصلة بين الأديان الحقة والباطلة ، لأنّ بحوث هذا القسم وبالأخص ما يتعلق بالذات القدسية لله تعالى وصفاته واسمائه في غاية الدقة والتعقيد ، بحيث يصبح الحد الفاصل بين الشرك والتوحيد ادق من الشعرة أحياناً.

إنّ هذا القسم من الآيات القرآنية على جانب كبير من الابداع والعمق والدقة ، بحيث لو لم يوجد دليل على اعجازه سوى الايضاحات الدقيقة التي يبينها في هذه المسائل ، لكان هذا كافياً للاستدلال عليه.

خصوصاً وأنّ القرآن ظهر في بيئة عاكفةٍ على عبادة الأصنام مملوءه بالمعابد بدءاً من الأصنام المنزلية وانتهاءً بالاصنام العشائرية والأصنام الكبيرة العامة ، التي كانت مقصداً لكل بلد وحي.

لقد كانوا يصنعون الأصنام بأيديهم من الاخشاب أو الصخور أو المعادن ، وبالرغم من علمهم بعدم امتلاكها لأدنى احساس وشعور وحركة ورؤية ، نجدهم ينسبون إليها القدرة الهائلة استناداً إلى جملة من التخيلات المحضة الركيكة التي تدور في أذهانهم ، ومن ثم يسلمونها مقاليد امورهم ومقدراتهم ويخضعون لها في عجز وتضرع يلتمسونها ويسجدون

٩٧

لها ويقدمون لها القرابين حتى تصير واسطة للفيض والشفاعة بينهم وبين الله تعالى ، وكان يصل بهم الأمر أحياناً إلى أن يصنعوا أصناماً من التمر ، واتفق في احدى سني القحط أن خلت منازلهم من الطعام فحملوا على آلهتهم التي صنعوها بأيديهم فأكلوها ، ومن شواهد هذه القصة هو الشعر الذي لا يزال شاخصاً بين أشعار عصر الجاهلية :

أكلت حنيفةُ ربَّها عامَ التقحمِ والمجاعه

لم يحذروا مِن ربّهم سوءَ العواقبِ والتباعه

وهذه الأفكار هي من أسوأ الأفكار خرافية وانحطاطاً وأكثرها سخافة والتي يمكن أن تخطر في ذهن إنسان.

إنّ الأكثرية الساحقة من عرب الجاهلية تعتبر الملائكة بنات الله ، في حين أنّهم أنفسهم كانوا ينفرون من مجرد سماع اسم البنت ـ لما أُثر عنهم من تحقيرهم للمرأة في تلك البيئة ـ كما نقرأ ذلك في قوله تعالى : (وَاذَا بُشِّرَ احَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحَمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ). (الزخرف / ١٧)

وتوجد هناك مسائل خرافية اخرى كثيرة يطول شرحها سواء في مبحث المعرفة الإلهيّة أو في مبحث المعاد وغيرها.

وعندما نشاهد شخصاً ظهر من تلك البيئة يدعو إلى التوحيد الخالص والمعارف الأصيلة ببيان دقيق يذعن له كبار الفلاسفة ، حينئذٍ لا يعترينا الشك بأنّ بيان مثل هذه المعارف لا يصدر إلّامن الله عزوجل ، وليست هناك أدنى مبالغة في هذا القول ولا حاجة إلى قطع طريق بعيد طويل للتوصل إلى الحقيقة ، فاذا القينا نظرة على المجلد الثاني والثالث من هذا الكتاب «نفحات القرآن» حيث تضمن المجلد الثاني بحثاً عن الله سبحانه وتعالى والثالث حول معرفة الله لاطلعنا على سعة المعارف القرآنية وعمقها ، وكذلك الحال بالنسبة إلى المعاد في القرآن فقد افرد له بحث واسع في المجلد الخامس والسادس من نفحات القرآن.

لذا نقف هنا عند البحث الإجمالي ونكتفي باشارات عابرة في هذا المجال ، الغرض منها

٩٨

ان نعود بقرّائنا الأعزاء إلى المجلدات السابقة.

وبالرغم من سيطرة فكرة الشرك بالله وعبادة الأصنام على تلك البيئة بحيث لا يجرؤ احد على النيل من هذه العقيدة بادنى لوم أو اعتراض ، انبرى القرآن بقاطعية كاملة إلى ضرب تلك العقيدة الخرافية ، فتارة ينقل ذلك على لسان إبراهيم الخليل عليه‌السلام فيقول : (قَالَ افَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَالَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ* افٍّ لَّكُم وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ افَلَا تَعْقِلُونَ). (الأنبياء / ٦٦ ـ ٦٧)

وتارة اخرى يقول في صدد قصة عجل السامريّ الذي أصبح مورداً لإغواء عدة من جهال بني اسرائيل واغترارهم به : (افَلَا يَرَوْنَ الَّا يَرْجِعُ الَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرَّاً وَلَا نَفْعَاً). (طه / ٨٩)

وبجملة مختصرة : إنّ القرآن يندِّد كثيراً بالشرك ويذم عبادة الأصنام بحيث إنّه يعفو ويصفح عن جميع الذنوب ما عدا الشرك ، فيقول : (انَّ اللهَ لَايَغْفِرُ انْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى اثْمَاً عَظِيَماً). (النساء / ٤٨)

إنّ هذا التنديد القاطع والحاسم بفكرة عبادة الأصنام يعدّ بحق أمراً فريداً من نوعه ؛ لأنّ هذه الفكرة تعتبر سُنّة معروفة للأجداد ، والثقافة الرائجة في جميع أنحاء تلك البيئة بحيث إنّ العدول عنها يُعد من عجائب الامور ومورداً لكل أنواع الذم والتقريع ، أمّا نحن ففي الوقت الحاضر نلقي نظرة عفوية على هذه الآيات ونعتبرها أمراً عادياً بغض النظر عن أنّ تلك البيئة كانت تعيش ضمن ظروف وأوضاع خاصة تختلف عن أوضاعنا ، هذا من جانب ومن جانب آخر عندما يشرع في بحث التوحيد ، يعمد إلى طرح الدلائل الفطرية والمنطقية و (برهان النظام) و (برهان الصديقين) بشكل لا يتصور الإنسان ما هو أروع منه.

ويشير في بحث التوحيد الفطري إلى المسألة التي كانت تحدث في حياة كل أولئك الناس وبأشكال مختلفة فيقول : (فَاذَا رَكِبُوا فِى الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الّدِينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ الَى البَرِّ اذَا هُمْ يُشْرِكُونَ). (العنكبوت / ٦٥)

وبهذه الطريقة يبيّن استقرار نور التوحيد في أعماق وجودهم ووجدانهم ، ويزيح النقاب

٩٩

عن طوفان الحوادث تلك الشعلة المستترة في أقبية الجهل والجاهلية ، فعندما يأتي إلى التوحيد الاستدلالي يقول في جملة مختصرة : (أَفِى اللهِ شَكٌ فَاطِرِ السَّموَاتِ وَالارْضِ). (إبراهيم / ١٠)

بعد هذا البيان الإجمالي يأخذ بيد البشرية ويجوب كل نقطة من نقاط هذا العالم الفسيح ليريهم الآيات في الآفاق وفي أنفسهم واحدة تلو الاخرى فتارة يقول : (وَفِى الارْضِ آيَاتٌ لِّلمِوقِنِينَ* وَفِى انْفُسِكُمْ افَلَا تُبْصِرُونَ). (الذاريات / ٢٠ ـ ٢١)

ثم بالبراهين المفصلة على عظمة الله تعالى وقدرته وحكمته في السماءوالنجوم والأرض ، والنباتات والطيور ، والليل والنهار ، والهواء والمطر .... فيستأنس الإنسان عند البحث فيها وتأخذه حالة سرور غامر (١).

ونجده يبدي رأيه أيضاً حينما يشرع في بحث الصفات الإلهيّة وهو من أعقد الأبحاث العقائدية وواحد من أهم المنزلقات الفكرية المحيرة لكثير من العلماء ؛ ففي أحد المواضع يكرم الله تعالى وينزهه من أي نوع من الصفات الممكنة المحدودة الناقصة ، فيقول في جملة مختصرة : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ). (الشورى / ١١)

وعلى هذا الأساس ينفي عنه جميع الأوصاف الممكنة ، ويثبت له الصفات الجمالية والكمالية المنقطعة النظير.

ويتوسع في كلامه أحياناً فيقول : (هُوَ اللهُ الَّذِى لَاالهَ الَّا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيْمُ* هُوَ اللهُ الَّذِى لَاالهَ الَّا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ* هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِىءُ المُصَوِّرُ لَهُ الاسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمواتِ وَالارْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ). (الحشر / ٢٢ ـ ٢٤)

وفي الواقع أننا لو عقدنا مقارنة بين الوصف الذي رسمه القرآن في عدّة آيات عن خالق الكون وبين الرؤية التي يمتلكها المشركون والانطباعات السائدة في بيئة ظهور القرآن عن الله تعالى ، لما أمكن تصور أن هذا البيان الساطع الفريد من نوعه هو وليد تلك البيئة الخرافية المظلمة اطلاقاً.

__________________

(١) شرحنا هذه الآيات تحت عشرين عنواناً في ج ٢ ، من هذا التفسير.

١٠٠