نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

إلى (بني اسد) ، وسرية (محمد بن سلمة) ، إلى (بني ثعلبة) ، وسرية (أبي عبيدة الجراح) ، إلى (ذي القصد) ، وأرسل ست سرايا (١) بقيادة (زيد بن حارثة) لحرب (الجموح) إلى (عيص وطرف وحسمى ووادي القُرى وام قرفة) ، وسرية (عبد الرحمن بن عوف) إلى (دومة الجندل) ، وسرية (علي بن أبي طالب عليه‌السلام إلى (فدك) ، وسرية (كرز بن جابر) (٢) إلى (عرينين) ، وكل هذه المعارك وقعت بعد الحديبية (٣).

وكثير من القبائل التي كانت تعدُ العدّة لحرب المسلمين قد فشلت وانهزمت قبل أن تنجز شيئاً ذا بال ووصلت قدرة الإسلام إلى أوج عظمتها وحينها لم تحدّث قبيلة من القبائل نفسها في أن تخوض معركة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين وأحست مكة بالضعف وعقدت هدنة مع الرسول فاعترفت برسمية الحكومة الإسلامية.

رسائله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ملوك العالم :

وتعاظمت في هذه الأثناء قدرة الإسلام وتوسع نفوذه فانتشر أول شعاع لشمسه خارج الجزيرة العربية ، وقام الرسول بإرسال سفراء محملين برسائل إلى كسرى (ملك ايران) ، وقيصر (حاكم الروم) (٤) ، والنجاشي (حاكم الحبشة) ، والمقوقس (حاكم مصر) (٥) وإلى عدّة اخرى من الرؤساء والحكام أداءً لتكليفه الإلهي ولدعوتهم إلى الإسلام فكان جواب بعضهم إيجابياً ، وسكت بعضهم الآخر ماعدا خسرو برويز (شاه ايران) وهذا دليل على إمّا : أنّ التبليغ الإسلامي الصحيح قد وصلهم فاطلعوا على حقائق الإسلام ، أو أحسّوا بقدرته ووصلتهم أخباره فكان صلاحهم في عدم المواجهة العسكرية مع المسلمين (٦).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ٥٣.

(٢) المصدر السابق ، ج ٤ ، ص ٢٩٠.

(٣) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٨٨ ـ ٥٩٠.

(٤) تفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٨٨.

(٥) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٩١.

(٦) الكامل ، ج ١ ، ص ٥٩١ ؛ تفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٢٩٨ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٣ ، ص ٣٤٢.

٢١

ولم يبقَ من مراكز المؤامرات إلّاخيبر مركز اليهود (١) الذي يجب القضاء عليه.

لذلك فقد صمّم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في السنة السابعة للهجرة على اخضاعه مع قبيلة يهودية اخرى كانت تقطن أرض فدك.

بعد ذلك تجاوز الإسلام كل الموانع والعقبات التي كانت أمامه وارتفعت رايته عالية بالنصر المبين.

وفي هذه المرحلة وصل الإسلام في الجزيرة العربية إلى أوج العظمة والازدهار واستغل الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فرصة الاستفادة من صلح الحديبية للذهاب إلى زيارة بيت الله لأداء فريضة حج العمرة.

وبعد أن رجع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من خيبر في شهر ذي الحجة أعلن للمسلمين الذين ذهبوا معه العام الماضي للعمرة أن يتهيأوا إلى السفر في العام الحالي (٢) فلما سمع أهل مكة بهذا الخبر تركوا بيوتهم وفروا لاجئين إلى الجبال (وفقاً للصلح الذي اتفقوا عليه) ، ودخل المسلمون مكة رافعين رؤوسهم.

عند ذلك أعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : «رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوّةً» وبهذا الاسلوب استطاع المسلمون أن يحققوا آمالهم في زيارة بيت الله سبحانه وهم يعرضون عظمة وقدرة الإسلام أمام أهل مكة (٣).

وعند حلول السنة الثامنة من الهجرة وسّع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دائرة نفوذ الإسلام ، فأرسل سرية (غالب بن عبد الله الليثي) إلى (بني الملوح) ، و (العلاء بن الحضرمي) ، إلى (البحرين) ، وحسب أحد الأقوال أرسل سرية (شجاع بن وهب) إلى (بني عامر) ، وسرية (عمرو بن كعب الغفاري) ، إلى (ذات الاطلاح) ، في أحد نواحي الشام.

وفي هذه السنة بعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (عمرو بن العاص) إلى أرض (بلي وعُذْرة) ليدعوهم

__________________

(١) تفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٩٠ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ١٢.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٠٢.

٢٢

إلى الإسلام ، فوقعت غزوة (ذات السلاسل) (١).

وفي السنة نفسها أرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله (عمرو بن العاص) نحو (جيفر وعياز) إبني الجلندي في عمان ليدعوهم إلى الإيمان ، ويأخذ (الجزية) من المجوس.

كما أرسل جيشاً بقيادة (أبي عبيدة الجراح) فحدثت غزوة (الخبط) التي وافقت السنة الهجرية نفسها وأرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً سرايا (أبي قتادة) للوقوف بوجه من جهز جيشاً لمحاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وحدثت أيضاً غزوة (مؤتة) (٢) في أرض مؤتة وهي إحدى القرى في الشام.

وكان عدد المسلمين المشتركين في هذه الغزوة ثلاثة آلاف مقاتل ، وقد استشهد فيها عدد من قادتهم فكان ذلك سبباً لشعور المسلمين بالضعف الذي يعدُ نصراً للأعداء ، غير أنّه سرعان ما تهيأت أسباب فتح مكة حيث إنّ قبيلة (خزاعة) كانت حليفة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبيلة (بني بكر) حليفة لقريش ، فبغت قبيلة (بني بكر) على (خزاعة) وساندتها قريش ، أتاح للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله التدخل لنصرة (خزاعة) فأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله بتجهيز جيش لغزو مكة وتمكن بعشرة آلاف من المسلمين وبخطة عسكرية حكيمة من السيطرة على مكة وفتحها بدون قتال.

وبلغ المسلمون آمالهم في الدخول إلى بيت الله الآمن مطهراً من دنس الجاهلية والأوثان.

وعندما رأى (أبو سفيان) كثرة المسلمين وقدرتهم انبهر بعظمة الإسلام فصرح إلى (العباس) بقولهِ : «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً» فأجابه العباس :  ويحك إنّها النبوّة» (٣).

وصل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة ووقف في بابها بعمامته السوداء منادياً بالشعار المعروف لنبذ آداب واعراف الجاهلية بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا إله إلّاالله وحدهُ صَدقَ وعدهُ ونَصرَ عبدَهُ ، وهَزمَ الأحزاب وحدهُ» ، ثم أضاف صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا كُل دَمٍ في ـ الجاهلية ـ أو مأثرة أو مال

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ٢٧٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ١٥ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٣١٨.

(٣) الكامل ، ج ١ ، ص ٦١٤.

٢٣

يُدعى فَهو تحت قدميّ هاتين إلّاسدانة البيت وسَقاية الحاج» ، ثم قال : «يا معشر قريش ما تَرون أنّي فاعل بكم»؟ قالوا : «خيراً أخ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ» ، قال : «اذهَبوا فأنتُم الطُلَقاء» (١).

ثم أرسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعة من الجيش لاطفاء الفتنة التي حدثت بين القبائل في اطراف مكة (٢) وللوقوف بوجه هوازن التي كانت مصرّة على قتال المسلمين واشتبك المسلمون مع هوازن في (حنين) وردوا بغيهم إلى نحورهم (٣). وبعدها حاصروا الطائف واجبروهم على التسليم (٤).

عندما حلت السنة التاسعة للهجرة تنفس المسلمون الصُعَداء بتدمير كل مراكز المؤامرات التي كان يحوكها المشركون واليهود والنصارى ، وبرزت قوة جديدة إلى الوجود ، فأسلمت بعض القبائل المحيطة على يديها وخضع لها بعضها الآخر.

وفي خضم هذه الحوادث جاء خبرٌ مفاده أن (هرقل) امبراطور الروم وعدداً من العرب الذين اعتنقوا النصرانية يريدون الهجومَ على بلاد الإسلام ، فأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعدّ المسلمون أنفسهم للحرب مع الروم.

ونقل أرباب التاريخ أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلن عن مكان الحرب ولم يتكتم عليه خلافاً لعادته في الحروب السابقة. ربّما لبُعد الطريق وأمثال ذلك ولكن يبدو أنّ هدفه كان بث الرعب في قلوب الأعداء وقد جهز جيشاً بصعوبة بالغة وبمعدات قليلة وسُمي بـ (جيش العسرة) واتجهوا إلى (تبوك) (٥) وعند وصولهم إليها ومرورهم بـ (ميناء ايله) فوافق حاكمها على اعطاء الجزية وتعاهد مع المسلمين على الصلح (٦). ثم أرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله خالد بن الوليد إلى حاكم (دومة الجندل) فقبل الجزية أيضاً (٧).

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٢٠.

(٢) الكامل ، ج ١ ، ص ٦١٨ ؛ سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ٧٠.

(٣) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٢٤ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ٨٠ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٤٤.

(٤) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٢٨ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ١٢٢.

(٥) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٣٥ ؛ سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ١٥٩ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٣٧٣.

(٦) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٣٨.

(٧) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٣٨.

٢٤

وظل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبوك خمسة عشر يوماً تقريباً ولكن جيش الروم تخلف عن المجيء فرجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكة (١).

وفي هذه السنة جاءت مجموعة من ثقيف وأعلنت إسلامها بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، وأمر الإمام علياً عليه‌السلام بتطهير قبيلة (طي) من دنس الأوثان فحاربهم وانتصر عليهم وأسّر بنت حاتم الطائي وعلى أثر ذلك دخل الإسلام (عدي بن حاتم و ...) (٣).

إنّ فتح مكة ودخول بني ثقيف الإسلام والفراغ من تبوك كانت مؤشرات على عظمة الإسلام وصدق هذا الدين فتوافد كثير من القبائل على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله واطلعوا تدريجياً على معارف الإسلام وعظمته فاعتنق بعضهم الإسلام وبعض عقد صلحاً وترك الحرب مع الرسول فسُمي ذلك العام (بعام الوفود) (٤) ، فجاء وفد (بني اسد) إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلين : «أتيناك قبل أن تُرسل إلينا رسولاً» ووفد (بلى) ، ووفد (زاريين) ، ووفد (بني تميم) (٥).

ووصلت رسائل كثيرة من ملوك وسلاطين (حِمْير) تدل على قبول قدرة وحكومة الإسلام (٦).

وكذلك جاء وفد (بهراء) ووفدُ (بني البكاء) ووفدُ (بني فزارة) ، ووفد (ثعلبة بن منقذ) ، ووفد (سعد بن بكر) (٧).

ونزلت سورة البراءة وقرأها الإمام علي عليه‌السلام معلناً البراءة من الشرك وعبادة الأوثان ومنع المشركين من الدخول إلى مكة للحج.

«فأقام الناس الحج وحجت العربُ الكفّار على عادتهم في الجاهلية وعليُ يؤذن ببراءة فنادى يوم الأضحى : لا يحجنَّ بعد العام مُشرِكٌ ولا يَطوفنّ بالبيت عُريانٌ ومن كان

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٣٨.

(٢) المصدر السابق ، ص ٦٤٠.

(٣) المصدر السابق.

(٤) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٤١ ؛ وسيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ٢٠٥.

(٥) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٤٢.

(٦) سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ٢٣٥.

(٧) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٤٤.

٢٥

بينهُ وبين رسول اللهِ عهد فأجلُهُ إلى مدّتهِ» (١).

وحَلَّ العام العاشر للهجرة وصوتُ الإسلام يدوي في كل مكان ، فجاء نصارى (نجران) إلى المباهلة ، ثم قبلوا الصُلح بدونها : «وصالحوه على ألفي حُلّة ثمنُ كل حُلّة أربعون درهماً وعلى أن يُضيّفوا رُسُلَ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجعل لهم ذمَّةَ الله تعالى وعَهدهُ ألّا يفتنوا عن دينِهم ولا يُعشِروا وشرط عليهم أن لا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به» (٢).

وتوالت الوفود تلو الوفود إلى المدينة لتعلن وفاءها للاسلام والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجاء وفد (سلامان) ، ووفد (غبشان) ، ووفد (عامر) ، ووفد (ازد) ، ووفد (مراد) ، ووفد (زبيد) ، مع (عمرو بن معدي كرب) ، ووفد (عبد قيس) ، ووفد (بني حنيف) ، ووفد (كندة) ، ووفد (محارب) ، ووفد (رهاويين) ، ووفد (عبس) ، ووفد (صَدف) ، ووفد (خولان) ، ووفد (بني عامر) ، ووفد (طي) (٣).

وقد تجلّت قوّة الإسلام في حجة الوداع فبناءً على ماذكر في بعض الروايات فإنّ مجموع المسلمين الذين ذهبوا لزيارة بيت الله الحرام وحضروا (حجة الوداع) كان أكثر من مائة الف شخص ، ويعد هذا الاجتماع من أكبر الاجتماعات الدينية في ذلك العصر ، كما تعكس ذلك أيضاً خطب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفره سواء كانت في مكة ، أم في عرفات ، أم في منى أم في غدير خُم ، لتعيين الخليفة والوصي من بعده وقد جاء في التاريخ مايلي : «فأرآهم مناسكهم وعلمهم سنن حجهم وخطب خطتبهُ التي بيّن فيها للناس ما بيّن وكان الذي يبلغ عنه بعرفة (ربيعة بن امية بن خلف) لكثرة الناس ، فقال بعد حمد الله : «ايّها الناس اسمعوا قولي فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أَيّها الناس إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا وكل ربا موضوع لكم رؤوس أموالكم وإن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كُلّهُ وكل دم كان في الجاهلية موضوع أَيّها النّاس

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٤٤ ؛ سيرة ابن هشام ، ج ٤ ، ص ١٩٠.

(٢) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٤٦.

(٣) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٤٧ ـ ٦٤٩ ؛ وللاطلاع على غزوات وسرايا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله) يمكن الرجوع إلى سيرة ابن هشام ج ٤ ، ص ٢٥٦ ؛ الكامل ، ج ١ ، ص ٢٥٢ ؛ وتفسير جامع البيان ، ج ٢ ، ص ٤٠٤.

٢٦

إنّ الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضِكم هذه أبداً ولكنّه يُطاع فيما سوى ذلك وقد رضي بما تحقرون من أعمالكم ...» (١).

جاء في تاريخ حجة الوداع : أنّه أثناء ذهاب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الحج كان قد اجتمع خلق كثير في المدينة على الرغم من انتشار أحد الأمراض الذي منع حج كثير منهم : «ومع ذلك كانت معهُ جموع لا يعلمها إلّاالله ، وقد قيل إنّه خرج معهُ تسعون الفاً ، ويقال : مائة الف وأربعة عشر الفاً وقيل : مائة الف وعشرون الفاً ، وقيل : مائة الف وأربعة وعشرون الفاً ، ويقال أكثر من ذلك وهذه عدةُ من خرج معه وأمّا الذين حجوا معه فأكثر من ذلك كالمقيمين بمكة والذي اتوا من اليمن مع علي [عليه‌السلام] وأبي موسى» (٢).

ولو يمكن تقدير عدد المسلمين الذين لم يستطيعوا الحجّ لتبين مقدار ما وصلت إليه شوكة الإسلام.

وأخيراً جهّز الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل وفاتهِ جيشاً بقيادة (أُسامة) لحرب ديار الشامات (بصرى) فتخلف بعضهم عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

__________________

(١) الكامل ، ج ١ ، ص ٦٥٢.

(٢) سيرة الحلبي ، ج ٣ ، ص ٢٨٣ ؛ وتواريخ اخرى نقلاً عن الغدير ، ج ١ ، ص ٩ وهو مصدر جامع لمن أراد أن يستزيد.

٢٧
٢٨

نبيُّ الإسلام في القرآن

تمهيد :

استعرضنا فيما تقدم لمحات مختصرة من حياة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله من وجهة نظر المؤرخين ، والآن نستعرض حياتَه الشريفة منذُ نعومةِ أظفارهِ وحتى انتهاء عُمره ـ كما جاء في القرآن الكريم ـ بتحقيق دقيق مختصر يصلح أن يكون مقدّمة خاصة للبحوث حول النبوة.

إنّ دراسة الآيات القرآنية وبالأخص ذات العلاقة بهذا البحث لها أهميّة بالغة وذلك للرد على أصحاب الشبهات والمخالفين ، فلو أنّ هذه الآيات لم تنطبق على واقع حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ ذلك سيكون مدعاة لإثارة هذه الشبهات ، والتي سوف يكتبونها في التواريخ كما كتبت الوقائع الأُخرى.

وبتعبير آخر : بغض النظر عن كون القرآن الكريم كلام الله سُبحانه وتعالى وكل ما جاء به من الآيات القرآنية منسجمٌ مع الحقيقة والواقع. فلو فرضنا عدم صحة تطابقها فإنّ الآيات القرآنية التي تخص حياة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن عدم تطابقها مع الواقع ، لأنّها ستكون وسيلة جيدة يتذرع بها الأعداء لتمرير شبهاتهم وبهذه الإشارة نمعن النظر مرة أُخرى في الآيات القرآنية والنقاط المهمّة التي جاءت بها حول مقاطع مختلفة من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

* * *

٢٩

محيط دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

بيّن القرآن الكريم في سورتين منه وبتعبير في غاية الوضوح حياة عرب الجاهلية المعاصرين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله : (وَان كَانُوا مِن قَبلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ). (آل عمران / ١٦٤) (الجمعة / ٢)

وتعبير (ضلالٌ مُبين) في الآيتين بيانٌ واضحٌ لتحكُّم الضلالةُ والضياع في المجتمع العربي الجاهلي.

ضياع في العقائد حيث كانوا مشركين يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم من الحجر والخشب.

وضياعٌ في الجوانب الاجتماعية إلى الحد الذي كانوا يئدون بناتهم احياءً وهم يفتخرون بذلك.

وكانوا يطوفون رجالاً ونساءً حول الكعبة عُراة ويعتبرون ذلك من ضمن عبادتهم.

والإعتداء والحروب وإراقة الدماء بالباطل ، كل ذلك كان له قيمة اجتماعية في الجاهلية ، حتى وصل الأمر إلى أن يَرِثَ الأبناء أحقاد واضغان الآباء.

والمرأة في خضم ذلك مجرّد متاع يقامرون به.

وأفضل من رسم مفهوم (ضلال مبين) قولُ (جعفر بن أبي طالب) عندما بيّن أوضاع عرب الجاهلية لملك الحبشة (النجاشي) بقوله : «أيّها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبدُ الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ، ويأكلُ القويُ منّا الضعيف حتى بعثَ اللهُ إلينا رسولاً منّا نعرفُ نسبهُ ، وصدقهُ وامانتهُ وعفافهُ فدعانا لتوحيد الله وان لا نشركَ به شيئاً ونخلعَ ما كنا نعبدُ من الأصنام وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحُسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ...» (١).

ولمزيد من توضيح تلك الإشارة التي وردت في الآيتين الكريمتين نستعين بآيات اخرى حيث جاء فيها :

__________________

(١) الكامل ، ج ٢ ، ص ٨٠ ؛ تفسير في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٩٥.

٣٠

١ ـ الأصنام في عقائد العرب

إنّ عقائدأيّ قوم أو شعب تشكل ركناً أساسياً في ثقافتهم ، وانحطاط تلك العقائد يدل على الانحطاط الثقافي والحضاري لهم.

وعلى هذا الأساس ، فعرب الجاهلية كانوا في أرذل درجات الانحطاط الثقافي والضياع حيث كانوا يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم فيتصورون أنّها تتحكم في مصائرهم بل يزعمون أنّها حاكمة على السماء والأرض أحياناً ، وقد خاطب القرآن الكريم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بصدد ذلك بقوله : (قُلْ اتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَايَملِكُ لَكُم ضَرًّا وَلَانَفعَاً وَاللهُ هُوَ السَّميعُ العَلِيمُ). (المائدة / ٧٦)

وبالإضافة إلى الأصنام الصغيرة فقد كانت لديهم ثلاثة أصنام كبيرة ذات شهرة خاصة في مجتمعهم يزعمون بأنّها بنات الرب وهي وسيلة للتقرب إليه ، أحدها (مَناة) وكان ما بين المدينة ومكة المكرمة بالقرب من ساحل البحر الأحمر ، ولهذا الصنم احترامٌ خاص عند كل العرب انذاك ، فيقدمون إليه القرابين ، وأكثر القبائل احتراماً وتقديساً له قبيلة (الاوس) و (الخزرج).

والثاني في الطائف يُعرف باسم (اللّات) ، وقد شُيد في مكانه اليوم مسجد وكانت (ثقيف) من أكثر القبائل احتراماً له.

والثالث من الأصنام الكبيرة هو (العُزى) وقد وضع في الطريق المؤدي إلى العراق قريباً من منطقة (ذات العِرق) ولقريش علاقة خاصة بهذا الصنم.

وهناك أصنام اخرى للقبائل والعشائر بل وللعوائل أيضاً إذ لا معنى لحياة عرب الجاهلية بدونها ، فمثلاً لو أرادوا السفر فإنّهم يستاذنون من الصنم ولهم في اسفارهم أصنام يصحبونها معهم.

وقد أشار القرآن الكريم في سورة النجم إلى ذلك بقوله تعالى : (افَرأَيتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الاخَرى * الَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الانثَى). (النجم / ١٩ ـ ٢١)

ومن الجدير بالذكر في الحياة الجاهلية أنّهم كانوا يكرهون البنات ويئدونهن أحياناً

٣١

بالرغم من اعتقادهم بأنّ الملائكة بناتُ الله وهذه الأصنام تماثيل تلك الملائكة ، لذلك واجههم القرآن الكريم بمنطقهم وهو كيف تقولون : أنّ لله بنات في الوقت الذي تكرهونهن فيه؟

وقد استنكر القرآن وذم تلك الأفكار الخرافية المنحطة بقوله تعالى : (وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحَمنِ انَاثاً اشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ). (الزخرف / ١٩)

وقد حارب الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه العقائد الضالة الناشئة من التصورات الخاطئة وهوى النفس كما ورد في ذيل الآية الكريمة بعد أن أشارت إلى الأصنام الثلاثة الكبيرة المعروفة بقوله تعالى : (انْ هِىَ إِلَّا اسمَاءٌ سَمَّيْتُمُوَها انتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا انزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلطَانٍ انْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأنْفُسُ). (النجم / ٢٣)

صحيح أنّ المشركين قد تشبثوا بدليلٍ واهٍ ليبرّروا به عبادتهم للأصنام حيث قالوا : إنّ ذاتَ الله أسمى من أن يصلَ إليها العقل والفكر الإنساني وهو منزه عن أن نعبده بصورة مباشرة ، وعلى هذا الأساس فالذين وكّل إليهم أمر خلقهِ وتدبيرهِ هم الواسطةُ إليه وهؤلاء هم الملائكة والجن وكل الموجودات المقدسة فهؤلاء اربابٌ نعبدهم وهم الذين يقربوننا إلى الله (مَانَعبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلفَى). (الزمر / ٣)

وعلى هذا فإنّ أيدينا لا تصل إلى هذه المقدسات فنصنع لها تمثالاً ثم نَعبدُها! وهذه التماثيل هي أصنامهم وفي تصورهم أن هناك وحدة واتحاداً بين هذه الأصنام والوجودات المقدسة فهم يخاطبونها بالآلهة والأرباب.

وهم بهذه الخرافات الواهية ابتعدوا عن الله سبحانه وتعالى وهو أقرب إلى الإنسان من نفسه ، وبدلاً من أن يتوجهوا إلى الله الذي هو منبع الفيض والقدرة البصير الموجود في كل مكان لجأوا إلى مخلوقات ممكنة لا حول ولا قوة ولا شعور لها بل إنّها مخلوقة بايدي عبّادها ومع ذلك فقد أجلسوا تلك المخلوقات التي لا قيمة لها على عرش الربوية والالوهية ناسين عظمة الذات الإلهيّة اللامتناهية ولاهثين وراء سراب يحسبونه ماءً.

* * *

٣٢

٢ ـ تفشي حالة الفقر الشديد بين الناس

في الوقت الذي بُعثَ فيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عرب الجاهلية غارقين في فقر شديد إلى الحد الذي كانوا يقتلون فيه أبناءهم ـ وحتى الذكور منهم أولئك الذين يشكلون الحجر الأساس لحياتهم المادية والاقتصادية ـ ليقللوا عدد الأفواه الجائعة ، قال تعالى : (وَلَاتَقتُلُوا اولَادَكُمْ خَشْيَةَ املَاقٍ نَّحنُ نَرزُقُهُمْ وَايَّاكُم) (١). (الإسراء / ٣١)

وقد جسّم أمير المؤمنين علي عليه‌السلام هذا المعنى في تحليل جامع فقال عليه‌السلام : «إنّ اللهَ بَعَثَ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل وأنتم معشر العرب على شرِ دين وفي شر دار منيخون بين حجارةٍ خُشن وحيّات صُمٍّ ، تَشربونَ الكَدِرَ ، وتأكلونَ الجَشِبَ» (٢).

* * *

٣ ـ عباداتهم العجيبة

كانت عبادة المشركين غريبة للغاية ، ويجيب القرآن الكريم على ادّعاء المشركين الذين يزعمون : بأنّه إذا كان محمدٌ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد اتى بعبادات فإنّ لنا مثلها وكنا نصلي إلى جانب الكعبة كذلك ، فيقول القرآن : (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُم عِندَ البَيتِ إِلَّا مُكَاءً وتَصدِيَةً). (الانفال / ٣٥)

نعم ، إنّهم يُسمّون صفيرهم الاحمق وتصفيقهم الأبله صلاةً ، «فالمكاء» يعني : صوت الطيور ، وجاء تشبيه أصوات العرب في الجاهلية حول الكعبة بصوت الطيور ، ربّما لأنّه خالٍ من أي مفهوم كصوت الطيور الذي لا محتوى فيه ، أو أن كل ماكان يفعلونه ما هو إلّا مجرّد غناء.

وأمّا «التصدية» فمعناها التصفيق ، وهو ضرب اليد على الاخرى والصوت الناتج من

__________________

(١) هناك احتمال أنّ هذه الآية إشارة إلى قتل البنات اللاتي ينظر إليهن المجتمع باحتقار ويعدهن لوحدهن مخلوقات وضيعة مستهلكة ولكن الاحتمال هنا يشمل الأولاد أيضاً لوجود ضمير جمع المذكر ولقوله تعالى «إن قتلهم كان خِطأً كبيراً) ويعود هذا الضمير إلى الأولاد في صدر الآية التي نزلت إمّا بخصوص الأولاد فحسب أو الأولاد والبنات على أقل تقدير وقد استخدم ضمير الجمع للمذكر لتغليب الذكور على الإناث.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٦.

٣٣

ذلك يسمى تصدية ، وعلى هذا الأساس سمي تردد الصوت بين الجبال بالصدى ، ولم ينتهوا إلى هذا الحد بل كانوا يطوفون عراة كما ولدتهم امهاتهم حول الكعبة ، وهذا ما اشير إليه عندما نزلت سورة براءة وقام بإبلاغها أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في شهر ذي الحجة بقوله : «لا يطوفَنَّ بالبيت عُريانٌ ولا يحُجنَّ البيتَ مشركٌ ...» (١).

ويقال : إنّ السبب من طوافهم عراة أنّ مجموعة من العرب يُسمّون أنفسهم (حُمس) (٢) يعتقدون بأنّ طوافهم حول الكعبة يجب أن يكون بلباس خاص ، ومن لم يملك ذلك اللباس ويطوف بملابسه المعتادة فعليه أن يرميها بعيداً بعد انتهاء الطواف ولا يحق له وللآخرين استخدامها ولذلك يطلقون على هذه الألبسة (اللَقاء) ، أي ما يُلقى من الثياب ، وإذا اخذ بنظر الاعتبار أنّ أكثر الناس كان يسودهم فقر مدقع ولا يملكون إلّالباساً واحداً فيضطرون لخلعه من أجل الاحتفاظ به ويطوفون عراة حول الكعبة.

وقد استفاد أصحاب الشهوات أحياناً من هذه الخرافة ليتمتّعوا بالنظر إلى الشباب من الرجال والنساء عندما يعرضون أجسادهم عارية (٣).

ويذكر ابن هشام أنّ الرجال كانوا عراة تماماً. أمّا النساء فكنَّ يخلعن كل ملابسهن ما عدا ثوباً مشقوق الذيال يبدي أجسامهن ثم ينشغلن بالطواف ، وذات يوم طافت امرأة في تلك الهيئة أمام أعين رجال شرهة فأنشأت هذا الشعر الذي حفظه لنا التاريخ :

اليَومَ يَبدُو بَعضُهُ أَو كُلُّهُ

فما بَدا مِنهُ فَلا أحِلُّهُ (٤)

أمّا القرابين التي يقدمونها إلى الأصنام فلها قصةٌ مفصلةٌ ، فمن جملة ذلك أنّ الناس في (دومة الجندل) (٥) كانوا يقدمون شخصاً في كل سنة قُرباناً إلى الآلهة مع مراسم خاصة ثم يدفنون جسده المدمى قرب المذبح ، حتى كتب بعضهم : ا نّ المصريين كانوا يقدمون أجمل

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣ ، في ذيل الآيات الاولى لسورة البقرة.

(٢) «حُمس» على وزن «خُمس» جمع «أحمس» وهو من تعصب لدينهِ ، ولأنّ قريش كانت توطد عقيدةالشرك لذلك وصفوا أنفسهم بال (حُمس).

(٣) الإسلام والعقائد والآراء البشرية ، ص ٢٨٨.

(٤) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٢١٥.

(٥) منطقة في شمال غربي (نجد) في قمة جبال الجزيرة العربية ، وهناك كانت قصة وقوع التحكيم بصفين.

٣٤

الشباب والشابات قرابين إلى (آلهة النيل) ، وقد بقي ذلك التقليد عُرفاً اجتماعياً لبعض قبائل العرب فينذر الآباء أبناءهم أحياناً قرابين إلى الآلهة أيضاً (١).

* * *

٤ ـ الخرافات الاخرى لعربِ الجاهلية

ومن جملتها مسألة اللحوم المحللة والمحرمة والقوانين المخزية الفارغة التي كانوا يسنونها لأنفسهم كما ذكر ذلك القرآن الكريم : (وَقَالُوا هَذِهِ انْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَّايَطعَمُهَا الَّا مَنْ نَّشاءُ بِزَعمِهِم وَانعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا). (الأنعام / ١٣٨)

ويقول في الآية التي بعدها : (وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هذِهِ الانعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلَى ازوَاجِنَا وَانْ يَكُنْ مَّيْتَةً فَهُم فِيهِ شُرَكَاءُ). (الأنعام / ١٣٩)

وقد وعَد القرآن أصحاب تلك البِدع القبيحة التي ابتدعوها بالخسران كما ورد في ذيل هذه الآيات من قوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا اولَادَهُم سفَهًا بِغَيرِ عِلمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افتِرَاءً عَلَى اللهِ قَد ضَلُّوا وَمَاكَانُوا مُهتَدِينَ). (الأنعام / ١٤٠)

حتى أنّهم قد حرَّموا بعض السنن الباقية من الأنبياء عليهم‌السلام وأصبحت غير مؤثرة مثل سُنة تحريم القتال في الاشهر الحرم (ذي القعدة ، ذي الحجة ، محرم ، رجب) حيث كان ذلك المعتقد عاملاً مهماً في منعهم عن سفك وإراقة دمائهم ، لكن تلك السُنة الخرافية (النسيء) كانت تبطل تأثيرها ، فمتى ما أرادوا تجاوز حرمة هذه الأشهر الحُرم ، قالوا لا مانعَ من جعل شهر آخر مكان هذا الشهر ، فعابَ عليهم القرآن هذا العمل السيء بقوله تعالى : (انَّمَا النَّسِىءُ زِيادَةٌ فىِ الكُفرِ). (التوبة / ٣٧)

إنّ الحج وزيارة بيت اللهِ الحرام التي كانت من سنن إبراهيم عليه‌السلام ودافعاً إلى الوحدة والتقرب إلى الله سبحانه ، قد تلوث بخرافاتهم ولم تصبح سبباً وعاملاً للابتعاد عن الله سبحانه فحسب بل وللتفرقة والتشتت بين الناس ، لأنّ التعصب للقومية والشرك وعبادة الأصنام كانت سائدة عليها.

__________________

(١) الإسلام وعقائد وآراء البشر ، ص ٢٧٨.

٣٥

٥ ـ شيوع الفساد الأخلاقي

لقد بلغ الفساد الأخلاقي أعلى درجاته عند عرب الجاهلية فقد كانت تحكمهم عداوات شديدة وأحقاد موروثة من السلف إلى الخلف ، لم تقتل الأخلاق فحسب بل إنّ كل شيء في المجتمع ذهب ضحية لهذه العداوات وقد بيّن القرآن الكريم ذلك للعرب الذين مَنَّ اللهُ وتعالى عليهم بالإسلام بقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَليَكُم اذْ كُنْتُم اعدَاءً فَالَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُم فاصبَحْتُم بِنِعمَتِهِ اخوَاناً وَكُنْتُم عَلى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَانقَذَكُم مِّنهَا). (آل عمران / ١٠٣)

و «الشفا» : كما جاء في «مقاييس اللغة» هي الإشراف والتسلُّط على الشيء و «الشفا» هنا يطلق على الأشياء التي يشرف الإنسانُ عليها ، مثل الإشراف على جوانب الحفرة أو حافة الوادي أو حافة النهر ، وكذلك (شفة) الإنسان على جانبي فمه ويُطلق أيضاً على تحسن صحة المريض لأنّه يتسلط ويتغلب على المرض.

وعلى أيّة حال فقد شبَّه القرآن الكريم حياة عرب الجاهلية بمن يقف على شفا حفرة من النار ليسقط فيها بسهولة ، نار تحرق كل شيء وتحوله إلى رماد.

كانت العداوة والنفاق والاختلافات مطبوعةً في نفوسهم وحاكمةً عليهم بحيث صرح القرآن الكريم لنبيّ الإسلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ من المستحيل القضاء على هذه الاختلافات بالطرق العادية وإيجاد الاتحاد والوحدة بينهم إلّابمعجزة إلهيّة ، وقد حصل ذلك على يد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بإذن الله : (لَو انفَقتَ مَا فِى الأَرضِ جَمِيعاً مَّاأَلَّفتَ بَينَ قُلُوبِهِم وَلَكنَّ اللهَ أَلَّفَ بَينَهُم). (الانفال / ٦٣)

إنَّ معاقرة الخمر واللعب بالميسر والأزلام كانت متفشية بحيث كان من الصعب القضاء عليها بمرحلة واحدة ، لذلك جاء أمر تَحريم الخمر على عدّة مراحل (١).

كما أنّ أحد أكبر المفاسد الأخلاقية والاجتماعية هو مسألة (حقوق المرأة) في مجتمع عرب الجاهلية ، فقد وصلت إلى الحد الذي يتفق مع ما قاله بعض المفسرين : إنّه عندما تحين ولادة المرأة في العصر الجاهلي تحفر حفرة وتجلس على شفتها فإن كان المولود بنتاً

__________________

(١) والتفصيل في ذلك جاء في التفسير الامثل ذيل الآية ٩٠ من سورة المائدة.

٣٦

قذفته فيها ، وإذا كان ولداً عصمته منها. وقد قال أحد شعرائهم بهذا الصدد مفتخراً :

سَميتُها إِذْ وُلدت تَموتُ

والقبرُ صِهرٌ ضامنٌ ذمِّيتُ (١)

إنّ هذا العمل سواء كان بدافع الفقر المدقع والاعتقاد بعدم الفائدة الاقتصادية للبنات أو بدليل التعصب المفرط ضدهن لتفادي وقوعهن في الحروب أسيرات بيد الأعداء فهو أفضع وأوحش عادات عصر عرب الجاهلية.

وقد عاب القرآن هذه الاعتقادات مراراً بقوله تعالى : (وَاذَا بُشِّرَ احدُهُم بِالانثَى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدّاً وَهُوَ كَظيمٌ* يَتَوَارَى مِنَ القَومِ مِن سُوءِ مَابُشِّرَ بِهِ ايُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ امْ يَدُسُّهُ فِى التُّرابِ الَا سَاءَ مَايَحكُمُونَ). (النحل / ٥٨ ـ ٥٩)

إنّ هذا العمل نوع من أنواع التعصب الأعمى لحفظ الشرف وقد جرهم لاقتراف أفضع الجرائم : (قتل الإنسان لطفله المسالم) وهو دليل واضحٌ على أعظم حالات الجهل وسقوط الأخلاق وانعدام العواطف الإنسانية والاستهانة بمنزلة المرأة في ذلك المجتمع الجاهلي وتعبير (أَيُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ) يشير إلى أنّ وجود البنت يعدّ عاراً عندهم إلى الحد الذي يهرب من قومه وقبيلته تخلصاً من عارها ، غافلاً عن أنّ مسألة عدم وجود بنت تعني عدم وجود امهات ، وإذا انعدمت الامهات انعدم وجودهم أيضاً ، يقول أحد شعرائهم في هذا الصدد :

لكل أبي بنت يُراعي شؤونها

ثلاثةُ أصهارٍ إذا حُمِدَ الصهرُ

فبعلٌ يُراعيها وخِدرٌ يُكنّها

وقَبرٌ يُواريها وخيرُهُم القَبرُ (٢)

طفولة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله :

لا يوجد بحث كثير في القرآن الكريم عن طفولةِ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاسورة الضحى حيث نقرأ فيها : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فاغنَى). (الضحى / ٧ ـ ٨)

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٤.

(٢) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٧٣٤.

٣٧

في الآية الاولى إشارة إلى يُتمِ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث جاء في التاريخ أيضاً أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان في بطن امه توفي والدهُ (عبد الله) ، وفي السنة السادسة من عُمرهِ الشريف توفيت والدتُهُ فتكفّله جدُهُ (عبد المطلب).

وفي السنة الثامنة من عمرهِ توفي جدُّهُ ، فاحتضنه عمُّهُ (أبو طالب) وآثرهُ على أولادهِ ونفسهِ.

وفي الآية الثالثة إشارة واضحة إلى فقر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في بداية عمره الشريف فمنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بإلقاء محبته في قلب خديجة عليها‌السلام فتزوج منها واغدقت عليه ثروتها واعانته على حياته ودعوته.

وأمّا في الآية الثانية فيقول تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى) وفسّرهُ أحد المفسرين بمعنى عدم معرفة الحق.

وقال آخرون : إنّ مفهوم الآية هو أنّك كنت ضالاً لا تعرف الحق ونحن هديناك إليه.

وقال بعضهم : إنّ المراد بكلمة «ضالاً» هو (غافل) عن الأحكام والكتب السماوية ، ولكن بعضهم يذهب إلى الضلالة الظاهرية في الطفولة حيث ضاع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مرة أو مرات عديدة عند أبواب مكة أو في أماكن اخرى. والله سبحانه هداهُ إلى أحضان مملوءة بالمحبّة فأرجعه إلى أحضان (عبد المطلب) و (أبي طالب) و (حليمة السعدية) التي كانت امُهُ في الرضاعة.

وقد بيّنا شرح هذه الآية في المجلد السابع من رسالة القرآن في بحث تنزيه الأنبياء ، وفي التفسير الأمثل في ذيل هذه الآية آراء مختلفة وأفضل التفاسير هو ما ذكر أعلاه.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآيات تُبيّن مراحل طفولة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن أبرز خصائص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه المرحلة أنّه لم يتعلم القراءة والكتابة عند استاذٍ قط ، ولربّما يبدو لأول وهلة أنّه نقص ما ، ولكنه من النقاط المهمّة والقوية في شخصية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه عندما جاء القرآن الكريم بعباراته ومعارفه الراقية لم يشك أحد في كون القرآن منزل من الله سبحانه من نتاج فكر إنسان امي.

٣٨

وقد أكدت سورة العنكبوت هذا المفهوم بقوله تعالى : (وَمَاكُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ اذاً لّارتَابَ المُبطِلُونَ) (العنكبوت / ٤٨)

لاشك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو درس على يدي استاذ ما في تلك البيئة التي يُعد عدد المتعلمين فيها قليل جدّاً لكان من المستحيل عليه أن يأتي بمثل هذا القول الجلي ، ولجابهه بعض الأفراد المطلعين على مجريات الأحداث بهذه الحجّة القوية متهمين إيّاه بالكذب والافتراء.

وحتى لو كان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف القراءة والكتابة فإنّ من المسلّمات أيضاً أنّ هذا القرآن لا يمكن أن يأتي به عقل بشري ، فعدم معرفة الرسول القراءة والكتابة دليل قاطع على هذا المعنى.

وفي آيتين من القرآن الكريم جاء تصريح واضح أيضاً : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الامِّيَّ) و (فآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الامِّيِّ). (الأعراف / ١٥٧ ـ ١٥٨)

وفي آية اخرى ضمنت ذلك المعنى بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مِّنهُم). (الجُمعة / ٢)

ونحن نعرف أنّ أشهر تفسير لكلمة «أُميّ» هو من لا يقرأ ولا يكتب وحاله كحال الذي يخرج من بطن أُمه لم ير استاذاً ولا مدرسة.

وفسّر البعض كلمة «أُميّ» بأنّه من قام من بين الامة والنّاس لا من بين الطغاة والجبابرة. وبعضهم يذهب إلى أنّه من وُلد في مكة المكرمة لأنّ أحد أسمائها (أم القُرى) أو من قام من مكة ، وتخلتف الروايات بهذا الصدد ولكن لا مانع في ذلك لو احتملنا أنّ كلمة «أُميّ» تتضمن معنى المفاهيم الثلاثة (لا يقرأ ولا يكتب) ، وقام من بين الأمة ، وولد في منطقة مكة.

وقد حاول بعض المستشرقين المخالفين أن يسلبوا هذه الخصيصة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث زعموا أنّه كان رجلاً غير (أمي) ، ولو أنّه كان كما يدعون فكيف خفي ذلك على بيئة لا يمكن أَن يخفى فيها شيء على أحد ، بل إنّها ليس لها القدرة على انكار ذلك.

٣٩

بداية مرحلة البعثة النبوية :

ما تقدم يمثل لمحات مختصرة من القرآن الكريم حول حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة الشريفة ، والآن جاء دور البحوث المفصلة حول البعثة النبوية.

فقد أشار القرآن الكريم إشارات مختلفة حول بعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جملتها الآيات الخمس التي جاءت في أول سورة العلق ، التي اتفق المفسرون على أنّ نزولها في بداية (١) الوحي وبعثة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال عز من قائل : (اقْرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الانَسانَ مِن عَلَقٍ* اقْرَأ وَرَبُّكَ الاكرَمُ* الَّذِى عَلَّمَ بِالقَلَمِ* عَلَّمَ الانسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ) وكما هو المشهور فإنّ هذه الآيات نزلت على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في غار حراء.

أجل ، إنّ الله سبحانه وتعالى ذو القدرة هو الذي أنزل إليك كتاباً سماوياً عظيماً يحمل بين دفتيه أسمى العلوم والمعارف الجليلة والقوانين والدروس التربوية بوسائل بسيطة كالحروف الهجائية ، وأكد مرة اخرى على ضرورة تعلم القراءة باسم الخالق العظيم ، واضافة إلى مسألة القراءة أشار إلى تعلم الكتابة وإلى أنّ الله سبحانه هو المعلم ، الله معلم البشر الأول الذي (عَلَّمَ الانَسانَ مَالَمْ يَعْلَم) فكانت طرق التعليم على ثلاثة أقسام : (قسم خلقها على هيئة علوم فطرية في وجودها مع الإنسان في الفطرة ، وقسم آخر يعتمد العقل والتدبر والتفكير في عالم الخلق ، والقسم الثالث عن طريق الأنبياء).

إنّ هذه الآيات القرآنية تدل على أنّ البعثة بدأت في جو مفعمٍ بالمعنوية ومملوء بنور العلم والمعرفة (٢).

فثقل الوحي من جهة وثقل الرسالة التي أُلقيت على عاتق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اخرى ، والمستقبل المُرعب في المجابهة المحتومة مع المشركين المعاندين المتعصبين من جهة

__________________

(١) أورد بعض المفسرين ومن بينهم القرطبي قولاً ضعيفاً هو إنّ أول آية نزلت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله هي آيات ، سورةالحمد ، أو المدثر ، ولكن وفقاً لما ورد في تفسير روح البيان ، إذا كان هناك خلاف ففي سورة العلق كلها ولا يوجد هناك خلاف على الآيات الخمس الأوائل منها بكونها أول آيات نزلت ، ج ١٠ ، ص ٤٧٠.

(٢) في الآيات ١٦٤ من سورة آل عمران والآية ٢ من سورة الجمعة أيضاً إشارات إلى أصل البعثة ولم تذكر الآيات الاولى التي نزلت.

٤٠