نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

ثالثة ، كانت سبباً في شعور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتعب الشديد بعد نزول الوحي عليه أول مرةٍ ، فرجع إلى بيته ونام على فراشه وإذا بصوت الوحي يقرع مسامعه للمرة الثانية بقوله تعالى : (يَاايُّهَا المُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّر). (المدثر / ١ ـ ٣)

وهناك أقوال كثيرة حول سبب نزول هذه الآية عند المفسرين.

فبعضهم يقول : إنّها تتعلق بزمان تجمع فيه المشركون العرب في موسم الحج ، وتشاوروا لمجابهة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد جاء في روايات متعددة أنّ الآيات الاولى من سورة العلق ـ على أقل تقدير ـ نزلت بعد حادثة غار حراء وبعثة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والآيات الباقية لها تتعلق بالسنوات التالية (١).

وتشابه هذه الآيات ، الآيات الاولى من سورة المزّمل التي أشارت أيضاً إلى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تدثر بردائه ونام في فراشه فنزل قوله تعالى : (يَاايُّهَا المُزَّمِّلُ* قُمِ الَّليلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِّصفَهُ اوِ انقُصْ مِنهُ قَليِلاً* او زِدْ عَلَيهِ وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرتِيلاً* انَّا سَنُلقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً).

واسلوب هذه الآيات يدلل على أنّها نزلت في أوائل الدعوة الإسلامية لأنّ إلقاء القول الثقيل يشير إلى القرآن المجيد الذي نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمان كان عدد المؤمنين فيه قليلاً ، فاضطر صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى جمع المؤمنين ليلاً وبعيداً عن أنظار الأعداء ليقرأ عليهم الآيات القرآنية التي كانت تحتوي على المعارف والقوانين الإسلامية.

وطبيعي أنّ قسماً من آيات هذه السورة قد نزلت في السنوات التالية ، بل وهناك احتمال أنّ الآية الطويلة الواقعة في آخر السورة والتي جاء فيها حثٌ على الجهاد في سبيل الله سُبحانه قد نزلت في المدينة أواخر المرحلة المكية (لأنّ فيها أخباراً عن المستقبل القريب).

وعلى أيّة حال فليس هناك سبب يمنع نزول الآيات الاولى من السورة في بداية الدعوة

__________________

(١) فسّر المفسرون كلمة (المدثر) على خمسة تفاسير ، وردت في التفسير الامثل ، ذيل هذه الآيات وأكثر الجميع ملاءمة هو أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان مضطرباً فنام في فراشه ونزلت تلكم الآيات.

٤١

وبالأخص أنّ كثيراً من المفسرين قد أشاروا إلى ذلك.

ومن المعروف أنّ دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت سرية في بداية البعثة ولم يتصل ويدع إلى الإسلام إلّاالخواص الذين كان يطمئن باستعدادهم النسبي لتلبية دعوته ، وفي هذه المدّة آمنت به عدّة معدودة.

قصة يوم الدار :

وفي السنة الثالثة للبعثة أمر الله سبحانه رسوله الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعلن الدعوة الإسلامية فنزلت الآية الكريمة : (وَانذِرْ عَشِيرَتَكَ الاقرَبِينَ). (الشعراء / ٢١٤)

وفي ا لآية : (فَاصدَعْ بِمَا تُؤمَرْ وَاعرِضْ عَنِ المُشرِكِينَ). (الحجر / ٩٤)

فأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دعوته مبتدئاً بالأقربين من عشيرته ، وهذه القصة معروفة ، وقد بيّناها في القسم السابق.

وفي هذه الأثناء تعرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ضغوط متنوعة ، وتحرك الأعداء ضده من كل حدبٍ وصوبٍ.

والجدير بالذكر أن تحرك الأعداء ضد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان على عدّة مراحل واشكال مختلفة (ويظهر أنّ هذه المراحل كانت موجودة في جميع الدعوات الإلهيّة).

المرحلة الاولى : كانت مرحلة الاستهزاء وهي أول المراحل في زمان لم ينظر فيه المشركون بشكل جدي إلى الدين الجديد ، ولم يحسوا بخطره الحقيقي ، بل تصوروا أنّ السخرية والاستهزاء سينهيان الأمر سريعاً ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك ، وقد جاء تعبير عن تلك المرحلة بقوله تعالى : (وَاذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا انْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً اهَذَا الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بَذِكْرِ الرَّحَمنِ هُمْ كَافِرُونَ) (١). (الانبياء / ٣٦)

ولم تنحصر السخرية والاستهزاء بنبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بل تعرض لها جميع الأنبياء

__________________

(١) وجاء مثل هذه المعنى في الآية ٤١ من سورة الفرقان (وَإِذَا رَأَوْكَ ان يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً).

٤٢

السابقين : (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ الَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ). (الحجر / ١١)

ولما رأى المشركون أنّ السخرية والاستهزاء لم تؤثرا شيئاً وأنّ الإسلام ما زال يواصل تقدمه دون تلكؤ ، انتقلوا إلى المرحلة الثانية :

لقد تصور المشركون أنّهم سيخرجون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من ميدان الصراع بإلصاق التهم به كالجنون او (السحر) ، أو (الشِعر) ، أو أنّ ما جاء به قد تعلمه على يد هذا أو ذاك أو أنّه منقول من أساطير الأولين.

فمرة يقولون : (يَاايُّها الَّذِى نُزِّلَ عَلَيهِ الذِّكرُ انَّكَ لَمَجنُونٌ). (الحجر / ٦)

واخرى يقول بعضهم للآخر : (ائِنّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنا لِشَاعِرٍ مَّجنُونٍ). (الصافات / ٣٦)

وأحياناً يقولون : (هَذَا سِحْرٌ وَانَّا بِهِ كَافِرُونَ). (الزخرف / ٣٠)

وأضاف القرآن الكريم : إنّه ليس مشركو العرب لوحدهم ألصقوا تلك التُهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب بل إنّ هذه التهم قد عانى منها كل الأنبياء : على مر التأريخ : (كَذَلِكَ مَا اتَى الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ الَّا قَالُوا سَاحِرٌ اوْ مَجنُونٌ). (الذاريات / ٥٢)

وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعلَمُ انّهُم يَقُولُونَ انَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِى يُلحِدُونَ الَيهِ اعْجَمىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبىٌّ مُّبينٌ) (١). (النحل / ١٠٣)

وأحياناً يقولون : (وَقَالُوا اسَاطِيرُ الأَوِّلِينَ اكتَتَبَها فَهِى تُمْلَى عَلَيهِ بُكرَةً وَاصِيلاً). (الفرقان / ٥)

و «اساطير» : جمع (اسطورة) ومعناها القصص الخيالية التي لا صحة لها ، وبهذا الاسلوب ألصقوا أنواع التهم وكل ما يختمر في أذهانهم بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن لم يؤثر أيّ منها ، وأخذ الإسلام يشق طريقه بسرعة بين الطبقات المختلفة.

المرحلة الثالثة : بدأت المرحلة الثالثة بضغوط مختلفة : اجتماعية وسياسية ولأنّهم أدركوا مدى خطورة الإسلام عليهم سعوا إلى القضاء على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمجموعة القليلة التي آمنت به من هذا الطريق.

__________________

(١) جاء في التفاسير أن رجلاً يدعى (بلعام) كان في مكة وأصله عبد رومي لبني حضرم وكان المشركون يقولون : إنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلم القرآن منه ، وقال بعضهم : إنّ كلامه إنّما نقله من عبدين نصرانيين أحدهما يسار والآخر جبر أو ذكروا اسم سلمان الفارسي ، ولم تكن لغة أي منهم العربية بينما يعد القرآن معجزة في الفصاحة والبلاغة.

٤٣

وقصة (شِعب أبي طالب) معروفة إذ تمّ فيها محاصرة المسلمين في ذلك الوادي المقفر لمدة ثلاث سنوات خلال السنة السادسة للبعثة حيث انتهت بموت اطفالهم وحتى بعض كبار السن.

وكذلك قصة الهجرة إلى الحبشة خلال السنة الخامسة للبعثة معروفة أيضاً على أثر تعرُّض المسلمين لضغوط شديدة وتعذيب المشركين لهم.

والعجيب أنّه لم يتعرض المسلمون وحدهم لهذه الضغوط فحسب ، بل جاء في التاريخ أنّهم عقدوا معاهدة على مقاطعة كل بني هاشم وبني عبد المطلب سواء من أسلم منهم أم لم يسلم فلا يتزوجون منهم ولا يزوجونهم ، وأن لا يشتروا منهم ولا يبيعوهم شيئاً حتى يزداد الضغط على المسلمين.

مع العلم أننا لا نرى في الآيات القرآنية إشارات واضحة حول هذه المسألة ولكن ممّا كان يتواصى به المشركون والكفار والمنافقون مع بعضهم في المدينة نستطيع أن نعرف وضع مكة : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَاتُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا). (المنافقون / ٧)

إنَّ هذه الضغوط لم تجدِ نفعاً أيضاً ، بل ازداد تعاطف الناس شيئاً فشيئاً مع المسلمين وصار الإسلام أنشودة على كل لسان ، حيث إنّ المسلمين اكتسبوا مظلومية تأثرت بها عواطف مجاميع عظيمة فانجذبوا إليهم.

وأخذت مواجهات الأعداء شكلاً أكثر حدة في :

المرحلة الرابعة : وفيها صمموا على قتل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإراقة دمهِ ليتخلصوا منه إلى الأبد أو أن يبعدوه عن مكة على اقل تقدير ، ففي (دار الندوة) محل اجتماعهم ومركز مشاوراتهم ، اجتمعوا ووضعوا خطة شيطانية دقيقة للوصول إلى أهدافهم تلك كما يقول القرآن : (وَاذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ليُثبِتُوكَ او يَقْتُلُوكَ او يُخرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ). (الانفال / ٣٠)

وكما نعلم أنّ الله سبحانه وتعالى قد أبطل كل خططهم الشيطانية ونجا الرسول

٤٤

الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله من سيوف الأعداء حيث هاجر إلى المدينة تلك الهجرة الكبيرة التي تركت آثاراً عظيمة وتحولاً كبيراً في تاريخ الإسلام وفي العالم أجمع.

ومرة أُخرى نتأمّل في القرآن حيث يُحدثنا بقوله تعالى : (الَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ اذْ اخرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِىَ اثنَينِ اذْ هُمَا فِى الغَارِ اذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَاتَحْزَنْ انَّ اللهَ مَعَنَا فَانْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ وَايَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفَلى وَكَلِمَةُ اللهِ هىَ العُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (التوبة / ٤٠)

وبهذا الترتيب تخلص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الأخطار المختلفة المحيطة به بلطفٍ من الله سبحانه وبدأ هجرته المباركة بهدوء وسكينة ودخل الإسلام عندها مرحلة جديدة في حياته ، وباء الأعداء بالفشل الذريع في هذه المرحلة أيضاً.

انتشر الإسلام في المدينة بسرعة فائقة وكثر اتباع الدين الإسلامي فشكل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الحكومة الإسلامية وصار للمسلمين جيش منظم وبيت للمال وكل ما تحتاجه الدولة آنذاك.

وفي مقابل توسع الإسلام وتثبيت أركانه احس الأعداء بخطر أكثر جدية فوسعوا مجابهتهم ودخلوا :

المرحلة الخامسة : وهي المواجهة المسلحة مع الإسلام ، وبدأت الغزوات الإسلامية كغزوة (بدر الكبرى) و (الصغرى) و (أحد) و (خيبر) و (حنين) و ..... واحدة تلو الاخرى وفي كل مرة ـ إلّافي مورد واحد ـ كان المسلمون يشهدون انتصارات ملفتة للنظر وكانوا في تقدم مستمر.

وقد أشار القرآن الكريم في كثير من الآيات إلى هذه المرحلة من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تعد من أكثر المرتكزات المهمّة في هذا المقطع من تاريخ الإسلام.

في الآية التالية إشارة اجمالية إلى هذه الغزوات بقوله تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَينٍ). (التوبة / ٢٥)

فكلمة (مَواطِن) جمع (مَوْطِن) وتأتي أحياناً بمعنى وطن ومحل الإقامة الدائمية

٤٥

وأحياناً بمعنى ساحة القتال ومن هنا جاءت «مواطن كثيرة» أي الساحات المتعددة للحروب الإسلامية حيث بلغ عدد هذه الغزوات ثمانين غزوة ، لذا نقرأ في الحديث أنّه : عندما نذر أحد خلفاء بني العباس أنّه إذا عافاه الله سبحانه فإنّه يعطي مالاً كثيراً للفقهاء ولمّا تماثل للشفاء اجتمع الفقهاء حوله عاجزين عن تعيين مقدار (المال الكثير) إلّاأنَّ الإمام التاسع (محمد بن علي التقي عليه‌السلام فسّر الـ (كثير) بـ (ثمانين) (ربّما تكون ثمانين ألف درهم) لأن الآية السالفة الذكر قد اطلقت مواطن كثيرة على الغزوات الإسلامية البالغة ثمانين غزوة (١).

ثم جاء الفتح المبين و (فتح مكة) وحكم الإسلام شبه الجزيرة العربية بأجمعها وحطم المسلمون آخر معقل للأعداء.

ولكن العدو المهزوم لم يستسلم فقد اضطر إلى تشكيل جمعية سرية (وهم المنافقين الذين كانوا يتظاهرون بالإسلام وفي الخفاء كانوا منهمكين بأنواع المؤامرات ضده الدين الإسلامي).

وبهذا الاسلوب دخلوا :

المرحلة السادسة : (مرحلة نهاية الحرب مع الأعداء) ، وبالطبع أنّ ظهور المنافقين بدأ مع أول انتصار للإسلام وتوسع في مقابله وما زال مستمراً إلى الآن.

وفي هذه المرحلة فقد باؤوا بالفشل الذريع أيضاً حيث كلما أرادوا التآمر على الإسلام كشفهم الله سبحانه وأبطل حيلهم ولم يبقَ منها سوى نارٍ خامدة تحت الرماد لم يظهر اشتعالها ثانيةً إلّابعد رحلة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

نزلت آيات قرآنية كثيرة حول هذه المرحلة أيضاً تعد من مقاطع القرآن المهمّة في اسداء العبر والدروس ، ففي سورة (الأحزاب) ، و (التوبة) ، و (المنافقون) بحوث حية ومجدية تحكي لنا عن عمق المؤامرات التي قام بها المنافقون ومن جملتها الآية الكريمة في قوله تعالى حيث ذكرت بحوثاً كثيرة حول هذه الجماعة ومخالفتهم وفتنتهم وتجسسهم ،

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ١٩٧.

٤٦

قال تعالى : (لَقَدِ ابتَغَوُا الفِتنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الامُورَ حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ امرُ اللهِ وَهُم كَارِهُونَ). (التوبة / ٤٨)

إنّ هذه المراحل الست السالفة الذكر لم تكن في مقابل الثورة الإسلامية للرسول الكريم وحده صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب بل في مقابل كل الثورات الإلهيّة وهي بدورها موضوع لقصة مفصلة نتعلم منها الكثير.

ولكن لم يفلح الأعداء بكل مساعيهم للاطاحة بالإسلام وظلت شجرته زاهيةً مثمرةً حيث غطّت باغصانها واوراقها كل أصقاع شبه الجزيرة العربية كما دلت الآية الكريمة (اذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ* وَرَأيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دينِ اللهِ افْوَاجاً). (النصر / ١ ـ ٢)

الأشهر الأخيرة من حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إنَّ السنة الأخيرة من حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي السنة التي كانت فيها (حجة الوداع) ونزلت بها آخر سورة من سور القرآن يعني سورة (المائدة) ، ومع نزول آخر رسالة للوحي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعين أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام وصياً له وخليفة من بعده كما في قوله تعالى : (يَاايُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا انْزِلَ الَيكَ مِن رَّبِّكَ وَانْ لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ انَّ اللهَ لايَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ). (المائدة / ٦٧)

وفي (غدير خُم) ذلك المعبر الكبير الذي كان مُفتَرقَ طرق للمجاميع التي جاءت مع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في (حجة الوداع) وأمام الجمع الكبير أدّى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حق الرسالة بإظهار هذا الأمر (١).

وحلت الحادثة الكبيرة المؤلمة وهي رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من الدنيا في وقت كان الإسلام ثابت الأركان من جميع النواحي. وله أرضية مهيأة للانتشار في جميع أنحاء العالم. ولذا فقد كانت توقعات الأعداء هي ذهاب الإسلام مع رحلة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن خابت

__________________

(١) ويمكن مراجعة تفصيل ذلك في التفسير الأمثل ، ذيل الآية مورد البحث.

٤٧

ظنونهم وذهبت أدراج الرياح : (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَايْن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ). (الأنبياء / ٣٤)

وقوله تعالى : (انَّكَ مَيِّتٌ وَانَّهُم مَّيِّتُونَ). (الزمر / ٣٠)

وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوتِ). (الأنبياء / ٣٥)

إنّ هذا القانون شامل وعام لعالم الخلقةِ أجمع : (وَخَسِرَ هُنالِكَ المُبطِلُون). (الغافر / ٧٨) وتحقق وعدالله كما ورد في الآية : (يُرِيدُون انْ يُطفِؤا نُورَ اللهِ بِافوَاهِهِم وَيَأبَى اللهُ الَّا انْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ). (التوبة / ٣٢)

وهكذا فإنّ هذا النور الإلهي يتألقُ يوماً بعد يوم ، وهو الآن يُنير افقاً واسعاً من آفاق البشرية ، وفي كل سنة تتنور آفاق اخرى بنور الإسلام ليزيح الظلام والظُلم عن العالم أجمع.

كان هذا شرحاً مختصراً عن المراحل المختلفة لحياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في القرآن المجيد ، وشرح كل مرحلة منها يحتاج إلى كتاب خاصّ ومفصّل.

* * *

٤٨

الأدلة التي تثبتُ

صدق دعوة رسول الإسلام

الطريق الاول : اعجاز القرآن

الطريق الثاني : جمع القرائن طريق آخر للاطمئنان

الطريق الثالث : البشارات والإشارات

٤٩
٥٠

الطريق الأول : اعجاز القرآن

تمهيد :

بدون شك أنّ ادّعاء أيّ مدعٍ حول أي قضية لا يمكن قبوله إلّابالدليل المقنع ، فكيف إذا كانت القضية غاية في الأهميّة مثل نبوّة الأنبياء والادّعاء بنزول الوحي والارتباط بالله سبحانه ودعوة الناس إلى اتباعهم؟!.

وعلى هذا فإنَّ أوّل المسائل التي نواجهها هي مسألة الأدلةُ على نبوة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وإنَّ هذه الدلائل التي نعلم إجمالاً بتفرعها تقع تحت أربعة عناوين وهي :

١ ـ المعجزات.

٢ ـ مضمون الدعوة.

٣ ـ أخبار الأنبياء الماضين والكتب السماوية السابقة.

٤ ـ القرائن المختلفة : من دراسة سوابق حياته واقربائه وأصحابه والوسائل المتخذة للوصول إلى الهدف ، ومقدار تأثيره في المجتمع ، ومقدار اعتقاده وايثاره في سبيل هدفه ، والأخلاق والصفات الاخرى التي تشكل أرضية لمعرفة صدق ادعائه.

بعد هذه الإشارة المختصرة نعود إلى معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فنقوم ببحث ودراسة للقرآن الذي يعتبر أول وأفضل وأخلد معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبل كل شيء نقرأ منطق القرآن في وصف نفسه :

١ ـ (قُل لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى ان يَأْتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرَآنِ لَايَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو

٥١

كانَ بَعضُهُم لبعضٍ ظَهِيراً). (الاسراء / ٨٨)

٢ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتوُا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثلِهِ مُفَتَريَاتٍ وَادْعُوا مَنِ استَطَعتُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). (هود / ١٣)

٣ ـ (وَانْ كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَائَكُمْ مِّنْ دُونِ اللهِ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَانْ لَّمْ تَفعَلُوا وَلَنْ تَفعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ التَّى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ). (البقرة / ٢٣ ـ ٢٤)

٤ ـ (أمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثلِهِ وادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِّنْ دَونٍ اللهِ انْ كُنْتُم صَادِقِينَ). (يونس / ٣٨)

٥ ـ (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَّايُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثلِهِ انْ كَانُوا صَادِقِينَ). (الطور / ٣٣ ـ ٣٤)

٦ ـ (قُلْ فَأْتُوا بِكَتابٍ مِّنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ اهدَى مِنْهمَا اتَّبِعْهُ انْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فِانْ لَّمْ يَستَجِيبُوا لَكَ فاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ اهوَاءَهُم وَمَن اضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيرِ هُدًى مِّنَ اللهِ انَّ اللهَ لا يَهدِى القَومَ الظَّالِمِينَ). (القصص / ٤٩ ـ ٥٠)

٧ ـ (وَقَالُوا لَوْلَا انزِلَ عَليَهِ آيَاتٌ مِّنْ رَبِّهِ قُلْ انَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللهِ وانَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبينٌ* اوَلَمْ يَكْفِهِمْ انَّا انَزَلْنا عَليْكَ الكِتَابَ يُتلَى عَلَيِهمْ انَّ فِى ذَلِكَ لَرَحَمةً وذِكْرى لِقَومٍ يُؤْمِنُونَ). (العنكبوت / ٥٠ ـ ٥١)

جمع الآيات وتفسيرها

في جميع الآيات السبع المذكورة ركّز القرآن الكريم على مسألة التحدي (الدعوة إلى المعارضة) التي هي من اركان الاعجاز ، فتارة يقول بصراحة ـ وتارة اخرى بالدلالة الالتزامية ـ :

انَّ هذا الكتاب السماوي هو من عند الله وإذا كنتم في شك وريب ممّانزلنا فاجمعوا كلَّ قواكم من أجل الإتيان بمثله أو بسورة منه ، لأنّه إذا كان من نتاج فكر البشر فأنتم بشر أيضاً

٥٢

ولديكم فكر وذكاء ، وفي الواقع أنّ القرآن وبواسطة هذا المنطق العقلي الواضح أثبت اعجازه بصورة إجمالية.

إنَّ الآية الاولى تقف بوجه المعاندين قائلة : (قُلْ لَّئِنِ اجتَمَعَتِ الانسُ وَالجِنُّ عَلَى انْ يَأْتُوا بِمِثلِ هَذَا القُرآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثلِهِ وَلَو كانَ بَعَضُهُم لِبَعضٍ ظَهِيراً).

فهذه الآية تدعو من جهة أفراد البشر كافة دعوة عامة ، ومن جهة اخرى فهي تدعو جميع أفراد البشر في عصرنا والعصور الآتية نظراً إلى خلود دعوة القرآن ، ومن جهة ثالثة ، وبملاحظة كلمة «اجتمعت» ، وجملة «بَعضُهْم لِبعَضٍ ظَهِيراً» تبين أنّها دعوة للمشركين كافة للتعاون فيما بينهم وشحذ الهمم ، وتوحيد أفكارهم في مجرى واحد من اجل المقابلة بالمثل ، ومن جهة رابعة ، فإنّ إثارة الخصم والتحرش به من أجل تأجيج غيرته قد اتخذ أقوى أشكال التحدي ، وحينما خاطبهم بكلام قاطع : «لايأتون بمثله» ، فهو دليل قوي على ارتباطه الوثيق بعالم ما وراء الطبيعة.

إنّ هذا التحدي وهذا النداء كان موجهاً إلى أبناء البشر جميعاً في كل زمان ومكان ، لأنّ دوافع أعداء الإسلام للقضاء عليه في عصر النبوة وفي كل عصر وزمان قائمة وقوية ، ومن المُسلَّم أنّه لو كانت لديهم قدرة على ذلك لما تماهلوا عن ذلك ، وتاريخ الإسلام وتاريخ كل العالم لم يذكر لنا بأنّ شخصاً أو جماعة قد أقدمت على هذا العمل ، وهذا دليل على عجزهم وعدم قدرتهم ، وفي النتيجة فهو دليل على عظمة واعجاز القرآن الكريم.

ويستفاد من هذه الآية أنّ الاجتماع وحده لا يؤثر في حل المشكلات مالم يكن بعضهم ظهيراً لبعض لحماية ومساعدة بعضهم للبعض الآخر وإسداء النصح لبعضهم الآخر.

كما نلفت الانظار إلى أنّ القرآن لا يكتفي في التحدي بالبلاغة وجمال البيان فقط ، بل الشبه من جميع الجوانب الشاملة للمحتوى والمعارف والأحكام وكل شيء ، وهذا ما تؤكده كلمة (مثله) الواردة في الآية.

* * *

٥٣

في الآية الثانية يقلص القرآن تحديه عن الاتيان بمثله ، ويطلب من الخصم أن يأتي بعشر سور وهو أقل من عشر كل القرآن قائلاً : (أَمْ يَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثلِهِ مُفَتَرَياتٍ) ولم يكتف بهذا بل صرح : (وادعُوا مَنِ استَطَعُتم مِّن دُونِ الله ان كُنُتم صَادِقِينَ).

* * *

وفي الآية الثالثة نرى أنّ التحدي القرآنى يصل إلى أقل من ١% قائلاً : (وَان كُنتُمْ فِى رَيبٍ مِّمَا نَزَّلنَا عَلَى عَبدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثلِهِ) ثم أضاف : (وَادعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

فمن الواضح أنّ المراد من : (شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله) أنصارهم وكل من اعتقد اعتقادهم لأنهم هم الذين شهدوا لصالحهم في رد وتكذيب رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. ومن الطبيعي أن يتعاونوا فيما بينهم ليأتوا بسورة واحدة مماثلة لسورة من القرآن وإلّا لو كان المراد من (شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ الله) الإتيان بسورة تماثل سورة من القرآن لكان من المفروض مطالبة الله بالشهادة قبل أي شخص آخر ، ولذا فإنّ أول تفسير للآية نقله المرحوم الطبرسي في مجمع البيان عن ابن عباس هو : المراد منها الأعوان والأنصار ، وأضاف : إنّه يطلق على الأعوان والأنصار : شهداء ، لحضورهم وشهودهم حين التعاون.

وقدر رجح الفخر الرازي في تفسيره بعد ذكر معنيين للفظ الشهداء (أي : الأصنام ، والأعوان ، والأنصار) المعنى الثاني (١). وارتضى بعض المفسرين هذا المعنى أيضاً.

والسورة : تمثل جزءاً من آيات القرآن ، تبدأ بـ «بسم الله ...».

وتختم قبل مجىء «بسم الله» جديدة في السورة التي تليها ، ماعدا سورة واحدة وهي سورة التوبة أو سورة براءة.

وقيل : إنّ كلمة سورة مأخوذة من «سُور» وهو الجدار المحيط بالمدن ، فكأنّما أعتُبرَ

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ١١٩.

٥٤

القرآن بمجموع آياته ، دولة عظيمة واسعة ، والسور القرآنية مُدن هذه الدولة العظيمة.

وبناءً على هذا الدليل نعتقد بوجود ترابط واتصال بين آيات السورة الواحدة ، وإن لم يكن واضحاً في الظاهر أحياناً وهذا الارتباط نظير وجود نوع من الانسجام والارتباط بين البيوت والعمارات والشوارع لكل مدينة مع أنّ فيها المساجد والمدارس والأسواق والمناطق المأهولة بالسكان ، كل كيان في موضعه المناسب.

ويستفاد من هذا المعنى أنّ السور كانت في وقت نزول القرآن على هذه الهيئة العالية بخلاف تصوُّر بعض الجّهال وإن كان بعض من الآيات النازلة أحياناً يُتخذ له مكان معين في سورة خاصة بأمر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وجملة : «من مثله» تتضمن معنى شيء يكون على شاكلة القرآن في كل أوصافه التي تشمل (الفصاحة) و (بلاغة الألفاظ) مع المحتويات والمعارف القيّمة (١).

والشاهد على هذا الكلام ما ورد في قوله تعالى : (فَأتُوا بِسُورَةٍ مِثلِهِ). (يونس / ٣٨) ونقرأ في قوله تعالى : (فَلَيأتُوا بِحَديثٍ مِّثلِهِ). (الطور / ٣٤)

وعلى هذا الأساس يستبعد كثيراً احتمال عودة ضمير (مثله) إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ يكون معناها : إذا كنتم مرتابين في أصل هذه الآيات السماوية فأعثروا على رجل مثل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن قد درس على الاطلاق وأتوا بآيات تناظر الآيات التي أتى بها.

إنَّ هذا المعنى بعيدٌ وإن ذكرهُ جماعة من المفسرين إمّا على وجه الاحتمال أو على وجه القبول.

ويحتمل أيضاً اجتماع التعبيرين في هذا المعنى ، ويصير مفهومه بهذا الشكل : آتوا بسورة مثل سور القرآن من شخص لا يعرف القراءة والكتابة ، كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والحديث الذي ورد في «تفسير البرهان» جمع هذين المعنيين في عبارة واحدة (٢).

وعلى كل حال يقول عز من قائل في تعقيب هذه الآية : (فَإِنْ لَّم تَفعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فاتَّقُوا النّارَ الَّتي وَقُودُها النَّاسُ وَالحِجَارَةُ اُعدَّتْ لِلكَافِرِينَ).

__________________

(١) وبناء على ذلك فإنّ (من) إمّا زائدة أو بيانية.

(٢) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٦٧. ح ١.

٥٥

وتضمنت الآية الرابعة أيضاً التحدي بالاتيان بسورة تشابه سور القرآن فيقول عزوجل : (امْ يَقولُونَ افتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بسُورَةٍ مِّثلِهِ وادعُوا مَن استَطَعتُم مِّن دُونِ اللهِ ان كُنُتم صَادِقِينَ).

إنّ لفظة «سورة» تشمل السور الطوال والقصار في القرآن ، والتعبير (بمثله) إشارة إلى مماثلته من جميع الجهات ، وجملة : (وَادعُوا مَنِ استَطَعتُمْ مِّن دوُنِ اللهِ) شاملة لكل ما سوى الله تعالى.

فعلى هذا الأساس إذا كان القرآن نتاج فكر بشري ، فإنّ إنساناً آخر يستطيع أن يأتي بمثله فضلاً عن أن يستعين أيضاً بأشخاص لا يحصون ، وبالأخص مع كثرة وجود الفصحاء والبلغاء في أوساط العرب الجاهليين سابقاً.

ويستفاد ضمنياً من هذه الآية والآيات السابقة أنّ أفضل طريق للوصول إلى الأهداف المهمّة هو الاستفادة من الأطروحات المشتركة ، وقد ذكر القرآن ذلك في الوقت الذي لم تكن مسألة الاجتماعات والمؤتمرات للوصول إلى حقائق المسائل المهمّة مطروحة على صعيد الواقع وحتى مساعي وجهود العلماء كانت تتخذ صبغة فردية وشخصية.

* * *

في الآية الخامسة ذكر هذا المعنى نفسه في قالب آخر ، يقول عز من قائل : (امْ يَقولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَّايُؤمِنُونَ* فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثلِهِ إن كَانُوا صَادِقِينَ).

و «تَقَوَّلَ» : مأخوذة من لفظة (تَقُّول) بحسب ماورد عن المرحوم «الطبرسي» في مجمع البيان : هو بمعنى الكلام الذي يختلق ويفتعل بتكلف ومشقة ، ويستعمل عادةً في الكذب والزور ، لأنّه ليس من الواقع في شيء ولايخلو من تكلف (١).

ويمكن الإشارة «بحديث مثله» إلى تمام القرآن أو بضع سور أو سورة واحدة ، أو حتى أقل من ذلك لاطلاق كلمة (الحديث) على كل منها.

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ١٦٨.

٥٦

يقول الراغب في المفردات : كل كلام ينقل إلى الإنسان عن طريق السماع المباشر ، أو الوحي ، في اليقظة ، أو في المنام ، فهو يسمى بالحديث.

* * *

الآية السادسة من سورة القصص تطرقت إلى الحديث عن الإتيان بكتاب يشابه هذا الكتاب (القرآن) ، يقول عز من قائل : (قُل فأتُوا بِكِتَابٍ مِّن عِندِ اللهِ هُوَ اهًدى مِنهُمَا اتَّبِعْهُ انْ كُنْتُم صَادِقِينَ).

ثم من أجل تعرية وفضح أساريرهم الملوثة ، وبيان الاعجاز القرآني يعقب الله تعالى بقوله : (فَانْ لَّمْ يستَجيبُوا لَكَ فَاعلَم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ اهَواءَهُم).

أي : إذا عجز هؤلاء عن الإتيان بمثله فهو دليل على أنّ هذا الكتاب ليس وليد فكر البشر. وإلّا فليس هناك مبرر لعجز الفصحاء والبلغاء الذين يعيشون بين ظهرانيهم مع كل جهودهم ومساعيهم التي بذلوها.

ولفظة (كتاب) تعني كل شيء (مكتوب) و (مدوّن).

وبناءً على هذا فهو شامل لتمام القرآن ولاجزائه المختلفة أيضاً ، خصوصاً إذا نظرنا إلى أنّ هذه الآية جاءت في سورة القصص ، وقد نزلت في مكة ، ومن المعلوم أنّ القرآن لم ينزل بتمامه في ذلك الزمان ، فيتضح أنّه إضافة إلى كونه معجزة بأجمعه فإنّ أجزاءه المختلفة معجزة أيضاً.

* * *

وفي الآية السابعة والأخيرة من البحث جاء الردُّ على المحتجين فيقول تعالى على لسانهم : (وَقَالُوا لَولَا انزِلَ عَلَيهِ آيَاتٌ مِّن رَبِّهِ) ، فيرد عليهم بقوله : (قُلْ انَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وانَّمَا أَنا نَذِيرٌ مّبِينٌ).

ثم يعقِّب على ذلك بقوله : (اوَلَمْ يَكْفِهِم أَنَّا انَزَلنَا عَليكَ الكِتَابَ يُتلَى عَليِهِم).

٥٧

يعني لماذا يطلب هؤلاء معجزات اخرى على الرغم من وجود هذه المعجزة الإلهيّة العظيمة؟

فعلى هذا الأساس يُعلن بصراحة عن اعجاز القرآن ويتحدى المناوئين بالدلالة الالتزامية ويدعوهم إلى المنازلة.

يقول المفسر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان : إنّ في إنزال القرآن دلالة واضحة ومعجزة لائحة وحجة بالغة تنزاح معه العلة وتقوم به الحجة فلا يحتاج في الوصول إلى العلم بصحة نبوته إلى غيره. على أنّ إظهار المعجزات مع كونها إزاحة للعلة تراعى فيه المصلحة فاذا كانت المصلحة في اظهار نوع منها لم يجز إظهار غيرها (١).

وتتبين أهميّة هذا البحث من خلال التوجه إلى النكتتين اللتين وردتا في (تفسير القرطبي) و (ظلال القرآن) :

إحداهما : إنّ خوارق العادات الجسمية تتوافق غالباً مع الأفراد المبتلين بالمسائل الحسية ، وتتناسب مع بداية التفكير البشري ، أمّا مثل هذه المعجزة الروحية التي تنطوي على جنبة معنوية فهي تنسجم مع الحقبة المتفتحة للفكر البشري.

والاخرى : اضافة إلى مخالفته خوارق عادات الأنبياء (نظير معجزة موسى وعيسى عليهما‌السلام التي ألقيت عليها مسوح السحر تشكل هذا الإعجاز (الذي هو من جنس الكلام) من ألفاظ يقوى عليها جميع الأفراد من أصحاب تلك اللغة (٢).

* * *

تحصَّل من ذلك أنّ القرآن الكريم أشار في سبع آيات من السور المختلفة على الأقل إلى أنّه معجزة إلهيّة كبرى ، وقام بتحدي المنكرين له بطرق مختلفة.

ومن المعلوم أنّ أيَّ شخص قام بعمل خارق للعادة ودعا جميع الناس إلى معارضته

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٧ ، ٨ ، ص ٢٨٩.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ، ج ٦ ، ص ٤٢٢ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٧ ، ص ٥٧١.

٥٨

ومنازلته وعجزوا عن القيام به فذلك دليل على إعجاز عمله.

وبعبارة اخرى احتج القرآن عليهم في هذه العبارات بكلام فريد من نوعه بقوله : إذا كنتم تعتقدون بأنّ هذه الآيات هي من صنع عقل البشر فأنتم أيضاً بشر ، ولكم عقول وأفكار ولا يندر وجود البلغاء والمتكلمين والفصحاء في أوساطكم ، فاذا كنتم صادقين في هذا الادّعاء فأتوا بآيات مثل هذه الآيات. فيدعوهم إلى المشاركة في هذه المنازلة من خلال عباراته المتنوعة والمثيرة.

من جهة اخرى لو كان بإمكان أولئك الانتصار في مثل هذه المنازلة ، لحشدوا كلَّ قواهم لأنَّ الانهزام في هذه المواجهة يساوي التضحية بكل شيء عندهم.

لقد كان القرآن في مواجهة حادة مع اسس ثقافتهم المتمثلة في عبادة الأوثان والمتغلغلة في مختلف شؤون حياتهم ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل أنزل شيوخهم ووجهاءهم وأثرياءهم المغرورين من اوج جبروتهم وقدرتهم إلى منتهى الحضيض ، وسلب منهم امتيازاتهم المصطنعة والموهومة كافة.

وبغض النظر عن الشواهد التاريخية التي سوف نشير إليها لاحقاً فإنّ العوامل المحركة للمقابلة بالمثل كانت كثيرة جدّاً وإذا كان باستطاعتهم حقاً أن يجردوا النبي محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله من السلاح بهذا الاسلوب ، لما دعت الحاجة إلى كل هذه الحروب الدموية ، والمجابهات الساخنة وحيث إننا نراهم قد توسلوا بكل شيء سوى محاولة الإتيان بمثل آيات القرآن ، فهذا بنفسه أكبر دليل على انهزامهم في هذه المنازلة.

* * *

توضيحات

أ) تأثير القرآن وجاذبيته المنقطعة النظير

هناك قصص ووقائع موثقة وعجيبة يذكرهالنا التاريخ تروي من جهة عمق التأثير الذي يتركه القرآن الكريم على قلوب المخاطبين ، وحتى على أولئك الذين لا يؤمنون بالإسلام

٥٩

ولا بالقرآن ، ومن جهة أُخرى تمثل هذه القصص دليلاً دامغاً على عجز المناوئين عن الجواب عن تحدي القرآن لهم.

إنّ دراسة هذه الحوادث توفر للإنسان فرصة التعرف على دروس وعبر يمكن الاستفادة منها في حياته وتبين عظمة وإعجاز هذا الكتاب السماوي وما ورد فيه ، وهذه نماذج من هذه القصص :

١ ـ قصة الوليد بن المغيرة المخزومي

تتحدث آيات سورة المدثر بشكل واضح عن الشخص الذي خطر في ذهنه أن يتحدى القرآن وقد آل أمره إلى مصيرٍ أسود حيث نطالع معاً هذه الواقعة التي حدثت وكانت سبباً لنزول هذه الآيات التي نقلها جمع غفير من المفسرين كالطبرسي ، والقرطبي ، والمراغي ، والفخر الرازي وغيرهم. وهي كما يأتي :

يروى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزلت عليه الآية الكريمة : (حم تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنْ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ غَافرِ الذَنْبِ وَقَابِلِ التَوْبِ شَدِيْدِ العِقَابِ) قام إلى المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال : «والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن وإنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق وانّه ليعلو وما يعلى عليه» ، قال ذلك ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، والله لتصبأن قريش كلهم ، وكان يقال للوليد ريحانة قريش : فقال لهم أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً ، فقال الوليد : مالي أراك حزيناً ياابن أخي ، قال : هذه قريش يعيبونك على كبر سنك ويزعمون أنّك زينت كلام محمد. فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه فقال : أتزعمون أنّ محمداً مجنون فهل رأيتموه يخنق قط؟ فقالوا : اللهم لا ، قال : أتزعمون أنّه كاهن فهل رأيتم عليه شيئاً من ذلك؟ قالوا : اللهم لا ، قال : أتزعمون أنّه شاعر فهل رأيتموه أنّه ينطق بشعر قط؟ قالوا : اللهم لا ، قال : أتزعمون أنّه كذاب فهل جربتم

٦٠