نفحات القرآن - ج ٨

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٨

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-002-5
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣٣٢

أنّ يُعبِّر القرآن عنهم بقوله : (وَاذْ زَاغَتِ الابْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ ... وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً). (الاحزاب / ١٠ ـ ١١)

في خضم هذه الظروف هبَّت ـ على حين غِرّة ـ نسمة الرحمة الإلهيّة ، وانقلبت الامور رأساً على عقب وتتابعت فيوضات المدد الإلهي على المسلمين وقذف الله في قلوب المشركين الرعب والفزع الشديد فتراجعوا خائبين بدون أن يحققوا عملاً معيناً وعادوا إلى مكة.

وفي الواقع أنّ جميع الأخبار الغيبية في القرآن التي بحثناها مفصلاً في الفصل السابق ، يمكن الاستناد إليها في هذا البحث أيضاً ، وذلك لأنّ كل واحد منها يعتبر معجزة من معاجز نبي الإسلام ودليلاً على صدق قوله وادّعائه. طالعوا مرة اخرى كل ماذكرناه في الفصول العشرة من بحث الاعجاز القرآني من ناحية الأخبار الغيبية ، إذ كل واحد من تلك الفصول يعتبر شاهداً على البحوث التي بين ايدينا في هذا الفصل.

* * *

وأمّا الموارد الخاصة التي حددها القرآن الكريم ، ففي مقدمتها قصة شق القمر التي جاء ذكرها في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ* وَانْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ* وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا اهْوَاءَهُم وَكُلُّ امْرٍ مُّسْتَقِرٌّ). (القمر / ١ ـ ٣)

الكلام يقع في أنّ المقصود من شق القمر هل هو بعنوان معجزة من المعاجز الواقعة في هذا العالم ، أو أنّه إشارة إلى انشقاق القمر في المستقبل أو في نهاية العالم بصفته واحدة من العلامات على بداية الآخرة ، فالمشهور بين المسلمين هو الاحتمال الأول على حد قول الفخر الرازي الذي يقول : «والمفسرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشق وحصل فيه الانشقاق ، ودلت الأخبار على حديث الانشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة» (١).

وينقل المرحوم «الطبرسي» أيضاً حديث انشقاق القمر عن جمع كبير من صحابة النبي

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢٨.

٢٤١

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجماعة من المفسرين ويعد المخالفين لهذه المسألة ثلاثة أشخاص فقط ، هم : (عثمان بن عطاء ، عن أبيه وكذلك الحسن والبلخي) ، ثم يقول بعد ذلك : «وهذا لا يصح لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك فلا يعتد بخلاف من خالف فيه ولأنّ اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه» (١).

وذكر جماعة من المفسرين عبارات متشابهة لما نقلناه عن «الطبرسي» و «الرازي».

علاوة على ذلك فانه توجد قرائن واضحة على هذا المعنى في نفس هذه الآيات من جملتها :

١ ـ جملة «وانشق القمر» المذكورة بصيغة الفعل الماضي التي تدل على وقوع مثل هذا الأمر ، وأمّا كون الفعل الماضي بمعنى المضارع فإنّه وإن ورد ذكره في موارد معينة من القرآن الكريم ، لكن نظراً لكونه استعمالاً مجازياً فهو بحاجة إلى القرينة ، ولا توجد قرينة في هذا المقام.

٢ ـ إنّ أفضل شاهد على هذا المعنى هي الآية الثانية التي تقول : (وَانْ يَرَوا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ) ، لأنّ مشاهدة «الآية» و «الإعراض» عنها ، ونسبة السحر إلى النبي كلها تدل في الظاهر على وجود معجزة.

٣ ـ تخبر جملة : (وكَذَّبوا واتَّبَعوا أَهْواءَهم) في الآية الثالثة عن تكذيب هؤلاء لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى بعد مشاهدة المعجزة ، ولو لم يكن إعجازاً في البين لما كان لهذه التعابير أساس من الصحة بأي شكل من الأشكال.

٤ ـ بالإضافة إلى ذلك فقد نقلت روايات كثيرة في مصادر الحديث الإسلامى أخبار عن حدوث هذا الإعجاز وقد وصلت إلى حد الشهرة والتواتر ، وقد أقر جمع من المفسرين مسألة تواتر الأخبار الواردة في شق القمر ، من جملتهم : الطبرسي ، والفخر الرازي ، وسيّد قطب ، والبروسوي في روح البيان فلا يمكن الإعراض عن هذه الآيات والروايات بالاستناد إلى بعض الهواجس والفرضيات البعيدة على الاطلاق.

وممّا يمكن ذكره بعنوان قرينة على وقوع هذه الحادثة في المستقبل هو اقتران قرب

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٩ و ١٠ ، ص ١٨٦.

٢٤٢

وقوع يوم القيامة إلى جانب شق القمر حينما في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ القَمَرُ).

إلّا أنّ الذي ذهب إليه جماعة من المفسرين هو أنّ اقتراب يوم القيامة تحقق مع ظهور نبي الإسلام ، لأنّنا نقرأ في المأثور عنه : «بعثت أنا والساعة لهاتين» وقد أشار إلى اصبعين متوازيين من أصابعه المباركة (١).

ولذا نقرأ في قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُم وَهُم فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ). (الأنبياء / ١)

ونقرأ في قوله تعالى : (قُلْ انَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبَاً). (الأحزاب / ٦٣)

وذلك حينما سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن موعد حصول يوم القيامة.

ووفقاً لما ورد في الروايات المشهورة فإنّ المشركين جاؤوا إلى رسول الله وقالوا : «إذا كنت صادقاً في قولك وإنّك نبي حقاً فاشطر القمر لنا شطرين» (٢).

ولم يمض شيء من الوقت حتى اتصل أحد شقي القمر بالآخر وعاد إلى حالته الاولى. وقد نقل الصحابي المشهور حذيفة قصة انشقاق القمر بحضور جمع من الناس في مسجد المدائن ، فلم يعترض عليه أحد مع أنّهم أدركوا عصر النبي ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدل على قطعية هذه المسألة في أوساطهم (٣).

* * *

إشكالات حول مسألة شق القمر

في قبال الآيات السابقة ، والروايات الإسلامية المشهورة التي وردت في جميع كتب الحديث المعروفة ، وتفسير أهل السنة والشيعة ، يميل البعض من خلال الاستناد إلى مجموعة من الإشكالات إلى رفع اليد عن ظهور هذه الآيات ، وربطها بالحوادث المختصة ببدايات يوم القيامة وبالاصطلاح «أشراط الساعة».

__________________

(١) تفسير الكبير ، ج ٢٩ ، ص ٢٩ ؛ وتفسير مجمع البيان ذيل آية ١٨ من سورة محمد.

(٢) تفسير مجمع البيان وكتب التفسير الاخرى في ذيل الآية مورد البحث.

(٣) نقل السيوطي هذا الحديث في تفسير در المنثور ، وتفسير القرطبي في ذيل الآية مورد البحث.

٢٤٣

١ ـ إشكال من زاوية تاريخية

من جملة الإشكالات التي يوردها بعض البسطاء والسذج على مسألة «انشقاق القمر» هو أنّ هذا الأمر ينبغي أن يدون مع ماله من أهميّة كبرى في تواريخ العالم ، والحال أنّ الأمر ليس كذلك فلا نشاهد أثراً له يذكر في التواريخ.

ومن الواضح إنّ هذا الاعتراض غير وارد ، حيث يلزم ومن خلال دراسة وتحليل لجميع جوانب هذه المسألة تبيين مايلي :

أ) ينبغي الالتفات إلى أنّ القمر قابل للرؤية دائماً في نصف الكرة الأرضية لا في جميعها ، ولهذا فإنّ نصف الناس مستثنون من هذه القاعدة.

ب) إنّ الأكثرية الساحقة في هذا النصف من الكرة نائمون أيضاً بعد منتصف الليل ، وعليه فإنّ الذي يحيط علما بمثل هذه الحادثة هم ربع الناس في العالم فقط.

ج) لايبعد في المجال القابل للرؤية أيضاً أن تكون مساحات شاسعة من السماء ملبدة بالغيوم ، ويكون وجه القمر محجوباً عن الرؤية.

د) إنّ الحوادت السماوية إنّما تسترعي انتباه الأشخاص في صورة كونها كالصواعق المصحوبة بالصخب الشديد ، أو كالخسوف والكسوف الكلي المستلزم لانقطاع النور بصورة تامة ولمدّة طويلة نوعاً ما أيضاً.

ولهذا السبب قلما يطلع أحد على الخسوفات الجزئية ، والكسوفات البسيطة إذا لم تكن مسبوقة بالاعلان من قبل الفلكيين ، حتى أنّ الكثير من الناس تخفى عليهم حالة الكسوف التامة أيضاً في بعض الأحيان.

إنّ العلماء الذين يترصدون القمر والأجرام السماوية ، أو الأشخاص الذين تقع أعينهم على السماء صدفة ، هم فقط يمكنهم أن يطلعوا على مثل هذه الحادثة ويخبروا عنها مَن لَم يَرَها من الناس.

ولذا فإنّ مثل هذه الحادثة القصيرة الأمد لاتسترعي انتباه جميع الناس في العالم ، لا سيما أنّ مجتمع ذلك العصر لم يبد الاهتمام المطلوب بالأجرام السماوية.

٢٤٤

ه) بالإضافة إلى أنّ الوسائل اللازمة لتدوين المطالب في التاريخ ونشرها كانت محدودة في ذلك الزمان ، وحتى الأفراد المتعلمون كانوا قليلين جدّاً ، وكانت الكتب جميعها خطية ، ولم تكن تنشر الحوادث المهمّة بواسطة وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والصحف المحلية في جميع أنحاء العالم ، وتسجل في جميع التواريخ كما هو الحال في يومنا هذا.

واستنادا إلى هذه النقاط لا ينبغي الاستغراب من عدم ذكر هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية ، واعتبار ذلك دليلاً على عدم وقوعها.

٢ ـ من الزاوية العلمية

استناداً إلى «هيأة بطليموس» التي ترى أنّ الأرض هي مركز العالم والأفلاك التسعة المحيطة بأطرافها على شاكلة طبقات قشرة البصل ، وكانت تعتقد أنّ هذه الأفلاك كالجسم البلوري المرتبط بعضه ببعض ، والنجوم والأجرام السماوية مندكة في قلب الأفلاك ، وتدور مساوقة لحركة الأفلاك ، وأي نوع من أنواع الخرق والالتئام في الأفلاك محال ، لهذا السبب أنكر اتباع هذه العقيدة كلاً من «المعراج الجسماني» ، و «انشقاق القمر» معاً ، ذلك أنّ كليهما يوجب الخرق والالتئام في الأفلاك!.

إلّا أنّه لم يعد هناك أرضية لهذا الكلام في يومنا هذا بعد أن طويت فرضية الهيأة لبطليموس في ملف الأساطير والخرافات وثبت بطلان الافلاك التسعة من الناحية العلمية والحسية.

وقد يقال : ليس من السهل تحقق مسألة انشقاق القمر بمنظار العلم الحديث أيضاً ، لأنّ هذه الكرة «مساحة القمر» وإن كانت خمس الكرة الأرضية إلّاأنّها مع ذلك كرة عظيمة ، ووقوع الانشقاق والانفجار فيها بحاجة إلى عامل قوي جدّاً ، والجواب عن هذا الإشكال واضح في نظر أهل التوحيد ، إذ لم يَدَّعِ أحد بحدوث «انشقاق القمر» من جراء احدى العوامل الطبيعية ، بل كان يُعزي سبب حدوث ذلك إلى الاعجاز مستنداً إلى القدرة اللامتناهية للباري عزوجل.

٢٤٥

ولا يخفى عليكم أنّ الله لا يصعب عليه انشقاق القمر ، بل إنّ ايجاد المنظومات والمجرّات الاخرى كلها منقادة لإرادته ومشيئته أيضاً ، ذلك الله الذي أحدث الانفجار الأول في قلب الشمس منذ البداية ، وفصل عنها السيارات الكبيرة للمنظومة الشمسية ، فقذفت كل واحدة منها في ناحية من النواحي وبدأت تدور حولها ، أجل ، إنَّ مَن بيده كل شيء وقادر على كل شيء لقادر على إثبات نبوة نبيّه ، وذلك أن يحدث في لحظة من اللحظات مثل هذا الانفجار ثم الالتئام في كرة القمر التي هي لا تساوي شيئاً أمام قدرته تعالى.

إنّ الذين يستهينون بالقدرة الإلهيّة ـ والعياذ بالله ـ أو لم يحيطوا علماً بحدوث المنظومات السماوية الكبيرة على أثر الانفجارات المتتابعة ، هم فقط الذين يثيرون الإشكالات على هذا النوع من المسائل.

٣ ـ انشقاق القمر في التصور القرآني

يقولون إنّ هناك آيات في القرآن الكريم تدل على أنّ نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يمتلك معجزة سوى القرآن : واستدل هؤلاء على إثبات فكرتهم كما ورد في قوله تعالى : (وَمَا مَنَعَنَا انْ نُّرسِلَ بِالآيَاتِ الَّا انْ كَذَّبَ بِهَا الاوَّلُونَ). (الأسراء / ٥٩)

وكذلك تشبثوا بالآية ٩٠ إلى ٩٣ من سورة الاسراء ، وذلك استناداً إلى أنّ جماعة طلبوا من النبي طلبات مختلفة ، فتارة قالوا : لا نؤمن إلّاأن تفجر لنا ينبوعاً من هذه البقعة من الأرض (الجرداء القاحلة) ، وتارة اخرى قالوا : لا نؤمن لك إلّاأن يكون في حوزتك بستان كبير من أشجار النخل والعنب وتجري من خلاله الأنهار ، أو تنزل على رؤوسنا ـ كما تدعي ـ الأحجار السماوية ، أو تحضر لنا الله وملائكته ، أو تمتلك بيتاً من الذهب ، مليئاً بالرسوم والنقوش ، أو تصعد إلى السماء ، ولا نكتف بذلك إلّاأن تأتينا بكتاب من قبل الله تعالى لنطّلع عليه ، فما كان جواب النبي الأكرم على مطالبهم إلّاأن قال : (سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ الَّا بَشَراً رَسُولاً). (الاسراء / ٩٣)

وعلى ضوء جوابه صلى‌الله‌عليه‌وآله ادّعى أولئك المرتابون بأنّه لم يأت بأي معجزة.

٢٤٦

الجواب :

إنّ الالتفات إلى الكلمة التي وردت في أقوال جمع من المفسرين الكبار توضح الجواب عن هذا الإشكال وهي : إنّ المعجزات على نوعين :

النوع الأول : هي المعجزات الضرورية لإثبات صدق دعوى النبي ، وترغيب الناس في الإيمان ، وتخويف المنكرين ، وهي المعاجز المنطقية للذين ينشدون الحق والباحثين عن الحقيقة ، بحيث يعبر القرآن الكريم في ذيل الآية المذكورة بقوله : (وَمَا نُرسِلُ بِالآيَاتِ الّا تَخْوِيفًا). (الاسراء / ٥٩)

النوع الثاني من المعجزات : هي المعجزات التي تسمى بـ «الاقتراحية» ، أي المعجزات التي يطالب بها المتعلّلون لا لأجل سلوك سبيل الحق واليقين بصدق دعوى النبوة ومن ثم الإيمان واعتناق الإسلام ، وإنّما بقصد تعجيز الطرف الآخر ، فإن وجدوا به قدرة على ذلك اتهموه بالسحر.

والأنبياء كانوا يتجهون صوب القسم الأول ولا يستسلمون اطلاقاً لمقترحات المتعللين والمعاجز الاقتراحية.

يشير لحن الآيات ٩٠ ـ ٩٣ من سورة الاسراء بشكل واضح إلى أنّ هذه الموضوعات العجيبة والغريبة والمتهافتة لمشركي العرب لم يكن منشأُها هو البحث عن الحقيقة ، بل الغاية منها هي اختلاق الأعذار والتشكيك في نبوة نبي الإسلام وارساء دعائم الشرك والصنمية ، ولذا لم يُمعِنوا النظر حتى في مفهوم كلامهم ، فمن ضمن مطالبهم مثلاً أنّهم يطلبون معجزة من المعاجز التي تبيدهم «كنزول الأحجار السماوية على روؤسهم» ، وتارة يطلبون معجزة كمعجزة (الصعود إلى السماء) ، ثم ينفون ذلك مباشرة ويقولون : نحن لا نؤمن بذلك حتى تبعث لنا كتاباً من قبل الله ، وتارة يطلبون الامور المستحيلة كقولهم : أن تأتينا بالله والملائكة ، والحال أنّ الله ليس له مكان ، وليس بجسم ولا جسماني.

ثم إذا كان الهدف هو التوصل إلى معرفة حقانية النبي فَلِمَ يطلبون ست معاجز مختلفة؟ ألا تكفي معجزة واحدة؟

٢٤٧

من هنا لم يتسن لأي نبي أن يستسلم لهذا النوع من الأراجيف والأباطيل ، فضلاً عن أنّ الاعجاز ليس من شأن النبي واختياره ، وإنّما هو من شأن الله تعالى واختياره.

إنَّ النبي بإمكانه أن يطلب المعجزة من الله والله تعالى يضع بين يديه أي شيء يراه صالحاً ، ولهذا نقرأ هذا المعنى في ذيل قوله تعالى : (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ الَّا بَشَراً رَّسُولاً) (الأسراء / ٩٠ ـ ٩٣)

وكذا في قوله تعالى : (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ انْ يَاتِىَ بِآيَةٍ الَّا بِاذْنِ اللهِ). (الرعد / ٣٨)

وأمّا قوله : نحن لن نستسلم لمطاليبكم لأنّ الأولين كذبوا ذلك ، فهذا يدعو إلى هذا التساؤل وهو : كيف يجوز أن يكون تكذيب الأولين سبباً لحرمان الأجيال المتعاقبة من مشاهدة المعجزات؟ فالاجابة عنه تكمن في كون هذه العبارة متداولة وذلك بأن يقال للشخص العنيد الذي لا نريد أن نستسلم له : إنَّ اقتراحك لم يكن وجيهاً وقد سبق لغيرك أن اقترحه ، ولم يرضخ للحق.

بعبارة اخرى أنّ المعاجز التي تقترحونها لا تستند إلى أساس البحث عن الحقيقة ، وإنّما هي «اقتراحية» وتعجيزية ، ولو نفذت طلباتكم لما آمنتم أيضاً ، فقد سبق لافراد مثلكم في الامم الغابرة أن طلبوا إظهار معاجز ثم كذبوها بعدما شاهدوها.

ملخص الكلام هو أنّ من الصحيح القول : إنّ القرآن لوحده معجزة خالدة ، ولو لم يكن هناك معجزة اخرى سوى هذه المعجزة للنبي لاستطاعت أن تكون شاهداً على صدقه ، ولكن هذا لا يدل على أنّ النبي لم يمتلك معجزات جسمانية ومادية غير هذه المعاجز الروحية والمعنوية ، بل ذهبت الآيات والروايات والتواريخ الإسلامية وسيرة النبي إلى القول : إنّه كان يمتلك ذلك ، ولا شك في أنّ انضمام المعجزات المحسوسة والمادية إلى تلك المعجزة المعنوية الكبيرة يظهر حقانية الدعوة النبوية بصورة أجلى وأوضح.

* * *

٢٤٨

الطريق الثاني :

جمع القرائن

طريق آخر للاطمئنان

٢٤٩
٢٥٠

الطريق الثاني :

جمع القرائن طريق آخر للاطمئنان

تمهيد :

خلافاً لما يظن البعض فإنّ سبيل إثبات صدق دعوى النبوة لايقتصر على المعجزات فقط ، بل أحياناً تثبت عن طريق تجميع القرائن المتعلقة بحياة ذلك النبي ، وصفاته وخصائصه الأخلاقية والعملية ، ومضمون الدعوة وبرامجها المستخدمة يمكن الحصول على سند واضح قد يعادل اقوى المعجزات بل أحياناً يتقدم تلك المعجزات أيضاً.

إنَّ هذا النوع من الاستدلال يلاحظ أيضاً في كلام القدامى ، وإن كان يبدو شكله اقل انسجاماً.

ولهذا السبب فمن اللازم تقديم بعض التوضيحات حول هذا الموضوع مسبقاً.

جمع القرائن دليل متداول في كل العلوم :

للتوصل إلى الحقائق في العلوم المختلفة يتمّ اليوم الاستفادة من طريقة جمع القرائن بشكل كبير لكشف الجرائم ، ولتشخيص أنواع الأمراض ، ولمعرفة خصائص الشخصيات العظيمة السالفة على طول التاريخ ، ولكشف القضايا المتعلقة بعالم الخلق ، الأرض والسماء ، النباتات والحيوانات.

والفرق بين هذا الاسلوب وأسلوب (الاستقراء) الذي هو أحد طرق البرهان هو : إنّنا نحصل بالاستقراء على حكم كلي عند البحث والتنقيب عن الأفراد ، فعلى سبيل المثال نقوم بعدّ فقرات أفرادٍ كثيرين ثم ندرج في الكتب قانوناً عاماً يقول : إنّ الإنسان له كذا عدد من الفقرات.

٢٥١

ولكن بطريقة جمع القرائن نقوم بدراسة آثار موضوع خاص أو مايسمى بـ «الجزئي الحقيقي» ثم نتوصل من مجموع تلك الآثار إلى المؤثر.

وكمثال على ذلك : حينما تقع جريمة في نقطة ما ويؤتى بالمتهم إلى المحكمة فينكر التهمة الموجهة إليه جملةً وتفصيلاً ، مستفيداً من عدم وجود شاهد يثبت التهمة ، فإنّ الحاكم الذكي لا يغلق ملفَّ القضية بذريعة إنكار المتهم وعدم تيسّر الشاهد ، بل يقوم بتجميع القرائن عن طريق التحقيقيات المختلفة ، ودراسة امور كثيرة اخرى مثل :

أ) سوابق المتهم.

ب) نوع العلاقة التي تربط بين المتهم والشخص الذي وقعت عليه الجريمة ، وهل هناك من خصومة أو اختلاف بينهما أم لا؟

ج) مكان وزمان وقوع الحادثة ، وهل بإمكان المتهم ايضاح المكان الذي كان فيه وقت وقوعها؟

د) نوع السلاح أو الرصاصة التي عُثر عليها في هذه الحادثة ، وهل أنّ المتهم يستخدم مثل هذا السلاح أم لا؟

ه) ملاحظة الحالة الجسدية للمتهم والشخص الذي وقعت عليه الجناية ، وهل توجد آثار منازعة عليهما ام لا ، وهل للمتهم توضيحات لهذه الآثار أم لا؟

و) الاحساس الذي ينعكس على المتهم عند مشاهدته رداء المقتول وآثار الجريمة ، وهل تضطرب حالته أم يحتفظ بهدوئه أثناء ذلك؟

ز) الحالة النفسية للمتهم ومقارنتها بالسابق ، هل هي متعادلة أم يسيطر عليها الاضطراب؟

ح) عند اجابته عن أسئلة المحقق والحاكم هل ينتابه الارتباك والاضطراب والتناقض وأمثالها أم لا؟

بالإضافة إلى مسائل اخرى كثيرة ، وقد لاتكون آحادها كافية لإثبات الحقيقة ، ولكن بحث هذه الجوانب أحياناً لايبقي أي شك أو ترديد بأنّ الجريمة نفذت من قبل المتهم ، وهذا

٢٥٢

مايقوي من عزم الحاكم أو القاضي بأنّ يتابع القضية بأناة وما أكثر ماتنتهي متابعته إلى إقرار الطرف المقابل أيضاً.

بل ويمكن القول : إنّ (الاقرار) هو دليل ظني ـ لأنّه لوحظ كثيراً أنَّ البعض ومن أجل الهروب من قبضة العدالة أعطوا أموالاً طائلة لشخص آخر حتى يعترف بعد طمأنته بأنّهم سيخلصونه في النهاية ، وكذلك (شهادة الشهود) هي دليل ظني أيضاً ، لأنّ احتمالها للخطأ أو التواطؤ ليست مستحيلة (لا شك أنّ شهادة الشهود والاعتراف مقبولة ، وأنّ المقصود هو أنّها دلائل ظنية مقبولة في نهاية الأمر ، في حين أن تجميع القرائن يمكن قبولها عند وصولهامرحلة القطع واليقين).

وتلاحظ في الأحكام الإسلامية أيضاً نماذج واضحة لهذه المسألة ، وأحياناً تمّ إثباتها حتى بواسطة قرينة حكم واحدة مثل حكاية اختلاف (العبد) و (السيد) في عصر أمير المؤمنين عليه‌السلام عندما أمر عليه‌السلام (صورياً) بضرب عنق العبد منهما إذ سحب أحدهما رأسه ليثبت على نفسه أنّه العبد.

أو كقصة اختلاف تينك المرأتين على وليدٍ ، وأمره عليه‌السلام ـ صورياً ـ بقطع ذلك الوليد نصفين ، عندئذٍ تنازلت الام الحقيقية لذلك الطفل عن حقها فكان موقفها ذاك دليلاً على صدق دعواها ، وأمثال ذلك.

على أيّة حال إنّ الاستفادة من هذه الطريقة للوصول إلى نتائج قطعية ليس في المسائل القضائية وحسب ، بل وفي الكثير من العلوم ، وكذلك القضايا الاجتماعية والسياسية المختلفة هو أمر معتاد وبنّاء ، ويمكننا أيضاً الاستفادة منه في مسألة إثبات نبوة الأنبياء وأحياناً يكون تأثيره في ايجاد اليقين والاطمئنان أكثر من تأثير المعجزات العادية.

بهذه الإشارة نعود إلى الآيات القرآنية لنرى مالها من بيان حول هذا الدليل ـ بشكله الكلي ، ثم نتجه نحو حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لنجمع القرائن المختلفة عن حياته ونضعها إلى جانب بعضها البعض حتى يحكم القراء عليها بأنفسهم.

* * *

٢٥٣

في القسم الأول وفي آيات متعددة من القرآن تلاحظ إشارات حافلة بالمعاني حول هذا الدليل ، ومن جملتها :

الآيات التي تعبر عن وجود نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه (شاهد) و (سراج منير) و (برهان) و (شمس).

فنقرأ في قوله تعالى :

(يَاايُّهَا النَّبِىُّ انَّا ارْسَلْنَاكَ شَاهِدَاً وَمُبَشِّراً وَنَذيراً* وَدَاعِياً الى الله بِاذنِهِ وَسِراجاً مُّنِيراً). (الأحزاب / ٤٥ ـ ٤٦)

في هاتين الآيتين يقدم القرآن الكريم نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّه (شاهد) ، فقد ورد في أحد التفاسير أنّه شاهد على أحقيته ، لأنّ صفاته وأخلاقه ، وخططه البناءة ، وسوابقه الساطعة ، وأعماله ، تشهد على حقانية دينه وصدق دعوته ، هذا من جهة (١).

ومن جهة اخرى يعرّفه بعنوان (سراج منير) ، واننا نعرف أنّ السراج هو دليل على نفسه ولا يحتاج لدالٍ عليه ، أو كالقول المعروف (طلوع الشمس دليل على الشمس).

وتعبير (برهان) الذي جاء في قوله تعالى : (يَاايُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرهَانٌ مِّنْ رَبِّكُم وَانْزَلْنَا اليكُم نُوراً مُّبِيناً). (النساء / ١٧٤)

هو إشارة اخرى لتلك الحقيقة ، لأنّ (برهان) مشتقة من مادة (بَره) على وزن (فرح) وتعني الإبيضاض ، ولأنّ الاستدلالات الواضحة تنير وجه الحق وتُبيِّضه ، لذا أطلق عليها برهان.

ويعتقد جمع من المفسرين أنّ المقصود من البرهان في هذه الآية هو ذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، والمقصود من النور هو القرآن المجيد.

وبناءً على ذلك فإنّ شخص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله جرى تعريفه بعنوان (برهان) ، وذلك بسبب توفّر آثار وقرائن في وجوده تنبيء بأحقيته فضلاً عن معجزاته.

__________________

(١) في تفسير آخر للآية المذكورة اعتبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كشاهد على الأنبياء قبله. أو شاهد على أعمال امته يوم القيامة. في حين لا يوجد أي تنافض أو تعارض بين هذه التفاسير الثلاثة ويمكن جمعها في معنى الآية.

(٢) من الذين قبلوا هذا المعنى أو نقلوه باعتباره تفسيراً : المرحوم الطبرسي في مجمع البيان ، والعلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان ؛ والمراغي ؛ والقرطبي في تفسيرهما (ذيل الآية مورد البحث).

٢٥٤

وجاء في تفسير : (والشمس وضحاها) في روايات متعددة أنّ (الشمس) هي إشارة لوجود الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ (القمر) هو إشارة إلى وصيِّه بالحق (١).

من البديهي أنّه لايوجد دليل لإثبات وجود الشمس سوى وجودها بالذات ، لأنّ الجميع يطلعون على وجود الشمس المشرقة والمنيرة بمجرد طلوعها من افق المشرق.

وفيما عدا هذه التعابير أشار القرآن الكريم في آيات اخرى إشارة واضحة إلى هذه المسألة ، وأشار إلى بعض دلائل أحقية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن جملتها أنّه استند إلى قضية (امّيته) واعتبارها قرينة ، مثلاً يقول تعالى :

(وَمَاكُنتَ تَتلُوا مِنْ قَبلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَميِنكَ اذاً لَّارتَابَ المُبطِلُونَ). (العنكبوت / ٤٨)

وهنا يشير القرآن إلى أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كان يقرأ ويكتب لكان الشك يقع بين كون القرآن منه أو من الله ، ولكن بالنظر إلى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان امّياً وأنّ القرآن الكريم كان معجزة من جوانب مختلفة فلا يبقى لأحد أي مجال للشك في أنّ هذا الكتاب هو من قبل الله تعالى. وهذه طبعاً قرينة واحدة فقط من القرائن الكثيرة التي تلاحظ في وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ودليلٌ على صدق دعوته ، وكلما وضعنا مجموع هذه القرائن إلى جنب بعضها البعض لأضحت المسألة أكثر سطوعا من الشمس.

وتعبير (المبطلون) يدل على أنّه حتى لو كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تلقى التعليم فلا مجال أيضاً إلى أنّ نعتبر هذا الكتاب هو من بناة أفكاره ، لماذا؟ لأنّه يقينا اسمى من فكر وعلم بني البشر ، ولكن هذا الأمر بمفرده قد يشكل ذريعة للمفسدين والمبطلين.

ونقرأ في قوله تعالى :

(قُلْ لَّوْ شَآءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا ادرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثتُ فِيكُم عُمُراً مِّن قَبلِهِ افَلَا تَعقِلُونَ). (يونس / ١٦)

__________________

(١) في تفسير البرهان ، ج ، ٤ ص ٤٦٦ توجد خمسة أحاديث حول هذا الموضوع ، وليس في هذا التفسير تعارض مع التفاسير الاخرى للشمس ، ويمكن جمعها كلها في معنى الآية.

٢٥٥

وفي الحقيقة كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعتمد على هذه القرينة عندما يقول : إنني عشت بينكم سنين طويلة ولم تسمعوا مني مطلقاً مثل هذا الكلام (الآيات القرآنية) ، ولو كانت هذه الآيات صادرة مني فلابدّ أن تجري على لساني خلال هذه الاربعين سنة أو لسمعتم مني قسماً منها على الأقل.

وكما يقول بعض علماء النفس : فإنّ النبوغ الفكري ، واكتشاف وإبداع المسائل المستحدثة يبدأ عادة عند الإنسان من سن العشرين ، وتمتد على الأكثر إلى سن ٣٠ أو ٤٠ سنة ، أي أنّ الإنسان إذا لم يأت حتى ذلك العمر بابتكار جديد ففي الغالب ينتفي عنده بعد ذلك.

وهذا الموضوع الذي يُعدّ اليوم كاكتشاف نفساني كان في الماضي غير واضح إلى هذا الحد ، ولكن غالبية الناس كانوا يعرفون عادة بالهداية الفطرية أن ليس بمقدور الإنسان أن تكون له أفكار خاصة متمثلة بدين جديد وهو يعيش بين قومه وشعبه مدّة أربعين سنة ولا يظهرها مطلقاً ، ولهذا يقول القرآن : كيف لا تدركون استحالة هذا الأمر؟

إنّ استناد القرآن الكريم في آيات متعددة على (امّية) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله له دلالات مليئة بالمعاني ، وكذلك القرائن بأنّ كيف يستطيع شخص لم يتلقَّ تعليماً أن يأتي بكتاب بهذا المحتوى الذي ليس له نظير ، وبهذا الشمول الاستثنائي ، والحقائق التي تحتفظ بطراوتها تماما بعد مضي الف سنة أو أكثر ، والذي يعتبر وصفة راقية وناجعة لحل المشاكل الحياتية لبني البشر في الجوانب المعنوية والمادية؟

وممّا قيل نستنتج أنّ للقرآن الكريم اهتماماً خاصاً بهذا الدليل (أي تجميع القرائن).

والآن نعود إلى الشرح والبيان التفصيلي لهذه القرائن التي اختصّ بها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونخضع الامور التالية للبحث والدراسة الدقيقين :

محيط دعوته والظروف السائدة هناك.

الخصائص الأخلاقية والنفسية لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله وسوابقه.

زمان دعوته من ناحية الوضع العام في العالم وبالخصوص في منطقة ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وآله.

مضمون دعوته وأسس القضايا التي يدعو الناس إليها.

٢٥٦

الوسائل التي يستفيد منها للوصول إلى أهدافه.

انسجامه وعدم انسجامه مع متطلبات البيئة المنحرفة وكيفية تصديه للخرافات.

ماهية الأفراد الذين آمنوا ومن أي طبقة وأي نوع.

ميزان اعتقاده بالاهداف التي يدعو الناس إليها.

سرعة انتشار دعوته ومستوى الاثر الذي تتركه أحكامها وقوانينها في المجتمع.

بالإضافة إلى علائم اخرى.

* * *

١ ـ ميحط دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والظروف السائدة هناك

إنّ القضية التي يتفق عليها كل المؤرخين الكبار هي : أنّ العرب قبل بدء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بدعوته كانوا في أوضاع سيئة للغاية من ناحية سيطرة المعتقدات الخرافية ، والانحطاط الأخلاقي ، والاختلافات ، والحروب الداخلية المستعرة ، والظروف الاقتصادية السيئة ، ولا تتحرك في تلك البيئة نسمة من رياح العلم والمعرفة ، ولا يوجد حتى أثر من الحضارة الشكلية للبشر ، ولهذا السبب كانوا يعتبرونهم قوما نصف متوحشين ، ويطلقون على عصرهم اسم (العصر الجاهلي).

وللقرآن الكريم تعابير صريحة وواضحة عن ذلك العصر يمكنها رسم ملامح الأوضاع في ذلك الزمان بشكل جيد (حتى لو لم يصدّق أحد بأنَّ القرآن الكريم وحي إلهي ، ولكن لا يمكنه انكار حقيقة أن ذكر تلك الصفات لذلك العصر في القرآن هي دليل على واقعيته وحقيقته ، وإلّا يكون منكراً لكل الجوانب).

فيقول الله تعالى في مكان : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤمِنيِنَ اذْ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِّنْ انْفُسِهِم يَتلُوا عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكّيِهِمْ وَيُعلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَانْ كَانُوا مِنْ قَبلُ لَفى ضَلَالٍ مُّبِينٍ). (آل عمران / ١٦٤)

وعبارة (ضلال مبين) في هذه الآية وفي أواخر الآية الثانية من سورة الجمعة أيضاً ، هو

٢٥٧

إشارة معبرة عن الاوضاع في العصر الجاهلي الذي كانت الضلالة المبينة تسود أركانه ، وأي ضلالة أوضح وأبين من عبادتهم لأصنام من الحجر والخشب صنعوها بأيديهم ، والأسوأ من ذلك هو تلك الأوثان التي يعملونها من التمر ويعبدونها ، ثم يأكلونها أيّام القحط والجفاف.

أو يدفنون بناتهم بأيديهم وهن أحياء ، وهم يفخرون ويتباهون بعملهم هذا بدعوى أنّهم لا يدعون عرضهم وناموسهم يقع بأيدي الأجانب ، أو يقتلون أبناء خوفاً من الإملاق.

وجاء في قوله تعالى : (وَاذا بُشِّرَ احَدُهُم بالانثَى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِن القَومِ مِنْ سُوءِ مَابُشِّرَ بِهِ ايُمسِكُهُ عَلَى هُونٍ امْ يَدُسُّهُ فِىِ التُّرابِ* الَا سَآءَ مَايَحكُمُونَ). (النحل / ٥٨ ـ ٥٩)

وأي ضلال أوضح من سيطرة أنواع الخرافات والأوهام عليهم ، أو اعتبارهم الملائكة بنات الله : (وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحمَنِ انَاثاً). (الزخرف / ١٩)

وفي مكان آخر يقول : (وَيَجعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبحَانَهُ). (النحل / ٥٧)

وهناك آيات اخرى نظير ما أشرنا إليها.

أيّ ضلالٍ أوضح وأبين من أن تسيطر عليهم الحروب وسفك الدماء في كل أيّام السنة ـ باستثناء الأشهر الحرم ـ ، وتوارث الأحقاد القبلية من الآباء للأبناء واستمرارها لسنوات وسنوات ، كما يشير القرآن إلى ذلك بقوله : (وَاذكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيكُم اذْ كُنْتُم اعدَاءً فَالَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَاصبَحْتُم بِنِعمَتِهِ اخوَاناً وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَانقَذَكُم مِّنهَا). (آل عمران / ١٠٣)

أيّ ضلالة أوضح من أن تكون حتى مراسم صلاتهم ودعائهم مضحكة ومقززة ، فحيناً تطوف النساء حول بيت الله الحرام وهن عاريات تماماً ويحتسبن ذلك عبادة ، وحيناً آخر يقيمون صلاتهم مصحوبة بالتصفيق والصفير : (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُم عِنْدَ البَيتِ الَّا مُكَاءً وَتَصدِيَةً). (الانفال / ٣٥)

لقد كانت الخرافات والأوهام تخيم على مجتمعهم ، بضروب شتى وكانت كل قبيلة تسعى إلى إبراز نفسها على أنّها أرفع من القبيلة الاخرى وربّما يؤدّي إلى ظهور الأحقاد

٢٥٨

والضغائن والحسد ، وأحياناً سفك الدماء بين القبائل إلى الحد الذي يدعهم ـ من أجل إثبات كثرة عددهم ـ إلى التوجه صوب القبور لعدّ قبور موتاهم والتفاخر بالعظام النخرة لأجدادهم وهي تحت التراب.

يقول القرآن الكريم : (الَهكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرتُمُ المَقَابِرَ). (التكاثر / ١ ـ ٢)

وما إلى ذلك من أوهام ومفاسد وكوارث اخرى من هذا القبيل.

إنّ الانحطاط في تلك البيئة والفقر المعنوي والمادي جَعل تلك المنطقة في قائمة أكثر مناطق العالم تخلُّفاً.

ينقل أحد المؤرخين الغربيين عن بعض المؤرخين المعروفين حول بيئة الحجاز في العصر الجاهلى قائلاً : عندما دخل (ديمتريوس) القائد اليوناني الكبير (البتراء) ـ إحدى مدن الحجاز القديمة ـ وهو في طريقه لاحتلال المنطقة العربية ، قال له العرب الساكنون هناك : (أيّها الملك ديمتريوس! لماذا تحاربنا؟ إنّنا نعيش في أرض حصباء تفتقر لأبسط متطلبات الحياة ، ومحرومة من كل النعم التي يتمتع بها أهالي المدن والقصبات ، لقد اخترنا السكن في هذه الصحراء القاحلة لأننا لا نريد أن نكون عبيداً لأحد ، ولهذا تقبّل منّا هذه التحف والهدايا التي نقدمها لك وأخرج جيوشك من هنا وعُدْ ...).

وانتهز (ديمتريوس) رسالة الصلح هذه وقبلَ الهدايا وغض النظر عن هكذا حرب تُخلِّف مشاكل كثيرة (١).

ومنطقة (الحجاز) لم تخضع لسيطرة الفاتحين القدامى على مدى التاريخ وقد حافظت على استقلالها ، والسبب كما يقول المحلّلون : هو عدم استحقاق مثل هذه المنطقة ـ الجرداء التي تفتقر لكل شيء ـ هذه الجهود والمشاكل ، وأيضاً افتقار منطقة الحجاز لحضارات البلدان القديمة مثل ايران وروما والتي تتواجد في الكثير من نقاط شبه الجزيرة العربية.

وبعد أن تعرفنا على حال الجزيرة العربية لابدّ لنا من النظر إلى حال الإنسان البسيط الذي عاش في محيطها مهما كانت قوة إرادته وقوة تفكيره (لاسيما إذا لم يكن قد تلقّى أي نوع من التعليم).

__________________

(١) تاريخ حضارة العرب والإسلام تأليف كوستاف لوبون.

٢٥٩

هل أنّ الذي تربى في محيط موبوء بالجهل والفساد يمكنه أن يكون مؤسسة للعلم والمعرفة والفضائل الأخلاقية؟

وهل سمعتم بأنّ علماء عظماء وفلاسفة نوابغ نهضوا من بين قبائل جاهلية نصف متوحشة؟

إذا نبتت ورود جميلة وحشائش طرية في ارض خصبة ومهيأة فلا عجب في ذلك ، بل العجب عندما تنبت وردة جميلة في ارض سبخة.

وعلى أية حال يمكن أن تكون هذه المسألة بمفردها غير كافية في إثبات أحقية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنها بدون شك تعتبر واحدة من القرائن التي متى ما ألحقناها بالقرائن الاخرى شكلت برهاناً قوياً ومبيناً.

نختم هذا الحديث بقول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ـ الذي أدرك العصرين ، عصر الإسلام والجاهلية ـ وهو يرسم لنا العصر الجاهلي : «أرسله على حين فترة من الرسل ، وطول هجعةٍ من الامم ، واعتزام من الفتن ، وانتشار من الامور ، وتلظ (تلظى) من الحروب ، والدنيا كاسفة النور ، ظاهرة الغرور ، على حين اصفرار من ورقها ، وإياس من ثمرها ، واغورار من مائها ، قد درست منار الهدى وظهرت اعلام الردى ، فهي متجهمة لأهلها ، عابسة في وجه طالبها ، ثمرها الفتنة ، وطعامها الجيفة ، وشعارها الخوف ودثارها السيف» (١).

وفي مكان آخر نقرأ له عليه‌السلام : «إنّ الله بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نذيراً للعالمين ، وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشر العرب على شر دينٍ وفي شر دارٍ ، منيخون بين حجارة خُشنٍ وحياتٍ صُمٍ تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب ، وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الأصنام فيكم منصوبة ، والآثام بكم معصوبة» (٢).

وخلاصة القول هي : إنّ البحث في القرآن الكريم والروايات الإسلامية ومجموع التواريخ التي كتبت في الشرق والغرب حول العصر الجاهلي ، تدلل على أنّها متفقة جميعاً

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٨٩.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٦.

٢٦٠