نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

عليه شيئاً من الكذب؟ فقالوا : اللهم لا ، وكان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة من صدقه ، فقالت قريش للوليد : فما هو؟ فتفكرّ في نفسه ثم نظر وعبس فقال : ما هو إلّاساحر ، ما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر(١).

٢ ـ استماع زعماء قريش إلى القرآن

نقرأ في سيرة ابن هشام : أنّ أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والاخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يصلي ويتلو القرآن في بيته فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع منه وكلٌ لا يعلم صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ، ثم انصرفوا ، حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا (٢).

نعم لقد كانت جاذبية القرآن شديدة إلى درجة بحيث خضع لها حتى ألدُ الأعداء ، فلو أُزيلت عنهم حجب العصبية والنعاد والتعلق بالمصالح الشخصية لآمنوا بالله بصورة قطعية.

٣ ـ قصة ابن أبي العوجاء ورفاقه

ينقل المرحوم الطبرسي في الاحتجاج عن هشام بن الحكم العالم المعروف وأحد تلامذة الإمام الصّادق عليه‌السلام يقول :

__________________

(١) ونقل الحديث مفسرون عديدون ـ بتفاوت ـ كالفخر الرازي ؛ والمراغي ؛ والقرطبي ؛ والطباطبائي في الميزان ؛ وسيد قطب في الظلال.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٣٧.

٦١

اجتمع كل من (ابن أبي العوجاء) ، و (أبي شاكر الديصاني) ، و (عبد الملك البصري) ، و (ابن المقفع) وقد كانوا جميعاً من الملحدين الذين لا إيمان لهم ، اجتمعوا إلى جوار الكعبة واخذوا يسخرون من أعمال الحجاج ويوجهون الطعن إلى القرآن.

قال ابن أبي العوجاء : هَلمُّوا جميعاً لينقض كل واحد منّا ربعاً من القرآن ونأتي بشيء مثله ، وسيكون موعد لقائنا في السنة الآتية في هذا المكان ، عندما ننقض القرآن بأكمله ، لأن نقض القرآن هو السبب المؤدي إلى إبطال نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وإبطال نبوته هو إبطال للإسلام وإثبات لأحقية ادّعائنا ، فاتفقوا وتفرقوا على ذلك.

وفي السنة المقبلة ، وفي اليوم نفسه اجتمعوا إلى جوار الكعبة وأخذ ابن أبي العوجاء يحدثهم ويقول : منذ اليوم الذي تركتكم وابتعدت عنكم ، كُنت افكر في هذه الآية : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنهُ خَلَصُوا نَجِيّاً). (يوسف / ٨٠)

فوجدتها على جانب كبير من الفصاحة والغزارة المعنوية بحيث إنني لم أتمكن من أن اضيف شيئاً إليها ، إضافة إلى أنّ هذه الآية شغلت ذهني عن التفكير بغيرها.

وأمّا عبد الملك فقال : وأنا كذلك كنت افكر في هذه الآية حينما افترقت عنكم : (يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُربَ مَثَلٌ فاستَمِعُوا لَهُ إنَّ الَّذِينَ تَدعُونَ مِن دُونِ الله لَنْ يَخلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجتَمَعُوا لَهُ وإِنْ يسَلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيئاً لَّايَستَنقِذُوهُ مِنُه ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطلُوبُ). (الحج / ٧٣)

وقد وجدت نفسي عاجزاً عن الإتيان بمثلها.

وقال أبو شاكر : منذُ ذلك الوقت الذي ابتعدت عنكم كنت افكر في هذه الآية : (لَو كَانَ فَيهِمَا آلهةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا). (الأنبياء / ٢٢)

ولم أجد نفسي قادراً على الإتيان بمثلها.

وأضاف ابن المقفع فقال : «ياقوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر لأنني منذ تلك اللحظة التي افترقت فيها عنكم كنت أتأمل في هذه الآية : (وَقِيلَ يَا ارْضُ ابلَعِى مَآءَكِ وَيَاسَمَاءُ اقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِىَ الْامْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقَيِلَ بُعداً لِّلقَومِ الظَّالِمِينَ). (هود / ٤٤)

٦٢

ورأيت نفسي عاجزاً عن الإتيان بمثلها.

يقول هشام بن الحكم : في هذه الأثناء مر بالقرب منهم جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام وتلا هذه الآية : (قُل لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الانسُ وَالجنُّ عَلَى انْ يَأْتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرآنِ لَايأْتونَ بِمثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعضُهُمْ لبَعضٍ ظَهيراً). (الاسراء / ٨٨)

عندئذٍ أخذ يَنظر كل واحد منهم إلى الآخر ويقول : إذا كان للإسلام حقيقة قائمة بذاتها ، ولم يكن يمثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله سوى جعفر بن محمد عليه‌السلام فتالله لا يقع نظرنا عليه في وقت من الأوقات إلّاوتستحوذ علينا أُبهته ، وتقشعر أبداننا من هيبته ، قالوا هذا الكلام وتفرقوا معترفين بعجزهم.

٤ ـ قصة عثمان بن مظعون

وهو أحد صحابة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين ، قال عثمان بن مظعون : كنت أسلمت استحياءً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لكثرة ما كان يعرض عليَّ الإسلام ولما يقر الإسلام في قلبي فكنت ذات يوم عنده حال تأمله ، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئاً فلما سري عنه ، سألته عن حاله ، فقال : نعم بينا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية : (انّ اللهَ يَامرُ بالعدلِ وِالاحسان) وقرأها عليَّ إلى آخرها فقر الإسلام في قلبي وأتيت عمه أبا طالب فأخبرته فقال : يا آل قريش اتبعوا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ترشدوا ، فانّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق. وأتيت الوليد بن المغيرة وقرأت عليه هذه الآية فقال : إن كان محمد قاله فنعم ما قال وإن قاله ربّه فنعم ما قال (١).

٥ ـ قصة اسعد بن زرارة

وردت هذه القصة في كتاب (أعلام الورى) و (بحار الأنوار) وقد تحدثت عن الجاذبية والتأثير الهائل لآيات القرآن في نفوس المخاطبين.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٥ و ٦ ، ص ٣٨١ ، ذيل الآية ٩٠ من سورة النحل.

٦٣

واستناداً إلى (بحار الأنوار) ننقل الحكاية بصورة موجزة وكمايلي :

«قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس في موسم من مواسم العرب وهما من الخزرج ، وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بقوا فيها دهراً طويلاً وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار ، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث ، وكانت للأوس على الخزرج ، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس ، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعتبة بن ربيعة فنزل عليه فقال له : إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئنا نطلب الحلف عليهم ، فقال له عتبة : بعدت دارنا من داركم ، ولنا شغل لا نتفرغ لشيء ، قال : وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم؟ قال له عتبة : خرج فينا رجل يدّعي أنّه رسول الله ، سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا وأفسد شبابنا ، وفرّق جماعتنا ، فقال له أسعد : من هو منكم؟ قال ابن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً ، وأعظمنا بيتاً ، وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم : النضير وقريظة وقينقاع ، أنّ هذا أوان نبي يخرج بمكة يكون مهاجره بالمدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب ، فلما سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمع من اليهود ، قال : فأين هو؟ قال : جالس في الحجر وأنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّافي الموسم ، فلا تسمع منه ولا تكلمه فانّه ساحر يسحرك بكلامه.

وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب ، فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر لابدّ لي أن أطوف بالبيت؟ قال ضع في أذنيك القطن ، فدخل أسعد المسجد وقد حشا اذنيه بالقطن ، فطاف بالبيت ورسول الله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه نظرة فجازه ، فلما كان في الشوط الثاني قال في نفسه ، ما أجد أجهل منّي؟ أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أتعرفه حتى أرجع إلى قومي فأخبرهم ، ثم أخذ القطن من أذنيه ورمى به ، وقال لرسول الله : أنعم صباحاً ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رأسه إليه وقال : «قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا ، تحية أهل الجنة : السلام عليكم ، فقال له أسعد : إنّ عهدك بهذا لقريب ، إلى ما تدعو يا محمد؟ قال : «إلى شهادة أن لا إله إلّاالله ، وأنّي رسول الله ، وأدعوكم إلى

٦٤

«أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين احساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلّابالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلّابالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلّاوسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصّاكم به لعلكم تذكرون».

فلما سمع أسعد هذا قال له : أشهد أن لا إله إلّاالله وأنّك رسول الله ، يارسول الله بأبي أنت وامي أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين اخوتنا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك ، ولا أجد أعزّ منك ، ومعي رجل من قومي فإن دخل في الأمر رجوت أن يتمم الله لنا أمرنا فيك ، والله يارسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ، ويبشروننا بمخرجك ، ويخبروننا بصفتك ، وارجو أن يكون دارنا دار هجرتك عندنا ، فقد أعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلّالنطلب الحلف على قومنا ، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له. ثم أقبل ذكوان فقال له أسعد : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به ، وتخبرنا بصفته ، فهلّم فأسلم ذكوان ، ثم قالا : يارسول الله ابعث معنا رجلاً يعلمنا القرآن ، ويدعو الناس إلى أمرك ، فقال رسول الله لمصعب بن عمير ، وكان فتى حدثاً مترفاً بين أبويه يكرمانه ويفضلانه على أولادهما ولم يخرج من مكة ، فلما أسلم ، جفاه أبواه ، وكان مع رسول الله في الشعب حتى تغيّر وأصابه الجهد ، وأمره رسول الله بالخروج مع أسعد ، وقد كان تعلم من القرآن كثيراً ، فخرجا إلى المدينة ، ومعهما مصعب بن عمير فقدموا على قومهم وأخبروهم بأمر رسول الله وخبره ، فأجاب من كل بطن الرجل والرجلان(١).

٦ ـ قصة الأصمعي المثيرة

ينقل الزمخشري في تفسير (الكشاف) عن الأصمعي (٢) أنّه قال : أقبلت من جامع البصرة

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٩ ، ص ٨ ـ ١٠.

(٢) اسمه عبد الملك بن قريب ، عاش في أيّام هارون الرشيد ، اشتهر بكثرة حفظه ومعلوماته الواسعة عن تاريخ العرب وآدابهم توفي في البصرة سنة ٢١٦ ، الكنى والالقاب ، ج ٢ ، ص ٣٧.

٦٥

فطلع أعرابي على قعود له فقال : من الرجل؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل عليَّ ، فتلوت «والذاريات» فلما بلغت قوله تعالى : (وَفِى السَمَاء رِزْقُكُمْ) قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فاذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق ، فالتفتُّ فاذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفّر ، فسلم عليَّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقاً ، ثم قال : وهل غير هذا؟ فقرأت : (فورب السماء والأرض إنّه لحق) ، فصاح وقال : ياسُبحان الله ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى الجأوه إلى اليمين ، قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه (١).

٧ ـ رد فعل إعرابي تجاه آية من القرآن

وروي أنّ رجلاً تعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن فلما انتهى إلى قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَراً يَرَهُ) (الزلزلة / ٧ ـ ٨)

قال : يكفيني هذه ، وانصرف ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انصرف الرجل وهو فقيه (٢).

٨ ـ القصة المثيرة للسيد قطب

ينقل السيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن قصة عجيبة من حياته ، وذلك في ذيل قوله تعالى : (امْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ). (يونس / ٣٨)

يقول : اذكر حادثاً وقع لي وكان عليه معي شهود ستة ، وذلك منذ نحو خمسة عشر عاماً ... كنّا ستة مسلمين على ظهر سفينة مصرية تمخر عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك ، من بين ١٢٠ راكباً وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم ... وخطر لنا يوم الجمعة أن

__________________

(١) الكشاف ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٢) تفسير روح البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٩٥ ؛ وتفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٦٥٠ ؛ وسفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٤١٤ ، مادة (قرء) والتفسير الأمثل ، ذيل آيات سورة الزلزال.

٦٦

نقيم صلاة الجماعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم ـ أنّه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة لذاتها أكثر ممّا كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يقوم بمزاولة عمله على ظهر السفينة ، وحاول أن يزاول تبشيره معنا! ... وقد يسَّر لنا قائد السفينة ـ وكان انجليزياً ـ أن نقيم صلاتنا ، وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمتها ـ وكلهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلي معنا من لا يكون في (الخدمة) وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً ، إذ كانت المرة الاولى التي تقام فيها صلاة الجماعة على ظهر السفينة ... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ، والركاب الأجانب معظمهم ـ متحلقون يرقبون صلاتنا ، وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح (القدّاس)! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا! ولكن سيدة من هذا الحشد ـ عرفنا فيما بعد أنّها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم تيتو وشيوعيته! ـ كانت شديدة التأثر والانفعال تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها جاءت تشد على أيدينا بحرارة ، وتقول : ـ في انجليزية ضعيفة ـ أنّها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح! ... وليس هذا موضع الشاهد في القصة ... ولكن ذلك كان في قولها : أي لغة هذه التي يتحدث بها (قسيسكم)! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم (الصلاة) إلّاقسيس ـ أو رجل دين ـ كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها : فقالت : إنّ اللغة التي يتحدث بها ذات ايقاع موسيقي عجيب ، وإن كنت لم أفهم منها حرفاً ... ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول : ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه ... إنّ الموضوع الذي لفت حسي ، هو أن (الإمام) كانت ترد في أثناء كلامه ـ بهذه اللغة الموسيقية ـ فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق ايقاعاً ... هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيَّ رعشة وقشعريرة! إنّها شيء آخر! كما لو كان الإمام ـ مملوءاً من روح القدس! حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها! وتفكرنا قليلاً ، ثم أدركنا أنّها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت ـ مع ذلك ـ مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة ، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئاً (١)!

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٤٢٢.

٦٧

٩ ـ قصة النجاشي وعلماء الحبشة المسيحيين

لقد جاءت أول هجرة للمسلمين إلى الحبشة وذلك بسبب الضغوط والأذى الذي تعرضوا له من مشركي مكة ، ممّا اضطرهم إلى الهجرة إلى الحبشة بأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد آواهم ملك الحبشة وعاشوا فيها بأمان.

ويعدُ هذا الأمر من العوامل الرئيسية التي ساعدت في انتشار الإسلام بشكل تدريجي في الحبشة ، وكذلك ساعد على انتشار الإسلام في مكة وذلك لأنّ المسلمين وجدوا لهم مخرجاً ، فعندما كانوا يتعرضون للاذى والمضايقة فكّروا أن يهاجروا إلى الحبشة.

يذكر ابن هشام في تاريخه المعروف ... :

«فلما رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة ، وأنّهم قد أصابوا بها داراً وقراراً ، ائتمروا بينهم أن يبعثوا رجلين من قريش جَلْدين إلى النجاشي فيردّهم عليهم ليفتنوهم في دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها ، فبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته ... وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بَطْريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم ، ثم قدِّما إلى النجاشي هداياه ، ثم سَلاهُ أن يُسلِّمهم إليكما قبل أن يُكلِّمهم ، فخرجا حتى قدّما إلى النجاشي هداياه وقالا لكل بَطْريق منهم : إنّه قد ضوى إلى بلد الملك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم ، وجاءوا بدين مبتدع ، لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم ، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأنّ يُسلِّمهم إلينا ولا يُكلِّمهم فإنّ قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم.

فقالوا لهما : نعم ، ثم كلّما الملك : ياأيّها الملك ، إنّه قد ضوى إلى بلدك منّا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم ، فهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه ، فقال بطارقته الذين كانوا حوله : صدقا أيّها

٦٨

الملك ، قومهم أعلى بهم عيناً وأعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم ، فغضب النجاشي ثم قال : لاها الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا يُكادُ قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى ادعوهم فاسألهم عمّا يقول هذان في أمرهم ، فإنْ كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني. ثم أرسل إلى أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض : ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا : نقول والله ما علمنا وأمرنا به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله ، سألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم قومكم فيه ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فقال جعفر عليه‌السلام : «أيّها الملك كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته ، وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمر بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم ... وأمرنا بالصلاة والزكاة ، والصيام ، فعدد علينا امور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ماجاء به من الله ... فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان فخرجنا إلى بلادك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك» ، فقال له النجاشي : هل معك ممّا جاء به عن الله من شيء؟ قال جعفر : نعم ، قال النجاشي : فاقرأه عليّ ، فقرأ جعفر عليه‌السلام كهيعص ذكِرُ رحمتِ رَبّكَ عَبْدهُ زكريا .... ، فبكى النجاشي حتى اخضلّت لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلّت مصاحفهم ... فضرب النجاشي بيده على الأرض ، فأخذ منها عوداً ، ثم قال : «والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلتَ هذا العود إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاةٍ واحدة ، إِنطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون».

فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به» (١).

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٣٥٦ ، بشكل مُلخص.

٦٩

١٠ ـ تأثير القرآن في اوساط العلماء الاجانب

لم يقتصر تأثير القرآن على العرب في الأدوار الاولى لعصر الرسالة وما بعدها ، وإنّما شمل عصرنا هذا حتى أولئك الذين لايحيطون علماً برموز الأدب العربي ؛ فإنّ تأثيره بينهم قوي عجيب ؛ ولهذا السبب انبرى عدد من العلماء الغربيين إلى تعظيم القرآن والاعتراف بحقائقه التي هي مورد اعتزازنا ومن جملة هؤلاء :

الدكتور (واغليري) الاستاذ بجامعة (فاپل). حيث يقول في كتابه المعروف (التطور السريع للاسلام) : «كتاب الإسلام السماوي هو أحد نماذج الاعجاز ، والقرآن هو الكتاب الذي لا يمكن أنْ يُقلّد؟ فكيف يمكن أن يكون هذا الكتاب الاعجازي من انشاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الرجل العربي الذي لم يتعلم القراءة والكتابة ، إننا نجد في هذا الكتاب من المحتويات والمضامين العلمية ما يفوق قابلية واستعداد أذكى أفراد البشر وأكبر الفلاسفة واقوى رجال السياسة» (١).

ويقول (كارلايل) العالم الانجليزي المعروف بصدد القرآن : «إذا ألقينا نظرة واحدة على هذا الكتاب المقدس ، لوجدنا حقائق جلية ، وخصائص أسرار الوجود مكنونة في مضامينها الجوهرية ، بالصورة التي تبين حقيقة القرآن وعظمته بوضوح ، وهذا بحد ذاته مزية كبرى يختص بها القرآن وتفتقر إليها كل الكتب العلمية والسياسية والاقتصادية ، وإن كانت بعض الكتب تحدث تأثيراً عميقاً في ذهنية الإنسان ، إلّاأنّها لا تشابه القرآن في نفوذه وتأثيره».

يذكر (جان ديون بورت) في كتابه (اعتذار إلى حضرة النبي والقرآن) : «القرآن منزّه عن النواقص ، والعيوب بحيث لا يحتاج إلى أدنى تصحيح أو تقويم.

ثم يضيف على ذلك قائلاً : إنّ القسيسين أوجدوا ـ ولسنوات طويلة ـ هوة بعيدة بيننا وبين التعرف على حقائق القرآن المقدسة وعظمة المبشِّر به (محمد) صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّاأننا كلما قطعنا خطوة في طريق العلم والمعرفة ، كلما أنزاحت عنا حُحُب الجهل والتعصب ، وسيستقطب هذا الكتاب الغني عن الوصف العالم إلى نفسه في القريب العاجل ، ويحدث تأثيراً عميقاً في

__________________

(١) كتاب (التطور السريع للاسلام) ترجمة المرحوم سعيدي ص ٤٩ (بشكل ملخص).

٧٠

العلم والفكر البشري ، وسيصبح محور أفكار الدنيا (١).

ويقول الشاعر الألماني الكبير (غوته) : «نحن كنا في بادىء الأمر مبتعدين عن القرآن ، ولم تنقضِ مدّة طويلة حتى أصبح هذا الكتاب موضع توجهنا واهتمامنا ومبعث حيرتنا ، إلى الحد الذي أذعنا فيه بالتسليم لُاصوله وقوانينه العلمية الكبيرة».

ويقول العالم الفرنسي (جول لابن) في كتاب (تفصيل الآيات) : «إنّ الذي أوقد فتيل العلم والمعرفة في العالم هم المسلمون ، ونهلوا العلوم والمعرفة من بحر القرآن واجروا منه أنهاراً وينابيع إلى البشرية في العالم» (٢).

يكتب (دينورت) أحد علماء الغرب في مايلي : «يجب الاعتراف بأنّ الفضل في انتشار العلوم الطبيعية والفلكية والرياضيات في اروبا إنّما يعود إلى تعليمات القرآن والمسلمين وأننا لمدينون لهم ، بل يمكن القول : إنّ اروبا ـ من هذه الجهة ـ هي احدى البلاد الإسلامية» (٣).

ويقول المستشرق الشهير (نولدكه) : «لقد فرض القرآن سيطرته باستمرار على قلوب أولئك الذين يخالفونه عن بعد وأوجد فيما بينه وبينهم ارتباطاً قوياً» (٤).

* * *

ب) الذين لجأوا إلى المعارضة

ذكرنا فيما سبق إنّ المعجزة تمثل تحدياً ودعوة للآخرين بالمواجهة ، فيعجز الجميع عن الإتيان بمثلها ، وهنا يتبادر في الذهن سؤال ، وهو : لقد تحدى القرآن البشرية والجنّ وعلى مر التاريخ أنْ لا يستطيعون الإتيان بمثله أبداً ، من أين يعلم القرآن بأنّ هذا التحدي سوف يستمر مفعوله على طول التاريخ؟

__________________

(١) اعتذار إلى محمد والقرآن. ترجمة فارسية ص ١١١.

(٢) المعجزة الخالدة.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مجموعة مقالات على كتاب.

٧١

الجواب واضح ، فهذا الموضوع ليس بمسألة هامشية حتى يمكن للتاريخ أن ينساها ، بل هي مرتبطة كثيراً بمصير هذه العقيدة المهمّة ومصير منافسيها الذين يمتلكون قدرة هائلة ويصرفون سنوياً مبالغ ضخمة في محاربة الإسلام ومواجهته ولو كان يقع مثل هذا الأمر ، لاتخذوا من ذلك وسيلة اعلامية وبوقاً دعائياً واسعاً ومربحاً.

وعليه وبناءً على المثل المعروف القائل : «لو كان لبان» لابد أن يبدو للعيان كل مظهر من مظاهر المعارضة والمواجهة في هذا المجال ، ولهذا السبب كانت ترد بعض الاتهامات على عدة من الأفراد الذين قد لا يفكرون في معارضة القرآن اطلاقاً واتُخِذَ من ذلك وسيلة دعائية ، وهذا يدل بوضوح على الاصرار الكبير على هذه المسألة من قبل المناوئين ولهذا الأمر كانوا يتشبثون بكل الوسائل الممكنة في سبيل الوصول إلى مقاصدهم الدنيئة.

١ ـ الشخص الوحيد الذي سجله التاريخ هو (مُسَيلَمة) المشهور (بالكذاب) الذي قام بادّعاء النبوة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى أرض (اليمامة) من منطقة شرق الحجاز.

كان اسمه الحقيقي (مسيلمة بن حبيب) وأظهر دعوته في آواخر حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله (في السنة العاشرة للهجرة) وكان يبذل ما وسعه من أجل أن يقلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في كل شيء.

ويدعي أنّ ملكاً ينزل عليه اسمه (رحمان) ويأتيه بآيات تشابه آيات القرآن.

وقيل : إنّه طلب من النبي أن يشاركه في النبوة ويوصي بأنّ يقوم مقامه بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يكف عن المخالفة والعداء.

ونستشف من الكثير من القرائن والامارات أنّ أيادي العصبيه القبلية كانت وراء مسيلمة وتؤيده على هذا العمل وتؤازره.

وكان أهل اليمامة يتخذون هذه الوسيلة للقضاء على سيادة قريش وحاكمية أهل مكة والمدينة التي تحققت تحت ظل مقام نبوة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولهذا السبب كانوا يبحثون عن رجل يثير الشغب ويطلب الرئاسة والمال ، فوجدوا هذه الصفات عند مسيلمة.

٧٢

إلّا أنّ الحديث الذي ينقل عنه بعنوان المعارضة للقرآن يدل بوضوح ـ فضلاً عن كل ما مرّ ـ على أنّه رجل سخيف ، يعتمد السجع في الكلمات من دون أن يهتم بمحتوى كلامه.

من جملة عباراته المضحكة التي نقلت عنه في هذا المجال كتقليد للقرآن ، هي هذه الكلمات :

«والمبذرات بذراً ، والحاصدات حصداً ، والذاريات قمحاً ، والطاحنات طحناً ، والعاجنات عجناً ، والخابزات خبزاً ، والثاردات ثرداً ، واللاقمات لقماً ، إهالة وسمناً» (١).

يبدو أنّه يريد من وراء هذه الجمل المضحكة أن يتحدى آيات سورة العاديات أو الذاريات.

يقول القرآن : (وَالعَادِيَاتِ ضَبحَاً* فَالمُورَياتِ قَدحَاً* فَالمُغِيَراتِ صُبحَاً* فَأَثَرنَ بِهِ نَقعَاً* فَوَسَطنَ بِهِ جَمعَاً* انَّ الانَسانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ ...) انظر إلى هذا التفاوت البعيد.

ينقل عنه في عبارة اخرى أنّه نزلت عليه هذه الآيات «يا ضفدعة بنت ضفدعين نقي ماتنقين أعلاكِ في الماء وأسفلك في الطين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين» (٢).

وسائر الأحاديث أو بحسب زعمه الآيات الاخرى التي نقلت عنه هي على هذه الشاكلة أيضاً ، بل إنّ بعضها أسوء حالاً ، وبعضها ركيك ، فالإعراض عن ذكرها أولى.

ويستفاد بوضوح من عباراته التي نقلت عنه أنه يولي السجع أهميّة كبيرة ويرى ذلك كافياً ، بالضبط على غرار الأشعار التي تنظم في زماننا للاطفال وهي مطالب خاوية لا قيمة لها تصب من دون معنى مترابط في قوالب شعرية ، ويكتفون بقافيتها فقط.

يذكر المؤرخون : أنّه كان في عصره امرأة معروفة بالكذب اسمها (سَجاح) على وزن حَباح) ، وكانت العرب تقول : «فلان أكذب من سجاح» نظراً لما اشتهر عنها بالكذب. وهي من بني تميم ، وكانت تدعي النبوة ونزول الوحي عليها أيضاً وتبعها ثلة من الناس ، وأخذت هي الاخرى تنشىء الفاظ السجع كمسيلمة.

__________________

(١) سفينة البحار ، مادة (سلم) ؛ تاريخ ابن الاثير ، ج ٢ ، ص ٣٦١ ؛ اعجاز القرآن للرافعي ، ص ١٢٧.

(٢) المصدر السابق ص ١٢٨.

٧٣

يقال : انَّ أتباع هذين الشخصين المتجاورين استعد كل منهما للحرب مع الآخر ، إلّاأنّ مسيلمة توسل بأسلوب الحيلة والمكر واختلى بسَجاح ، وقال لها : هل ترغبين بالزواج مني ، فتتحد قبيلتي مع قبيلتك ونحمل حملة رجل واحد على العرب ، فرضيت بذلك ، ومكثت معه ثلاثة أيّام ولما رجعت سألها أفراد قبيلتها عن مهر هذا الزواج ، فجاءت إلى مسيلمة وطالبته بالمهر ، فأمر مسيلمة أحد الأشخاص بالنداء بين القبيلتين : إنّ مهر سجاح هو رفع وحذف صلاتي الصبح والعشاء اللتين وردتا في شريعة محمد.

وعندما قُتل مسيلمة في حرب اليمامة بعد رحلة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله على يد قاتل حمزة المعروف (وحشي) أظهرت هذه المرأة الإسلام (١).

ولقد اشتهر هذان الشخصان بالكذب إلى درجة بحيث قال أحد الشعراء في حقهما :

والت سَجاح ووالاها مسيلمةٌ

كذابةٌ من بني الدنيا وكذّابُ

٢ ـ ومن ضمن الأفراد الذين قاموا بمعارضة القرآن في آواخر حياة النبي هو (الأسود العنسي) وكان هو الآخر يكتفي بتلفيق الكلمات في معارضة القرآن وإن كانت فارغة من المحتوى ، وادّعى النبوة في أيّام حجة الوداع (في آواخر حياة النبي) ولم تستغرق مدّة ادّعائه للنبوة أكثر من أربعة أشهر.

وقد فرض سيطرته على بلاد (البحرين) و (نجران) وقسم من بلاد (اليمن) وسواحل (الخليج الفارسي) وغيرها ومن ثمَّ قتل في اليمن على يد «فيروز» الايراني مستعيناً بزوجته ، ووصلت أنباء قتله إلى المدينة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

ويقال : إنّه كان يعيش في الأماكن المنحطة فكرياً وخلقياً ، ولهذا السبب تبعه مجموعة من شذاذ الآفاق ، وكان يراهن على السجع في كلماته لمعارضة القرآن ، كما نقل عن مسيلمة ذلك آنفاً. إلّاأنّ اتباعه سرعان ما اطلعوا على فساد عقيدته وابتعدوا عنه.

٣ ـ وردت بعض الاتهامات المفتعلة أيضاً إلى عدد من الشخصيات بمعارضة القرآن وإن

__________________

(١) دائرة معارف القرن العشرين ، فريد وجدي وفق نقل تنزيه التنزيل للمرحوم الشهرستاني ص ١٧٦.

(٢) دايرة معارف البستاني وفق نقل تنزيه التنزيل للسيد هبة الدين الشهرستاني ص ١٨٦.

٧٤

لم يثبت تاريخياً ، وقد يكون السبب وراء تلك الاتهامات أنَّ مجموعة من الجهال فسرت قسماً من المقاطع المسجعة لبعض الادباء العرب على انّها تحد للقرآن الكريم ، أو أنّ الأعداء المحتالين أرادوا أنْ يستغلوا هذا الاحتمال.

ومن جملتهم : (عبد الله بن المقفع) وهو من الكتاب والادباء المعروفين في القرن الثاني للهجرة عاصر الإمام الصادق عليه‌السلام ويُقال عنه إنّه كان في بداية الأمر مسيحياً ثم أسلم بعد ذلك ، وكان يمتلك الاحاطة الكاملة باللغة الفارسية ، وترجم إلى العربية بعض الكتب من جملتها كتاب (كليلة ودمنة) وقد أظهر الإسلام بوضوح في المقدمة التي كتبها لهذا الكتاب. ولكن يقال : إنّه سُمع منه أحياناً بعض الكلمات الجارحة.

ومن ثَمَّ سلَّموه إلى أمير البصرة (سفيان بن معاوية المُهلبي) فقتله بسبب بعض الاختلافات الجانبية بينهما ظاهراً.

ويقالُ : إنّه لما أراد سفيان أن يلقيه في التنور قال له : أقتلك ولا شيء عليّ لأنّك زنديق قد أفسدت عقائد الناس. وعلى أي حال فإنّ عقائده ليست واضحة لنا بدقة ، ولكن المسلّم به هو أنّه لم يدعُ إلى معارضة القرآن ، وإن كان بعضهم يرى أنّ كتابه المعروف (بالدرة اليتيمة) دُوِّنَ لهذا الغرض ، ومن حسن الحظ أنّ كتابه هذا بين أيدينا وقد طبع عدّة مرات. ولم نرَّ فيه أيّة إشارة لمسألة المعارضة للقرآن ، ولا يعلم ما هو السبب وراء هذه النسبة له ولكتابه.

وعلى أيّة حال لا توجد هناك وثيقة تاريخية تدل على معارضته للقرآن ، وكتابه المذكور وإن دوّن بصورة أدبية إلّاأنّه لا يوجد فيه شيء يدل على (تحديه) للقرآن.

٤ ـ من ضمن الأشخاص الذين نسبت إليهم هذه التهمة أيضاً : (أبو العلاء المعري) وهو من الكتاب والشعراء المعروفين في القرن الخامس للهجرة ، وكان رجلاً ملحداً ، نقل عنه كلام جارح ، بحيث لايمكن القياس بينه وبين (عبد الله بن المقفع) ، إلّاأنّه ـ وعلى أي حال ـ لا يوجد بين أيدينا سند تاريخي يدل على توجهه إلى تحدي القرآن ؛ ولعل توجيه مثل هذه النسبة إليه يعزى إلى اتهامه بالإلحاد وعدم التدين من جهة ، وإلى كونه أديباً وشاعراً وكاتباً

٧٥

من جهة اخرى ؛ يشهد على ذلك استخفافه بالعبارات المسجعة المذكورة في كتاب (التاج) لابن الراوندي ، إذ يقول بصراحة في (رسالة الغفران) التي كتبها رداً ، على كتاب (التاج) : بان قوافي وسجعيات ابن الراوندي لاتعدو أن تكون نظير ما يقوله الكهنة نحو : افٍ وتُفٍ وجَورَبٍ وخُفٍ (١).

وعلى هذا الأساس ، يرى هو الآخر أن حَبكَ العبارات المسجوعة من دون مضمون ليس لها أية قيمة وأهميّة.

ومن الجدير بالذكر ، أنّه يمتلك مقالة جيدة بصدد القرآن في رسالة الغفران نفسها تدل على اعترافه بعظمة القرآن وشموخ معانيه (وإن كان لا يعتبره وحياً سماوياً) فهو يقول بصراحة : عندما تأتي آية واحدة من القرآن في حديث ما فهي كنجم مضيء يتلألأ في ليل بهيم.

٥ ـ (أحمد بن الحسين الكوفي) الشاعر المعروف بالمتنبي الذي يظهر من اسمه أنّه كان ادّعى النبوّة ، وقد كان من ادباء القرن الرابع للهجرة ، وهو على جانب كبير من الذوق الشعري ، في بداية الأمر اعتنق الإسلام لكنه ادّعى النبوّة بعد ذلك كما قيل ، ومن الجدير بالذكر أن دعواه هذه كانت في السنة السابعة عشرة من عمره.

جاء في حاشية كتاب (اعجاز القرآن) للرافعي : أنّه ادّعى النبوّة في سنة ٣٢٠ ه‍. وتبعه جمع من (بني كلب) ، ومن ثَمّ ألقاه والي حمص في السجن وتفرق عنه اتباعه ، فتاب وافرِج عنه ، ثم أنكر هذا الأمر بعد ذلك ، ومرّت مدّة من الزمن أصبح فيها مقرباً إلى (سيف الدولة) وكلما ذُكِّر في مجلسه ادّعائه للنبوّة كان ينكر ذلك ؛ قُتل في نهاية الأمر على يد (فاتك بن أبي جهل) بسبب وقوع اختلافات بينه وبين اتباع (عضد الدولة الديلمي) (٢).

٦ ـ ومن ضمن الأشخاص الذي فكروا في تحدي القرآن : (أحمد بن يحيى) المعروف بابن الراوندي ، وهو من متكلمي المعتزلة ، لازَمَ الملحدين والمناوئين للاسلام دائماً لأنّهم

__________________

(١) اعجاز القرآن للرافعي ، ص ١٣٧.

(٢) المصدر السابق.

٧٦

كانوا يلومونه كثيراً ، وكان يقول : أريد أن احيط علماً بعقائدهم ؛ ثم تظاهر بالالحاد بعد ذلك ودخل في منازعات مع الناس ، يقال : إنّ أباه كان يهودياً ثم أسلم ، لذا قال بعض اليهود لبعض المسلمين : إنّ ابن الراوندي سيضيع كتابكم كما ضيع والده كتاب اليهود.

وكتبوا عنه : أنّه لم يستقر على عقيدة معينة ، إذ كتب لليهود كتاباً في الرد على الإسلام ، مقابل أربعمائة درهم تحت عنوان (البصيرة) ولما انتهى منه ، انبرى للرد عليه ، وامتنع عن ذلك مقابل استلامه لمائة درهم.

ويقال : إنّه قام بتأليف كتاب ، يتحدى به القرآن اسمه (التاج) إلّاأنّه لم تقع في ايدينا نسخة منه إلى وقتنا هذا. وهو الكتاب نفسه الذي يقول عنه (أبو العلاء المعري) : أمّا تاجُهُ فليس إلّانعلاً! وهل تاجه إلّاكما قالت الكهنة : افٍ وتُفٍ وجورَبٍ وخُفٍ (١).

* * *

يُستنتج بشكل واضح من كل ما قلناه : أنّ أحداً لم يعطِ جواباً لدعوة القرآن إلى المناظرة والتحدي ، على الرغم من توفر الدواعي لهذا الأمر ، ابتداءً من زمن المشركين العرب وأهل الجاهلية ، وانتهاءً بهذا اليوم الذي تخصص فيه القوى الاستكبارية رؤوس اموال ضخمة من اجل القضاء على الإسلام والقرآن ، ومن الطبيعي أنه إذا كان باستطاعتهم أن يعبئوا طاقات الادباء العرب والعلماء الاجانب للإتيان بما يماثل القرآن لما ادخروا وسعاً في ذلك.

وما نشاهد في طول التاريخ من أشخاص كمسيلمة وسجاح مع كل فضائحهما فأنّهم لم يثبتوا قدماً واحداً في هذا وعندئذ سندرك جيداً عدم إمكانية هذا الأمر ، وإلّا لكان ذلك ذريعة كبرى يتوسل بها أعداء الإسلام المعاندون لنشر هذا الأمر في كل مكان ، وهذا هو معنى الضعف والعجز عن تحدي القرآن.

* * *

__________________

(١) اعجاز القرآن ص ١٣٣ ـ ١٣٧.

٧٧
٧٨

صور اعجاز القرآن

١ ـ الاعجاز القرآني في الفصاحة والبلاغة

٢ ـ الاعجاز القرآني على صعيد المعارف الإلهيّة

٣ ـ اعجاز القرآن في تصور العلوم الحديثة

٤ ـ الاعجاز التاريخى للقرآن

٥ ـ الاعجاز القرآني في سن القوانين

٦ ـ الاعجاز الغيبي للقرآن

٧ ـ الاعجاز القرآني في عدم وجود التناقض والاختلاف

٧٩
٨٠