نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

والتي تشمل العقوبات الجسدية أو الغرامات المادية ، هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى عدم سن القوانين التي تقضي بمعاقبة المجرمين بالإعدام عند ارتكابهم للجرائم والجنايات الفجيعة والتي يستحق فاعلها ذلك.

إنّ عدم وجود الوازع النفسي والوجداني الذي يضمن تنفيذ القوانين الوضعية ، وكذلك ضعف الضمانات التنفيذية الخارجيه ، أدّى إلى حصول الكثير من المخالفات القانونية وقد ترتب على ذلك ابتعاد الناس عن الضوابط والمقررات وتجذر حالة عدم المبالاة يوماً بعد يوم ، والدليل على ذلك هو كثرة المؤسسات القضائية والسجون في العالم.

وهذا الوضع هو الذي يمكن أن يطلق عليه عنوان «أزمة الضمانة التنفيذية» ، وله نتائج وعواقب غير محمودة ، الأمر الذي جعل المجتمعات الإنسانية بأسرها تدفع ضرائب ثقيلة ، ويمكن الوقوف على شواهد من هذا القبيل في أرقى الدول الصناعية في العالم.

ومن العقبات الاخرى للضمانات التنفيذية في القوانين الدولية المعاصرة ، هو الاقتصار على الأحكام الجزائية وفقدان الجانب الإيجابي في الجزاء أي الاتكاء على العقوبة وترك المكافاة.

إنّ الإنسان يتمتع بقوتين «القوة الجاذبة والدافعة» أو بعبارة اخرى : الميل للحصول على المنافع ودفع المضار ، ولابدّ من الاستعانة بكلا الجانبين في إجراء القوانين ، في حين أنّ عالم اليوم يحصر جلّ اهتمامه على دفع المضار وفي دائرة محدودة أيضاً ، والدليل على ذلك واضح ، لأنّ العالم المادي ليس في جعبته شيء ليجعله بعنوان مكافأة تقديرية أزاء كل من يعمل ببنود القانون.

* * *

وعلى ضوء هذه المقدّمات نعود إلى مسألة «الضمانة التنفيذية للقوانين القرآنية» لنرى اشتماله على أقوى الضمانات التنفيذية وأجمعها ، وهذا الامتياز ينفرد به دون غيره.

وقد أُخذت بعين الاعتبار ثلاثة أنواع من الضمانات التنفيذية في القرآن :

٢٠١

١ ـ الضمانة التنفيذية المستمدة من الدولة الإسلامية.

٢ ـ الضمانة التنفيذية المستندة إلى الرقابة العامة.

٣ ـ الضمانة الذاتية الداخلية أو بتعبير آخر ، الضمانة الناشئة من الإيمان والاعتقاد بمباديء الإسلام والقيم الأخلاقية والعاطفية.

ففي المورد الأول تقع على عاتق الدولة الإسلامية مسؤولية الوقوف بصورة حدّية بوجه أي شكل من أشكال المخالفة القانونية ، فالخطوة الاولى التي أقدم عليها نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد هجرته إلى المدينة ، وبعد التغلب على المشاكل العالقة ، هي إرساء دعائم الدولة الإسلامية ، وبيان معالم القوانين الإسلامية ، وملاحقة أي نوع من أنواع الانحراف والشذوذ باعتباره من الذنوب التي تدخل في دائرة (العقوبة الجزائية).

لقد اعتبر الإسلام القوانين القرآنية حدوداً إلهيّة ، ووجه العقوبة إلى كل من يتجاوز هذه الحدود.

فمن جهة يُعرِّف المتخلفين بأنّهم ظالمون يقول تعالى : (وَمَن يَتَعدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الَّظَالِمُونَ). (البقرة / ٢٢٩)

ومن جهة اخرى يؤكد على محاربة الظالمين.

فحينما يذهب القرآن إلى القول : (لَقَدْ ارْسَلنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَانزَلنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَانزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَاسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ انَّ اللهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ). (الحديد / ٢٥)

فإنّ معناه : إن شَخْصَ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو خاتم الأنبياء وسيدهم هو الذي تقع على كاهله هذه المسؤولية قبل أي شخص آخر.

هذا من جانب ، ومن جانب آخر يدعو كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية إلى المراقبة في اجراء القوانين الإلهيّة ، ووفقاً لمبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» ، يلزم الجميع بأن لا يتهاونوا ويتخاذلوا في الوقوف بوجه الانحراف عن القوانين الربانية.

لذا يقول سبحانه في أحد المواضع : (وَالمُؤمِنُونَ وَالمؤمِنَاتُ بَعضُهُم اولِيَاءُ بَعضٍ

٢٠٢

يَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ). (التوبة / ٧١)

وتتجلّى الأهميّة القصوى لهاتين الوظيفتين في الآية الكريمة من خلال تقديم ذكرهما على الصلاة والزكاة وإطاعة الله والرسول ، والسر في ذلك يقع في أنّ أركان الصلاة والزكاة والطاعة لاتستقيم أعمدتها من دون هذه الرقابة العامة على إجراء القوانين.

وفي موضع آخر حينما يعمد تعالى إلى طرح الصفات المختصة بالمجاهدين في سبيل الله أولئك الذين اشتروا الجنّة من الله تعالى بأموالهم وأنفسهم ، يقول بعد بيان ست صفات من الصفات المتعلقة بهؤلاء المجاهدين : (الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ). (التوبة / ١١٢)

وممّا يلفت النظر : إنّه نظراً إلى أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراحل مختلفة تبدأ من النصيحة والإرشاد والمواعظ الاخوية ، وتشق طريقها حتى تصل إلى مرحلة التشدد والحزم العملي ، بناءً على ذلك فقد قسمها القرآن إلى قسمين ، جعل القسم الأول في متناول الجميع ، أمّا القسم الثاني فقد جعله في متناول جماعة خاصة تمارس أعمالها تحت إشراف الحكومة الإلهيّة ، ولذا يشير إلى هذا التقسيم بقوله تعالى : (وَلتَكُن مِّنكُم امَّةٌ يَدعُونَ الَى الخَيرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهوَنَ عَنِ المُنكَرِ واولَئِكَ هُمُ المُفلِحوُنَ). (آل عمران / ١٠٤)

ومن البديهي إنّ الامّة التي تأخذ على عاتقها مسؤولية الرقابة ، على إجراء القوانين ويشاطرها في هذا الشعور بالمسؤولية كافة أفراد المجتمع ، سيكون القانون في أوساطها معززاً مكرماً وصالحاً للتطبيق في الوقت المناسب.

وحينما نخرج من دائرة الرقابة العامة يأتي الكلام عن الرقابة الذاتية ، والروحية والاعتقادية والوجدانية للأفراد على حسن إجراء القوانين وهكذا رقابة تعتبر بحقّ أفضل أنواع الرقابات وذلك لوجود الرادع الذاتي للفرد.

أمّا «الإيمان بالمبدأ» أي بالله عزوجل الذي هو حاضر في كل حين وهو أقرب إلى العباد من أنفسهم : (وَنَحنُ اقرَبُ الَيهِ مِن حَبلِ الوَرِيدِ). (ق / ١٦)

٢٠٣

وسبحان الذي : (يَعلَمُ خَائِنَةَ الاعُينِ وَمَاتُخفِى الصُّدُوُر). (غافر / ١٩)

والله الذي جعل الأرض والزمان وحتى أعضاء بدن الإنسان رقيباً عليه وشاهداً وشهيداً على أفعاله (١).

و «الإيمان بمحكمة القيامة الكبرى» بحيث لو كان في صحيفة أعمال الإنسان مقدار ذرة من عمل الخير أو الشر لاحضروها أمامه ، ويلاقي حسابه وجزاؤه : (فَمَن يَعملْ مِثَقالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ* وَمَن يَعملْ مِثَقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ). (الزلزلة / ٧ ـ ٨)

وليست الأمثلة السابقة هي التي تعكس آثار الإيمان بالمبدأ والمعاد فحسب ، بل لدينا مئات الأمثلة من هذه الآيات في القرآن الكريم يعدّ الاعتقاد بها من أفضل الضمانات لتنفيذ القوانين الإلهيّة.

وكم هو الفرق بين من يرى نفسه مراقباً من قبل القوى الامنية والعسكرية التي لا تتجاوز أعدادها الواحد بالالف وبما تمتلك من إمكانيات محدودة ونواقص كثيرة عندما تكون رقيبةً على أعمال الآخرين ، ومع ما تراه لازماً من اتخاذ الاستعدادات الكافية من أجل الدخول في الأماكن الهامة والمنازل العامة ، وما أبعد الهوة بين هذا الشخص وبين من يرى نفسه في كل الأحوال والأمكنة وبدون استثناء خاضعاً لرقابة الله المستمرة والملائكة ، ويعتقد أنّ الموجودات من حوله وحتى أعضاء بدنه ستحتفظ بأعماله وتعلن عنها في حينه.

إنّ الضمانة التنفيذية لا أثر لوجودها في العالم المادي إطلاقاً ، ولهذا السبب لم تتمكن الضمانات التنفيذية الاخرى بأي شكل من الأشكال أن تقف حاجزاً أمام المخالفات الاخرى ، في حين تنحسر هذه المخالفات القانونية في ظل الأجواء الدينية الواقعية التي يكون هذا الضامن التنفيذي فيها فعالاً ، كما تحقق ذلك في زمن حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ففي ذلك الزمان لم يكن لوجود السجون معنى على الاطلاق ، وقلّما كانت تعقد المحاكم القضائية ، فقد كانت شكاوى الناس تتلخص بمجيء بعض الأشخاص أحياناً إلى محضر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسجد ويطرحون دعاواهم ، فيستمعون إلى الأجوبة في المكان نفسه ويخرجون راضين بالحلول العادلة.

__________________

(١) الزلزلة ، ٤ ؛ ويس ، ٦٥ ؛ والنور ، ٢٤.

٢٠٤

وفي الوقت الحاضر أيضاً تصل الجنايات والانحرافات إلى الحد الأدنى في المجتمعات الدينية خاصةً في المناسبات الدينية (من جملتها مناسبة شهر رمضان المبارك).

* * *

سادساً : إحياء القيم الروحية

بالرغم من أنّ الوجود الإنساني مركب من مادة وروح أو من جسم وروح ، وحياة الإنسان متكونة من جانبين ، جانب مادى وجانب معنوي ، إلّاأن جميع القوانين في العالم المادي ناظرة إلى القيم المادية ، فأي عمل لا يتعارض مع المسائل المادية للمجتمع يعتبر جائزاً ومشروعاً في نظرهم ، ويدخل في هذا المضمار تصويب الكثير من القوانين المخزية والتي يبعث ذكرها على الاشمئزاز والتقزز ، والحال أنّ هذا الفصل لايوجه ضربة إلى الشخصية الإنسانية المرموقة ويحطها إلى مستوى الحيوان فحسب ، بل يُعرض نفس القيم المادية للخطر أيضاً ، وذلك لعدم إمكانية الفصل عملياً بين هذين الأمرين.

وانطلاقاً من كون القرآن منسجما مع الخلقة والفطرة الإنسانية فهو يأخذ بالاعتبار كلاً من القيم المادية والمعنوية معاً ، فحينما يتطرق في حديثه إلى اختيار الزوجة يقول : (الزَّانِى لَاينَكِحُ الَّا زَانِيَةً او مُشرِكَةً والزَّانِيَةُ لَايَنكِحُهَا الَّا زَانٍ او مُشرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤمِنِينَ). (النور / ٣)

ويقول أيضاً : (قُلْ لَّايَستَوِى الخَبِيثُ وَالَّطِيبُ وَلَوْ اعجَبَكَ كَثَرةُ الخِبيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يَا اولِى الالبَابِ لَعلَّكُم تُفلِحونَ). (المائدة / ١٠٠)

من الواضح إنّ ذكر الخبيث والطيب في هذه الآية إمّا ناظر إلى الطهارة المعنوية وعدمها ، وإمّا ناظر على الأقل إلى العموم فيشمل المعنى المادي والمعنوي معا ، لذا فإنّ كثرة الأوبئة وانتشار الموبقات لا يمكن أن يكون دليلاً على مشروعيتهم وحقانيتهم.

وتتبلور هذه المسألة أكثر في القوانين والدساتير المرتبطة بالزواج خاصة لأنّه يحدث كثيرا أن يقع كل من الجمال الظاهري والمعنوي على طرفي نقيض ، فيقترن جمال الظاهر مع

٢٠٥

تلوث الباطن ، وحسن الباطن مع عدم جمال الظاهر. ففي هذه الحالة يرجحِّ القرآن الكريم الكفة الثقيلة لجمال الباطن وجاذبية الروح والأخلاق والإيمان فيقول : (وَلَا تَنكِحُوا المُشرِكَاتِ حَتَّى يُؤمِنَّ وَلَامَةٌ مُّؤمِنَةٌ خَيرٌ مِّن مُّشرِكَةٍ وَلَو اعجَبَتكُم وَلا تَنكِحُوا المُشرِكِينَ حَتَّى يُؤمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤمِنٌ خَيرٌ مِّن مُّشرِكٍ وَلَو اعجَبَكُم اولَئِكَ يَدعُونَ الَى النَّارِ وَاللهُ يَدعُوا الَى الجَنَّةِ وَالمَغفِرَةِ بِإذنِهِ). (البقرة / ٢٢١)

ومن المؤسف حقّاً هو عدم الاهتمام بالقيم المعنوية في وضع القوانين والمقررات الاجتماعية في عالم اليوم حيث أصبح من العوامل المهمّة للكثير من المآسي والويلات ، علاوة على أنّ هؤلاء لا يجدون الطريق إلى هذه القيم في الواقع ، لأنّ الاعتراف بهذه القيم لا يتمّ بدون الاستناد إلى رؤية معنوية للكون تقيم وزناً لها وتحتفظ بقيمتها ، لذا أصبح العالم المادي عاجزاً عن الوصول إليها ، وما يشاهد حالياً في المتون القانونية لعالم اليوم من قبيل حقوق الإنسان مثلاً فهو الآخر عرضة للتفاسير المختلفة دائماً ، أو مبرر لتوجيه الابتزازات المادية ، وغطاء للتستر على الأهداف اللامشروعة المنافية للأصول المنسجمة مع الإنسانية في كل الحالات.

* * *

سابعاً : الاصول الثابتة والمتغيرة

من المعلوم لدينا أنّ مسلمي العالم يعتقدون من خلال ما استلهموه من القرآن والأحاديث الإسلامية المعتبرة أنّ نبي الإسلام هو خاتم الأنبياء ، وأنّ الدين الإسلامي هو الدين الخالد ، ومع التسليم بهذا الاعتقاد يبرز هذا السؤال وهو : كيف يمكن الحفاظ على بقاء الأحكام والمقررات الثابتة والخالدة مع حدوث التغييرات المستمرة للحياة الاجتماعية للجنس البشري ، وكيف يتم حصول المتطلبات المتغيرة مع وجود قوانين ثابتة؟

إنِّ القوانين القرآنية عالجت هذه المشكلة وذلك من خلال تصنيف القرآن لهذه القوانين

٢٠٦

إلى صنفين : الصنف الأول منها هي القوانين الكلية التي أصلها ثابت ، ومصداقها وموضوعها الخارجي في تغير وتبدل مع مرور الزمن ، والصنف الثاني منها هي القوانين الخاصة والجزئية بالاصطلاح وهي غير قابلة للتغيير.

وتوضيح ذلك : يُؤخذ من خلال ما خاطب به القرآن المؤمنين بقوله : (يَاايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اوفُوا بِالعُقُودِ). (المائدة / ١)

هذه هي إحدى الاصول العامه السائدة على مرِّ العصور والأزمنة ، وإن كان موضوعها ومصداقها في حالة تغير وتبدل ، فمثلاً ظهرت مع مرور الزمن سلسلة من الارتباطات الحقوقية الجديدة والاتفاقيات المستحدثة بين أوساط الناس لم يسبق لها وجود في عصر نزول القرآن ، فعلى سبيل المثال لم يكن يبدو للعيان شيء اسمه «التأمين» ، أو أنواع الشركات المختلفة في ذلك الزمن ، والتي تحققت في عصرنا هذا حسب حصول المتطلبات اليومية ، بيدَ أنّ القانون العام الآنف الذكر قد شمل كل هذه الأمور ، فأي شكل من أشكال الاتفاقيات والمعاملات الجديدة والعقود والمواثيق الدولية ، التي تظهر على مسرح الوجود حسب المتطلبات إلى نهاية العالم وتكون منسجمة مع الاتفاقيات الإسلامية تقع ضمن هذا الشمول ، ونجد قسطاً وافراً من هذه القوانين في الإسلام بصورة عامة والقرآن بصورة خاصة.

ولننظر في قوله عزّ من قائل : (وَمَا جَعَل عَلَيكُم فِى الدِّينِ مِن حَرَجٍ). (الحج / ٧٨) بناءً على ذلك إذا تعذّر أداء إحدى التكاليف الإسلامية في ظروف خاصة فإنّها تخرج من دائرة الوجوب والإلزام تلقائياً ، فيتبدل الوضوء في ظروف قاسية إلى التيمم ، والصلاة من وقوف إلى الصلاة من جلوس ، والصلاة من جلوس إلى الصلاة في حالة الاضطجاع ، ويتبدل صوم الأداء إلى صوم القضاء ، ويرتفع الحج في مثل هذه الظروف.

وقد وردت إشارات إلى «قاعدة لاضرر» في موارد خاصة من آيات قرآنية متعددة تدل على خطر الأمور التي تلحق الضرر والأذى بشكل أو بآخر ، ولذلك تحدد وتضيق دائرة

٢٠٧

الأحكام والمقررات التي بينت على شكل حكم عام حينما تصل إلى موارد الضرر والحرج.

يقول القرآن في موضوع النساء المطلقات : (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ). (الطلاق / ٦)

ويقول في موضع آخر : (وَلَا تُمِسكُوهُنَّ ضِراراً). (البقرة / ٢٣١)

ويقول في مورد الوصية : (مِن بَعدِ وَصيَّةٍ يُوصَى بِهَا او دَينٍ غَيرَ مُضَارٍ). (النساء / ١٢)

ويقول في مورد الشهود وكتاب السندات : (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ). (البقرة / ٢٨٢) إنَّ هذه القاعدة المطروحة بشكل أكثر تفصيلا في الروايات الإسلامية تعتبر من القواعد المهمّة التي تقوم بتطبيق الأحكام الإسلامية (من خلال التغيرات الطارئة على الموضوعات) ، على الاحتياجات والضروريات الواقعية لكل زمان ، وقد تمّ شرح ذلك في كتب «القواعد الفقهية» ، وعلى أي حال فإنّ من الشواهد الاخرى لهذا المدعى هي : «قاعدة العدل والانصاف» ، وقاعدة : «عدم تكليف مالا يطاق» ، وقاعدة : «المقابلة بالمثل» ، في المسائل المتعلقة بالجنايات والقصاص والاضرار المالية ، وكلها لها جذور قرآنية ، وخلاصة الكلام : إنطلاقا من «خاتمية نبوة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وفقاً للآية ٤٠ من سورة الأحزاب» واستمرارية القرآن الكريم ، فإنّ القوانين القرآنية طرحت من الدقة بمكان بحيث لم تسنح لظروف الزمان وتحولات الظروف والمتطلبات البشرية التي عفا عليها الدهر وعلاها غبار الزمن الغابر.

وفي الوقت التي كانت تسد الاحتياجات القانونية لعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو عصر نزول القرآن كانت ناظرة أيضاً إلى الأزمنة والقرون الآتية ، ومن الأمثلة الرائعة والجلية هو مانلاحظه في الآية المتضمنة لمفهوم (إعداد القوى) وتعبئتها حفاظاً على بيضة الإسلام والمسلمين : (وَاعِدُّوا لَهُم مَّااستَطَعتُم مِّن قُوّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ). (الانفال / ٦٠)

فمن جهة يضع بصماته على المستلزمات الضرورية لذلك العصر ويتحدث عن الخيول المُجرَّبة ، ولكن من جهة اخرى يُنوِّه إلى أصل عام يتوافق مع ذلك العصر ، ومع كل عصر

٢٠٨

حتى قيام الساعة ، وهذا الأصل هو تهيئة شتى أنواع القوى والقدرات التي تشمل كافة الوسائل القديمة والحالية والمستقبلية.

وأروع ماورد في هذه الآية هو هذا المعنى : إنّ الغاية من كل هذه الأمور هو إلقاء الرعب في قلوب الأعداء ليقف ذلك حاجزاً دون وقوع الاعتداء والحرب ، لا أن يؤدّي ذلك إلى مزيد من إراقة الدماء.

* * *

٢٠٩
٢١٠

٦ ـ الاعجاز الغيبي للقرآن

إشارة وتنبيه :

بالرغم من وجود أصول وجذور للحوادث المستقبلية في الماضي والحاضر إلّاأنّه لن يستطيع أحد أن يكشف النقاب بدقّة عن الحوادث المستقبلية ، وبالرغم من إرادة الإنسان وعزمه المستمر في التعرف والاطلاع على الحوادث المستقبلية ، وبالرغم من المساعي الكثيرة التي بذلها في هذا الطريق ، إلّاأنّه لم يصل إلى وسيلة ناجحة ترفع الحجب الكثيفة التي حالت بينه وبين المستقبل.

إنّ الرغبة الشديدة التي يحملها الإنسان للاطلاع على الحوادث المستقبلية هو الذي بعث الحماس والحمية في سوق الكهان والمنجمين وأصحاب الخرافات ، بل حتى الذين يقرأون الطالع والفأل ، وهؤلاء بدورهم كانوا يستثمرون حالة النهم والولع لدى الناس بالاستفادة من ألاعيبهم وخدعهم الماكرة ، ويُسلّونهم بسلسلة من العبارات المبهمة أو الأقاويل المملة التي كان يتمكن كل شخص أن يطبقها على مراده ومقصوده بسهولة ، وكانوا يكسبون المنافع والأرباح من هذا الطريق.

وفي يومنا هذا أيضاً تحصل نبوءات كثيرة في عالم السياسة وغيرها من العوالم الاخرى ترمي الوصول إلى أهداف خاصة غالباً ، وهي جزء لايتجزأ من المخطط السياسي للدول ، لكن الكثير منها لا يتحقق في الخارج. ويخالف ما هو عليه واقعاً.

والجدير بالذكر إنّ هذه الاقاويل الخاطئة لاتقف مانعاً أمام التنبؤات المستقبلية في مثل هذا النوع من المسائل أيضاً ، بيدَ أنّ الحقيقة التي لا يمكن التعتيم عليها هي لو أنّ شخصاً

٢١١

عمد إلى بيان الأمور المستقبلية بدقة وبكل تفاصيلها (لا بصورة طرح المعاني الكلية والبيانات المبهمة والعبارات المتضاربة) فهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على أنّه مطلع على أسرار الغيب بصورة إجمالية ، وإذا تكرر وقوع هذا التنبؤ وكان متقارناً مع دعوى النبوة أو الإمامة فحينئذٍ يمكن التعويل عليه بصفته أحد البراهين والأدلة.

من خلال هذه الإشارة نعود مرة اخرى لنبحث أمثلة كثيرة من هذا القبيل في القرآن الكريم :

١ ـ (الَم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِى ادنَى الارْضِ وَهُم مِّن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ* فِى بِضْعِ سنِينَ لِلهِ الامْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَؤِمئذٍ يَفَرَحُ المُؤمنونَ* بِنَصرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحيمُ* وَعْدَ اللهِ لَايُخِلفُ اللهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ اكثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ). (الروم / ١ ـ ٦)

٢ ـ (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُؤيَا بِالحَقِّ لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ انْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحِلّقِينَ رُؤسَكُم وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَالَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحَاً قَرِيبَاً). (الفتح / ٢٧)

٣ ـ (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَاخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ ايدِىَ النَّاسِ عَنكُم وَلِتَكونَ آيَةً لِّلمُؤمِنيِنَ وَيَهدِيَكُم صِرَاطًا مُّستَقِيًما* وَاخرَى لَمْ تَقدِرُوا عَلَيهَا قَدْ احَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَىءٍ قَديراً). (الفتح / ٢٠ ـ ٢١)

٤ ـ (امْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنَتصِرٌ* سَيُهزَمُ الجَمعُ وَيُوَلُّونَ الدُبُر). (القمر / ٤٤ ـ ٤٥)

٥ ـ (وَاذْ يَعِدُكُمُ اللهُ احدَى الطَّائِفَتينِ انَّهَا لَكُم وَتَوَدُّونَ انَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ويُرِيدُ اللهُ ان يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبِطلَ البَاطِلَ وَلَو كَرِهَ الُمجرِمُونَ). (الانفال / ٧ ـ ٨)

٦ ـ (انَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيكَ القُرآنَ لَرَادُّكَ الَى مَعَادٍ). (القصص / ٨٥)

٧ ـ (تَبَّتْ يَدَا ابِى لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا اغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ* سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ). (تبت / ١ ـ ٣)

٢١٢

٨ ـ (انَّا اعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* انَّ شَانِئَكَ هُوَ الابْتَرُ). (الكوثر / ١ ـ ٣)

٩ ـ (لَنْ يَضُرُّوكُم الَّا اذًى وَانْ يُقَاتِلُوكُم يُوَلُّوكُم الادبَارَ ثُمَّ لَايُنصَرُونَ). (آل عمران / ١١١)

١٠ ـ (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِلَّةُ ايْنَ مَاثُقِفُوا الَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ). (آل عمران / ١١٢)

* * *

١ ـ الأخبار عن هزيمة الأعداء في اقل من عشر سنين

في الآية الاولى إخبارٌ عن هزيمة الروميين (غُلِبَتِ الرُّومُ) ، ثم يتحدث بعد ذلك عن محل وقوع هذه الحادثة فيقول : (فِى أَدْنى الأَرْضِ) ، والمقصود منها أراضي الشام بحد ذاتها أي (المنطقة الواقعة بين بُصرى واذْرُعات) ، وهي داخلة ضمن دائرة الروم الشرقية ، وكانت تعتبر من المناطق القريبة بالنسبة إلى سكان الجزيرة العربية.

وقد وقعت هذه الحرب بحسب ماورد عن بعض المؤرخين المعاصرين في عهد «خسرو برويز» وهي حرب طويلة الأمد دارت رُحاها بين الفرس والروم في حدود عام ٦١٧ ميلادي ، حينما قام اثنان من القادة الايرانيين المعروفين ، وهما «شهر بُراز» (١) و «شاهين» بمهاجمة أراضي امبراطورية الروم الشرقية ، وتمكّنا من إلحاق هزيمة مرة بجيش الروم ، وكانت منطقة الشامات ومصر وآسيا الوسطى مسرحاً لهذه العمليات ، وقد آلت امبراطورية الروم أثر هذه العمليات إلى السقوط والانقراض بعد الهزيمة النكراء التي لحقت بها ، وقد استولى الايرانيون على كل ما بسط الروم نفوذهم عليه في منطقة آسيا ومصر ، وقد وقعت هذه الحرب في حدود السنة السابعة لبعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) اسمه فرّخان ، قائد ايرانى حارب الروم في زمان خسرو برويز واستولى على مصر سنة ٦١٦ ميلادي ، معجم دهخدا ـ مادة (براز).

٢١٣

وفرح أعداء الإسلام والمشركون في مكة بهذه الواقعة وتفاءلوا بها خيراً واستدلوا على حقانية أهل الشرك فقالوا : إنّ الايرانيين «مجوس» ومشركون و «وثنيون» أمّا الروميون فهم مسيحيون أهل كتاب ، فكما تغلب الايرانيون على الروميين ، سيكون النصر حليفنا أيضاً نحن المشركين ، وستطوى صحيفة حياة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتكون الغلبة لنا ولمعتقداتنا.

إنّ هذا النوع من الاستنتاج والتفاؤل وإن لم يستند إلى أي قاعدة منطقية ، إلّاأنّه لم يخل من تأثير إعلامي في أوساط ذلك المحيط ، ولهذا السبب كان تأثيره شديد الوطأة على المسلمين.

ويضيف القرآن تعقيباً على الآية السابقة : اعلموا أنّ هذه الغلبة للفرس لا تدوم زمناً طويلاً (وَهُم مِّن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ) أي الروم ، ثم يشير إلى الجزئيات بعد ذلك بقوله : (فِى بضِع سنِيِنَ للهِ الامرُ مِّن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيؤمئذٍ يَفْرَحُ المُؤمِنونَ).

إلّا أنّ هذا الفرح والسرور ليس قائماً على أساس التفاؤل بالخير بالنسبة لغلبة الإسلام على الشرك فحسب ، بل السبب الأساسي لغبطتهم هذه هو حصولهم على المدد الإلهي (بالنصرة على مجموعة من الأعداء في محيطهم الداخلي) (بِنَصرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ).

ومن أجل ترسيخ هذا المعنى أكثر ، وازالة أي لون من ألوان الشك والتردد ، يقول تعالى : (وَعْدَ اللهِ لايُخلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعلَمُونَ).

إنّ هذا التنبؤ العجيب المشتمل على ذكر الجزئيات ، والذي يخبر عن أحد المسائل العسكرية والسياسية المهمّة ، كيف يمكن له أن يتحقق بدون الإحاطة بأسرار الغيب؟

فمن جهة يخبر عن أصل وقوع الانتصار للروميين المندحرين الذين وصل بهم الاحباط والهزيمة إلى حد الانقراض وفقدوا مساحة شاسعة من أرض بلادهم ، ولم يعد هناك أمل بأنّ يستعيدوا قواهم ويثبتوا كيانهم بهذه السهولة ، ومن جهة اخرى يصرح بأنّ هذا الأمر سيتحقق في بضعة أعوام.

ويضيف على ذلك بقوله : إنّ هذا سيقترن بنصر آخر للمسلمين على الكفار ، وفضلاً عن

٢١٤

ذلك كله يؤكد تأكيداً قاطعاً على أنّ هذا الوعد الإلهي حتمي الوقوع وا نّ الله لن يخلف وعده.

ونرى أنّ هذا الوعد تحقق فعلا بكل جزئياته ، فقام ملك الروم «هرقل» بإلحاق الهزيمة تلو الهزيمة بمعسكر «خسرو برويز» في سنة ٦٢٦ م أي بعد ٩ سنوات تقريباً حيث كانت نتائج هذه الحروب لصالح الروميين إلى سنة ٦١٧ م وحققوا النصر الكامل والشامل ، وأصيب «خسروبرويز» بالفشل الذريع فأزاحه الايرانيون من على دسدّة الحكم وأجلسوا مكانه ابنه «شيرويه».

خلاصة الكلام : إنّ هزيمة الروميين وقعت في سنة ٦١٧ م الموافق للسنة السابعة للبعثة النبوية الشريفة ، واستعاد الروميون نصرهم من جديد في سنة ٦٢٦ م حينما ألحقوا الهزيمة «بالجيش الساساني» ، ووصلت هذه الهزيمة إلى أوجها في السنة القادمة أي (سنة ٦٢٧ م) ذلك أن هرقل زحف إلى «دستجرد» الواقعة على بعد عشرين فرسخا من «تيسفون» عاصمة ايران وموطن «خسرو برويز» ، واندحر «خسرو برويز» ولاذ بالفرار ، وعُزل على أثرها من مقام السلطة ممّا أدى ذلك إلى قتله ، ونجد أنّ الفاصلة بين هذين لم تتجاوز التسع سنوات ، وهو مطابق تماماً لمعنى «بضع سنين» ، لأنّ «البضع» في قاموس اللغة وعلى حد قول الراغب في المفردات : هو بمعنى حصة من العدد عشرة ، فكل مايقع بين الثلاثة والعشرة يقال له : بضع ، وقال البعض : إنّ البضع يطلق على العدد الذي يكون أكثر من خمسة وأقل من عشرة.

وجاء في معجم مقاييس اللغة أيضاً أنّ «البضع» هو العدد الذي يقع بين الثلاثة والعشرة. وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ هذه النبوءة أصبحت من الأمور المتعارفة والمسلَّمة لدى المسلمين حتى كان البعض منهم على استعداد لأنّ يراهن على هذه المسألة مع المشركين في مكة ، وتحقق هذا الرهان بالفعل ، وفي بداية الأمر وقع الرهان على خمس سنوات ، ولما لم يتغير من الأمر شيء جاءوا إلى النبي وأخبروه بحقيقة الأمر ، وما جرى عليهم مع المشركين ، فقال لهم : كان ينبغي عليكم أن تحاوروهم على أقل من عشر سنوات ،

٢١٥

وهكذاحصل وتحقق النصر بعد الهزيمة في أقل من عشر سنوات.

ومن النكات المهمّة الاخرى هي اقتران هذا النصر بانتصار المسلمين في «معركة بدر» لأنّ معركة بدر وقعت في السنة الثانية للهجرة ، والمقطع الزمني الفاصل بين السنة السابعة للبعثة والسنة الثانية للهجرة هو تسع سنوات ـ هذا إذا ما أخذنا في الاعتبار نفس السنة السابعة أيضاً وبدونها تكون الفاصلة بينهما ثمان سنوات.

من هنا كان انتصار الروميين وانتصار المسلمين متقاربين ، وفي الواقع إنّما فرح المسلمون لأمرين ، الأول : هو الذي حققه أهل الكتاب أي الروميّون على المجوسيين الذي كان أحد مشاهد انتصار العبودية لله تعالى على الشرك ، في الوقت الذي كانت هزيمة الروم مدعاة لارتياح مشركي مكة وغبطتهم ، والآخر : هو ما حققوه من انتصار كبير على المشركين في معركة بدر.

* * *

٢ ـ التنبوء عن نصرين هامين آخرين

تكشف الآية الثانية ـ في هذا البحث ـ الستار عن اثنين من الحوادث المهمّة الآخرى المرتبطة بمستقبل المسلمين. الحادثة الاولى تكشف عن هذه الحقيقة للمسلمين وهي : إنّكم ستدخلون المسجد الحرام وتقيمون هذه الشعائر الكبرى في منتهى الأمن والآمان في المستقبل القريب بالرغم ممّا يحمله المشركون من رفض واعتراض على دخول المسلمين إلى المسجد الحرام وأدائهم لمناسك الحج والعمرة ، والاخرى تبيّن هذه الحقيقة لهم وهي : إنّ النصر الحقيقي سيكون حليفكم قبل ذلك.

يقول عزّ من قائل : (لَقَد صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُؤيَا بِالحَقِّ لَتَدخُلُنَّ المَسجِدَ الحَرَامَ ان شَاءَ اللهُ آمِنيِنَ مُحَلّقِيِنَ رُوسَكُم وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَالَمْ تَعلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحَاً قَرِيبَاً).

تخبر هذه الآية عن أنّ النبي رأى في منامه رؤيا تعبّر عن أنّ المسلمين سيدخلون

٢١٦

المسجد الحرام آمنين لأداء مناسك الزيارة لبيت الله.

كان البعض يتصور أنّ هذه الرؤيا ستتحقق مباشرة في السنة نفسها ، فعندما توجه المسلمون إلى مكة للزيارة واعترض طريقهم مشركوا مكة في الحديبية (وهي القرية التي تقع مسافة ٢٠ كيلومتر عن مكة واشتق اسمها من البئر أو الشجرة الموجودة فيها) ممّا أدّى ذلك إلى التوقيع على اتفاق الصلح المعروف بصلح الحديبية ، عندئذٍ أخذ البعض يراوده الشك والتردد في أن لا تكون لهذه الرؤيا مصداقية ، على مستوى الواقع ، حتى أنّهم بدأوا يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا المجال عن السبب وراء عدم تحقق هذه الرؤية الرحمانية؟ فأكد لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّه لم يقل : إنّ ذلك يتحقق في هذه السنة وإنّما قصد وقوعه في المستقبل القريب ، في هذه الأثناء نزلت الآية المذكورة وأول ما أكدت عليه هو صدق هذه الرؤيا ، ثم أشارت بعد ذلك إلى الجزئيات وقالت : إنّكم ستدخلون المسجد الحرام قريباً وتؤدّون مناسك الحج بكل حرية واطمئنان ، كما أنّ النصر سيكون حليفكم قبل أداء هذه المناسك ، وتحققت هذه النبوءة وفقاً لما ذكرها جميع المؤرخين ، واستطاع جمع غفير من المسلمين أن يؤدّوا مناسك العمرة في السنة التالية لواقعة «الحديبية» وهي (السنة السابعة للهجرة) ، وسميت هذه المناسك (عمرة القضاء) لأنّها في الواقع قضاء للعمرة التي أراد الجميع أن يؤدّوها في السنة الماضية.

نخرج من كل ما قيل سابقاً بهذه النتيجة : أنّه قد تمّ الاعلان بقوة وحزم في هذا المقطع من الآيات عن مسألة غير متوقعة الحدوث ، والتي كانت مورداً من موارد مثار الاختلاف ونزاع شديد بين المسلمين والمشركين ، كما اشير فيها إلى التفاصيل أيضاً بالإضافة إلى ماحصل من تنبّؤ عن اقتران ذلك بنصر آخر للمسلمين ، وهذا في حد ذاته بيان مضاعف فيما يرتبط بهذا التنبّؤ الهام.

هناك بحث ونقاش بين المفسرين حول المقصود «بالفتح القريب» فقد تحققّ للمسلمين على مقربة من هذه الواقعة ، أحدهما هو صلح الحديبية الذي كان من دواعي الانفتاح ، والآخر هو «فتح خيبر» الذي تحقق في أوائل السنة السابعة للهجرة ، أي بعد واقعة الحديبية

٢١٧

بعدّة أشهر ، والظاهر أنّ «الفتح القريب» هو إشارة إلى الواقعة الثانية كما ذهب إليه الكثير من المحققين على أساس قوله تعالى : (مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيَماً). (الفتح / ١٩)

صحيحٌ أنّ للغنيمة مفهوماً واسعاً وشاملاً لكل أنواع الغنيمة المادية والمعنوية ، ولكن المتبادر في مثل هذه الموارد هو معنى الغنائم الظاهرية في الأعم الأغلب ، وممّا نعلمه أنّ الغنائم الظاهرية كانت موجودة في «فتح خيبر» لا في صلح الحديبية.

إذن ، يمكن الخروج بهذه النتيجة بوضوح وهي : إنّ مثل هذه التنبؤات الدقيقة ، والصادرة بكل قاطعية وجدية ، وبدون أن يشوبها الاحتمال والتردد ، لايمكن أن تتأتى إلّامن خلال الارتباط بعالم الغيب.

* * *

٣ ـ الغنائم الكثيرة في المستقبل

يخبر القرآن في الآية الثالثة ـ تعقيباً على قضية «صلح الحديبية» وما تنبَّأ به من «عمرة القضاء» و «فتح خيبر» ـ عن فتوحات اخرى متتالية وحائزة على غنائم وافرة فيقول : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَاْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ ايِدىَ النَّاسِ عَنْكُم وَلِتَكُونَ آيَةً لِلمُؤمِنينِ وَيَهْدِيَكُم صِرَاطاً مُّستَقِيماً).

ثم يضيف إلى ذلك قائلاً : (وَاخَرى لَم تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ احَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كلِّ شَىءٍ قَدِيراً).

في هذه الآيات ورد الإخبارُ عن انتصارين على الأعداء مع الحصول على غنائم كثيرة ، أحدهما قصير المدى والآخر بعيد المدى.

تلك الغنائم والفتوحات التي عجز عنها المسلمون بحسب الظاهر قد جعلها الله في اختيارهم وطوع إرادتهم بحوله وقوته الكاملين.

وثمة نقاش واختلاف بالرأي بين المفسرين في تحديد نوعية الغنائم والفتوحات ، فقد

٢١٨

ذهب الكثير منهم إلى أنّ المقصود من الغنائم التي يحظى بها المسلمون في فترة قصيرة هي «غنائم خيبر» ، وإن احتمل البعض أنّها إشارة إلى «الغنائم المعنوية لصلح الحديبية» ، إلّاأنّ هذا الاحتمال ضعيف كما قلناه سابقاً.

وأمّا في صدد الغنائم طويلة الامد فقد ذهب الكثير من المفسرين إلى أنّها إشارة إلى «غنائم حرب حنين» وقبيلة «هوازن» (١) و (٢).

واحتمل البعض أيضاً أنّها إشارة إلى الفتوحات الكبيرة القادمة نظير فتح بلاد ايران والروم واليمن ، وبالرغم من أنّ فتح حنين والحصول على غنائم قبيلة هوازن لم يكن مستبعدا من قبل المسلمين ، إلّاأنّ التوصل إلى فتح «ايران والروم» وما شابهها كان بالنسبة إليهم أمراً شاقاً وبعيد المنال ، ولهذا حينما أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله البشارة وفقاً لرواية معروفة بفتح ايران والروم واليمن في حرب الخندق بدأ المنافقون يسخرون من ذلك ، والسبب في ذلك يعود إلى عدم إمكان تحققه من ناحية الاسباب الظاهرية ، لكن الله تعالى القادر على كل شيء هو الذي جعل الوصول إلى هذه الفتوحات ، والحصول على الغنائم الثمينة قيد الإمكان والتحقق ، فكشف الستار عنها قبل التوصل إليها بسنين طويلة ، وبيّنها بشكل تنبؤ صادق في الآيات المتقدمة ، فيا ترى هل يمكن حصول هذه التنبؤات بدون الارتباط بعالم الغيب؟

* * *

٤ ـ التنبّؤ بالهزيمة الساحقة للاعداء

في المقطع الرابع نقف على صورة اخرى للتنبؤ.

نزلت هذه الآيات في مكة عندما كان اعداء الإسلام يسرحون ويمرحون في أوج قدرتهم ، في حين كان المسلمون في غاية الضعف وقلة العدد.

__________________

(١) اشير إليه في تفاسير مجمع البيان ؛ الكبير للفخر الرازي ؛ وروح المعاني ؛ والميزان.

(٢) إنّ غنائم حنين كانت عظيمة حتى أنّ البعض قدرها ب ٢٤ الف ناقة و ٤٠ الف شاة ومقادير كثيرة من الفضة (تفسير روح البيان ج ٩ ، ص ٤٢ ؛ منتهى الآمال ج ١ ، ص ٦٥).

٢١٩

وكان الأعداء يفتخرون بقدرتهم وشوكتهم ويقولون : نحن جماعة قوية ومتحدة وسننتقم من مناوئينا وننتصر عليهم : (ام يَقُولُونَ نَحنُ جَمِيعٌ مُّنْتصِرٌ) ، إلّاأنّ القرآن يعقب على ذلك مباشرة بقوله : (سَيُهْزَمُ الجَمعُ وَيُولُّونَ الدُّبُرَ).

إنّ من المسلم هو عدم إمكان حصول التوقع والحدس بالانتصار السريع للمسلمين وكسر شوكة أعداء الإسلام في ذلك الزمان ، إلّاأنّه لم تمرّ فترة قصيرة من الزمن حتى هاجر المسلمون وعظمت قدرتهم وشوكتهم بحيث إنّهم وجهوا ضربة قوية ومباغتة إلى نحور الأعداء في أول اصطدام من نوعه مع الأعداء في ساحة معركة بدر.

والجدير بالذكر أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم بدر كما جاء عن ابن عباس بدأ بالدعاء في خيمته ومن ضمن ما كان يدعو به أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقول : (اللهم أقسم عليك بالعهد الذي عاهدته معنا) ، ثم لما خرج بلامة الحرب من الخيمة ودخل ساحة القتال تلا هذه الآية : (سَيُهَزمُ الجَمعُ وَيُولُّونَ الدُّبُرَ) أي أنّ الوعد الإلهي سيتحقق هذا اليوم (١).

وبطبيعة الحال فقد استمرت هزائم الأعداء ونكوصهم على اعقابهم مراراً وتكراراً ، ولم تمر أعوام حتى اذعنت «شبه الجزيرة العربية» كافة ـ فضلاً عن كفار مكة ـ بالتسليم والانقياد للمسلمين.

ونقل في تفسير القرطبي عن بعض المفسرين : إنّ هذه الآية نزلت في ميدان معركة بدر ، في حين أنّ المعروف والمشهور هو نزول سورة القمر بأجمعها في مكة ، والظاهر أنّ منشأ الاشتباه راجع إلى نفس ما تقدمت الإشارة إليه بأنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كرر هذه الآية في ساحة بدر ، فكانت إشارة واضحة إلى تحقق الوعد الإلهي في ذلك اليوم ، لهذا ظن البعض أنّ الآية نزلت في ذلك المكان ، على كل حال فهذه هي احدى التنبؤات القاطعة للقرآن التي تحققت على حين غرة في فترة قصيرة.

* * *

__________________

(١) نقل هذا الحديث عن صحيح البخاري عن ابن عباس في تفسير في ظلال القرآن ، ج ٧ ، ص ٦٥٧ «مع التلخيص».

٢٢٠